اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تََشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

الخميس، 27 أكتوبر 2022

ج5.وج6. كتاب : الإحكام في أصول القرآن ابن حزم

 

 

ج5.وج6. كتاب : الإحكام في أصول القرآن ابن حزم
وأما التفصيل فهو أن لفظ اليد وإن أطلق على ما ذكروه من الاحتمالات إلا أنه حقيقة في جملة العضو إلى المنكب ومجاز فيما عداه.
ودليله أنه يصح أن يقال إذا أبينت اليد من المرفق أو من الكوع هذا بعض اليد لا كلها وذلك يدل على أنه ليس حقيقة من وجهين: الأول: أن مسمى اليد حقيقة لا يصدق عليه أنه بعض اليد والثاني صحة القول بأنه ليس كل اليد ولو كان مسمى اليد حقيقة لما صح نفيه.
وأما لفظ القطع فحقيقة في إبانة الشيء عما كان متصلاً به فإذا أضيف القطع إلى اليد وكان مسمى اليد حقيقةً في جملتها إلى الكوع وجب حمله على إبانة مسمى اليد وهو جملتها وحيث أطلق قطع اليد عن إبانة بعض أجزائها عن بعض لا يكون حقيقة بل تجوزاً.
فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتموه لما وجب الاقتصار في قطع يد السارق على قطعه من الكوع لما فيه من مخالفة الظاهر.
قلنا: وإن لزم منه مخالفة الظاهر إلا إنه أولى من القول بالإجمال في كلام الشارع فكان إدراج ما نحن فيه تحت الأغلب أغلب.
الثاني: أن القول بالإجمال مما يفضي إلى تعطيل اللفظ عن الأعمال في الحال إلى حين قيام الدليل المرجح ولا كذلك في الحمل على المجاز: فإنه إن لم يظهر دليل التجوز عمل باللفظ في حقيقته وإن ظهر عمل به في مجازه من غير تعطيل اللفظ في الحال ولا في ثاني الحال.
المسألة السادسة اللفظ الوارد إذا أمكن حمله على ما يفيد معنى واحدا وعلى ما يفيد معنيين قال الغزالي وجماعة من الأصوليين: هو مجمل لتردده بين هذين الاحتمالين من غير ترجيح.
والذي عليه الأكثر أنه ليس بمجمل بل هو ظاهر فيما يفيد معنيين وهذا هو المختار.
وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع فنقول: اللفظ الوارد إما أن يظهر كونه حقيقةً فيما قيل من المحملين مع اختلافهما أو كونه حقيقةً في أحدهما مجازاً في الآخر أو لم يظهر أحد الأمرين: فإن كان من القسم الأول أو الثاني فلا معنى للخلاف فيه أما الأول فلتحقق إجماله وأما الثاني فلتحقق الظهور في أحد المحملين: وإنما النزاع في القسم الثالث: ويجب اعتقاد نفي الإجمال فيه للإجمال والتفصيل: أما الإجمال فما تقدم في المسألة المتقدمة.
وأما التفصيل فهو أن الكلام إنما وضع للإفادة ولا سيما كلام الشارع ولا يخفى أن ما يفيد معنيين أكثر في الفائدة فيجب اعتقاد كون اللفظ ظاهراً فيه.
فإن قيل: هذا الترجيح معارض بترجيح آخر وهو إن الغالب من الألفاظ الواردة هي المفيدة لمعنى واحد بخلاف المفيد لمعنيين وعند ذلك فاعتقاد أدراج ما نحن فيه تحت الأعم الأغلب أغلب.
قلنا: يجب اعتقاد الترجيح فيما ذكرناه وذلك لأنه لا يخلو إما أن يقال بالتساوي بين الاحتمالين أو التفاوت.
القول بالتساوي يلزم منه تعطيل دلالة اللفظ وامتناع العمل به مطلقا إلى حين قيام الدليل وذلك على خلاف الأصل.
وإن قبل بالتفاوت والترجيح فإما أن يكون فيما يفيد معنىً واحداً أو فيما يفيد معنيين: لا سبيل إلى الأول إذ القائل قائلان: قائل يقول بالإجمال ففيه نفي الترجيح عن المعنيين وقائل يقول بأنه ظاهر راجح فيما يفيد معنيين دون ما يفيد معنى واحداً فقد وقع الاتفاق على نفي الترجيح فيما يفيد معنى واحداً فتعين الترجيح لما يفيد معنيين.
المسألة السابعة اختلفوا في اللفظ إذا أمكن حمله على حكم شرعي مجدد وعلى الموضوع اللغوي هل هو مجمل أم لا ؟ اللفظ الوارد من جهة الشارع إذا أمكن حمله على حكم شرعي مجدد وأمكن حمله على الموضوع اللغوي: اختلفوا فيه.
فذهب الغزالي إلى أنه مجمل لتردده بين الاحتمالين من غير مزية وذهب غيره إلى أنه ظاهر في الحكم الشرعي وهو المختار.
وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " الطواف بالبيت صلاة " فإنه يحتمل أنه أراد به أنه كالصلاة حكماً في الافتقار إلى الطهارة ويحتمل أنه أراد به أنه مشتمل على الدعاء الذي هو صلاة لغةً وكقوله صلى الله عليه وسلم الاثنان فما فوقهما جماعة فإنه يحتمل أنه أراد به أنهما جماعة حقيقةً ويحتمل أنه أراد به انعقاد الجماعة بهما وحصول فضيلتها وإنما قلنا بكونه ظاهراً في الحكم الشرعي للإجمال والتفصيل: أما الإجمال فما ذكرناه فيما تقدم.

وأما التفصيل فهو أنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث لتعريف الأحكام الشرعية التي لا تعرف إلا من جهته لا لتعريف ما هو معروف لأهل اللغة فوجب حمل اللفظ عليه لما فيه من موافقة مقصود البعثة.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الترجيح مقابل بمثله وبيانه أن حمل اللفظ على الحكم الشرعي المجدد مخالف للنفي الأصلي بخلاف الحمل على الموضوع الأصلي.
قلنا: إلا أنا لو حملناه على تعريف الموضوع اللغوي كانت فائدة لفظ الشارع التأكيد بتعريف ما هو معروف لنا ولو حملناه على تعريف الحكم الشرعي.
كانت فائدته التأسيس وتعريف ما ليس معروفاً لنا وفائدة التأسيس أصل وفائدة التأكيد تبع فكان حمله على التأسيس أولى.
المسألة الثامنة إذا ورد لفظ الشارع وله مسمى لغوي ومسمى شرعي فهو مجمل عند القاضي أبي بكر إذا ورد لفظ الشارع وله مسمى لغوي ومسمى شرعي عند المعترف بالأسماء الشرعية قال القاضي أبو بكر: تفريعاً على القول بالأسماء الشرعية إنه مجمل.
وقال بعض أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة إنه محمول على المسمى الشرعي وفصل الغزالي وقال: ما ورد في الإثبات فهو للحكم الشرعي وما ورد في النهي فهو مجمل ومثال ذلك في طرف الإثبات قوله صلى الله عليه وسلم حين دخل على عائشة فقال لها: " أعندك شيء ؟فقالت: لا قال إني إذا أصوم " فهو إن حمل على الصوم الشرعي دل على صحة الصوم بنية من النهار بخلاف حمله على الصوم اللغوي ومثاله في طرف النهي نهيه عليه السلام عن صوم يوم النحر فإنه إن حمل على الصوم الشرعي دل على تصور وقوعه لاستحالة النهي عما لا تصور لوقوعه بخلاف ما إذا حمل على الصوم اللغوي.
والمختار ظهوره في المسمى الشرعي في طرف الإثبات وظهوره في المسمى اللغوي في طرف الترك: أما الأول: فبيانه بما تقدم في المسألة التي قبلها ويزيد ها هنا وجه آخر في الترجيح وهو أن الشارع مهما ثبت له عرف وإن كانت مناطقته لنا بالأمور اللغوية غالبا غير أن مناطقته لنا بعرفه في موضع له فيه عرف أغلب.
وأما إذا ورد في طرف الترك كقوله صلى الله عليه وسلم: " دعي الصلاة أيام أقرائك " وكنهيه عن بيع الحر والخمر وحبل الحبلة والملاقيح والمضامين فإنه لو كان اللفظ ظاهراً في الصلاة الشرعية والبيع الشرعي لزم أن يكون ذلك متصوراً لاستحالة النهي عما لا تصور له وهو خلاف الإجماع وأن يكون الشارع قد نهى عن التصرف الشرعي وذلك ممتنع لما فيه من إهمال المصلحة المعتبرة المرعية في التصرف الشرعي أو أن يقال مع ظهوره في المسمى الشرعي بتأويله وصرفه إلى المسمى اللغوي وهو على خلاف الأصل.
ولا يلزم من اطراده عرف الشرع في هذه المسميات في طرف الإثبات مثله في طرف النهي أو النفي وعلى ما حققناه من تقديم عرف الشرع في خطابه على وضع اللغة.
فيقدم ما اشتهر من المجاز الذي صار لا يفهم من اللفظ غيره على الوضع الأصلي الحقيقي وسواء كان ذلك التجوز بطريق نقل الكلام من محل الحقيقة إلى ما هو خارج عنه كلفظ الغائط أو بطريق تخصيصه ببعض مسمياته في الحقيقة كلفظ الدابة لأن العرف الطارىء غالب للوضع الأصلي ولا إجمال فيه.
الصنف الثامن في البيان والمبين ويشتمل على مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي تحقيق معنى البيان والمبين واختلاف الناس في العبارات الدالة عليهما وما هو المختار في ذلك.
أما البيان فاعلم أنه لما كان متعلقاً بالتعريف والإعلام بما ليس بمعروف ولا معلوم وكان ذلك مما يتوقف على الدليل والدليل مرشد إلى المطلوب وهو العلم أو الظن الحاصل عن الدليل لم يخرج البيان عن التعريف والدليل والمطلوب الحاصل من الدليل لعدم معنى رابع يفسر به البيان فلا جرم اختلف الناس.
فقال أبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي وغيره إن البيان هو التعريف وعبر عنه بأنه إخراج الشيء عن حيز الإشكال إلى حيز الوضوح والتجلي.
وذهب أبو عبد الله البصري وغيره إلى أن البيان هو العلم الحاصل من الدليل.
وذهب القاضي أبو بكر والغزالي وأكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري وغيرهم إلى أن البيان هو الدليل وهو المختار.
ويدل على صحة تفسيره بذلك أن من ذكر دليلاً لغيره وأوضحه غاية الإيضاح يصح لغةً وعرفاً أن يقال تم بيانه وهو بيان حسن إشارة إلى الدليل المذكور.

وإن لم يحصل منه المعرفة بالمطلوب للسامع ولا حصل به تعريفه ولا إخراج المطلوب من حيز الإشكال إلى حيز الوضوح والتجلي والأصل في الإطلاق الحقيقة والذي يخص كل واحد من التعريفين الآخرين.
أما الأول: فلأنه غير جامع لأن ما يدل على الحكم بدياً من غير سابقة إجمال بيان وهو غير داخل في الحد وشرط الحد أن يكون جامعاً مانعاً كيف وفيه تجوز وزيادة أما التجوز ففي لفظ الحيز فإنه حقيقة في الجوهر دون غيره.
وأما الزيادة فما فيه من الجمع بين الوضوح والتجلي وأحدهما كاف عن الآخر والحد مما يجب صيانته عن التجوز والزيادة.
وأما التعريف الثاني فلأن حصول العلم عن الدليل يسمى تبيناً والأصل في الإطلاق الحقيقة فلو كان هو البيان أيضاً حقيقة لزم منه الترادف والأصل عند تعدده الأسماء تعدد المسميات تكثيراً للفائدة ولأن الحاصل عن الدليل قد يكون علماً وقد يكون ظناً.
وعند ذلك فتخصيص اسم البيان بالعلم دون الظن لا معنى له مع أن اسم البيان يعم الحالتين وإذا كان النزاع إنما هو في إطلاق أمر لفظي فأولى ما اتبع ما كان موافقاً للإطلاق اللغوي وأبعد عن الاضطراب ومخالفة الأصول.
وإذا عرف أن البيان هو الدليل المذكور فحد البيان ما هو حد الدليل على ما سبق في تحريره ويعم ذلك كل ما يقال له دليل كان مفيداً للقطع أو الظن وسواء كان عقلياً أو حسياً أو شرعياً أو عرفياً أو قولاً أو سكوتاً أو فعلاً أو ترك فعل إلى غير ذلك.
وأما المبين فقد يطلق ويراد به ما كان من الخطاب المبتدإ المستغنى بنفسه عن بيان وقد يراد به ما كان محتاجاً إلى البيان وقد ورد عليه بيانه وذلك كاللفظ المجمل إذا بين المراد منه والعام بعد التخصيص والمطلق بعد التقييد والفعل إذا اقترن به ما يدل على الوجه الذي قصد منه إلى غير ذلك.
وأما المسائل فثمان: المسألة الأولى مذهب الأكثرين أن الفعل يكون بياناً خلافاً لطائفة شاذة ويدل على ذلك النقل والعقل: أما النقل فما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه عرف الصلاة والحج بفعله حيث قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم " .
وأما العقل فهو أن الإجماع منعقد على كون القول بياناً والإتيان بأفعال الصلاة والحج لكونها مشاهدةً أدل على معرفة تفصيلها من الإخبار عنها بالقول فإنه ليس الخبر كالمعاينة ولهذا كانت مشاهدة زيد في الدار أدل على معرفة كونه فيها من الإخبار عنه بذلك وإذا كان القول بياناً مع قصوره في الدلالة عن الفعل المشاهد فكون الفعل بياناً أولى.
فإن قيل: أما النقل فالبيان فيه إنما وقع بالقول لا بالفعل وهو قوله: " صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم " وأما المعقول فهو أن الفعل وإن كان مشاهداً غير أن زمان البيان به مما يطول ويلزم من ذلك تأخير البيان مع إمكانه بما هو أفضى إليه وهو القول وذلك ممتنع.
قلنا: أما القول بأن البيان إنما حصل بالقول ليس كذلك فإنه لم يتضمن تعريف شيء من أفعال الصلاة والحج بل غايته تعريف أن الفعل هو البيان لذلك.
وأما القول بأن البيان بالفعل مما يفضي إلى تأخير البيان مع إمكان تقدمه بالقول فهو غير مسلم بل التعريف بالقول وذكر كل فعل بصفته وهيئته وما يتعلق به أبعد عن التشبث بالذهن من الفعل المشاهد وربما احتيج في ذلك إلى تكرير في أزمنة تزيد على زمان وقوع الفعل بأزمنة كثيرة على ما يشهد به العرف والعادة.
وإن سلمنا أن زمان التعريف بالفعل يكون أطول فليس في ذلك ما يدل على كونه غير صالح للبيان والتعريف والخلاف إنما هو في ذلك وقد بينا أنه مع صلاحيته للتعريف أدل من القول.
قولهم إنه يفضي إلى تأخير البيان مع إمكان تقديمه بالقول قلنا: لا يخلو إما أن لا تكون الحاجة قد دعت إلى البيان في الحال أودعت إليه: فإن كان الأول فلا محذور في التأخير مع حصول البيان بما هو أدل من القول وإن كان الثاني فلا نسلم امتناع التأخير على قولنا بجواز التكليف بما لا يطاق على ما قررناه.
وبتقدير امتناعه فإنما نسلم ذلك فيما إذا كان التأخير لا لفائدة وأما إذا كان لفائدة فلا وقد بينا الفائدة في البيان بالفعل من جهة كونه أدل على المقصود.
المسألة الثانية إذا ورد بعد اللفظ المجمل قول وفعل وكل واحد منهما صالح للبيان فالبيان بماذا منهما ؟

والحق في ذلك أنه لا يخلو إما أن يتوافقا في البيان أو يختلفا: فإن توافقا فإن علم تقدم أحدهما فهو البيان لحصول المقصود به والثاني يكون تأكيداً إلا إذا كان دون الأول في الدلالة لاستحالة تأكيد الشيء بما هو دونه في الدلالة.
وإن جهل ذلك فلا يخلو إما أن يكونا متساويين في الدلالة أو أحدهما أرجح من الآخر على حسب اختلاف الوقائع والأقوال والأفعال: فإن كان الأول فأحدهما هو البيان والآخر مؤكد من غير تعيين وإن كان الثاني فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم لأنا فرضنا تأخر المرجوح امتنع أن يكون مؤكداً للراجح إذ الشيء لا يؤكد بما هو دونه في الدلالة والبيان حاصل دونه فكان الإتيان به غير مفيد ومنصب الشارع منزه عن الإتيان بما لا يفيد.
ولا كذلك فيما إذا جعلنا المرجوح مقدما فإن الإتيان بالراجح بعده يكون مفيداً للتأكيد ولا يكون معطلاً.
وأما إن لم يتوافقا في البيان كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه بعد آية الحج قال: " من قرن حجاً إلى عمرة فليطف طوافاً واحداً ويسعى سعياً واحداً " وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه " قرن فطاف طوافين وسعى سعيين " فلا يخلو إما أن يعرف تقدم أحدهما أو يجهل.
فإن علم التقدم قال أبو الحسين البصري: المتقدم هو البيان فإن تقدم الفعل كان الطواف الثاني واجباً وإن تقدم القول كان الطواف الثاني غير واجب وليس بحق بل الحق أن يقال: إن كان القول متقدماً فالطواف الثاني غير واجب وفعل النبي صلى الله عليه وسلم له يجب أن يحمل على كونه مندوباً وإلا فلو كان فعله له دليل الوجوب كان ناسخاً لما دل عليه القول.
ولا يخفى أن الجمع أولى من التعطيل وفعله للطواف الأول يكون تأكيداً للقول وإن كان الفعل متقدماً فهو وإن دل على وجوب الطواف الثاني إلا أن القول بعده يدل على عدم وجوبه والقول بإهمال دلالة القول ممتنع فلم يبق إلا أن يكون ناسخاً لوجوب الطواف الثاني.
الذي دل عليه الفعل أو أن يحمل فعله على بيان وجوب الطواف الثاني في حقه دون أمته وأن يحمل قوله على بيان وجوب الأول دون الثاني في حق أمته دونه والأشبه إنما هو الاحتمال الثاني دون الأول لما فيه من الجمع بين البيانين من غير نسخ ولا تعطيل.
وأما إن جهل المتقدم منهما فالأولى إنما هو تقدير تقدم القول وجعله بياناً لوجهين: الأول: أنه مستقل بنفسه في الدلالة بخلاف الفعل فإنه لا يتم كونه بياناً دون اقتران العلم الضروري بقصد النبي صلى الله عليه وسلم البيان به أو قول منه يدل على ذلك وذلك مما لا ضرورة تدعو إليه.
الثاني: أنا إذا قدرنا تقدم القول أمكن حمل الفعل بعده على ندبية الطواف الثاني كما تقدم تعريفه ولو قدرنا تقدم الفعل يلزم منه إما إهمال دلالة القول أو كونه ناسخاً لحكم الفعل أو أن يكون الفعل بياناً لوجوب الطواف الثاني في حق النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته والقول دليل عدم وجوبه في حق أمته دونه والإهمال والنسخ على خلاف الأصل والافتراق بين النبي صلى الله عليه وسلم والأمة في وجوب الطواف الثاني مرجوح بالنظر إلى ما ذكرناه من التشريك لكون التشريك هو الغالب دون الافتراق.
المسألة الثالثة هل يجب أن يكون البيان مساوياً للمبين في القوة أو يجوز أن يكون أدنى منه قال الكرخي: لا بد من المساواة وقال أبو الحسين البصري: يجوز أن يكون أدنى منه.
وهل يجب أن يكون مساويا للمبين في الحكم؟ فمنهم من قال به ومنهم من نفاه.
والمختار في ذلك أن يقال: أما المساواة في القوة فالواجب أن يقال: إن كان المبين مجملاً كفى في تعيين أحده احتماليه أدنى ما يفيد الترجيح وإن كان عاماً أو مطلقاً فلا بد وأن يكون المخصص والمقيد في دلالته أقوى من دلالة العام على صورة التخصيص.
ودلالة المطلق على صورة التقييد وإلا فلو كان مساوياً لزم الوقف ولو كان مرجوحا لزم منه إلغاء الراجح بالمرجوح وهو ممتنع.
وأما المساواة بينهما في الحكم فغير واجب وذلك لأنه لو كان ما دل عليه البيان من الحكم هو ما دل عليه المبين لم يكن أحدهما بياناً للآخر.
وإنما يكون أحد الأمرين بياناً للآخر إذا كان دالاً على صفة مدلول الآخر لا على مدلوله ومع ذلك فلا اتحاد في الحكم.

فإن قيل: المراد من الاتحاد في الحكم أنه إن كان حكم المبين واجباً كان بيانه واجباً وإن لم يكن واجباً لم يكن البيان واجباً.
قلنا: لا يخلو إما أن لا تكون الحاجة داعيةً إلى البيان في الحال أو هي داعية: فإن كان الأول فالبيان غير واجب على ما سيأتي وسواء كان حكم المبين واجباً أو لم يكن وإن كان الثاني فعلى قولنا بجواز التكليف بما لا يطاق على ما تقرر فالبيان أيضاً لا يكون واجباً وإن كان الحكم المبين واجباً.
وأما إذا قلنا بامتناع التكليف بما لا يطاق فالحق ما قالوه وذلك لأنه إذا كان المبين واجباً فلو لم يكن البيان واجباً لجاز تركه ويلزم من ذلك التكليف بما لا يطاق وهو خلاف الفرض.
وإذا كان المبين غير واجب فالقول بعدم إيجاب البيان لا يفضي إلى التكليف بما لا يطاق إذ لا تكليف فيما ليس بواجب لأن ما لا يكون واجب الفعل ولا واجب الترك فهو إما مندوب أو مباح أو مكروه وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة لا تكليف فيه على ما تقدم.
ولا يلزم من القول بالوجوب حذراً من تكليف ما لا يطاق الوجوب مع عدم التكليف أصلاً اللهم إلا أن ينظر إلى التكليف بوجوب اعتقاده على ما هو عليه من إباحة أو ندب أو كراهة فيكون من القسم الأول.
المسألة الرابعة في جواز تأخير البيان أما عن وقت الحاجة فقد اتفق الكل على امتناعه سوى القائلين بجواز التكليف بما لا يطاق ومدار الكلام من الجانبين فقد عرف فيما تقدم.
وأما تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ففيه مذاهب: فذهب أكثر أصحابنا وجماعة من أصحاب أبي حنيفة إلى جوازه وذهب بعض أصحابنا كأبي إسحاق المروزي وأبي بكر الصيرفي وبعض أصحاب أبي حنيفة والظاهرية إلى امتناعه وذهب الكرخي وجماعة من الفقهاء إلى جواز تأخير بيان المجمل دون غيره.
وذهب بعضهم إلى جواز تأخير بيان الأمر دون الخبر وذهب الجبائي وابنه والقاضي عبد الجبار إلى جواز تأخير بيان النسخ دون غيره وذهب أبو الحسين البصري إلى جواز تأخير بيان ما ليس له ظاهر كالمجمل وأما ما له ظاهر وقد استعمل في غير ظاهره كالعام والمطلق والمنسوخ ونحوه فقال يجوز تأخير بيانه التفصيلي ولا يجوز تأخير بيانه الإجمالي وهو أن يقول وقت الخطاب: هذا العموم مخصوص وهذا المطلق مقيد وهذا الحكم سينسخ.
وإذا عرف تفصيل المذاهب فقد احتج أصحابنا القائلون بجواز التأخير مطلقاً بحجج نقلية وعقلية.
إما النقلية فالحجة الأولى منها قوله تعالى: " إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه " القيامة 18 ووجه الاحتجاج به أنه قال: " فإذا قرأناه " معناه أنزلناه ويدل على ذلك قوله تعالى: " فاتبع قرآنه " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع بفاء التعقيب لقوله " فإذا قرأناه " ولا يتصور ذلك قبل الإنزال لعدم معرفته به وإنما يكون بعد الإنزال.
وإذا كان المراد بقوله: " قرأناه " الإنزال فقوله " ثم إن علينا بيانه " يدل على تأخير البيان عن وقت الإنزال لأن ثم للمهلة والتراخي على ما سبق تقريره.
ولقائل أن يقول: وإن كان المراد من قوله تعالى: " فإذا قرأناه " الإنزال ولكن لا نسلم أن المراد من قوله: " ثم إن علينا بيانه " القيامة 19بيان مجمله وخصوصه وتقييده ومنسوخه بل المراد منه إظهاره وإشهاره وهو على وفق الظاهر لأن البيان هو الإظهار في اللغة ومنه يقال: بان لنا الكوكب الفلاني وبان لنا سور المدينة إذا ظهر ويقال بين فلان الأمر الفلاني إذا أظهره وعند ذلك فليس حمله على ما ذكر من بيان المراد من المجمل والعام والمطلق أولى مما ذكرناه.
كيف وإن الترجيح لهذا المعنى من جهة أن المراد من قوله تعالى: " إن علينا جمعه وقرآنه " إنما هو جميع القرآن فإنه ليس اختصاص بعضه بذلك أولى من بعض وأيضا فإنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع بقوله: " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " القيامة 18 والأمر بذلك غير خاص ببعض القرآن دون البعض إجماعاً ولأنه لا أولوية للبعض دون البعض ولأنه لو حمل ذلك على البعض دون البعض مع كونه غير معين في اللفظ كان مجملاً وتكليفاً له بما ليس بمعلوم له وهو خلاف الأصل.

وإذا ثبت أن المراد من قوله من أول الآية إنما هو جميع القرآن فالظاهر أن يكون الضمير في قوله تعالى: " ثم إن علينا بيانه " القيامة 19 عائد إلى جميع المذكور السابق وهو جملة القرآن لا إلى بعضه لعدم الأولوية.
وإنما يمكن ذلك بحمل البيان على ما ذكرناه لا على ما ذكروه لاستحالة افتقار كل القرآن إلى البيان بالمعنى الذي ذكروه فإنه ليس كل القرآن مجملاً ولا ظاهراً في معنى وقد استعمل في غيره فكان ما ذكرناه أولى.
وهذا إشكال مشكل وفي تحريره وتقريره على هذا الوجه يتبين للناظر المتبحر فيه إبطال كل ما يخبط به بعض المخبطين.
وإن سلمنا أن المراد به إنما هو بيان المراد من الظاهر الذي استعمل في غير ما هو الظاهر منه لكن ما المانع أن يكون المراد به البيان التفصيلي كما قاله أبو الحسين البصري؟ فإن قيل: لا يمكن ذلك لأن لفظ البيان مطلق فحمله على البيان التفصيلي يكون تقييداً له وتقييد المطلق من غير دليل ممتنع.
قلنا: وإذا كان مطلقاً فالمطلق لا يمكن حمله على جميع صوره وإلا كان عاماً لا مطلقاً بل غايته أنه إذا عمل به في صورة فقد وفى بالعمل بدلالته.
وعند ذلك فلا يخفى أن تنزيل البيان في الآية على الإجمالي دون التفصيلي يكون تقييدا للمطلق وهو ممتنع من غير دليل وإن لم يقل بتنزيله عليه فلا حجة فيه.
وإن سلمنا أن المراد به البيان الإجمالي والتفصيلي غير أنه قد تعذر العمل بظاهر ثم من حيث إنها تدل على وجوب تأخير بيان كل القرآن ضرورة عود الضمير إلى الكل على ما سبق وذلك خلاف الإجماع.
وإذا تعذر العمل بظاهرها وجب العمل بها في مجازها وهو حملها على معنى الواو كما في قوله تعالى: " فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون " يونس 46 فإن ثم هاهنا بمعنى الواو ولاستحالة كون الرب شاهداً بعد أن لم يكن شاهداً.
الحجة الثانية قوله تعالى: " الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت " هود 1 و ثم للتأخير.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن المراد من التفصيل بيان المراد من المجمل والظاهر والمستعمل في غير ما هو ظاهر فيه بل المراد من قوله: أحكمت أي في اللوح المحفوظ وفصلت في الإنزال.
الحجة الثالثة قوله تعالى: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " طه 114 وأراد به بيانه للناس.
ولقائل أن يقول: ظاهر ذلك للمنع من تعجيل نفس القرآن لا بيان ما هو المراد منه لما فيه من الإضمار المخالف للأصل وإنما منعه من تعجيل القرآن أي من تعجيل أدائه عقيب سماعه حتى لا يختلط عليه السماع بالأداء وإلا فلو أراد به البيان لما منعه عنه بالنهي للاتفاق على أن تعجيل البيان بعد الأداء غير منهي عنه.
الحجة الرابعة: أنه تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة معينة غير منكرة بقوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " البقرة 67 ولم يعينها إلا بعد سؤالهم.
ودليل كون المأمور به معيناً أمران الأول أنهم سألوا تعيينها بقولهم له: " ادع لنا ربك يبين لنا ما هي " البقرة 68 وما لونها ولو كانت منكرة لما احتيج إلى ذلك للخروج عن العهدة بأي بقرة كانت.
الثاني أن قوله تعالى: " إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر " البقرة 68 و إنها بقرة صفراء و إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث " والضمير في هذه الكنايات يجب صرفه إلى ما أمروا به أولا.
وبيانه من وجهين: الأول أنه لو لم يكن كذلك لكان تكليفاً بأمور مجددة غير ما أمروا به أولاً ولو كان كذلك لكان الواجب من تلك الصفات المذكورة آخراً دون ما ذكر أولا وهو خلاف الإجماع على أن المأمور به كان متصفاً بجميع الصفات المذكورة الثاني أنه لو لم يكن كذلك للزم منه أن لا يكون الجواب مطابقاً للسؤال وهو خلاف الأصل.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن البقرة المأمور بها كانت معينةً في نفس الأمر بل منكرة مطلقاً فلا تكون محتاجة إلى البيان لإمكان الخروج عن العهدة بذبح أي بقرة اتفقت ولا يكون ذلك من صور النزاع.
قولهم إنهم سألوا عن تعيينها ولو أمروا بمنكر لما سألوا عن تعيينه قلنا ظاهر الأمر يدل على التنكير حيث قال: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " .
والقول بالتعيين مخالف للتنكير المفهوم من اللفظ وليس الحمل على التعيين ضرورة تصحيح سؤالهم ومخالفة ظاهر النص أولى من العكس بل موافقة ظاهر لنص أولى.

قولكم في الوجه الثاني: إن الضمير في جميع الكنايات عائد إلى المأمور به أولاً لا نسلم ذلك.
قولهم لو لم يكن كذلك لكان ذلك تكليفاً بأمور مجددة مسلم وما المانع منه؟ قولكم: لو كان كذلك لكان الواجب من تلك الصفات المذكورة آخراً دون ما ذكر أولا لا نسلم ذلك وما المانع أن يكون قد أوجب عليهم بعد السؤال الأول ذبح بقرة متصفة بالصفات المذكورة أولاً ثم أوجب بعد ذلك اعتبار الصفات المذكورة ثانياً ولا منافاة بين الحالتين.
قولكم: لو كان كذلك لما كان الجواب مطابقاً للسؤال وهو خلاف الأصل فهو معارض بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأتهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.
وهذا يدل على أن ذلك كان ابتداء إيجاب لا بياناً لأن البيان ليس بتشديد بل تعيين ما هو الواجب ولا يخفى أن موافقة ظاهر النص الدال على تنكير البقرة وظاهر قول ابن عباس أولى من موافقة ما ذكروه من لزوم مطابقة الجواب للسؤال لما فيه من موافقة أصلين ومخالفة أصل واحد وما ذكروه بالعكس.
ثم وإن سلمنا أن المأمور به كان بقرة معينة في نفس الأمر غير أنهم سألوا البيان الإجمالي أو التفصيلي؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
ولا يلزم من جواز تأخير البيان التفصيلي تأخير البيان الإجمالي كما هو مذهب أبي الحسين البصري وليس تقييد سؤالهم بطلب البيان مع إطلاقه بالإجمالي أولى من التفصيلي ولا محيص عنه.
وربما أورد على هذا الاحتجاج ما لا اتجاه له كقولهم: ما المانع أن يكون البيان مقارناً للمبين غير أنهم لم يتبينوا أن الأمر بالذبح كان ناجزاً وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع أما أولا فلأنه لو كان البيان حاصلاً لفهموه ظاهراً ولما سألوا عنه.
وأما ثانياً فلأن الأمر بالذبح كان مطلقاً والأمر المطلق على التراخي عند صاحب هذه الحجة على ما سبق تقريره ولو كان على الفور فتأخير بيانه عنه أيضاً غير ممتنع على أصله لكونه قائلاً بجواز التكليف بما لا يطلق كما سبق تحقيقه.
الحجة الخامسة: أنه لما نزل قوله تعالى: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " الأنبياء 98 قال عبد الله بن الزبعري: فقد عبدت الملائكة والمسيح أفتراهم يعذبون والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه بل سكت إلى حين ما نزل بيان ذلك بعد حين وهو قوله: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " الأنبياء 101 وذلك يدل على جواز التأخير.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن الآية لم تكن بينة حتى أنها تحتاج إلى بيان فإن الملائكة والمسيح إنما يمكن القول بدخولهم في عموم الآية إذ لو كانت ما تتناول من يعلم ويعقل وهو غير مسلم وإذا لم تكن متناولة لهم فلا حاجة إلى إخراج ما لا دخول له في الآية عنها.
فإن قيل: دليل تناول ما لمن يعلم ويعقل النص والإطلاق والمعنى.
أما النص فقوله تعالى: " وما خلق الذكر والأنثى " الليل 3 وقوله تعالى: " والسماء وما بناها " الشمس 5 وقوله تعالى: " ولا أنتم عابدون ما أعبد " الكافرون 3 وأما الإطلاق فمن وجهين: الأول أن ما قد تطلق بمعنى الذي باتفاق أهل اللغة و الذي يصح إطلاقها على من يعقل بدليل قولهم الذي جاء زيد فما كذلك الثاني أنه يصح أن يقال ما في داري من العبيد أحرار.
وأما المعنى فمن وجهين: الأول هو أن ابن الزبعرى كان من فصحاء العرب وقد فهم تناول ما لمن يعقل والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه ذلك.
الثاني أن ما لو كانت مختصة بمن لا يعلم لما احتيج إلى قوله: " من دون الله " وحيث كانت بعمومها متناولة لله تعالى احتاج إلى التقييد بقوله: من دون الله.
قلنا: أما ما ذكروه من النصوص والإطلاقات فغايتها جواز إطلاق ما على من يعقل ويعلم ولا يلزم من ذلك أن تكون ظاهرة فيه بل هي ظاهرة فيمن لا يعقل.
ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن الزبعري لما ذكر ما ذكر راداً عليه بقوله: ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ما لما لا يعقل و من لمن يعقل.
ولا يخفى أن الجمع بين الأمرين والتوفيق بين الأدلة أولى من تعطيل قول النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بما ذكروه وإذا كانت ما ظاهرةً في من لا يعقل دون من يعقل وجب تنزيلها على ما هي ظاهرة فيه.

وما ذكروه من الوجه الأول في المعنى فهو باطل بما ذكرناه من إنكار النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخفى أن اتباع قول النبي أولى من اتباع ما ظنه ابن الزبعري.
وما ذكروه في الوجه الثاني من عدم الاحتياج إلى قوله: من دون الله إنما يصح أن لو لم يكن فيه فائدة وفائدته التأكيد وحمل الكلام على فائدة التأسيس وإن كان هو الأصل غير أنه يلزم من حمله على فائدة التأسيس مخالفة ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم والجمع أولى من التعطيل.
وإن سلمنا أن ما حقيقةً في من يعقل غير أنا لا نسلم أن بيان التخصيص لم يكن مقارناً للآية وبيان المقارنة أن دليل العقل صالح للتخصيص على ما سبق.
والعقل قد دل على امتناع تعذيب أحد بجرم صادر من غيره اللهم إلا أن يكون راضياً بجرم ذلك الغير واحد من العقلاء لم يخطر بباله رضا الملائكة والمسيح بعبادة من عبدهم و ما مثل هذا الدليل العقلي فلا نسلم عدم مقارنته للآية.
وأما نزول قوله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " الأنبياء 101 الآية فإنما ورد تأكيدا بضم الدليل الشرعي إلى الدليل العقلي مع الاستغناء عن أصله أما أن يكون هو المستقل بالبيان فلا.
الحجة السادسة قول الملائكة لإبراهيم: " إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين " العنكبوت 31 ولم يبينوا إخراج لوط ومن معه من المؤمنين عن الهلاك بقولهم: " نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله " العنكبوت 32 إلا بعد سؤال إبراهيم وقوله: إن فيها لوطاً.
ولقائل أن يقول: لا نسلم تأخر البيان عن هذه الآية بل هو مقترن بها ودليله قول الملائكة في تعليل الهلاك: إن أهلها كانوا ظالمين وذلك لا يدخل فيها إلا من كان ظالماً كيف وإنه لم يتخلل بين قول الملائكة غير سؤال إبراهيم وهو قوله: " إن فيها لوطاً " العنكبوت 32 وما مثل هذا لا يعد تأخيراً للبيان فإن مثل ذلك قد يجري إما بسبب انقطاع نفسه أو سعال فيما بين البيان والمبين ولا يعد ذلك من المبين تأخيراً.
ومبادرة إبراهيم إلى السؤال ومنعهم من اقتران البيان بالمبين نازل منزلة انقطاع النفس والسعال حتى أنه لو لم يبادر بالسؤال لبادروا بالبيان.
الحجة السابعة أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ معاذاً إلى اليمن ليعلمهم الزكاة وغيرها فسألوه عن الوقص فقال: ما سمعت فيه شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرجع إليه فاسأله وذلك دليل على أن بيانه لم يتقدم.
ولقائل أن يقول كون معاذ لم يسمع البيان ولم يعرفه لا يدل على عدم مقارنة البيان للمبين كيف ويمكن أن يقال الأصل عدم وجوب الزكاة في الأوقاص وغيرها غير أن الشارع أوجب فيما أوجب وبقي الباقي على حكم العقل وذلك صالح للبيان والتخصيص.
هذا ما يتعلق بالمنقول وأما الحجج العقلية فأولها أنه لو كان تأخير البيان ممتنعاً فإما أن يكون امتناعه لذاته أو لغيره وذلك إما أن يعرف بضرورة العقل أو نظره وكل واحد من الأمرين منتف فلا امتناع.
ولقائل أن يقول: ولو كان جائزاً فإما أن يعرف بضرورة العقل أو نظره وكل واحد من الأمرين منتف فلا جواز وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وكل ما هو جواب له هاهنا فهو جوابه فيما ذكر.
الحجة الثانية: أنه لو امتنع تأخير البيان لامتنع تأخيره في الزمن القصير وامتنع عطف الجمل المتعددة إذا كان بيان الأولى متأخراً عن الجمل المعطوف عليها ولما جاز البيان بالكلام الطويل واللازم ممتنع.
ولقائل أن يقول: إنما يجوز تأخير البيان في الزمان القصير إذا كان مع قصره لا يعد المتكلم معرضاً عن كلامه الأول فإن كلامه الثاني مع الأول معدود كالجملة الواحدة وذلك لا يعد تأخيراً للبيان.
وهذا بخلاف ما إذا تطاول الزمان تطاولاً يعد به المتكلم بالكلام الأول معرضاً عن كلامه ولهذا فإنه يجوز لغةً وعرفاً أن يتكلم الإنسان بكلام يقصر فهم السامع عنه ويبينه بعد الزمان القصير من غير استهجان بخلاف ما إذا بينه بعد الزمان المتطاول فلا يلزم من التأخير ثم التأخير هاهنا وأما الجمل المعطوفة فنازلة منزلة الجملة الواحدة فالبيان المتعقب للجمل المعطوفة ينزله منزلة تعقبه للجملة الواحدة.
وأما البيان بالكلام الطويل فإنما يجوزه الخصم إذا لم يكن حصول البيان إلا به أو كانت المصلحة فيه أتم من الكلام القصير وإلا فلا.

الحجة الثالثة: أنه لو قبح تأخير البيان لكان ذلك لعدم تبين المكلف وذلك يقتضي قبح الخطاب إذا بين له ولم يتبين فإنه لا فرق في ذلك بين ما امتنع بأمر يرجع إلى نفسه أو إلى غيره ولهذا يسقط تكليف الإنسان إذا مات سواء قتل هو نفسه أو قتله غيره واللازم ممتنع.
ولقائل أن يقول: مسلم أن قبح تأخير البيان لما فيه من فقد التبين المنسوب إلى المخاطب ولا يلزم من ذلك قبحه عند عدم تبين المكلف إذا بين له لكونه منسوباً إلى تقصير المكلف لا إلى المخاطب وسقوط التكليف عن الميت إنما كان لعدم تمكنه المشروط في التكليف وذلك لا يفترق بأن يكون قد فات بفعله أو بفعل غيره.
والمختار في ذلك: أما من جهة النقل فقوله تعالى: " واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " الأنفال 41 إلى قوله: " ولذي القربى " الأنفال 41 ثم بين بعد ذلك أن السلب للقاتل وأن المراد بذوي القربى بنو هاشم وبنو المطلب دون بني أمية وبني نوفل بمنعه لهم من ذلك حتى أنه لما سئل عن ذلك قال إنا وبنو هاشم والمطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام ولم نزل هكذا وشبك بين أصابعه.
فإن قيل: المتأخر إنما هو البيان المفصل ونحن لا نمنع من ذلك وإنما نمنع من تأخير البيان المجمل ولا دلالة لما ذكرتموه على تأخيره.
قلنا: إذا سلم عدم اقتران البيان التفصيلي بهذه الآية فهو حجة على من نازع فيه وهي حجة على من نازع في تأخير البيان الإجمالي حيث إنها ظاهرة في العموم لكل ذوي القربى ولم ينقل أحد من أهل النقل وأرباب الأخبار ما يشير إلى البيان الإجمالي أيضا مع أن الأصل عدمه ولو كان لما أهمل نقله غالباً وأيضاً ما روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم اقرأ قال: وما أقرأ؟ كرر عليه ذلك ثلاث مرات ثم قال له: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " العلق 1 أخر بيان ما أمره به أولاً من إجماله إلى ما بعد ثلاث مرات من أمر جبريل وسؤال النبي مع إمكان بيانه أولاً وذلك دليل جواز التأخير.
فإن قيل: أمره له بالقراءة مطلق وذلك إما أن يكون مقتضاه الوجوب على الفور أو التراخي: فإن كان الأول فقد أخر البيان عن وقت الحاجة وإن كان الثاني فلا شك في إفادته جواز الفعل في الزمن الثاني من وقت الأمر وتأخير البيان عنه تأخير له عن وقت الحاجة وذلك ممتنع بالإجماع.
فترك الظاهر لازم لنا ولكم والخلاف إنما وقع في تأخير البيان إلى وقت الحاجة وليس فيما ذكرتموه دلالة عليه.
قلنا: أما أن الأمر ليس مقتضاه الوجوب على الفور فقد تقدم وإذا كان على التراخي فلا نسلم لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة.
قولكم إنه يفيد جواز الفعل في الزمان الثاني من وقت الأمر قلنا: متى إذا كان الفعل المأمور به مبينا أو إذا لم يكن مبيناً؟ الأول مسلم والثاني ممنوع.
وإن سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن الحاجة داعية إلى معرفته مع قطع النظر عن وجوبه وعدم المؤاخذة بتركه بدليل ما قبل الأمر.
وأيضاً فإنه لما نزل قوله تعالى: " أقيموا الصلاة " مع أنه لم يرد بها مطلق الدعاء إجماعا لم يتقرن بها البيان بل أخر بيان أفعال الصلاة وأوقاتها إلى أن بين ذلك جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لغيره بعد بيان جبريل له.
وكذلك نزل قوله تعالى: " وآتوا الزكاة " البقرة 110 مطلقاً ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مقدار الواجب وصفته في النقود والمواشي وغيرها من أموال الزكاة شيئاً فشيئاً.
وكذلك نزل قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " المائدة 32 ثم بين بعد ذلك ما يجب القطع بسرقته في مقداره وصفته على التدريج وكذلك نزل قوله تعالى: " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم " التوبة 41 ثم نزل تخصيصه بقوله تعالى : " ليس على الضعفاء ولا على المرضى " إلى غير ذلك من الأوامر العامة التي لم تبين تفاصيلها إلا بعد مدد.
فإن قيل: المؤخر في جميع هذه الأوامر إنما هو البيان التفصيلي وليس فيها ما يدل على تأخير البيان الإجمالي كيف وإن الأمر إما أن يكون على الفور أو التراخي وتمام الإشكال ما سبق.

قلنا: وجواب الإشكالين أيضاً ما سبق وأيضاً فإن العمومات الواردة في البيع والنكاح والإرث وردت مطلقة والنبي صلى الله عليه وسلم بين بعد ذلك على التدريج ما يصح بيعه وما لا يصح ومن يحل نكاحها ومن لا يحل وصفات العقود وشروطها ومن يرث ومن لا يرث ومقادير المواريث شيئاً فشيئاً.
ومن نظر في جميع عمومات القرآن والسنة وجدها كذلك وأيضاً فإنه لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة وشكا الأنصار إليه بعد ذلك رخص لهم في العرايا وهي نوع من المزابنة مع أنه لم ينقل أنه اقترن بنهيه عن ذلك بيان مجمل ولا مفصل وهو لا يخلو إما أن يكون ذلك نسخاً أو تخصيصاً: وعلى كلا التقديرين فهو حجة على المخالف فيه.
وأما من جهة المعقول فهو أنه لو امتنع تأخير البيان لم يخل إما أن يكون ذلك ممتنعاً لذاته أو لأمر من خارج لا جائز أن يكون لذاته فإنا لو فرضناه واقعاً لا يلزم عنه المحال لذاته.
وإن كان لأمر خارج فلا يخفى أنه لا فارق بين حالة وجود البيان وعدمه سوى علم المكلف بالمراد من الكلام حالة وجود البيان وجهله به حالة عدمه.
فلو امتنع تأخير البيان لكان لما قارنه من جهل المكلف بالمراد ولو كان كذلك لامتنع تأخير بيان النسخ لما فيه من الجهل بمراد الكلام الدال بوضعه على تكرر الفعل على الدوام واللازم ممتنع فالملزوم ممتنع.
وهذه الطريقة لازمة على كل من منع من تأخير بيان المجمل والعام والمقيد وكل ما أريد به غير ما هو ظاهر فيه وجوزه في النسخ كالجبائي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار وغيرهم.
اعترض القاضي عبد الجبار وقال الفرق بين تأخير بيان النسخ وتأخير بيان المجمل هو أن تأخير بيان النسخ مما لا يخل بالتمكن من الفعل في وقته بخلاف تأخير بيان صفة العبادة فإنه لا يتأتى معه فعل العبادة في وقتها للجهل بصفتها والفرق بين تأخير بيان تخصيص العموم وتأخير بيان النسخ من وجهين.
الأول: أن الخطاب المطلق الذي أريد نسخه معلوم أن حكمه مرتفع لعلمنا بانقطاع التكليف ولا كذلك المخصوص.
الثاني: أن تأخير بيان تخصيص العموم مع تجويز إخراج بعض الأشخاص منه من غير تعيين مما يوجب الشك في كل واحد من أشخاص المكلفين هل هو مراد بالخطاب أم لا ولا كذلك في تأخير بيان النسخ.
وجواب الفرق بين الإجمال والنسخ أن وقت العبادة إنما هو وقت دعو الحاجة إليها لا قبل ذلك ووقت الحاجة إليها فالبيان لا يكون متأخراً عنه فلا يلزم من تأخير بيان صفة العبادة عنها في غير وقتها ووجوده في وقتها تعذر الإتيان بالعبادة في وقتها.
وجواب الفرق الأول بين العموم والنسخ هو أن حكم الخطاب المطلق وإن علم ارتفاعه بانقطاع التكليف فذلك مما يعم التخصيص والنسخ لعلمنا بانقطاع التكليف بالموت في الحالتين.
وإنما الخلاف فيما قبل حالة الموت مع وجود الدليل الظاهر المتناول لكل الأشخاص واللفظ الظاهر المتناول لجميع أوقات الحياة.
وعند ذلك إذا جاز رفع حكم الخطاب الظاهر المتناول لجميع الأوقات مع فرض الحياة والتمكن منه من غير دليل مبين في الحال جاز تخصيص بعض من تناوله اللفظ بظهوره مع التمكن من غير دليل مبين في الحال أيضاً لتعذر الفرق بين الحالتين.
وجواب الفرق الثاني أن تأخير بيان التخصيص وإن أوجب التردد في كل واحد من أشخاص المكلفين أنه داخل تحت الخطاب أم لا فتأخير بيان النسخ عندما إذا أمر بعبادة متكررة في كل يوم مما يوجب التردد في أن العبادة في كل يوم عدا اليوم الأول هل هي داخلة تحت الخطاب العام لجميع الأيام أم لا.
وإذا جاز ذلك في أحد الطرفين جاز في الطرف الآخر ضرورة تعذر الفرق وكذلك أيضاً فإنه إذا أمر بعبادة في وقت مستقبل أمراً عاماً فإن من شخص إلا ويحتمل احترامه قبل دخول ذلك الوقت ويخرج بذلك عن دخوله تحت الخطاب العام.
وذلك مما يوجب التردد في كل واحد واحد من الأشخاص هل هو داخل تحت ذلك الخطاب إذا لم يرده البيان به ومع ذلك فإنه غير ممتنع إجماعاً.
شبه المخالفين منها ما يختص بتأخير بيان المجمل ومنها ما يختص بتأخير بيان ماله ظاهر أريد به غير ما هو ظاهر فيه.
أما الشبه الخاصة بالمجمل فشبهتان:

الأولى: أنه لا فرق بين الخطاب باللفظ المجمل الذي لا يعرف له مدلول من غير بيان وبين الخطاب بلغة يضعها المخاطب مع نفسه من غير بيان وعند ذلك فإما أن يقال بحسن المخاطبة بهما أو بأحدهما دون الآخر أو لا بواحد منهما:الأول يلزم منه حسن المخاطبة بما وضعه مع نفسه من غير بيان وهو في غاية الجهالة والثاني أيضاً ممتنع لعدم الأولوية والثالث هو المطلوب.
الشبهة الثانية: أن المقصود من الخطاب إنما هو التفاهم والمجمل الذي لا يعرف مدلوله من غير بيان له في الحال لا يحصل منه التفاهم فلا يكون مفيداً وما لا فائدة فيه لا تحسن المخاطبة به لكونه لغواً وهو قبيح من الشارع كما لو خاطب بكلمات مهملة لم توضع في لغة من اللغات لمعنى على أن يبين المراد منها بعد ذلك.
وأما الشبه الخاصة بما استعمل من الظواهر في غير ما هو ظاهر فيه فثلاث شبه: الأولى إنه إن جاز الخطاب بمثل ذلك من غير بيان له في الحال فإما أن يقال بجواز تأخير بيانه إلى مدة معينة فهو تحكم لم يقل به قائل.
وإن كان ذلك إلى غير نهاية فيلزم منه بقاء المكلف عاملاً أبدا بعموم قد أريد به الخصوص وهو في غاية التجهيل.
الثانية: أنه إذا خاطب الشارع بما يريد به غير ظاهره فإما أن لا يكون مخاطباً لنا في الحال أو يكون مخاطباً لنا به حالاً: الأول خلاف الإجماع وإن كان الثاني فلا بد وأن يكون قاصداً لتفهيمنا بخطابه حالاً وإلا خرج عن كونه مخاطباً لنا حالا وهو خلاف الفرض وبيان لزوم ذلك أن المعقول من قول القائل: خاطب فلان فلاناً أنه قصد تفهيمه بكلامه له.
وإذا كان قاصداً للتفهيم في الحال فإن قصد تفهيم ما هو الظاهر من كلامه فقد قصد تجهيلنا وهو قبيح وإن قصد تفهيم ما هو المراد منه فقد قصد ما لا سبيل لنا إليه دون البيان وهو أيضاً قبيح.
الثالثة: أنه لو جاز أن يخاطبنا بالعموم ويريد به الخصوص من غير بيان له في الحال لتعذر معرفة المراد من كلامه مطلقاً وذلك لأن ما من لفظ يبين به المراد إلا ويجوز أن يكون قد أراد به غير ما هو الظاهر منه ولم يبينه لنا وذلك مما يخل بمقصود الخطاب مطلقاً وهو ممتنع.
والجواب عن الشبهة الأولى بالفرق وهو أن اللفظ المجمل وإن لم يعلم منه المراد بعينه فقد علم المكلف أنه مخاطب بأحد مدلولاته المعينة المفهومة له وبذلك يتحقق اعتقاده للوجوب والعزم على الفعل بتقدير البيان والتعيين فكان مفيداً بخلاف الخطاب بما لا يفهم منه شيء أصلاً كما فرضوه.
وبهذا يكون جواب الشبهة الثانية.
وعن الشبهة الثالثة: أن تأخير البيان إنما يجوز إلى الوقت الذي تدعو الحاجة فيه إلى البيان وذلك لا يكون إلا معيناً في علم الله تعالى: ويجوز أن يكون معلوماً للرسول بإعلام الله تعالى له وعند ذلك فأي وقت وجب على المكلف العمل بمدلول اللفظ فيه فذلك هو وقت الحاجة إلى البيان والبيان لا يكون إذ ذاك متأخراً لما فيه من تأخير البيان عن وقت الحاجة وقبل وقت الوجوب فلا عمل للمكلف حتى يقال بأنه عامل بعموم أريد به الخصوص بل غايته أنه يعتقد ذلك ولا امتناع فيه كما لو أمر بعبادة متكررة كل يوم فإنه لا يمتنع اعتقاده لعموم ذلك في جميع الأيام مع جواز نسخها في المستقبل وإن لم يرد بذلك بيان وكل ما يعتذر به في النسخ فهو عذر لنا هاهنا.
وعن الشبهة الرابعة من وجهين: الأول: أنه وإن لزم من كونه مخاطباً لنا أن يكون قاصداً لتفهيمنا في الحال لكن لا لنفس ما هو الظاهر من كلامه فقط ولا لنفس مراده من كلامه فقط بل يفهم ما هو الظاهر من كلامه مع تجويز تخصيصه وليس في ذلك تجهيل ولا إحالة وذلك مما لا يمنع ورود المخصص بعد ذلك وإلا لما كان مجوز التخصيص وهو خلاف الفرض.
الثاني: أنه يلزم على ما ذكروه الخطاب بما علم الله أنه سينسخه فإن جميع ما ذكر من الأقسام بعينها متحققة فيه ومع ذلك جاز الخطاب به مع تأخير بيانه.
وعن الخامسة من وجهين: الأول: أنه لا يمتنع أن يكون البيان: إما بدليل قاطع لا يسوغ فيه احتمال التأويل أو ظني اقترن به من القرائن ما أوجب العلم بمدلول كلامه.
الثاني: أنه يلزم على ما ذكروه الخطاب الوارد الذي علم الله نسخ حكمه مع تأخير البيان عنه والجواب يكون متحداً.
المسألة الخامسة اختلفوا في جواز تأخير ما أوحى به إلى النبي (ص)

الذين منعوا من تأخير بيان المراد من الخطاب عن وقت الخطاب اختلفوا في جواز تأخير تبليغ ما أوحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام والعبادات إلى وقت الحاجة إليه وأكثر المحققين على جوازه وهو الحق لأنه لو امتنع لم يخل: إما أن يمتنع لذاته أو لمعنى من خارج: الأول محال فإنه لا يلزمه من فرض وقوعه لذاته محال وإن كان ذلك لأمر من خارج فالأصل عدمه كيف وإن تأخيره يحتمل أن يكون فيه مصلحة في علم الله تقتضى التأخير.
ولهذا لو صرح الشارع بذلك لما كان ممتنعاً ويحتمل أن يكون فيه مفسدة مانعة من التأخير وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
فإن قيل: الامتناع من التأخير إنما هو لمعنى خارج عن ذاته وهو قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك " المائدة 67 وظاهر الأمر للوجوب.
قولكم: يحتمل وجود مفسدة في التقديم ومصلحة في التأخير وليس أحد الأمرين أولى من الآخر قلنا: فهذا كما لا يمكن معه الجزم بامتناع التأخير فلا يمكن معه الجزم بجواز التأخير الذي هو مذهبكم.
وجواب الأول: أنا وإن سلمنا أن قوله تعالى: بلغ أمر ولكن لا نسلم أنه للوجوب وإن سلمنا أنه للوجوب ولكن لا نسلم أن مطلق الأمر يقتضي الفور على ما تقدم تقريره.
وإن سلمنا أنه على الفور غير أنا لا نسلم أنه يتناول تبليغ الأحكام التي وقع الخلاف فيها وإنما هو دال على تبليغ ما أنزل من لفظ القرآن إذ هو المفهوم من لفظ المنزل.
وجواب الثاني أنه إذا وقع التردد بين المصلحة والمفسدة تساقطاً وبقينا على أصل الجواز العقلي.
المسألة السادسة الذين اتفقوا على امتناع تأخير البيان إلى وقت الحاجة اختلفوا في جواز إسماع الله للمكلف العام دون إسماعه للدليل المخصص له.
فذهب الجبائي وأبو الهذيل إلى امتناع ذلك في الدليل المخصص السمعي وأجازا أن يسمعه العام المخصص بدليل العقل وإن لم يعلم السامع دلالته على التخصيص وذهب أبو هاشم والنظام وأبو الحسين البصري إلى جواز إسماع العام من لم يعرف الدليل المخصص له وسواء كان المخصص سمعياً أو عقلياً وهو الحق لوجهين: الأول: إنا قد بينا جواز تأخير المخصص عن الخطاب إذا كان سمعياً مع أن عدم سماعه لعدمه في نفسه أتم من عدم سماعه مع وجوده في نفسه فإذا جاز تأخير المخصص فجواز تأخير إسماعه مع وجوده أولى.
الثاني: هو أن وقوع ذلك يدل على جوازه ودليله إسماع فاطمة قوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " النساء 11 مع أنها لم تسمع بقوله: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " إلا بعد حين.
وكذلك أسمعت الصحابة قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " التوبة 5 ولم يسمع أكثرهم الدليل المخصص للمجوس وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " إلا بعد حين إلى وقائع كثيرة غير محصورة.
وكل ما يتشبث به الخصوم في المنع من ذلك فغير خارج عما ذكرناه لهم من الشبه في المسألة المتقدمة وجوابها ما سبق مع أنه منتقض بجواز إسماعه العام مع عدم معرفته بالدليل المخصص إذا كان عقلياً.
المسألة السابعة اختلفوا في جواز التدريج في البيان اختلف المجوزون لتأخير البيان عن وقت الخطاب العام في جواز التدريج في البيان: فمنع منه قوم مصيراً منهم إلى أن تخصيص البعض بالتنصيص على إخراجه دون غيره يوهم وجوب استعمال اللفظ في الباقي وامتناع التخصيص بشيء آخر وهو تجهيل للمكلف وإنما ينتفي هذا التجهيل بالتنصيص على كل ما هو خارج عن العموم.
ومذهب المحققين منهم خلاف ذلك ودليل جوازه وقوعه وبيان وقوعه قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " المائدة 38 فإنه عام في كل سارق.
ومع ذلك فإن تخصيصه بما خصص به من ذكر نصاب السرقة أولاً وعدم الشبهة ثانياً وقع على التدريج وكذلك قوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " آل عمران 97 خصص أولاً بتفسير الاستطاعة بذكر الزاد والراحلة ثم بذكر الأمن في الطريق والسلامة من طلب الخفارة ثانياً.
وكذلك قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " أخرج منه أهل الذمة أولاً ثم العسيف والمرأة ثانياً وكذلك آية الميراث أخرج منها ميراث النبي صلى الله عليه وسلم والقاتل والكافر وكل ذلك على التدريج إلى غير ذلك من العمومات المخصصة ولولا جوازه لما وقع.

والقول بأن تخصيص البعض بالذكر يوهم نفي تخصيصه بشيء آخر ليس كذلك فإن الاقتصار على الخطاب العام دون ذكر المخصص مع كونه ظاهراً في التعميم بلفظه إذا لم يوهم المنع من التخصيص فإخراج بعض ما تناوله اللفظ عنه مع أنه لا دلالة له على إثبات غير ذلك البعض بلفظه أولى أن لا يكون موهماً لمنع التخصيص.
المسألة الثامنة إذا ورد لفظ عام بعبادة أو غيرها قبل دخول وقت العمل به يجب اعتقاد عمومه إذا ورد لفظ عام بعبادة أو بغيرها قبل دخول وقت العمل به قال أبو بكر الصيرفي: يجب اعتقاد عمومه جزماً قبل ظهور المخصص وإذا ظهر المخصص تغير ذلك الاعتقاد وهو خطأ: فإن احتمال إرادة الخصوص به قائم ولهذا لو ظهر المخصص لما كان ذلك ممتنعاً ووجب اعتقاد الخصوص.
وما هذا شأنه فاعتقاد عمومه جزماً قبل الاستقصاء في البحث عن مخصصه وعدم الظفر به على وجه تركن النفس إلى عدمه يكون ممتنعاً فإذا لا بد في الجزم باعتقاد عمومه من اعتقاد انتفاء مخصصه بطريقه ومع ذلك لا نعرف خلافاً بين الأصوليين في امتناع العمل بموجب اللفظ العام قبل البحث عن المخصص وعدم الظفر به لكن اختلفوا: فذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين إلى امتناع العمل به واعتقاد عمومه إلا بعد القطع بانتفاء المخصص وإلا فالجزم بعمومه والعمل به مع احتمال وجود المعارض ممتنع.
قال: ومعرفة انتفاء المخصص بطريق القطع ممكن وذلك بأن تكون المسألة المتمسك بالعموم فيها مما كثر الخلاف فيها بين العلماء وطال النزاع فيما بينهم فيها ولم يطلع أحد منهم على موجب للتخصيص مع كثرة بحثهم واستقصائهم.
ولو كان ثم شيء لاستحال أن لا يعرف عادةً ولأنه لو كان المراد بالعموم الخصوص لاستحال أن لا ينصب الله تعالى عليه دليلاً ويبلغه للمكلفين.
وذهب ابن سريج وإمام الحرمين والغزالي وأكثر الأصوليين إلى امتناع اشتراط القطع في ذلك وهو المختار وذلك لأنه لا طريق إلى معرفة ذلك بغير البحث والسبر وهو غير يقيني والقول بأنه لو كان ثم مخصص لاطلع عليه العلماء غير يقيني لجواز وجوده مع عدم اطلاع أحد من العلماء عليه.
وبتقدير اطلاع بعضهم عليه فنقله له أيضاً غير قاطع بل غايته أن يكون ظنياً كيف وإنه ليس كل ما ورد فيه العام مما كثر خوض العلماء فيه وبحثهم عنه ليصح ما قيل.
والقول بأنه لو كان المراد بالعام الخصوص لنصب الله تعالى عليه دليلاً غير مسلم وبتقدير نصبه للدليل لا نسلم لزوم اطلاع المكلفين عليه.
وبتقدير ذلك لا نسلم لزوم نقلهم له وإذا لم يكن إلى القطع بذلك طريق فلو شرط ذلك في العمل بالعموم لتعطلت العمومات بأسرها وإذا عرف أنه لا بد من الظن بانتفاء المخصص فالحد الذي يجب العمل بالعموم عنده أن يبحث عن المخصص بحثاً غلب على ظنه عدمه وأنه لو بحث عنه ثانياً وثالثاً كان بحثه غير مفيد وعلى هذا يكون الكلام في العمل بكل دليل مع معارضه.
الصنف التاسع في الظاهر وتأويله ويشتمل على مقدمة ومسائل: أما المقدمة ففي تحقيق معنى الظاهر والتأويل.
أما الظاهر فهو في اللغة عبارة عن الواضح ومنه يقال: ظهر الأمر الفلاني إذا اتضح وانكشف وفي لسان المتشرعة قال الغزالي: اللفظ الظاهر هو الذي يغلب على الظن فهم معنىً منه من غير قطع وهو غير جامع مع اشتماله على زيادة مستغنى عنها.
أما أنه غير جامع فلأنه يخرج منه ما فيه أصل الظن دون غلبة الظن مع كونه ظاهراً ولهذا يفرق بين قول القائل: ظن وغلبة ظن ولأن غلبة الظن ما فيه أصل الظن وزيادة.
وأما اشتماله على الزيادة المستغنى عنها فهي قوله: من غير قطع فإن من ضرورة كونه مفيداً للظن أن لا يكون قطعياً.
والحق في ذلك أن يقال: اللفظ الظاهر ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي ويحتمل غيره احتمالاً مرجوحاً.
وإنما قلنا ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي احترازاً عن دلالته على المعنى الثاني إذا لم يصر عرفياً كلفظ الأسد في الإنسان وغيره.
وقولنا ويحتمل غيره احتراز عن القاطع الذي لا يحتمل التأويل وقولنا احتمالاً مرجوحاً احتراز عن الألفاظ المشتركة.
وهو منقسم إلى ما هو ظاهر بحكم الوضع الأصلي كإطلاق لفظ الأسد بإزاء الحيوان المخصوص وإلى ما هو ظاهر بحكم عرف الاستعمال كإطلاق لفظ الغائط بإزاء الخارج المخصوص من الإنسان.

وأما التأويل ففي اللغة مأخوذ من آل يؤول أي رجع ومنه قوله تعالى: " ابتغاء تأويله " آل عمران 7 أي ما يؤول إليه ومنه يقال: تأول فلان الآية الفلانية أي نظر إلى ما يؤول إليه معناها.
وأما في اصطلاح المتشرعة قال الغزالي: التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر وهو غير صحيح: أما أولاً فلأن التأويل ليس هو نفس الاحتمال الذي حمل اللفظ عليه بل هو نفس حمل اللفظ عليه وفرق بين الأمرين وأما ثانياً فلأنه غير جامع فإنه يخرج منه التأويل بصرف اللفظ عما هو ظاهر فيه إلى غيره بدليل قاطع غير ظني حيث قال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر وأما ثالثاً فلأنه أخذ في حد التأويل من حيث هو تأويل وهو أعم من التأويل بدليل ولهذا يقال: تأويل بدليل وتأويل من غير دليل.
فتعريف التأويل على وجه يوجد معه الاعتضاد بالدليل لا يكون تعريفاً للتأويل المطلق اللهم إلا أن يقال: إنما أراد تعريف التأويل الصحيح دون غيره.
والحق في ذلك أن يقال أما التأويل من حيث هو تأويل مع قطع النظر عن الصحة والبطلان هو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له.
وأما التأويل المقبول الصحيح فهو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده.
وإنما قلنا حمل اللفظ على غير مدلوله احترازاً عن حمله على نفس مدلوله وقولنا الظاهر منه احتراز عن صرف اللفظ المشترك من أحد مدلوليه إلى الآخر فإنه لا يسمى تأويلاً.
وقولنا مع احتماله له احتراز عما إذا صرف اللفظ عن مدلوله الظاهر إلى ما لا يحتمله أصلاً فإنه لا يكون تأويلاً صحيحاً.
وقولنا بدليل يعضده احتراز عن التأويل من غير دليل فإنه لا يكون تأويلاً صحيحاً أيضاً وقولنا بدليل يعم القاطع والظني وعلى هذا فالتأويل لا يتطرق إلى النص ولا إلى المجمل وإنما يتطرق إلى ما كان ظاهراً لا غير.
وإذا عرف معنى التأويل فهو مقبول معمول به إذا تحقق بشروطه ولم يزل علماء الأمصار في كل عصر من عهد الصحابة إلى زمننا عاملين به من غير نكير.
وشروطه أن يكون الناظر المتأول أهلاً لذلك وأن يكون اللفظ قابلاً للأقاويل بأن يكون اللفظ ظاهراً فيما صرف عنه محتملاً لما صرف إليه وأن يكون الدليل الصارف للفظ عن مدلوله الظاهر راجحاً على ظهور اللفظ في مدلوله ليتحقق صرفه عنه إلى غيره.
وإلا فبتقدير أن يكون مرجوحاً لا يكون صارفاً ولا معمولاً به اتفاقاً وإن كان مساوياً لظهور اللفظ في الدلالة من غير ترجيح فغايته إيجاب التردد بين الاحتمالين على السوية ولا يكون ذلك تأويلا غير أنه يكتفى بذلك من المعترض إذا كان قصده إيقاف دلالة المستدل ولا يكتفى به من المتسدل دون ظهوره وعلى حسب قوة الظهور وضعفه وتوسطه يجب أن يكون التأويل وتمام كشف ذلك بمسائل ثمان: المسألة الأولى قوله صلى الله عليه وسلم لغيلان وقد أسلم علىعشر نسوة " أمسك أربعاً وفارق سائرهن " وقوله لفيروز الديلمي وقد أسلم على أختين " أمسك أيتهما شئت وفارق الأخرى " أمر بالإمساك وهو ظاهر في استصحاب النكاح وقد تأوله أصحاب أبي حنيفة بثلاث تأويلات: الأول أنهم قالوا: يحتمل أنه أراد بالإمساك ابتداء النكاح ويكون معنى قوله " أمسك أربعاً " أي انكح منهن أربعاً وأراد بقوله وفارق سائرهن لا تنكحهن.
الثاني أنهم قالوا: يحتمل أن النكاح في الصورتين كان واقعاً في ابتداء الإسلام قبل حصر عدد النساء في أربع وتحريم نكاح الأختين فكان ذلك واقعاً على وجه الصحة والباطل من أنكحة الكفار ليس إلا ما كان مخالفا لما ورد به الشرع حال وقوعها.
الثالث أنهم قالوا: يحتمل أنه أمر الزوج باختيار أوائل النساء وهذه التأويلات وإن كانت منقدحة عقلاً غير أن ما اقترن بلفظ الإمساك من القرائن دارئة لها.
أما التأويل الأول فمن وجوه: الأول أن المتبادر إلى الفهم من لفظ الإمساك إنما هو الاستدامة دون التجديد الثاني أنه فوض الإمساك والفراق إلى خيرة الزوج وهما غير واقعين بخيرته عندهم لوقوع الفراق بنفس الإسلام وتوقف النكاح على رضا الزوجة.

الثالث أنه لم يذكر شروط النكاح مع دعو الحاجة إلى معرفة ذلك لقرب عهدهم بالإسلام الرابع أنه أمر الزوج بإمساك أربع من العشر وواحدة من الأختين وبمفارقة الباقي والأمر إما للوجوب أو الندب ظاهراً على ما تقدم وحصر التزويج في العشرة وفي الأختين ليس واجباً ولا مندوباً والمفارقة ليست من فعل الزوج حتى يكون الأمر متعلقاً بها.
الخامس هو أن الظاهر من الزوج المأمور إنما هو امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك ولم ينقل أحد من الرواة تجديد النكاح في الصور المذكورة.
السادس هو أن الزوج إنما سأل عن الإمساك بمنى الاستدامة لا بمعنى تجديد النكاح وعن الفراق بمعنى انقطاع النكاح والأصل في جواب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون مطابقاً للسؤال.
وأما التأويل الثاني: فبعيد أيضاً لأنه لو لم يكن الحصر ثابتاً في ابتداء الإسلام لما خلا ابتداء الإسلام عن الزيادة على الأربع عادةً وعن الجمع بين الأختين ولم ينقل عن أحد من الصحابة ذلك في ابتداء الإسلام ولو وقع لنقل.
وقوله تعالى: " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " النساء 23 قال أهل التفسير: المراد به ما سلف في الجاهلية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً.
وأما التأويل الثالث: فيدرؤه قوله صلى الله عليه وسلم لزوج الأختين أمسك أيتهما شئت وفارق الأخرى وقوله لواحد كان قد أسلم على خمس نسوة إختر منهن أربعاً وفارق واحدة قال المأمور بذلك فعمدت إلى أقدمهن عندي ففارقتها.
المسألة الثانية ومن جملة التأويلات البعيدة ما يقوله أصحاب أبي حنيفة في قوله صلى الله عليه وسلم: " في أربعين شاةً شاة " من أن المراد به مقدار قيمة الشاة وذلك لأن قوله: " في أربعين شاةً شاة " قوي الظهور في وجوب الشاة عيناً حيث إنه خصصها بالذكر ولا بد في ذلك من إضمار حكم وهو إما الندب أو الوجوب وإضمار الندب ممتنع لعدم اختصاص الشاة الواحدة من النصاب به فلم يبق غير الواجب.
ولا يخفى أنه يلزم من تأويل ذلك بالحمل على وجوب مقدار قيمة الشاة بناء على أن المقصود إنما هو دفع حاجات الفقراء وسد خلاتهم جواز دفع القيمة وفيه رفع الحكم وهو وجوب الشاة بما استنبط منه من العلة وهي دفع حاجات الفقراء واستنباط العلة من الحكم إذا كانت موجبةً لرفعه كانت باطلةً.
ومما يلتحق من التأويلات بهذا التأويل ما يقوله بعض الناس في قوله تعالى: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " التوبة 60 الآية من جواز الاقتصار على البعض نظراً إلى أن المقصود من الآية إنما هو دفع الحاجة في جهة من الجهات المذكورة لا دفع الحاجة عن الكل لأن الآية ظاهرة في استحقاق جميع الأصناف المذكورة للصدقة حيث إنه أضافها إليهم بلام التمليك في عطف البعض على البعض بواو التشريك وما استنبط من هذا الحكم من العلة يكون رافعاً لحكم المستنبط منه فلا يكون صحيحاً.
وما يقال من أن مقصود الآية إنما هو بيان مصارف الزكاة وشروط الاستحقاق فنحن وإن سلمنا كون ذلك مقصوداً من الآية فلا نسلم أنه لا مقصود منها سواه ولا منافاة بين كون ذلك مقصوداً وكون الاستحقاق بصفة التشريك مقصوداً وهو الأولى موافقة لظاهر الإضافة بلام التمليك والعطف بواو التشريك.
ويقرب من هذا التأويل أيضاً ما يقوله أصحاب أبي حنيفة في قوله تعالى: " فإطعام ستين مسكيناً " من أن المراد به إطعام طعام ستين مسكيناً مصيراً منهم إلى أن المقصود إنما هو دفع الحاجة ولا فرق في ذلك بين دفع حاجة ستين مسكينا ودفع حاجة مسكين واحد في ستين يوماً وهو بعيد أيضاً وذلك لأن قوله تعالى: " فإطعام " فعل لا بد له من مفعول يتعدى إليه.
وقوله: " ستين مسكيناً " صالح أن يكون مفعول الإطعام وهو مما يمكن الاستغناء به مع ظهوره والطعام وإن كان صالحاً أن يكون هو مفعول الإطعام إلا أنه غير ظاهر ومسكوت عنه فتقدير حذف المظهر وإظهار المفعول المسكوت عنه بعيد في اللغة والواجب عكسه.
وإذا كان ذلك ظاهراً في وجوب رعاية العدد دفعاً لحاجة ستين مسكيناً نظراً للمكفر بما يناله من دعائهم له واغتنامه لبركتهم وقلما يخلو جمع من المسلمين عن ولي من أولياء الله تعالى يكون مستجاب الدعوة مغتنم الهمة وذلك في الواحد المعين مما يندر.
المسألة الثالثة

قوله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل " صدر الكلام بأي وما في معرض الشرط والجزاء وذلك من أبلغ أدوات العموم عند القائلين به وأكده بالبطلان مرةً بعد مرة ثلاث مرات وهو من أبلغ ما يدل به الفصيح المصقع على التعميم والبطلان.
وقد طرق إليه أصحاب أبي حنيفة ثلاث تأويلات الأول أنه يحتمل أنه أراد بالمرأة الصغيرة الثاني أنه وإن أراد بها الكبيرة فيحتمل أنه أراد بها الأمة والمكاتبة الثالث أنه يحتمل أنه أراد ببطلان النكاح مصيره إلى البطلان غالبا بتقدير اعتراض الأولياء عليها إذا زوجت نفسها من غير كفوء.
وهذه التأويلات مما لا يمكن المصير إليها في صرف هذا العموم القوي المقارب للقطع عن ظاهره.
أما الحمل على الصغيرة فمن جهة أنها لا تسمى امرأة في وضع اللسان ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بالبطلان ونكاح الصغيرة لنفسها دون إذن وليها صحيح عندهم موقوف على إجازة الولي.
وأما الحمل على الأمة فيدرأه قوله صلى الله عليه وسلم فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها ومهر الأمة ليس لها بل لسيدها.
وأما الحمل على المكاتبة فبعيد أيضاً من جهة أنها بالنسبة إلى جنس النساء نادرة واللفظ المذكور من أقوى مراتب العموم وليس من الكلام العربي إطلاق ما هذا شأنه وإرادة ما هو في غاية الندرة والشذوذ ولهذا فإنه لو قال السيد لعبده: أيما امرأة لقيتها اليوم فأعطها درهماً وقال: إنما أردت به المكاتبة كان منسوباً إلى الإلغاز في القول وهجر الكلام.
وعلى هذا فلا نسلم صحة الاستثناء بحيث لا يبقى غير الأقل النادر من المستثنى منه كما سبق تقريره ولا فرق بين البابين.
وأما حمل بطلان النكاح على مصيره إلى البطلان فبعيد من وجهين: الأول: أن مصير العقد إلى البطلان من أندر ما يقع والتعبير باسم الشيء عما يؤول إليه إنما يصح فيما إذا كان المآل إليه قطعاً كما في قوله تعالى: " إنك ميت وإنهم ميتون " الزمر 30 أو غالباً كما في تسمية العصير خمراً في قوله تعالى: " أراني أعصر خمرا " يوسف 36.
الثاني قوله: فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها ولو كان العقد واقعاً صحيحاً لكان المهر لها بالعقد لا بالاستحلال.
المسألة الرابعة ومن التأويلات البعيدة قول أصحاب أبي حنيفة في قوله صلى الله عليه وسلم " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " إن المراد به صوم القضاء والنذر من حيث إن الصوم نكرة وقد دخل عليه حرف النفي فكان ظاهره العموم في كل صوم والمتبادر إلى الفهم من لفظ الصوم إنما هو الصوم الأصلي المتخاطب به في اللغات وهو الفرض والتطوع دون ما وجوبه بعارض ووقوعه نادر وهو القضاء والنذر.
ولا يخفى أن إطلاق ما هو قوي في العموم وإرادة ما هو العارض البعيد النادر وإخراج الأصل الغالب منه إلغاز في القول.
ولهذا فإنه لو قال السيد لعبده: من دخل داري من أقاربي أكرمه وقال: إنما أردت قرابة السبب دون النسب أو ذوات الأرحام البعيدة دون العصبات القريبة كان قوله منكراً مستبعداً لكنه مع ذلك لا ينتهض في البعد إلى بعد التأويل في حمل الخبر السابق على الأمة والمكاتبة.
المسألة الخامسة ومن التأويلات البعيدة أيضا تأويل قوله صلى الله عليه وسلم " من ملك ذا رحم محرم عتق عليه " فإن ظهور وروده لتأسيس قاعدة وتمهيد أصل في سياق الشرط والجزاء والتنبيه على حرمة الرحم المحرم وصلته قوي الظهور في قصد التعميم لكل ذي رحم محرم وذلك مما يمتنع معه التأويل بالحمل على الأصول والفصول دون غيرهم لأنهم قد امتازوا بكونهم على عمود النسب عن غيرهم ممن هو على حواشيه من الأرحام وذلك موجب لاختصاصهم بالتنصيص عليهم إظهاراً لشرف قربهم ونسابتهم فلو كان القصد متعلقاً بهم دون غيرهم بالذكر لما عدل عن التنصيص عليهم إلى ما يعم لما فيه من إسقاط حرمتهم وإهمال خاصيتهم ولذلك فإنه لو قال السيد لعبده: أكرم الناس قاصداً لإكرام أبويه لا غير كان ذلك من الأقوال المهجورة المستبعدة.
المسألة السادسة ومن التأويلات البعيدة تأويل أبي حنيفة في قوله تعالى: " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى " الأنفال 41

حيث إنه قال باعتبار الحاجة مع القرابة وحرمان من ليس بمحتاج من ذوي القربى وهو بعيد جداً لأن الآية ظاهرة في إضافة الخمس إلى كل ذوي القربى بلام التمليك والاستحقاق مومئة إلى أن مناط الاستحقاق هو القرابة فإنها مناسبة للاستحقاق إظهاراً لشرفها وإبانةً لخطرها وحيث رتب الاستحقاق على ذكرها في الآية كان ذلك إيماء إلى التعليل بها فالمصير بعد ذلك إلى اعتبار الحاجة يكون تخصيصاً للعموم وتركاً لما ظهر كونه علةً مومى إليها في الآية وهو صفة القرابة وتعليلاً بالحاجة المسكوت عنها وهو في غاية البعد.
فإن قيل: ما ذكرتموه بعينه لازم على قول الشافعي باعتبار الحاجة مع اليتم في سياق الآية.
قلنا: المختار من قول الشافعي إنما هو عدم اعتبار الحاجة مع اليتم وبتقدير القول بذلك فاعتبار الحاجة إنما كان لأن لفظ اليتم مع قرينة إعطاء المال مشعر بها فاعتبارها يكون اعتباراً لما دل عليه لفظ الآية لا أنه إلغاء له واليتم بمجرده عن اقتران الحاجة به غير صالح للتعليل بخلاف القرابة فإن القرابة بمجردها مناسبة للإكرام باستحقاق خمس الخمس كما ذكرناه فاعتبار الحاجة معها يكون تركاً للعمل بما ظهر كونه علةً وعمل بغيره وهو مناقضة لا تأويل.
المسألة السابعة ومن التأويلات البعيدة أيضاً مصير قوم إلى أن قوله صلى الله عليه وسلم " فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر " ليس بحجة في إيجاب العشر ونصف العشر في الخضروات لأن المقصود الذي سيق الكلام لأجله إنما هو الفرق بين العشر ونصف العشر لا بيان ما يجب فيه العشر ونصف العشر وهو بعيد أيضاً لأن اللفظ عام في كل ما سقت السماء وسقي بنضح أو دالية بوضع اللغة عند القائلين به وكون ذلك مما يقصد به الفرق بين العشر ونصف العشر غير مانع من قصد التعميم إذ لا منافاة بينهما اللهم إلا أن يبين أن الخبر لم يرد إلا لقصد الفرق وذلك مما لا سبيل إليه.
المسألة الثامنة ومن أبعد التأويلات ما يقوله القائلون بوجوب غسل الرجلين في الوضوء في قوله تعالى: " وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين " المائدة 6 من أن المراد به الغسل وهو في غاية البعد لما فيه من ترك العمل بما اقتضاه ظاهر العطف من التشريك بين الرؤوس والأرجل في المسح من غير ضرورة.
فإن قيل: العطف إنما هو على الوجوه واليدين في أول الآية وذلك موجب للتشريك في الغسل وبيان ذلك من وجهين: الأول قوله تعالى: " إلى الكعبين " قدر المأمور به إلى الكعبين كما قدر غسل اليدين إلى المرفقين ولو كان الواجب هو المسح لما كان مقدراً كمسح الرأس.
الثاني: ما ورد القراءة بالنصب من قوله تعالى: " وأرجلكم " وذلك يدل على العطف على الأيدي دون الرؤوس.
وأما الكسر فإنما كان بسبب المجاورة فإنها موجبة لاستتباع المجاور ومنه قول امرىء القيس: كأن ثبيراً في عرانين وبله كبير أناس في بجاد مزمل كسر مزمل استتباعاً لما قبله وإلا فحقه أن يكون مرفوعاً لكونه وصف كبير وإن سلمنا أن الأرجل معطوفة على الرؤوس غير أنه ليس من شرط العطف الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في تفاصيل حكم المعطوف عليه بل في أصله كما سبق تقريره وذلك مما قد وقع الاشتراك فيه فإن الغسل والمسح قد اشتركا في أن كل واحد منهما فيه إمساس العضو بالماء وإن افترقا في خصوص المسح والغسل وذلك كاف في صحة العطف ودليله قول الشاعر: ولقد رأيتك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحا عطف الرمح على التقلد بالسيف وإن كان الرمح لا يتقلد وإنما يعتقل به لاشتراكهما في أصل الحمل وكذلك عطف الشاعر الماء على التبن في قوله: وعلفتها تبناً وماءً بارداً.
والماء لا يعلف لاشتراكهما في أصل التناول.
والجواب قولهم إن العطف إنما هو على الأيدي فأبعد من كل بعيد لما فيه من ترك العطف على ما يلي المعطوف إلى ما لا يليه.
وأما التقدير بالكعبين فمما لا يمنع من العطف على الرؤوس الممسوحة وإن لم يكن مسح الرؤوس مقدراً في الآية كما عطف الأيدي على الوجوه في حكم الغسل وإن كان غسل اليدين مقدراً وغسل الوجوه غير مقدر.
وأما القرآءة بالنصب فإنما كان ذلك عطفاً على الموضع وذلك لأن الرؤوس في موضع النصب بوقوع الفعل عليها غير أنه لما دخل الخافض على الرؤوس أوجب الكسر ومنه قول الشاعر:

معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا عطف الحديد على موضع الجبال إذ هي في موضع نصب غير أنها خفضت بدخول الجار عليها.
قولهم إن الكسر بسبب المجاورة إنما يصح إذا لم يكن بين المتجاورين فاصل كما ذكروه من الشعر وأما إذا فصل بينهما حرف العطف فلا.
وإن سلمنا جوازه غير أنه مما لا يتحمل إلا لضرورة الشعر فلا ينتهض موجباً لاتباعه وترك ما أوجبه العطف.
ومثل ذلك وإن ورد في النثر كما في قولهم جحر ضب خرب وماء شن بارد فمن النوادر الشاذة التي لا يقاس عليها.
قولهم: إن العطف وإن وقع على الرؤوس فذلك غير موجب للاشتراك في تفاصيل حكم المعطوف عليه.
قلنا: هذا هو الأصل وإنما يصار إلى خلافه لدليل ولا دليل وإنما ذكرنا هذه النبذة من مسائل التأويلات لتدرب المبتدئين بالنظر في أمثالها.
وبالجملة فالمتبع في ذلك إنما هو نظر المجتهد في كل مسألة فعليه اتباع ما أوجبه ظنه.
القسم الثاني
في دلالة غير المنظوموهو ما دلالته لا بصريح صيغته ووضعه وذلك لا يخلو إما أن يكون مدلوله مقصوداً للمتكلم أو غير مقصود: فإن كان مقصوداً فلا يخلو إما أن يتوقف صدق المتكلم أو صحة الملفوظ به عليه أو لا يتوقف: فإن توقف فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة الاقتضاء وإن لم يتوقف فلا يخلو إما أن يكون مفهوماً في محل تناوله اللفظ نطقاً أو لا فيه فإن كان الأول فتسمى دلالته دلالة التنبيه والإيماء وإن كان الثاني فتسمى دلالته دلالة المفهوم وأما إن كان مدلوله غير مقصود للمتكلم فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة الإشارة.
فهذه أربعة أنواع:
النوع الأول
دلالة الاقتضاءوهي ما كان المدلول فيه مضمراً إما لضرورة صدق المتكلم وإما لصحة وقوع الملفوظ به فإن كان الأول فهو كقوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وقوله عليه السلام: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " وقوله عليه السلام: " لا عمل إلا بنية " فإن رفع الصوم والخطإ والعمل مع تحققه ممتنع فلا بد من إضمار نفي حكم يمكن نفيه كنفي المؤاخذة والعقاب في الخبر الأول ونفي الصحة أو الكمال في الخبر الثاني ونفي الفائدة والجدوى في الخبر الثالث ضرورة صدق الخبر.
وإما إن كان لصحة الملفوظ به فإما أن تتوقف صحته عليه عقلاً أو شرعاً.
فإن كان الأول فكقوله تعالى: " واسأل القرية " يوسف 82 فإنه لا بد من إضمار أهل القرية لصحة الملفوظ به عقلاً.
وإن كان الثاني فكقول القائل لغيره: أعتق عبدك عني على ألف فإنه يستدعي تقدير سابقة انتقال الملك إليه ضرورة توقف العتق الشرعي عليه.
النوع الثاني
دلالة التنبيه والإيماءوهي خمسة أصناف وسيأتي ذكرها في القياس
النوع الثالث
دلالة الإشارةوذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم في " حق النساء النساء ناقصات عقل ودين " فقيل له: يا رسول الله ما نقصان دينهن؟ قال: تمكث إحداهن في قعر بيتها شطر دهرها لا تصلي ولا تصوم " فهذا الخبر إنما سيق لبيان نقصان دينهن لا لبيان أكثر الحيض وأقل الطهر ومع ذلك لزم منه أن يكون أكثر الحيض خمسة عشر يوماً وأقل الطهر كذلك لأنه ذكر شطر الدهر مبالغة في بيان نقصان دينهن ولو كان الحيض يزيد على خمسة عشر يوما وأقل الطهر لذكره وكذلك دلالة مجموع قوله تعالى: " وحمله وفصاله ثلاثون شهراً " الأحقاف 15 وقوله تعالى: " وفصاله في عامين " لقمان 14 على أن أقل مدة ستة أشهر وإن لم يكن ذلك مقصوداً من اللفظ وكذلك قوله تعالى: " فالآن باشروهن " البقرة 187 أباح المباشرة ممتدة إلى طلوع الفجر بقوله: " حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود " البقرة 187 وكان بيان ذلك هو المقصود ومع ذلك لزم منه أن من جامع في ليل رمضان وأصبح جنباً لم يفسد صومه لأن من جامع في آخر الليل لا بد من تأخر غسله إلى النهار فلو كان ذلك مما يفسد الصوم لما أبيح الجماع في آخر جزء من الليل ومع ذلك فإنه لم يقع مقصوداً من الكلام إلى نظائره.
النوع الرابع
المفهومولا بد من النظر في معناه وأصنافه قبل الحجاج في نفيه وإثباته.
أما معناه فاعلم أن المفهوم مقابل للمنطوق والمنطوق أصل للمفهوم فلا بد من تحقيقه أولاً ثم العود إلى تحقيق معنى المفهوم ثانياً.

فنقول أما المنطوق فقد قال بعضهم هو ما فهم من اللفظ في محل النطق وليس بصحيح فإن الأحكام المضمرة في دلالة الاقتضاء مفهومة من اللفظ في محل النطق ولا يقال لشيء من ذلك منطوق اللفظ فالواجب أن يقال: المنطوق ما فهم من دلالة اللفظ قطعاً في محل النطق وذلك كما في وجوب الزكاة المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم في الغنم السائمة زكاة وكتحريم التأفيف للوالدين من قوله تعالى: " ولا تقل لهما أف " الإسراء 23 إلى نظائره.
وأما المفهوم فهو ما فهم من اللفظ في غيره محل النطق والمنطوق وإن كان مفهوماً من اللفظ غير أنه لما كان مفهوماً من دلالة اللفظ نطقا خص باسم المنطوق وبقي ما عداه معرفاً بالمعنى العام المشترك تمييزاً بين الأمرين.
وإذا عرف معنى المفهوم فهو ينقسم إلى ما يسمى مفهوم الموافقة وإلى ما يسمى مفهوم المخالفة.
أما مفهوم الموافقة فما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت موافقاً لمدلوله في محل النطق ويسمى أيضا فحوى الخطاب ولحن الخطاب والمراد به معنى الخطاب ومنه قوله تعالى: " ولتعرفنهم في لحن القول " محمد 30 أي في معناه.
وقد يطلق اللحن ويراد به اللغة ومنه يقال: لحن فلان بلحنه إذا تكلم بلغته وقد يطلق ويراد به الفطنة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض أي أفطن وقد يطلق ويراد به الخروج عن ناحية الصواب ويدخل فيه إزالة الإعراب عن جهة الصواب ومثاله تحريم شتم الوالدين وضربهما من دلالة قوله تعالى: " ولا تقل لهما أف " فإن الحكم المفهوم من اللفظ في محل السكوت موافق للحكم المفهوم في محل النطق وكذلك دلالة قوله تعالى: " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً " النساء 10 على تحريم إتلاف أموالهم وكدلالة قوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " الزلزلة 7 - 8 على المقابلة فيما زاد على ذلك وكدلالة قوله تعالى: " ومنهم من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك " آل عمران 75 على تأدية ما دون القنطار وعدم تأدية ما فوق الدينار إلى غير ذلك من النظائر.
والدلالة في جميع هذه الأقسام لا تخرج من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى وبالأعلى على الأدنى ويكون الحكم في محل السكوت أولى منه في محل النطق وإنما يكون كذلك إن لو عرف المقصود من الحكم في محل النطق من سياق الكلام وعرف أنه أشد مناسبة واقتضاء للحكم في محل السكوت من اقتضائه له في محل النطق وذلك كما عرفنا من سياق الآية المحرمة للتأفيف أن المقصود إنما هو كف الأذى عن الوالدين وأن الأذى في الشتم والضرب أشد من التأفيف فكان بالتحريم أولى.
وإلا فلو قطعنا النظر عن ذلك لما لزم من تحريم التأفيف تحريم الضرب العنيف ولهذا فإنه يتنظم من الملك أن يأمر الجلاد بقتل والده إذا استيقن منازعته له في ملكه وينهاه عن التأفيف حيث كان المقصود من الأمر بالقتل إنما هو دفع محذور المنازعة في الملك وإن كان القتل أشد في دفعه من التأفيف ولذلك لم يلزم من إباحة أعلى المحذورين إباحة أدناهما ولا من تحريم أدناهما تحريم أعلاهما.
وهذا مما اتفق أهل العلم على صحة الاحتجاج به إلا ما نقل عن داود الظاهري أنه قال إنه ليس بحجة ودليل كونه حجةً أنه إذا قال السيد لعبده لا تعط زيداً حبة ولا تقل له أف ولا تظلمه بذرة ولا تعبس في وجهه فإنه يتبادر إلى الفهم من ذلك امتناع إعطاء ما فوق الحبة وامتناع الشتم والضرب وامتناع الظلم بالدينار وما زاد وامتناع أذيته بما فوق التعبيس من هجر الكلام وغيره ولذلك كان المفهوم من قول النبي صلى الله عليه وسلم احفظ عفاصها ووكاءها حفظ ما التقط من الدنانير ومن قوله صلى الله عليه وسلم في الغنيمة أدوا الخيط والمخيط أداء الرحال والنقود وغيرها ومن قوله من سرق عصى مسلم فعليه ردها رد ما زاد على ذلك.
وكذلك لو حلف أنه لا يأكل لفلان لقمةً ولا يشرب من مائه جرعةً كان ذلك موجباً لامتناعه من أكل ما زاد على اللقمة كالرغيف وشرب ما زاد على الجرعة إلى نظائره.
غير أن الخلاف واقع في أن مستند الحكم في محل السكوت هل هو فحوى الدلالة اللفظية أو الدلالة القياسية.
وقد احتج القائلون بالفحوى بأن العرب إنما وضعت هذه الألفاظ للمبالغة في التأكيد للحكم في محل السكوت وأنها أفصح من التصريح بالحكم في محل السكوت.

ولهذا فإنهم إذا قصدوا المبالغة في كون أحد الفرسين سابقاً للآخر قالوا هذا الفرس لا يلحق غبار هذا الفرس وكان ذلك عندهم أبلغ من قولهم هذا الفرس سابق لهذا الفرس وكذلك إذا قالوا فلان يأسف بشم رائحة مطبخه فإنه أفصح عندهم وأبلغ من قولهم فلان لا يطعم ولا يسقي.
واحتج القائلون بكونه قياساً أنا لو قطعنا النظر عن المعنى الذي سيق له الكلام من كف الأذى عن الوالدين وعن كونه في الشتم والضرب أشد منه في التأفيف لما قضى بتحريم الشتم والضرب إجماعاً ولما سبق من جواز أمر الملك للجلاد بقتل والده والنهي عن التأفيف له فالتأفيف أصل والشتم والضرب فرع ودفع الأذى علة والتحريم حكم ولا معنى للقياس إلا هذا.
وسموا ذلك قياساً جلياً نظراً إلى أن الوصف الجامع بين الأصل والفرع ثابت بالتأثير والأشبه إنما هو المذهب الأول وهو الإسناد إلى فحوى الدلالة اللفظية.
وما قيل من أنه لا بد من فهم المعنى وكونه في محل السكوت أولى بالحكم في محل النطق فهو شرط تحقق الفحوى ولا مناقضة بينه وبين الفحوى ويدل على أنه ثابت بالفحوى لا بالقياس أمران: الأول: أن القياس لا يشترط فيه أن يكون المعنى المناسب للحكم في الفرع أشد مناسبة له من حكم الأصل إجماعاً وهذا النوع من الاستدلال لا يتم دونه فلا يكون قياساً.
الثاني: أن الأصل في القياس لا يكون مندرجاً في الفرع وجزءاً منه إجماعاً وهذا النوع من الاستدلال قد يكون ما تخيل أصلاً فيه جزءاً مما تخيل فرعاً وذلك كما قال السيد لعبده لا تعط لفلان حبة فإنه يدل على امتناع إعطاء الدينار وما زاد عليه والحبة المنصوصة تكون داخلةً فيه وكذلك قوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " الزلزلة 7 - 8 فإنه يدل على روية ما زاد على الذرة والذرة تكون داخلةً فيه إلى نظائره.
ولهذا فإن كل من خالف في القياس مطلقاً وافق على هذا النوع من الدلالة سوى أهل الظاهر ولو كان قياسا لما كان كذلك وعلى كل تقدير فهو منقسم إلى قطعي وظني.
أما القطعي فكما ذكرنا من آية التأفيف حيث إنا علمنا من سياق الآية أن حكمة تحريم التأفيف إنما هو دفع الأذى عن الوالدين وأن الأذى في الشتم والضرب أشد.
وأما الظني فكما في قوله تعالى: " ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " النساء 92 فإنه وإن دل على وجوب الكفارة في القتل العمد لكونه أولى بالمؤاخذة كما يقوله الشافعي غير أنه ليس بقطعي لإمكان أن لا تكون الكفارة في القتل الخطإ موجبة بطريق المؤاخذة لقوله صلى الله عليه وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " والمراد به رفع المؤاخذة بل نظراً للخاطىء بإيجاب ما يكفر ذنبه في تقصيره ومن ذلك سميت كفارةً وجناية المتعمد فوق جناية الخاطىء وعند ذلك فلا يلزم من كون الكفارة رافعة لإثم أدنى الجنايتين أن تكون رافعةً لإثم أعلاهما.
وأما مفهوم المخالفة فهو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفاً لمدلوله في محل النطق ويسمى دليل الخطاب أيضاً وهو عند القائلين به منقسم إلى عشرة أصناف متفاوتة في القوة والضعف.
الصنف الأول :منها ذكر الاسم العام مقترناً بصفة خاصة كقوله صلى الله عليه وسلم: في الغنم السائمة زكاة.
الصنف الثاني: مفهوم الشرط والجزاء كقوله تعالى: " وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن " الطلاق 6 وقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه " الصنف الثالث: مفهوم الغاية كقوله تعالى: " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " البقرة 230 وقوله تعالى: " ولا تقربوهن حتى يطهرن " البقرة 222 " وحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " التوبة 29 الصنف الرابع: مفهوم إنما كقوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات وإنما الربا في النسيئة وإنما الولاء لمن أعتق وإنما الشفعة فيما لم يقسم " إلى نظائره.
الصنف الخامس: التخصيص بالأوصاف التي تطرأ وتزول بالذكر كقوله صلى الله عليه وسلم: الثيب أحق بنفسها من وليها وقوله عليه الصلاة والسلام في السائمة زكاة.
الصنف السادس: مفهوم اللقب وذلك كتخصيص الأشياء الستة في الذكر بتحريم الربا.
الصنف السابع: مفهوم الاسم المتشق الدال على الجنس كقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا الطعام بالطعام " وهو قريب من مفهوم اللقب لكون الطعام لقباً لجنس.

الصنف الثامن: مفهوم الاستثناء كقوله تعالى: " لا إله إلا الله " الصافات 35 وقول القائل: لا عالم في البلد إلا زيد.
الصنف التاسع: تعليق الحكم بعدد خاص كتخصيص حد القذف بثمانين.
الصنف العاشر: مفهوم حصر المبتدإ في الخبر كقوله: العالم زيد وصديقي عمرو.
وإذا عرف المفهوم بحده وأصنافه فيجب أن تعلم قبل الخوض في الحجاج في هذه الأصناف أن مستند فهم الحكم في محل السكوت عند القائلين به إنما هو النظر إلى فائدة تخصيص محل النطق بالذكر دون غيره وسواء كان ذلك من قبيل مفهوم الموافقة أو المخالفة وإن افترقا من جهة أن فائدة التخصيص بالذكر في مفهوم الموافقة إنما هو تأكيد مثل حكم المنطوق في محل المسكوت عنه وفائدة التخصيص بالذكره في مفهوم المخالفة إنما هو نفي مثل حكم المنطوق في محل السكوت وذلك مما لا يعلم من مجرد تخصيص محل النطق بالذكر دون نظر عقلي يتحقق به أن التخصيص للتأكيد أو النفي وذلك بأن ينظر إلى حكمة الحكم المنطوق به.
فإن عرفت وعرف تحققها في المحل المسكوت عنه وأنها أولى باقتضائها الحكم فيه من الحكم في محل النطق علم أن فائدة التخصيص التأكيد وأن المفهوم مفهوم الموافقة وإن لم يعلم حكمة الحكم المنطوق به أو علمت غير أنها لم تكن متحققةً في محل السكوت أو كانت متحققة فيه لكنها ليست أولى باقتضاء الحكم فيه علم أن فائدة التخصيص إنما هي النفي وأن المفهوم مفهوم المخالفة.
وإذا أتينا على تحقيق المفهوم وأصنافه فلنرجع إلى المقصود من الحجاج في نفيه وإثباته وما هو المختار في كل واحد من أصنافه فنقول: أما مفهوم الموافقة فقد اتفق الكل على صحة الاحتجاج به سوى الظاهرية وإن اختلفوا في دلالته هل هي لفظية أو قياسية على ما سبق.
والمتفقون على صحة مفهوم الموافقة اختلفوا في صحة الاحتجاج بمفهوم المخالفة فيجب الخوض فيما يتعلق به من المسائل وهي تسع مسائل.
المسألة الأولى اختلفوا في الخطاب الدال على حكم مرتبط باسم عام مقيد بصفة خاصة كقوله صلى الله عليه وسلم: " في الغنم السائمة زكاة " هل يدل على نفي الزكاة عن غير السائمة أو لا ؟فأثبته الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل والأشعري وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وأبو عبيد وجماعة من أهل العربية ونفاه أبو حنيفة وأصحابه والقاضي أبو بكر وابن سريج والقفال والشاشي وجماهير المعتزلة.
وفرق أبو عبد الله البصري من المعتزلة وقال: الخطاب المتعلق بالصفة دال على النفي عما عداها في أحد أحوال ثلاث وهي: أن يكون الخطاب قد ورد للبيان كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " في الغنم السائمة زكاة " أو التعليم كما في خبر التحالف عند التخالف والسلعة قائمة أو يكون ما عدا الصفة داخلاً تحتها كالحكم بالشاهدين فإنه يدل على نفيه عن الشاهد الواحد لدخوله في الشاهدين ولا يدل على النفي فيما سوى ذلك.
وإذ أتينا على تفصيل المذاهب من الجانبين فلا بد من ذكر حجج الفريقين والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
أما القائلون بالإثبات فقد احتجوا بحجج نقلية وعقلية.
أما الحجج النقلية فست حجج.
الحجة الأولى: أنهم قالوا إن أبا عبيد القاسم بن سلام من أهل اللغة وقد قال بدليل الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " حيث قال إنه أراد به أن من ليس بواجد لا يحل عرضه وعقوبته والواجد هو الغني وليه مطله ومعنى إحلال عرضه مطالبته وعقوبته حبسه.
وقال في قوله صلى الله عليه وسلم: " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً " وقد قيل إن: النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد الهجاء من الشعراء أو هجا الرسول فقال: لو كان ذلك هو المراد لم يكن لتعليق ذلك بالكثرة وامتلاء الجوف منه معنى لأن ما دون ملء الجوف من ذلك ككثيره ووجه الاحتجاج به أنه فهم أن تعليق الذم على امتلاء الجوف من ذلك مخالف لما دونه.

ولقائل أن يقول: حكم أبي عبيد بذلك إن ادعيتم أنه كان نقلاً عن العرب فهو غير مسلم وليس في لفظه ما يدل على النقل وإن قلتم إن ذلك كان بناء على مذهبه واجتهاده فغايته أنه مجتهد فيه فلا يكون ذلك حجةً على غيره من المجتهدين المخالفين له في ذلك كيف وإنه لو ذكر ذلك نقلاً فلا نسلم كونه حجةً في مثل هذه القاعدة اللغوية لكونه من أخبار الآحاد ثم هو معارض بمذهب الأخفش فإنه من أهل اللغة ولم يقل بدليل الخطاب على ما نقل عنه على أنه يمكن أن يكون حكمه بذلك مستنداً إلى النفي الأصلي وعدم دلالة الدليل على مخالفته وهو أولى جمعاً بين المذاهب.
الحجة الثانية: ما روى قتادة أنه قال: لما نزل قوله تعالى: " استغفر لهم أو لا تستغفر لم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " التوبة 80 قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد خيرني ربي فوالله لأزيدن على السبعين فعقل أن ما زاد على السبعين بخلافه.
لقائل أن يقول: ما ذكرتموه من أخبار الآحاد لا نسلم كونه حجةً في مثل هذه القاعدة وإن سلمنا أنه حجة ولكن يمتنع التمسك به لوجهين: الأول: أن زيادة النبي صلى الله عليه وسلم على السبعين في الاستغفار ليس فيه ما يدل على فهمه وقوع المغفرة لهم باستغفاره زيادةً على السبعين وليس في لفظه ما يدل عليه فيحتمل أنه قصد بذلك استمالة قلوب الأحياء منهم ترغيباً لهم في الدين لا لوقوع المغفرة وليس أحد الأمرين أولى من الآخر بل ربما كان احتمال الاستمالة أولى من فهمه وقوع المغفرة بالزيادة على السبعين في الاستغفار من الآية لما فيه من دفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى: " سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم " المنافقون 6 الوجه الثاني: أن تخصيص نفي المغفرة بالسبعين يدل على انتفاء المغفرة بالسبعين قطعاً ضرورة صدق الله تعالى في خبره.
ومن قال بدليل الخطاب فهو قائل بأنه يدل على نقيض حكم المنطوق في محل السكوت وعند ذلك فلو دل اختصاص السبعين بنفي المغفرة قطعاً على نقيضه في محل السكوت لكان دالا على وقوع المغفرة بعد السبعين وذلك إما أن يكون قطعاً أو ظناً: الأول خلاف الإجماع وخلاف ما ذكرناه من الآية الدالة على امتناع المغفرة بعد السبعين والثاني فليس نقيضا لنفي المغفرة قطعاً بل هو مقابل والمقابل أعم من النقيض فلا يكون ذلك من باب دليل الخطاب وفيه دقة فليتأمل.
الحجة الثالثة: مصير ابن عباس رضي الله عنهما إلى منع توريث الأخت مع البنت استدلالاً بقوله تعالى: " إنه امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " النساء 176 حيث إنه فهم من توريث الأخت مع عدم الولد امتناع توريثها مع البنت لأنها ولد وهو من فصحاء العرب وترجمان القرآن.
وجواب هذه الحجة ما سبق في دفع الحجة التي قبلها كيف وإنه يحتمل أنه ورث الأخت عند عدم الولد بالآية وعند وجود البنت لم يورثها بناء على استصحاب النفي الأصلي لا بناء على دليل الخطاب وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
الحجة الرابعة: أن الصحابة اتفقوا على أن قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل " ناسخ لقوله صلى الله عليه وسلم: " الماء من الماء " ولولا أن قوله: " الماء من الماء " يدل على نفي الغسل من غير إنزال لما كان نسخاً له.
ولقائل أن يقول: لا نسلم صحة الاحتجاج بخبر الواحد في اللغات وإن سلمنا ولكن لا نسلم أن جملة الصحابة اتفقوا على ذلك.
وقول البعض لا يكون حجةً على غيره وإن سلمنا اتفاق الصحابة على ذلك ولكن إنما حكموا بكونه ناسخاً لا لمدلول دليل الخطاب بل يحتمل أنهم فهموا من قوله صلى الله عليه وسلم الماء من الماء كل غسل من إنزال الماء ويدل على تأكد هذا الاحتمال قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ماء إلا من الماء " فكان قوله: " إذا التقى الختانان وجب الغسل " ناسخاً لمدلول عموم الأول لا لمدلول دليل الخطاب وليس أحد الأمرين أولى من الآخر بل حمله على ما ذكرناه أولى لكونه متفقاً عليه ومختلفا فيما ذكروه.

الحجة الخامسة ما روي أن يعلى بن أمية قال لعمر: ما بالنا نقصر وقد أمنا وقد قال الله تعالى: " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم " النساء 101 ووجه الاحتجاج به أنه فهم من تخصيص القصر بحالة الخوف عدم القصر عند عدم الخوف ولم ينكر عليه عمر بل قال: لقد عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لي: " هي صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " ويعلى بن أمية وعمر من فصحاء العرب وقد فهما ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم أقرهما عليه.
ولقائل أن يقول: لا نسلم صحة الاحتجاج بخبر الواحد هاهنا وإن سلمنا لكن يحتمل أن يعلى وعمر بنيا عدم القصر على استصحاب الحال في حالة الأمن لا على دليل الخطاب وليس أحد الأمرين أولى من الآخر بل البناء على الاستصحاب أولى دفعاً للتعارض بين الدليل المجوز للقصر حالة الأمن والدليل النافي له.
الحجة السادسة: أنه إذا قال العربي لوكيله: اشتر لي عبداً أسود فهم منه عدم الشراء للأبيض حتى إنه لو اشترى أبيض لم يكن ممتثلاً وكذلك إذا.
قال الرجل لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار فهم منه انتفاء الطلاق عند عدم الدخول.
ولقائل أن يقول: ليس ذلك مفهوماً من دليل الخطاب بل عدم شراء الأبيض وعدم وقوع الطلاق قبل دخول الدار إنما كان مستنداً إلى النفي الأصلي ولهذا فإنه لو قال له لا تشتر لي عبداً أسود وقال لزوجته: إن دخلت الدار فلست طالقاً فإنه لا يصح شراؤه لعبد غير أسود ولا يقع بالزوجة الطلاق بتقدير عدم دخول الدار لبقاء ذلك على النفي الأصلي ولو كان نفي الحكم في محل السكوت مما يدل عليه ذكر الحكم في محل النطق لصح شراء عبد ليس بأسود وطلقت الزوجة بتقدير عدم دخول الدار.
وعلى هذا فكل خطاب ورد في الشرع أو اللغة بحكم مخصص بصفة وهو منفى عما عدا تلك الصفة فهو مبني على استصحاب الحال لا على دليل الخطاب.
وأما الحجج العقلية فخمس حجج.
الحجة الأولى: أنه لو كان حكم السائمة والمعلوفة سواء في وجوب الزكاة لما كان لتخصيص السائمة بالذكر فائدة بل كان ملغزاً بذكر ما يوهم في الزكاة في المعلوفة ومقصراً في البيان مع دعو الحاجة إليه.
وذلك على خلاف الأصل وحيث امتنع ذلك دل على أن فائدة التخصيص بذكر السائمة نفي الزكاة عن المعلوفة.
ولقائل أن يقول: ما ذكرتموه في إثبات دليل الخطاب يرجع إلى إثبات الوضع بما فيه من الفائدة ولا نسلم إمكان إثبات الوضع بذلك سلمنا إمكان ذلك ولكن لا نسلم أنه لا فائدة في تخصيص الصفة بالذكر سوى نفي الحكم المعلق بها عند عدمها وبيانه من وجهين: الأول: أنه لو لم يكن له فائدة سوى نفي الحكم في محل السكوت لامتنع ورود نص خاص يدل على إثبات الحكم في محل السكوت لما فيه من إبطال فائدة التخصيص بالذكر لمحل النطق لما يلزم من اللغو في كلام الحكيم وهو ممتنع.
فإن قيل: فإذا أثبت مثل ذلك الحكم في محل السكوت لم يكن مخصصاً للصفة بالحكم حتى يقال بأن التخصيص يكون لغواً.
قلنا: فإذا مجرد تخصيص الصفة بالذكر لا يكون دليلا على نفي الحكم عند عدمها دون البحث عما يدل على إثبات الحكم في محل السكوت مع عدم الظفر به وليس كذلك عندكم لكن نفس التخصيص دليل ووجود ما يدل على إثبات الحكم في صورة السكوت يكون معارضاً له بل أمكن وجود فائدة أخرى دعت إلى التخصيص بالذكر وهي إما عموم وقوع المذكور كما في قوله تعالى: " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " النساء 23 وإما لسؤال سائل سأل عن ذلك أو لحدوث واقعة وقعت كذلك.

وإن لم يكن شيء من ذلك فأمكن أن يكون ذلك لرفع وهم من توهم أن حكم الصفة بتقدير تعميم اللفظ يكون مخالفاً لحكم العموم ويكون بذلك منبهاً على إثبات الحكم فيما عدا الصفة بطريق الأولى وذلك كما لو قال: ضحوا بشاة فإنه قد يتوهم متوهم أنه لا يجوز التضحية بشاة عوراء فإذا قال: ضحوا بشاة عوراء كان ذلك أدل على التضحية بما ليست عوراء وكذلك لو قال: ولا تقتلوا أولادكم على العموم فقد يتوهم أنه لم يرد النهي عن قتلهم عند خشية الإملاق فإذا قال: " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " الإسراء 31 كان أدل على النهي في غير حالة الخشية وإن لم يكن كذلك أمكن أن يكون لفائدة تعريف حكم المنطوق والمسكوت بنصين مختلفين إذ هو أدل على المقصود من التعميم لوقوع الخلاف فيه وإمكان تطرق التخصيص بالاجتهاد إلى محل الصفة وغيرها وليس مراداً للتخصيص وإن لم يكن كذلك أمكن أن يكون ذلك لفائدة التوصل إلى معرفة الحكم في المسكوت عنه بطريق الاجتهاد لينال المكلف ثواب الاجتهاد حين توفر دواعي المجتهدين على النظر والاستدلال والبحث عن الأحكام الشرعية فتبقى غضة طرية كما هي في سائر الأصول المنصوص عليها مع وقوعها في الأقيسة وإن لم يكن كذلك أمكن أن يكون حكم الصفة جارياً على حكم العقل الأصلي وتكون المصلحة في نظر الشارع تعريف ذلك الحكم عند وجود الصفة بالنص وعند عدمها بالبقاء على الحكم الأصلي كما لو قال: لا زكاة في الغنم السائمة وإن لم يكن كذلك وكان الحكم في محل السكوت مخالفاً للحكم في محل النطق فأمكن أن يكون ثبوت الحكم على خلاف حكم العقل كما في إيجاب الزكاة وتكون فائدة التنصيص على محل الصفة اختصاصه بالحكم فإنه لولا النص لما ثبت ويكون الحكم في محل السكوت منتفياً بناءً على حكم العقل الأصلي.
فإن قيل: فإذا سلمتم انتفاء الحكم في محل السكوت فقد وافقتم على المطلوب.
قلنا: ليس كذلك فإن النزاع إنما وقع في إسناد النفي في محل السكوت إلى دليل الخطاب لا إلى النفي الأصلي وإن سلمنا أنه لا فائدة في التخصيص سوى ما ذكرتموه لكن يلزم على ما ذكرتموه مفهوم اللقب الذي لم يقل به محصل على ما يأتي تقريره فكل ما هو جواب لكم ثم فهو جواب لنا هاهنا.
الحجة الثانية: إن أهل اللغة فرقوا بين الخطاب المطلق والمقيد بالصفة كما فرقوا بين الخطاب المرسل وبين المقيد بالاستثناء والاستثناء يدل على أن حكم المستثنى على خلاف حكم المستثنى منه فكذلك الصفة.
ولقائل أن يقول: نحن لا ننكر الفرق بين حكم الخطاب المطلق وبين حكم الخطاب المقيد بالصفة فإن حكم المطلق العلم أو الظن بثبوت حكمه مطلقاً وحكم الخطاب المقيد بالصفة ثبوته في محل التنصيص قطعاً أو ظناً وفي غير محل الصفة مشكوك في إثباته ونفيه فقد افترقا كما وقع الافتراق بين الخطاب المطلق والخطاب المستثنى منه غير أن المطلق يقتضي إثبات الحكم أو نفيه مطلقاً والخطاب المستثنى منه يقتضي نفي الحكم في صورة الاستثناء جزماً.
وعلى هذا فإن قيل بأن الفرق سوى بينهما من كل وجه فهو ممتنع وإن قيل بوجوب التسوية بينهما من جهة أنه لا بد من الافتراق بين المطلق والمقيد بالصفة في الجملة كما وقع الافتراق بين المطلق والمستثنى منه في الجملة فهو واقع لا محالة.
الحجة الثالثة: أنه إذا كان التخصيص بذكر الصفة يدل على الحكم في محل التنصيص وعلى نفيه في محل السكوت كانت الفائدة فيه أكثر مما إذا لم يدل فوجب جعله دليلاً عليه.
ولقائل أن يقول: ما ذكرتموه وإن كان من جملة الفوائد غير أن إثبات الحكم أو نفيه مأخوذاً من دليله فرع دلالة ذلك الدليل عليه.
فلو قيل بكونه دليلاً عليه لكون الحكم يكون داخلاً فيه كان دوراً كيف وإنه ليس القول بكون التخصيص دالاً على نفي الحكم في محل السكوت تكثيرا للفائدة وإبطال ما ذكرناه من الفوائد التي سبقت أولى من العكس.
الحجة الرابعة: أن التعليق بالصفة كالتعليق بالعلة والتعليق بالعلة يوجب نفي الحكم لانتفاء العلة فكذلك الصفة.
ولقائل أن يقول: لا نسلم لزوم انتفاء الحكم مع انتفاء العلة حتى يقال مثله في الصفة اللهم إلا أن يقال باتحاد العلة فإنه يلزم من نفيها نفي الحكم ولكن لا نسلم أنه يلزم مثله في الصفة ضرورة أنه يلزم من تعدد أصناف النوع وأشخاصه تعدد صفاته وإلا لما تعدد بل كان متحداً من كل وجه.

الحجة الخامسة: أنه قال: صلى الله عليه وسلم " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً " فلو لم يدل على عدم الطهارة فيما دون السبع وإلا لما طهر بالسبع لأن السابعة تكون واردة على محل طاهر فلا يكون طهوره بالسبع ويلزم من ذلك إبطال دلالة المنطوق.
وكذلك إذا قال: " يحرم من الرضاع خمس رضعات " لو لم يدل على أن ما دون ذلك لا يحرم لما كانت الخمس رضعات محرمة لما عرف في الغسلات.
ولقائل أن يقول: لا يلزم من كون الغسلات السبع غير دالة على نفي الطهارة فيما دون السبع ومن كونه الرضعات الخمس غير دالة على نفي الحرمة فيما دونها أن يكون المحل قبل السابعة طاهراً ولا أن يكون ما دون الخمس من الرضعات محرماً لجواز ثبوت النجاسة قبل السبع بدليل آخر غير دليل الخطاب وكذلك جاز أن يكون ما دون الرضعات الخمس غير محرمة بدليل غير دليل الخطاب.
وإذ أتينا على حجج القائلين بدليل الخطاب وتتبع ما فيها فلا بد من ذكر حجج عول عليها القائلون بإبطال دليل الخطاب والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة الأولى: أن تقييد الحكم بالصفة لو دل على نفيه عند نفيها إما أن يعرف ذلك بالعقل أو النقل والعقل لا مجال له في اللغات والنقل إما متواتر وآحاد ولا سبيل إلى التواتر والآحاد لا تفيد غير الظن وهو غير معتبر في إثبات اللغات لأن الحكم على لغة ينزل عليها كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بقول الآحاد مع جواز الخطإ والغلط عليه يكون ممتنعاً.
ولقائل أن يقول: إن سلمنا أن ذلك لا يعرف إلا بالنقل ولكن لا نسلم امتناع إثبات ذلك بالآحاد إذ المسألة عندنا غير قطعية بل ظنية مجتهد فيها بنفي أو إثبات بل غلبة ظن تجري فيها التخطئة الظنية دون القطعية كما في سائر مسائل الفروع الاجتهادية.
كيف وإن اشتراط التواتر في إثبات اللغات إما أن يكون في كل كلمة ترد عن أهل اللغة أو في البعض دون البعض القول بالتفصيل تحكم غير معقول كيف وأنه لا قائل به.
وإن كان ذلك شرطاً في الكل فذلك مما يفضي إلى تعطيل التمسك بأكثر اللغة لتعذر التواتر فيها ويلزم من ذلك تعطيل العمل بأكثر ألفاظ الكتاب والسنة والأحكام الشرعية والمحذور في ذلك فوق المحذور في قبول خبر الواحد المعروف بالعدالة والضبط والمعرفة وهو تطرق الكذب أو الخطإ عليه مع أن الغالب صدقه وصحه نقله.
ولهذا كان العلماء في كل عصر وإلى زمننا هذا يكتفون في إثبات الأحكام الشرعية المستندة إلى الألفاظ اللغوية بنقل الآحاد المعروفين بالثقة والمعرفة كالأصمعي والخليل وأبي عبيدة وأمثالهم.
الحجة الثانية: أنه لو كان تقييد الحكم بالصفة يدل على نفيه عند عدمها لما حسن الاستفهام عن الحكم في حال نفيها لا عن نفيه ولا عن إثباته لكونه استفهاماً عما دل عليه اللفظ كما لو قال: له لا تقل لزيد أف فإنه دل على امتناع ضربه فإنه لا يحسن أن يقال: فهل أضربه ولا شك في حسنه لو قال: أد الزكاة عن غنمك السائمة فإنه يحسن أن يقال وهل أؤديها عن المعلوفة ؟ ولقائل أن يقول: حسن الاستفهام إنما كان لطلب الأجلى والأوضح لكون دلالة الخطاب ظاهرةً ظنيةً غير قطعية ولهذا فإنهم لم يستقبحوا الاستفهام ممن قال: رأيت أسداً أو بحراً أو دخل السلطان البلد بأن يقال هل رأيت الحيوان المخصوص أو إنساناً شجاعاً وهل رأيت البحر الذي هو الماء المخصوص أو إنساناً كريماً ؟وهل رأيت السلطان نفسه أو عسكره؟ مع أن لفظه ظاهر في أحد المعنيين دون الآخر.
الحجة الثالثة: لو كان تعليق الحكم على الصفة يدل على نفيه عن غير المتصف بها لكان في الخبر كذلك ضرورة اشتراك الأمر والخبر في التخصيص بالصفة واللازم ممتنع.
ولهذا فإنه لو قال: رأيت الغنم السائمة ترعى فإنه لا يدل على عدم رؤية المعلوفة منها.
ولقائل أن يقول:الاستشهاد بالخبر وإن كان كثيراً ما يستروح إليه المنكرون لدليل الخطاب إلا أنه ممنوع عند القائلين بدليل الخطاب ولا فرق عندهم في تعليق الحكم بالصفة بين الأمر والخبر.
ولهذا فإنه لو قال القائل: الفقهاء الشافعية فضلاء أئمة فإن سامعه من فقهاء الحنفية وغيرهم تشمئز نفسه من ذلك وتكبر عن سماعه لا لوصفه لهم بذلك بل لما فيه من الإشعار بسلب ذلك عمن ليس بشافعي.

وهذا الشعور مما لا يختلف فيه الأمر والخبر عندهم وإن سلم امتناع ذلك في الخبر فحاصل ما ذكروه يرجع إلى القياس في اللغة وهو ممتنع لما سبق.
وبتقدير صحة القياس في اللغة فالفرق بين الخبر والأمر ظاهر وذلك أنه إذا أخبر وقال: رأيت خبزاً سميداً ولحماً طرياً ورطباً جنياً إنما يخبر عما شاهده وعلمه ولا يلزم من مشاهدته لذلك أن لا يكون قد شاهد ما ليس على هذه الصفة.
وإذا قال لعبده: اشتر خبزاً سميذاً ولحماً طرياً ورطباً جنياً مع علمه بأن الخبز الخشكار واللحم والرطب البايت مما يباع في السوق فقوله ذلك إنما يقصد به البيان وتمييز ما يشترى عما لا يشترى فكان النفي ملازماً للإثبات.
الحجة الرابعة: أن أهل اللغة فرقوا بين العطف والنقض فقالوا: قول القائل: اضرب الرجال الطوال والقصار فالقصار عطف وليس بنقض للأول ولو كان قوله: اضرب الرجال الطوال مقتضياً لنفي الضرب عن القصار لكان نقضاً لا عطفاً وهي بعيدة عن التحقيق.
وذلك أن قول القائل: اضرب الرجال الطوال إنما يدل على امتناع ضرب القصار بتقدير اختصاص الطوال بالذكر وإذا عطف عليه القصار فلا يكون مخصصاً للطوال بالذكر فلا يدل على نفي الضرب عن القصار ثم هو منتقض بالتخصيص بالغاية كما لو قال القائل لغيره: صم إلى غروب الشمس فإنه يدل على أن حكم ما بعد الغاية مخالف لما قبلها ومع ذلك فإنه لو قال له: صم إلى غروب الشمس وإلى نصف الليل فإنه لا يكون نقضاً.
الحجة الخامسة: أنه لو كان تعليق الحكم بالصفة دالاً على نفيه عن غير الموصوف بها لما حسن الجمع بين قوله: أد زكاة السائمة وبين قوله: والمعلوفة لما بينهما من التناقض كما لا يحسن أن يقول له: لا تقل لزيد أف واضربه.
ولقائل أن يقول: إنما لا يحسن ذلك أن لو قيل بالمناقضة وليس كذلك على ما سبق في الحجة التي قبلها هذا إذا كان بطريق العطف وأما إن قال بعد ذلك أد زكاة المعلوفة فإنما لم يمتنع لأن غايته أن صريح قوله: أد زكاة الغنم المعلوفة وقع معارضاً لدليل الخطاب والمعارضة غير ممتنعة.
ولا يلزم من عدم جواز مثل ذلك في فحوى الخطاب امتناعه في دليل الخطاب إذ هو قياس في اللغة وهو ممتنع لما سبق.
وبتقدير صحة القياس في اللغة فالفرق ظاهر وذلك لأن امتناع ذلك في فحوى الخطاب إنما كان فيما علم لا فيما ظن على ما سبق ودليل الخطاب فمظنون ولا يلزم من امتناع معارضه المقطوع امتناع معارضة المظنون ثم يلزم عليه التخصيص بالغاية كما سبق.
الحجة السادسة: ذكرها أبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وهي أن المقصود من الصفة إنما هو تمييز الموصوف بها عما سواه.
وكذلك المقصود من الاسم إنما هو تمييز المسمى عن غيره وتعليق الحكم بالاسم كما لو قال: زيد عالم لا يدل على نفي العلم عمن لم يسم باسم زيد فكذلك تعليق الحكم بالصفة.
ولقائل أن يقول: قياس التخصيص بالصفة على التخصيص بالاسم قياس في اللغة فلا يصح وإن صح فلا نسلم أن تعليق الحكم بالاسم لا يدل على نفي الحكم عما سواه كما يأتي.
وإن سلم عدم دلالته على ذلك فإنما يلزم مشاركة التعليق بالصفة له في ذلك أن لو بين أن مناط عدم دلالة التعليق بالاسم كونه موضوعاً للتمييز وهو غير مسلم ثم الفرق بينهما أن شعور المتكلم بالاسم العام المقيد بالصفة الخاصة بما ليس له تلك الصفة أتم من شعور المتكلم باسم أحد الجنسين بالجنس الآخر.
وعند ذلك فلا يلزم من عدم دلالة التخصيص بالاسم مثله في الصفة كيف وهو منقوض بالتخصيص بالغاية فإنها مقصودة للتمييز ومع ذلك فهو دال على أن حكم ما بعد الغاية مخالف لما قبلها.
الحجة السابعة: أن تعليق الحكم بالصفة لا يدل على نفيه عن غير الموصوف بها لأنه يصح أن يقال: في الغنم السائمة زكاة ولا زكاة في المعلوفة منها ولو كان قوله: في الغنم السائمة زكاة يدل على نفيها عن المعلوفة لما احتيج إلى العبارة الأخرى لعدم فائدتها.
ولقائل أن يقول: كون الحكم في محل السكوت مستفاداً من دليل الخطاب لا يمنع من وضع عبارة خاصة إذ هو أبلغ في الدلالة وأقرب إلى حصول المقصود كما لا يمتنع ذلك في التقييد بالغاية كما تقدم ذكره.

الحجة الثامنة: أن القول في الغنم السائمة زكاة له دلالة بمنطوقه على وجوب السائمة فلو كان له دلالة مفهوم لجاز أن يبطل حكم المنطوق ويبقى حكم دلالة المفهوم كما يجوز أن يبطل حكم دليل الخطاب ويبقى حكم صريح الخطاب وهو ممتنع.
ولقائل أن يقول: دليل الخطاب إنما هو متفرع من تخصيص الحكم بالصفة فإذا بطل حكم الصفة فلا تخصيص ومع عدم التخصيص فلا دلالة لدليل الخطاب ثم هو منقوض بالتخصيص بالغاية.
الحجة التاسعة: أنه ليس في لغة العرب كلمة تدل على المتضادين معاً فلو كان قوله في الغنم السائمة زكاة دالاً على نفي الزكاة عن المعلوفة لكان اللفظ الواحد دالاً على الضدين معا وهو ممتنع.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه ليس في اللغة لفظ يدل على المتضادين معا بدليل ما ذكرناه من دلالة الأسماء المشتركة على المسميات المتعددة معا كانت أضداداً أو لم تكن.
سلمنا امتناع ذلك ولكن إنما يمتنع ذلك بالنظر إلى جهة واحدة من دلالة اللفظ.
وأما من جهتين فلا نسلم ذلك وهاهنا الدال على وجوب الزكاة في السائمة صريح الخطاب والدال على نفي الزكاة عن المعلوفة دليل الخطاب وهما غيران ثم ما ذكرتموه منتقض بالتخصيص بالغاية.
الحجة العاشرة: أن صورة الغنم السائمة مخالفة لصورة الغنم التي ليست بسائمة وعند اختلاف الصورتين لا يلزم من ثبوت الحكم في أحديهما ثبوته في الأخرى ولا عدمه لجواز اشتراك الصور المختلفة في أحكام وافتراقها في أحكام.
وإذا لم يكن ذلك لازماً لم يلزم من الإخبار عن حكم في إحدى الصورتين الإخبار عنه في الصورة الأخرى لا وجوداً ولا عدماً.
ولقائل أن يقول: متى لا يلزم من ثبوت الحكم في إحدى الصورتين نفيه في الصورة الأخرى إذا كان ذلك الحكم قد علق ثبوته بالاسم العام الموصوف بصفة خاصة أو إذا لم يكن الأول ممنوع ودعواه دعوى محل النزاع والثاني مسلم.
وعلى هذا فالقول بأنه لا يلزم من الإخبار عن حكم إحدى الصورتين المختلفتين الإخبار عن الصورة الأخرى مطلقاً لا يكون صحيحاً ثم إنه منتقض بفحوى الخطاب فإن صورة المنطوق بالحكم فيها مخالفة للصورة المسكوت عنها ومع ذلك فإن الحكم الثابت في صورة النطق لازم ثبوته في صورة السكوت والإخبار عنه في إحداهما إخبار عنه في الصورة الأخرى.
وإذ أتينا على ما أردناه من التنبيه على إبطال الحجج الواهية فلا بد من الإشارة إلى ما هو المختار في ذلك وأقرب ما يقال فيه مسلكان: المسلك الأول إنه لو كان تعليق الحكم على الصفة موجباً لنفيه عند عدمها لما كان ثابتاً عند عدمها لما يلزمه من مخالفة الدليل.
وهو على خلاف الأصل لكنه ثابت مع عدمها ودليله قوله تعالى: " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " الإسراء 31 فإن النهي عن قتل الأولاد وقع معلقاً على تحريم القتل حالة الإملاق وكان التنصيص أولى من التحريم حالة خشية عدم خشية الإملاق بخشية الإملاق وهو منهي عنه أيضاً في حالة عدم خشية الإملاق.
فإن قيل: تعليق الحكم بالصفة عندنا إنما يكون دليلاً على نفيه حالة عدم الصفة إذا لم يكن حالة عدم الصفة أولى بإثبات حكم الصفة كما ذكرناه من حكم زكاة السائمة والمعلوفة.
وأما إذا كان الحكم في حالة عدم الصفة أولى بالإثبات من حالة وجود الصفة فلا وها هنا تحريم القتل حالة عدم خشية الإملاق أولى من التحريم حالة خشية الإملاق فكان التنصيص على تحريم القتل حالة خشية الإملاق محرماً له حالة عدم الخشية بطريق الأولى وكان ذلك من باب فحوى الخطاب لا من باب دليل الخطاب.
قلنا: هذا وإن استمر لكم في هذه الصورة فلا يستمر في قوله تعالى: " لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفةً " آل عمران 130 وفي قوله: " ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا " وفي قوله تعالى: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً " النور 33 فإن النهي في جميع هذه الصور ليس هو أولى من صور السكوت فإن النهي.
عن أكل قليل الربا ليس أولى من كثيره ولا النهي عن أكل مال اليتيم من غير إسراف أولى من الإسراف ولا النهي عن الإكراه على الزنى حالة إرادة التحصن أولى من حالة إرادة الزنى ومع ذلك فالحكم في الكل مشترك.

فإن قيل مخالفة دليل الخطاب في هذه الصور إنما كانت لمعارض ولا يلزم مخالفته عند عدم المعارض قلنا: وإن كان ثبوت الحكم في صورة السكوت على نحو ثبوته في صورة النطق لدليل ولكن يجب أن يعتقد أنه من غير مخالفة دليل لما فيه من دفع محذور المعارضة ولو كان دليل الخطاب دليلا لزم من ذلك التعارض وهو خلاف الأصل.
المسلك الثاني إن تعليق الحكم بالصفة لو كان مما يستفاد منه نفي الحكم عند عدم الصفة لم يخل إما أن يكون ذلك مستفاداً من صريح الخطاب أو من جهة أن تعليق الحكم بالصفة يستدعي فائدة ولا فائدة سوى نفي الحكم عند عدم الصفة أو من جهة أخرى الأول محال فإن صريح الخطاب بوجوب الزكاة في السائمة غير صريح بوجوبها في المعلوفة كيف وإن ذلك مما لا قائل به.
والثاني أيضاً ممتنع لما ذكرناه من الوجوه الكثيرة في إبطال الحجة الأولى من المعقول للقائلين بدليل الخطاب.
والثالث فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه ويلتحق بهذه المسألة تخصيص الأوصاف التي تطرأ وتزول كقوله: السائمة تجب فيها الزكاة والحكم كالحكم نفيا وإثباتا والمأخذ من الطرفين فعلى ما عرف والمختار فيها كالمختار ثم.
المسألة الثانية اختلفوا في الحكم المعلق على شيء بكلمة إن هل الحكم على العدم عند عدم ذلك الشيء أولا ؟ فذهب ابن سريج والهراسي من أصحاب الشافعي والكرخي وأبو الحسين البصري إلى أن الحكم على العدم مع عدم ذلك الشرط وذهب القاضي أبو بكر والقاضي عبد الجبار وأبو عبد الله البصري إلى أن الحكم لا يكون على العدم عند عدم الشرط وهو المختار.
وبيانه أن ما علق عليه الحكم بكلمة إن إما أن لا يكون شرطاً للحكم أو يكون شرطاً: فإن كان الأول فلا يلزم من نفيه نفي الحكم وإن كان شرطاً فلا يخلو إما أن يكون من لوازم الشرط انتفاء الحكم المعلق عليه مطلقاً عند انتفائه أو لا يكون لازماً له الأول محال وإلا لامتنع وجود القصر المعلق على الخوف بكلمة إن في قوله تعالى: " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " النساء 101 وهو خلاف الإجماع وإن كان الثاني فهو المطلوب.
فإن قيل: هو من لوازمه بتقدير عدم المعارض وليس من لوازمه بتقدير المعارض ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه أن كلمة إن مسماة في اصطلاح أهل اللغة بالشرط والأصل في الإطلاق الحقيقة ولأن قول القائل لغيره: إن دخل زيد الدار فأكرمه في معنى قوله دخول زيد الدار شرط في إكرامه فكان ما دخلت عليه كلمة إن شرطاً في الحكم وإذا كان شرطاً لزم من عدمه عدم المشروط ويدل عليه ثلاثة أمور: الأول: أن يعلى بن أمية فهم من تعليق القصر على الخوف بكلمة إن عدم القصر عند عدم الخوف حيث سأل عمر قال ما بالنا نقصر وقد أمنا وقد قال تعالى: " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم " النساء 101 وأقره عمر على ذلك وقال له: لقد عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.وفهم عمر ويعلى ذلك مع تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لهما على ما فهماه دليل ظاهر على العدم عند العدم.
الثاني: أن الأمة متفقة على أن الحياة شرط لوجود العلم والقدرة والإرادة ونحو ذلك وإن الحول شرط لوجوب الزكاة وحكموا بانتفاء العلم والقدرة عند عدم الحياة وبانتفاء وجوب الزكاة عند عدم الحول ولولا أن ذلك مقتضى الشرط لما كان كذلك.
الثالث: أنه إذا كان الشرط مما لا يثبت الحكم مع عدمه على كل حال وهو لا يلزم من وجوده وجود الحكم فيلزم أن يكون كل أمرين مختلفين لا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ولا من عدمه عدمه شرطاً وهو محال متفق عليه.
والجواب: قولهم انه من لوازمه بتقدير عدم المعارض قلنا: يجب أن لا يكون مقتضياً لذلك حذراً من التعارض بتقدير وجود المعارض وما ذكروه ثانياً إنا وإن سلمنا أن ما دخلت عليه كلمة إن شرط ولكن لا نسلم أنه يلزم من عدمه عدم المشروط.
وأما الاستدلال بقضية يعلى بن أمية فليس فيه ما يدل على أن عدم الخوف مانع من ثبوت القصر دونه بل لعله فهم أن الأصل عدم القصر وحيث ورد القصر حالة الخوف بقوله: " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم " ولم يوجد ما يدل على القصر حالة عدم الخوف فيبقى على حكم الأصل.

فإن قيل: ما ذكرتموه من الاحتمال إنما يصح أن لو كان الأصل في الصلاة الإتمام وليس كذلك بل الأصل في الصلاة عدم الإتمام ودليله ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت الصلاة في السفر والحضر ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر فلم يبق للتعجب وجه سوى دلالة اشتراط الخوف وعدم القصر عند عدمه.
قلنا: الصلاة المشروعة بدياً ركعتين لا تسمى مقصورة كصلاة الصبح ولا فعلها قصراً وإنما المقصورة اسم لما جوز الاقتصار عليه من ركعتين في الرباعية ولفظ القصر لنفس الاقتصار على الركعتين من الرباعية فإطلاق لفظ القصر في الآية مشعر بسابقة وجوب الإتمام لا محالة.
وإذا كان الإتمام هو الأصل السابق على القصر فقد بطل ما ذكروه كيف وإن ما ذكرناه من الاحتمال هو الأولى وإلا فلو كان اشتراط الخوف في القصر مانعاً من القصر مع عدمه لما جاز القصر مع عدم الخوف أو كان القصر على خلاف الدليل وهو ممتنع من غير ضرورة.
وأما عدم العلم والقدرة وعدم وجوب الزكاة عند عدم الحياة وعدم الحول فليس في ذلك ما يدل على أن عدم الشرط مانع من وجود الحكم مع عدمه ولا بد بل غايته أن الحكم قد ينتفي في بعض صور نفي الشرط ولا نزاع فيه وإنما النزاع في لزوم انتفائه من انتفاء شرطه ولا بد.
وأما الوجه الثالث فالوجه في جوابه أن يقال: لا يلزم من كونه الشرط لا يلزم من ثبوته ثبوت الحكم ولا من نفيه نفيه إذا كان غير الشرط مشاركاً له في هذه الصفة أن يكون شرطاً لأنه لا يمتنع اشتراك المختلفات في عارض عام لها كيف وإن معنى كون الشيء شرطاً لغيره أنه مؤكد لحال المشروط بمعنى أنه تحقق الشرط لا يجوز نفي المشروط عند تحقق مقتضيه دفعاً لوهم من توهم أن الخطاب لو ورد مطلقاً لجاز أن لا يكون المشروط بذلك الشرط مراداً.
وذلك كما لو قال القائل: ضح بالشاة وإن كانت عوراء فإنه لو قال: ضحوا بالشاة مطلقا لجاز أن يتوهم متوهم أنه لا يجوز التضحية بالعوراء فكان ذكر الشرط لدفع هذا الوهم.
وعلى هذا فلا يلزم أن يكون كل شيء شرطا لكل شيء كما قالوه إلا أن يكون الشرط على هذا النحو الذي ذكرناه وليس كذلك.
وإن سلمنا أن الشرط يمنع من وجود المشروط دونه ولكن متى إذا أمكن قيام شرط مقام ذلك الشرط أو إذا لم يقم مقامه شرط آخر؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
وهذا هو مذهب القاضي عبد الجبار وأبي عبد الله البصري وعلى هذا فكونه شرطاً يتحقق بانتفاء الحكم عند انتفائه إذا لم يقم غيره مقامه وإن لم يثبت إذا قام غيره مقامه فلم قلتم إن غيره لم يقم مقامه في الشرطية مع أن لفظ الاشتراط لا يدل على وجود شرط آخر ولا على عدمه.
فإن قيل: إذا قال القائل لغيره: إن دخل زيد الدار فأعطه درهماً معناه أن الشرط هو دخول الدار في عطيتك له وذلك يقتضي أن يكون كمال الشرط هو دخول الدار لأن لام الجنس تقتضي العموم ولأن قوله إن دخل الدار فأعطه درهما يقتضي عدم الإعطاء عند عدم الدخول فلو قام شرط آخر مقامه لزم منه جواز الإعطاء مع عدم الدخول فيقتضي الشرط الأول امتناع وجود شرط آخر يقوم مقامه لما فيه من إخراج الشرط الأول عن كونه شرطاً.
قلنا: جواب الأول أنا لا نسلم أن معنى قوله: إن دخل الدار هو الشرط بل هو شرط وذلك لا يمنع من شرط آخر.وتقدير لام الجنس هاهنا زيادة لم يدل عليها دليل فلا يصار إليها.
وجواب الثاني أنا نسلم أن قوله: إن دخل الدار يقتضي عدم الإعطاء عند عدم الدخول مطلقاً بل إذا لم يقم غيره مقامه لكن قد يمكن أن يقال هاهنا إذا سلم أنه إذا لم يقم غيره مقامه إن عدمه يقتضي العدم فالأصل عدم قيام غيره مقامه فاقتضى عدمه العدم.
وربما احتج القاضي عبد الجبار وأبو عبد الله البصري بأنه لو منع الشرط من ثبوت الحكم عند عدمه لكان قوله تعالى: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً " النور 33 يمنع من تحريم الإكراه على الزنى عند عدم إرادة التحصن وهو محال مخالف للإجماع.
ولقائل أن يقول: ذكر إرادة التحصن إنما كان لكونه شرطاً في الإكراه لاستحالة تحقق الإكراه على الزنى في حق من هو مريد له غير مريد للتحصن لا لأنه شرط في تحريم الإكراه على الزنى والله أعلم.
المسألة الثالثة اختلفوا في الخطاب إذا قيد الحكم بغايته هل يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية أم لا؟

اختلفوا في الخطاب إذا قيد الحكم بغاية كما في قوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " البقرة 187 وقوله تعالى: " ولا تقربوهن حتى يطهرن " البقرة 222 وقوله: " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " البقرة 230 وقوله: " حتى يعطوا الجزية " التوبة 29 فذهب أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين كالقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم إلى أن ذلك يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية وخالف في ذلك أصحاب أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وهو المختار وذلك لأنه لو دل تقييدالحكم بالغاية المحدودة على نفي الحكم فيما بعد الغاية لم يخل إما أن يدل عليه بصريح لفظه أو بأنه لو لم يكن دالاً على نفي الحكم فيما بعد الغاية لما كان التقييد بالغاية مفيداً أو من جهة أخرى الأول محال لأن اللفظ بصريحه لم يدل على نفي الحكم بعد الغاية والثاني إنما يلزم أن لو لم يكن للتقييد فائدة سوى ما ذكروه وليس كذلك بل جاز أن تكون فائدة التقييد تعريف بقاء ما بعد الغاية على ما كان قبل الخطاب أي أنه غير متعرض فيه لإثبات الحكم ولا نفيه.
وإن كان الثالث فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه وأيضاً فإنه لا مانع من ورود الخطاب فيما بعد الغاية بمثل الحكم السابق قبل الغاية بالإجماع.
وعند ذلك إما أن يكون تقييد الحكم بالغاية نافياً للحكم فيما بعدها أو لا يكون والأول يلزم منه إثبات الحكم مع تحقق ما ينفيه وهو خلاف الأصل وإن كان الثاني فهو المطلوب.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه أن كلمة حتى و إلى لانتهاء الغاية وهي جارية مجرى قوله: صوموا صوماً أخره الليل ولو قال ذلك لمنع من وجوب الصوم بعد مجيء الليل لأنه لو وجب الصوم بعد ذلك لصارت الغاية وسطاً وهو محال.
ولهذا فإنه لو قال القائل لعبده: لا تعط زيدا درهماً حتى يقوم واضرب عمراً حتى يتوب فإنه لا يحسن الاستفهام بعد ذلك وأن يقال: فهل أعطيه إذا قام وهل أضربه إذا تاب؟ ولولا أن التقييد بالغاية يدل على عدم الحكم بعدها لما كان كذلك.
قلنا: لا ننكر أن حتى و إلى لانتهاء الغاية وأنها جارية مجرى قوله: صوموا صياماً آخره الليل غير أن الخلاف إنما هو في أن تقييد الحكم بالغاية هل يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية وذلك غير لازم من التقييد بالغاية.
بل غايته أن دلالة التقييد بالغاية على أن ما بعدها غير متعرض فيه بالخطاب الأول لا بنفي ولا إثبات ولا يلزم من وجود صوم بعد الغاية أن تصير الغاية وسطاً بل هي غاية للصوم المأمور به أولا وإنما تصير وسطاً أن لو كان الصوم فيما بعد الغاية مستنداً إلى الخطاب الذي قبل الغاية وليس كذلك.
وأما أنه لا يحسن الاستفهام عند قوله: لا تعط زيدا درهماً حتى يقوم واضرب عمراً حتى يتوب لأن ما بعد الغاية مسكوت عنه غير متعرض له بنفي ولا إثبات فلا يحسن الاستفهام فيما لا دلالة للفظ عليه كما قبل الأمر بالإعطاء والضرب.
المسألة الرابعة اختلفوا في تقييد الحكم بعدد مخصوص هل يدل على أن ما عدا ذلك العدد بخلافه أو لا والحق في ذلك إنما هو التفصيل وهو أن الحكم إذا قيد بعدد مخصوص فمنه ما يدل على ثبوت ذلك الحكم فيما زاد على ذلك العدد بطريق الأولى وذلك كما لو حرم الله جلد الزاني مائةً وقال إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً فإنه يدل على تحريم ما زاد على المائة وإن ما زاد على القلتين لا يحمل خبثا بطريق الأولى ولأن ما زاد على المائة وعلى القلتين ففيه المائة والقلتان وزيادة.
وهل يدل ذلك على أن الحكم فيما دون المائة ودون القلتين على خلاف الحكم في المائة والقلتين؟ هذا موضع الخلاف.
ومنه ما لا يدل على ثبوت الحكم فيما زاد على العدد المخصوص بطريق الأولى وذلك كما إذا أوجب جلد الزاني مائةً أو أباحه فإنه لا يدل على الوجوب والإباحة فيما زاد على ذلك بطريق الأولى بل هو مسكوت عنه ومختلف في دلالته على نفي الوجوب والإباحة فيما زاد ومتفق على أن حكم ما نقص كحكم المائة لدخوله تحتها لكن لا يمنع من الاقتصار عليه.
والمختار فيما كان مسكوتاً عنه ولم يكن الحكم فيه ثابتا بطريق الأولى من هذه الصور أن تخصيص الحكم بالعدد لا يدل على انتفاء الحكم فيه لما ذكرناه في المسائل المتقدمة.

ومن نازع في ذلك فلا يخرج في احتجاجه على مذهبه عما ذكرناه فيما تقدم وقد عرف ما فيه.
المسألة الخامسة اتفق الكل على أن مفهوم اللقب ليس بحجة خلافاً للدقاق وأصحاب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وصورته أن يعلق الحكم إما باسم جنس كالتنصيص على الأشياء الستة بتحريم الربا أو باسم علم كقول القائل زيد قائم أو قام.
والمختار إنما هو مذهب الجمهور لكن قد احتج بعض القائلين بإبطاله بحجج لا بد من الإشارة إليها والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة الأولى: لو كان مفهوم اللقب حجةً لبطل القياس وذلك ممتنع وبيان لزوم ذلك أن القياس لا بد فيه من أصل وحكم الأصل إما أن يكون منصوصاً أو مجمعاً عليه فلو كان النص على الحكم في الأصل أو الإجماع عليه يدل على نفي الحكم عن الفرع فالحكم في الفرع إن ثبت بالنص أو الإجماع فلا قياس وإن ثبت بالقياس على الأصل فهو ممتنع لما فيه من مخالفة النص أو الإجماع الدال على نفي الحكم في الفرع.
ولقائل أن يقول: النص الوارد في الأصل وإن دل على نفي الحكم في الفرع فليس بصريحه بل بمفهومه وذلك مما لا يمنع عند القائلين به من إثبات الحكم بمعقول النص وهو القياس فلا يفضي إلى إبطال القياس وغايته التعارض لا الإبطال.
الحجة الثانية: أنه لو كان مفهوم اللقب حجةً ودليلاً لكان القائل إذا قال: عيسى رسول الله فكأنه قال: محمد ليس برسول الله وكذلك إذا قال: زيد موجود فكأنه قال: الإله ليس بموجود وهو كفر صراح ولم يقل بذلك قائل.
ولقائل أن يقول: من الخصوم إنما لا يكون المتكلم بذلك كافراً إذا لم يكن متنبهاً لدلالة اللفظ أو كان متنبهاً لها غير أنه لم يرد بلفظه ما دل عليه مفهومه وأما إذا كان متنبهاً لدلالة لفظه وهو مريد لمدلولها فإنه يكون كافراً.
الحجة الثالثة أنهم قالوا: إذا قال القائل: زيد يأكل لا يفهم منه أن عمراً لا يأكل ولقائل أن يقول: لا يفهم منه ذلك من يعتقد دلالة مفهوم اللقب أو من لا يعتقده؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وعدم فهم ذلك بالنسبة إلى من لا يعتقد دلالته لا يدل على عدم دلالته في نفسه.
الحجة الرابعة: أنه لو كان مفهوم اللقب دليلاً لما حسن من الإنسان أن يخبر أن زيداً يأكل إلا بعد علمه أن غيره لم يأكل وإلا كان مخبراً بما يعلم أنه كاذب فيه أو بما لا يأمن فيه من الكذب وحيث استحسن العقلاء ذلك مع عدم علمه بذلك دل على عدم دلالته على نفي الأكل عن غير زيد.
ولقائل أن يقول: إذا أخبر بذلك فلا يخلو إما أن يكون عالماً بأن غير زيد يأكل أو غير عالم بذلك وعلى كلا التقديرين إنما لم يستقبح منه ذلك لظهور القرينة الدالة على أنه لم يرد سوى مدلول صريح لفظه دون مفهومه لعدم علمه بذلك في إحدى الحالتين وعلمه بوقوع الأكل من غير زيد في الحالة الأخرى فإن الظاهر من حال العاقل أنه لا يخبر عن نفي ما لم يعلمه ولا نفي ما علم وقوعه حتى إنه لو ظهر منه ما يدل على إرادته لنفي ما دل عليه لفظه عند القائلين به لكان مستقبحاً.
والمختار في إبطال ما سبق في المسائل المتقدمة.
وأما حجج الخصوم وجوابها فعلى ما سبق في مفهوم التقييد بالصفة.
وربما احتجوا في خصوص هذه المسألة بحجج أخرى وهو أنه لو تخاصم شخصان فقال أحدهما للآخر أما أنا فليس لي أم ولا أخت ولا امرأة زانية فإنه يتبادر إلى الفهم نسبة الزنى منه إلى زوجة خصمه وأمه وأخته ولهذا قال أصحاب أحمد بن حنبل ومالك بوجوب حد القذف عليه.
وجوابه أن ذلك إن فهم منه فإنما يفهم من قرينة حاله لا من دلالة مقاله بدليل ما أسلفناه ولذلك لم يكن حد القذف عندنا واجباً بذلك وعلى هذا يكون الحكم في مفهوم الاسم العام المشتق كقوله لا تبيعوا الطعام بالطعام.
المسألة السادسة اختلفوا في تقييد الحكم بإنما هل يدل على الحصر أو لا؟ اختلفوا في تقييد الحكم بإنما كقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الشفعة فيما لم يقسم وإنما الأعمال بالنيات وإنما الولاء لمن أعتق وإنما الربا في النسيئة " هل يدل على الحصر أو لا ؟ فذهب القاضي أبو بكر والغزالي والهراسي وجماعة من الفقهاء إلى أنه ظاهر في الحصر محتمل للتأكيد وذهب أصحاب أبي حنيفة وجماعة ممن أنكر دليل الخطاب إلى أنه لتأكيد الإثبات ولا دلالة له على الحصر وهو المختار.

وذلك لأن كلمة إنما قد ترد ولا حصر كقوله إنما الربا في النسيئة وهو غير منحصر في النسيئة لانعقاد الإجماع على تحريم ربا الفضل فإنه لم يخالف فيه سوى ابن عباس ثم رجع عنه وقد ترد والمراد بها الحصر كقوله تعالى: " إنما أنا بشر مثلكم " فصلت 6 وعند ذلك فيجب اعتقاد كونها حقيقةً في القدر المشترك بين الصورتين وهو تأكيد إثبات الخبر للمبتدإ نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ لكونه على خلاف الأصل ولأن كلمة إنما لو كانت للحصر لكان ورودها في غير الحصر على خلاف الأصل.
فإن قيل: ولو لم تكن للحصر لكان فهم الحصر في صورة الحصر من غير دليل وهو خلاف الأصل: قلنا إنما يكون فهم ذلك من غير دليل أن لو كان دليل الحصر منحصراً في كلمة إنما وليس كذلك.
المسألة السابعة اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات وفي قول القائل: العالم زيد: وصديقي زيد هل يدل على حصر الأعمال فيما كان منوياً وعلى حصر العالم والصديق في زيد.
فذهبت الحنيفة والقاضي أبو بكر وجماعة من المتكلمين إلى أنه لا يدل على الحصر وذهب الغزالي والهراسي وجماعة من الفقهاء إلى أنه يدل على الحصر.
والمختار أنه لا يدل لما سبق في المسائل المتقدمة.
فإن قيل: لو لم يكن ذلك دالا على حصر الأعمال في المنوي والعالم والصديق في زيد لكان المبتدأ أعم من خبره وكان ذلك كذباً كما لو قال: الحيوان إنسان والإنسان زيد.
قلنا: إنما يلزم الكذب أن لو كانت الألف واللام في الأعمال للعموم فإنها تنزل منزلة قوله كل عمل منوى وهو كاذب كما في قوله: كل حيوان إنسان وليس كذلك بل هي ظاهرة في البعض فكأنه قال: بعض الأعمال بالنيات وذلك صادق غير كاذب.
وكذلك الحكم في قوله: العالم زيد وكذلك قوله: صديقي زيد ليس عاماً في كل صديق بل كأنه قال بعض أصدقائي زيد حتى إنه لو ثبت أن الألف واللام إذا دخلت على اسم الجنس تكون عامة وكان المتكلم مريداً للتعميم فإنه يكون كاذباً بتقدير ظهور عالم آخر وصديق آخر له وكان قوله دالاً على الحصر لا محالة.
وربما قيل في إبطال القول بالحصر إنه لو كان قوله: العالم زيد وصديقي زيد يدل على حصر العالم والصديق في زيد لكان إذا قال: العالم زيد وعمرو وصديقي زيد وعمرو متناقضاً وليس كذلك باتفاق أهل اللغة وليس بحق فإن للخصم أن يقول إنما يكون ذلك مناقضاً بشرط أن يتجرد قوله الأول عما يغيره.
وأما إذ عطف عليه قوله: وعمرو صار الكل كالجملة الواحدة وكان قوله: العالم زيد مع الإنفراد مغايراً في دلالته لقوله: العالم زيد وعمرو وهذا كما لو قال: له علي عشرة ثم بعد حين قال: إلا خمسة فإنه لا يقبل لما فيه من مناقضة لفظه الأول: ولو قال: له علي عشرة إلا خمسة على الاتصال كان مقبولاً لعدم تناقضه ولولا اختلاف الدلالة لما اختلف الحال بل كان الواجب أن لا يقبل استثناؤه في الصورتين أو يقبل فيهما وهو محال.
المسألة الثامنة اختلفوا في قوله لا عالم في البلد إلا زيد فالذي عليه الجمهور وأكثر منكرين المفهوم أنه يدل على نفي كل عالم سوى زيد وإثبات كون زيد عالماً وذهب بعض منكرين المفهوم إلى أن ذلك لا يدل على كون زيد عالماً بل هو نطق بالمستثنى منه وسكوت عن المستثنى.
ومعنى خروج المستثنى عن المستثنى منه أنه لم يدخل في عموم المستثنى منه وأنه لم يتعرض فيه لكون زيد عالماً لا نفياً ولا إثباتاً.
والحق إنما هو المذهب الجمهوري ودليله ما بيناه فيما تقدم من أن الاستثناء من النفي إثبات وأن قول القائل: لا إله إلا الله ناف للألوهية عن غير الله تعالى ومثبت لصفة الألوهية لله تعالى وقررناه أحسن تقرير وحققنا وجه الانفصال عن كل ما ورد عليه من الإشكالات فعليك بالالتفات إليه ونقله إلى هاهنا.
المسألة التاسعة اتفق القائلون على أن كل خطاب خصص محل النطق بالذكر لا مفهوم له

اتفق القائلون بالمفهوم على أن كل خطاب خصص محل النطق بالذكر لخروجه مخرج الأعم بالأغلب لا مفهوم له وذلك كقوله تعالى: " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " النساء 23 وقوله: " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها " النساء 35 وقوله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة نكحت نفسها بغير أذن وليها فنكاحها باطل " وقوله صلى الله عليه وسلم: " فليستنج بثلاثة أحجار " فإن تخصيصه بالذكر لمحل النطق في جميع هذه الصور إنما كان لأنه الغالب إذ الغالب أن الربيبة إنما تكون في الحجر وإن الخلع لا يكون إلا مع الشقاق وإن المرأة لا تزوج نفسها إلا عند عدم إذن الولي لها وإبائه من تزويجها وإن الاستنجاء لا يكون إلا بالحجارة وكذلك الحكم في كل ما ظهر سبب تخصيصه بالذكر كسؤال سائل أو حدوث حادثة أو غير ذلك مما سبق ذكره من أسباب التخصيص.
وعلى هذا فلو لم يظهر سبب يوجب تخصيص محل النطق بالذكر دون محل السكوت بل كانت الحاجة إليهما وإلى ذكرهما مع العلم بهما مستويةً ولم يكن الحكم في محل السكوت أولى بالثبوت وبالجملة لو لم يظهر سبب من الأسباب الموجبة للتخصيص سوى نفي الحكم في محل السكوت فهل يجب القول بنفي الحكم في محل السكوت تحقيقاً لفائدة التخصيص أو لا يجب: إن قلنا إنه لا يجب كان التخصيص بالذكر عبثاً خلياً عن الفائدة وذلك مما ينزه عنه منصب آحاد البلغاء فضلاً عن كلام الله تعالى ورسوله وإن قلنا بوجوب نفي الحكم لزم القول بدلالة المفهوم في هذه الصورة.
والوجه في حله أن يقال: إذا لم يظهر السبب المخصص فلا يخلو إما أن يكون مع عدم ظهوره محتمل الوجود والعدم على السواء أو أن عدمه أظهر من وجوده: فإن كان الأول فليس القول بالنفي أولى من القول بالإثبات وعلى هذا فلا مفهوم وإن كان الثاني فإنما يلزم من ذلك نفي الحكم في محل السكوت أن لو كان نفي الحكم فيه من جملة الفوائد الموجبة لتخصيص محل النطق بالذكر وليس كذلك.
وذلك لأن نفي الحكم في محل السكوت عند القائلين بمفهوم المخالفة إنما هو فرع دلالة اللفظ في محل النطق عليه فلو كانت دلالة اللفظ في محل النطق عل نفي الحكم في محل السكوت متوقفة عليه بوجه من الوجوه كان دوراً ممتنعاً.
وإلى هاهنا تم الكلام في أصناف دلالة غير المنظوم هذا ما يتعلق بالنظر فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع.
الباب الثاني
فيما يشترك فيه الكتاب والسنة
دون غيرهما من الأدلةوأما ما يتعلق بالنظر فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون غيرهما من الأدلة فهو النظر في النسخ ويشتمل على مقدمة ومسائل.
أما المقدمة فتشتمل على أربعة فصول:
الفصل الأول
في تعريف النسخ والناسخ والمنسوخأما النسخ فهو في اللغة قد يطلق بمعنى الإزالة ومنه يقال نسخت الشمس الظل أي أزالته ونسخت الريح أثر المشي أي أزالته ونسخ الشيب الشباب إذا أزاله ومنه تناسخ القرون والأزمنة.
والإزالة هي الإعدام ولهذا يقال: زال عنه المرض والألم وزالت النعمة عن فلان ويراد به الانعدام في هذه الأشياء كلها.
وقد يطلق بمعنى نقل الشيء وتحويله من حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه قال السجستاني من أهل اللغة: والنسخ أن تحول ما في الخلية من النحل والعسل إلى أخرى ومنه تناسخ المواريث بانتقالها من قوم إلى قوم وتناسخ الأنفس بانتقالها من بدن إلى غيره عند القائلين بذلك.
ومنه نسخ الكتاب بما فيه من مشابهة النقل وإليه الإشارة بقوله تعالى: " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " الجاثية 29 والمراد به نقل الأعمال إلى الصحف أو من الصحف إلى غيرها لكن اختلف الأصوليون: فذهب القاضي أبو بكر ومن تابعه كالغزالي وغيره إلى أن اسم النسخ مشترك بين هذين المعنيين وذهب أبو الحسين البصري وغيره إلى أنه حقيقة في الإزالة مجاز في النقل وذهب القفال من أصحاب الشافعي إلى أنه حقيقة في النقل والتحويل وقد احتج أبو الحسين البصري بأن إطلاق اسم النسخ على النقل في قولهم: نسخت الكتاب مجاز لأن ما في الكتاب لم ينقل حقيقةً.
وإذا كان اسم النسخ مجاز في النقل لزم أن يكون حقيقة في الإزالة لأنه غير مستعمل فيما سواهما.

وإذا بطل كونه حقيقةً في أحدهما تعين أن يكون حقيقةً في الآخر وقد قرر ذلك بعضهم من وجه آخر فقال: إطلاق اسم النسخ بمنى الإزالة والإعدام واقع كما سبق والأصل في الإطلاق الحقيقة ويلزم أن لا يكون حقيقةً في النقل دفعا للاشتراك عن اللفظ.
ولقائل أن يقول على الوجه الأول إن إطلاق اسم النسخ على الكتاب إما أن يكون حقيقةً أو تجوزاً: فإن كان حقيقةً فهو المطلوب وبطل ما ذكروه وإن كان مجازاً ضرورة أن ما في الكتاب لم ينقل على الحقيقة فيمتنع أن يكون التجوز به مستعاراً من الإزالة فإنه غير مزال ولا يشبه الإزالة فلا بد من استعارته من معنى آخر والإجماع منعقد على امتناع إطلاق اسم النسخ حقيقةً في الإزالة والنقل فإذا تعذرت استعارته من الإزالة تعين أن يكون مستعاراً من النقل.
ووجه استعارته منه أن تحصيل ما في أحد الكتابين في الآخر تجري مجرى نقله وتحويله إليه فكان منه بسبب من أسباب التجوز وإذا كان مستعاراً من النقل وجب أن يكون اسم النسخ حقيقة في النقل إذ المجاز لا يتجوز به في غيره بإجماع أهل اللغة.
ثم وإن كان ذلك مجازاً في نسخ الكتاب فما الاعتذار عن اطلاق اسم التناسخ في المواريث مع كونها منتقلةً حقيقةً وإطلاق اسم النسخ على تحويل النحل والعسل من خلية إلى أخرى فإن ما ذكروه في تقرير التجوز في نسخ الكتاب غير متصور هاهنا.
وأما الوجه الثاني فمقابل بمثله وهو أن يقال: اسم النسخ قد أطلق بمعنى النقل على ما سبق والأصل في الإطلاق الحقيقة ويلزم من كونه حقيقةً فيه أن لا يكون حقيقةً في الإزالة دفعاً للاشتراك عن اللفظ وليس أحد الأمرين أولى من الآخر فإن قبل الترجيح لكونه حقيقة في الإزالة وذلك لأن الإزالة مطلق إعدام والنقل أخص من الإزالة لأنه يستلزم إعدام الصفة وحدوث أخرى والإعدام المستلزم حدوث شيء آخر أخص من الإعدام الذي لا يستلزم ذلك وإذا كانت الإزالة أعم فجعل النسخ حقيقةً فيها أولى نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ.
قلنا: لا نسلم أن الإزالة أعم من النقل والتحويل وإن كان يستلزم إعدام صفة وتجدد أخرى فكل إزالة هكذا لأن الإزالة على ما قيل هي الإعدام والإعدام يستلزم زوال الصفة وهي الوجود وتجدد أخرى وهي صفة العدم وهما صفتان متقابلتان مهما انتفت إحداهما تحققت الأخرى وإذا تساويا عموماً وخصوصاً فليس جعل اسم النسخ حقيقةً في أحدهما أولى من الآخر.
وإذا تعذر ترجيح أحد الأمرين مع صحة الإطلاق فيهما كان القول بالاشتراك أشبه اللهم إلا أن يوجد في حقيقة النقل خصوص تبدل الصفة الوجودية بصفة وجودية فيكون النقل أخص.
ومع هذا كله فالنزاع في هذا لفظي لا معنوي وأما معناه في اصطلاح الأصوليين فقد اختلف فيه: فقال أبو الحسين البصري: هو إزالة مثل الحكم الثابت بقول منقول عن الله تعالى أو عن رسوله مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً وهو فاسد من وجهين: الأول: هو أن إزالة المثل إما أن تكون قبل وجود ذلك المثل أو بعد عدمه أو في حالة وجوده: الأول محال فإن ما لم يوجد لا يقال إنه أزيل والثاني أيضاً محال فإن إزالة ما عدم بعد وجوده ممتنع والثالث أيضاً محال لأن الإزالة هي الإعدام وإعدام الشيء حال وجوده محال.
الوجه الثاني: أنه غير مانع إذ يدخل فيه إزالة مثل ما كان ثابتاً من الأحكام العقلية قبل ورود الشرع بخطاب الشارع المتراخي على وجه لولا خطاب الشارع المغير لكان ذلك الحكم مستمراً وليس بنسخ في مصطلح المتشرعين إجماعاً.
ومنهم من قال: هو إزالة الحكم بعد استقراره ويبطل بالوجهين السابقين وبما لو زال الحكم بعد استقرار بمرض أو جنون أو موت فإنه داخل فيما قيل وليس بنسخ إجماعاً.
ومنهم من قال: هو نقل الحكم إلى خلافه ويبطل بما بطل به الحد الذي قبله وبما لو نقل الحكم إلى خلافه بالغاية كما في قوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " البقرة 187 فإن الحكم فيما قبل الغاية قد قلب إلى خلافه فيما بعد الغاية وليس بنسخ وبه يبطل قول من قال في حده إنه بيان مدة الحكم.

وقال القاضي أبو بكر: إنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه وهو اختيار الغزالي أيضاً وقصد بالقيد الأول تعميم كل خطاب كان من باب المنظوم أو غيره والاحتراز عن الموت والمرض والجنون وجميع الأعذار الدالة على ارتفاع الأحكام الزائلة بها مع تراخيها ولولاها لكانت الأحكام الزائلة بها مستمرة وبالقيد الثاني وهو الخطاب المتقدم الاحتراز عن الخطاب الدال على ارتفاع الأحكام العقلية قبل ورود الشرع وبالقيد الثالث وهو على وجه لولاه لكان مستمرا الإحتراز عما إذا ورد الخطاب بحكم موقت ثم ورد الخطاب عند تصرم ذلك الوقت بحكم مناقض للأول كما لو ورد قوله: عند غروب الشمس كلوا بعد قوله: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " فإنه لا يكون نسخاً لحكم الخطاب الأول حيث إنا لو قدرنا عدم الخطاب الثاني لم يكن حكم الخطاب الأول مستمراً بل منتهياً بالغروب وبالقيد الرابع الاحتراز عن الخطاب المتصل كالاستثناء والتقييد بالشرط والغاية فإن يكون بياناً لا نسخاً.
ويرد عليه إشكالات: الإشكال الأول أن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت هو الناسخ والنسخ هو نفس الارتفاع فلا يكون الناسخ هو النسخ.
الثاني: وهو ما أورده أبو الحسين البصري أنه قال إنه ليس بجامع ولا مانع: أما أنه ليس بجامع فلأنه يخرج منه النسخ بفعل الرسول مع أنه ليس بخطاب ويخرج منه نسخ ما ثبت بفعل الرسول وليس فيه ارتفاع حكم ثبت بالخطاب.
وأما أنه ليس بمانع فلأنه لو اختلفت الأمة في الواقعة على قولين وأجمعوا بخطابهم على تسويغ الأخذ بكل واحد من القولين للمقلد ثم أجمعوا بأقوالهم على أخذ القولين فإن حكم خطاب الإجماع الثاني دل على ارتفاع حكم خطاب الإجماع الأول وليس بنسخ إذ الإجماع لا ينسخ به.
الثالث: هو أن تحديد النسخ بارتفاع الحكم الثاني تحديد له بما ليس بمتصور لوجوه يأتي ذكرها في مسألة إثبات النسخ.
الرابع: أن فيه زيادةً لا حاجة إليها وهي قوله متراخ عنه وقوله: على وجه لولاه لكان مستمراً ثابتاً فإن ذكر التراخي إنما وقع احترازاً عن الخطاب المتصل كالاستثناء والتقييد بالشرط والغاية وفي الحد ما يدرأ النقض بذلك وهو ارتفاع الحكم والخطاب المتصل بالخطاب الأول في هذه الصور ليس رافعاً لحكم الخطاب المتقدم في الذكر بل هو مبين أن الخطاب المتقدم لم يرد الحكم فيما استثنى وفيما خرج عن الشرط والغاية وبالتقييد بالرفع يدرأ النقض بالخطاب الوارد بما يخالف حكم الخطاب المتقدم إذا كان حكمه موقتا من حيث إن الخطاب الثاني لا يدل على ارتفاع حكم الخطاب الأول لانتهائه بانتهاء وقته.
والجواب عن الإشكال الأول: لا نسلم أن النسخ هو ارتفاع الحكم بل النسخ نفس الرفع المستلزم للارتفاع والرفع هو الخطاب الدال على الارتفاع وذلك لأن النسخ يستدعى ناسخاً ومنسوخاً والناسخ هو الرافع أي الفاعل والمنسوخ هو المرفوع أي المفعول.
والرافع والمرفوع أي الفاعل والمفعول يستدعي رفعاً وارتفاعاً أي فعلاً وانفعالاً والرافع هو الله تعالى على الحقيقة.
وإن سمي الخطاب ناسخاً فإنما هو بطريق التجوز كما يأتي تحقيقه والمرفوع هو الحكم والرفع الذي هو الفعل صفة الرافع وذلك هو الخطاب والارتفاع الذي هو نفس الانفعال صفة المرفوع المفعول.
وذلك على نحو فسخ العقد فإن الفاسخ هو العاقد والمفسوخ هو العقد والفسخ صفة العاقد وهو قوله: فسخت والانفساخ صفة العقد وهو انحلاله بعد انبرامه.
وأما النسخ بفعل الرسول فلا نسلم أن فعل الرسول ناسخ حقيقةً إذ ليس للرسول ولاية إثبات الأحكام الشرعية ورفعها من تلقاء نفسه وإنما هو رسول ومبلغ عن الله تعالى ما يشرعه من الأحكام ويرفعه ففعله إن كان ولا بد فإنما هو دليل على الخطاب الدال على ارتفاع الحكم لا أن نفس الفعل هو الدال على الارتفاع.
وأما الإشكال بالإجماع ففيه جوابان: الأول: أنه مهما اجتمعت الأمة على تسويغ الخلاف في حكم مسألة معينة وكان إجماعهم قاطعاً فلا نسلم تصور إجماعهم على مناقضة ما أجمعوا عليه أولاً ليصح ما قيل.

الثاني: أنه وإن صح ذلك فلا نسلم أن الحكم نفياً وإثباتاً مستند إلى قول أهل الإجماع وإنما هو مستند إلى الدليل السمعي الموجب لإجماعهم على ذلك الحكم وعلى هذا فيكون إجماعهم دليلاً على وجود الخطاب الذي هو النسخ لا أن خطابهم نسخ.
وما وعدوا به في الوجه الثالث فسيأتي الجواب عنه أيضاً.
وأما ما ذكروه من الزيادات فهي غير مخلة بصحة الحد وفائدتها الميز بين النسخ والصور المذكورة مبالغة في تحصيل الفائدة.
ومع ذلك فالمختار في تحديده أن يقال: النسخ عبارة عن خطاب الشارع المانع من استمرار ما ثبت من حكم خطاب شرعي سابق.
ولا يخفى ما فيه من الاحتراز من غير حاجة إلى التقييد بالتراخي ولا بقولنا: لولاه لكان مستمراً ثابتاً لما سبق تقريره.
وأما الناسخ فإنه قد يطلق على الله تعالى فيقال: نسخ فهو ناسخ ومنه قوله تعالى: " ما ننسخ من آية " البقرة 106 وقوله تعالى: " فينسخ الله ما يلقى الشيطان " الحج 52 وقد يطلق على الآية أنها ناسخةً فيقال: آية السيف نسخت كذا فهي ناسخة.
وكذلك على كل طريق يعرف به نسخ الحكم من خبر الرسول وفعله وتقريره وإجماع الأمة.
وعلى الحكم فيقال وجوب صوم رمضان نسخ وجوب صوم عاشوراء فهو ناسخ وعلى المعتقد لنسخ الحكم فيقال: فلان ينسخ القرآن بالسنة أي يعتقد ذلك فهو ناسخ.
غير أن الإجماع منعقد على أن إطلاق اسم الناسخ على الحكم وعلى المعتقد للنسخ مجاز وإنما الخلاف بيننا وبين المعتزلة في أنه حقيقة في الله تعالى أو في الطريق المعرف لارتفاع الحكم فعندهم الناسخ في الحقيقة هو الطريق حتى قالوا في حده: إن الناسخ هو قول صادر عن الله تعالى أو عن رسوله أو فعل منقول عن رسوله يفيد إزالة مثل الحكم الثابت بنص صادر عن الله تعالى أو بنص أو فعل منقول عن رسوله مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً.
وأما نحن فمعتقدنا أن الناسخ في الحقيقة إنما هو الله تعالى وأن خطابه الدال على ارتفاع الحكم هو النسخ وإن سمي ناسخاً فمجاز وحاصل النزاع في ذلك آيل إلى اللفظ.
وأما المنسوخ فهو الحكم المرتفع كالمرتفع من وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم وحكم الوصية للوالدين والأقربين وحكم التربص حولاً كاملاً عن المتوفى عنها زوجها إلى غير ذلك.
الفصل الثاني
في الفرق بين النسخ والبداءواعلم أن البداء عبارة عن الظهور بعد الخفاء ومنه يقال: بدا لنا سور المدينة بعد خفائه وبدا لنا الأمر الفلاني أي ظهر بعد خفائه وإليه الإشارة بقوله تعالى: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " الزمر 47 " بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل " الأنعام 28 " وبدا لهم سيئات ما عملوا " الجاثية 33 وحيث كان فإن النسخ يتضمن الأمر بما نهى عنه والنهي عما أمر به على حده وظن أن الفعل لا يخرج عن كونه مستلزماً لمصلحة أو مفسدة فإن كان مستلزما لمصحلة فالأمر به بعد النهي عنه على الحد الذي نهى عنه إنما يكون لظهور ما كان قد خفي من المصلحة وإن كان مستلزماً لمفسدة فالنهي عنه بعد الأمر به على الحد الذي أمر به إنما يكون لظهور ما كان قد خفي من المفسدة وذلك عين البداء.
ولما خفي الفرق بين البدآء والنسخ على اليهود والرافضة منعت اليهود من النسخ في حق الله تعالى وجوزت الروافض البداء عليه لاعتقادهم جواز النسخ على الله تعالى مع تعذر الفرق عليهم بين النسخ والبدآء واعتضدوا في ذلك بما نقلوه عن علي رضي الله عنه أنه قال: لولا البدا لحدثتكم بما هو كائن إلى يوم القيامة.
ونقلوا عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: ما بدا لله تعالى في شيء كما بدا له في إسماعيل أي في أمره بذبحه ونقلوا عن موسى بن جعفر: أنه قال البدآء ديننا ودين آبائنا في الجاهلية.
وتمسكوا أيضا بقوله تعالى: " يمحو الله ما يشاء ويثبت " الرعد 39 وفي ذلك قال شاعرهم: ولولا البدا سميته غير هائب وذكر البدا نعت لمن يتقلب ولولا البدا ما كان فيه تصرف وكان كنار دهره يتلهب وكان كضوء بطبيعة وبالله عن ذكر الطبائع يرغب

فلزم اليهود على ذلك إنكار تبدل الشرائع ولزم الروافض على ذلك وصف الباري تعالى بالجهل مع النصوص القطعية والأدلة العقلية الدالة على استحالة ذلك في حقه وانه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أما النصوص الكتابية فكقوله تعالى: " وهو بكل شيء عليم " البقرة 29 وقوله تعالى: " عالم الغيب والشهادة " المؤمنون 92 وقوله: " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الأنعام 59 وقوله: " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " الحديد 22 إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الأدلة العقلية فما استقصيناه في كتبنا الكلامية.
وما نقلوه عن علي وعن أهل بيته فمن الأحاديث التي انتحلها الكذاب الثقفي على أهل البيت فإنه كان يدعي العصمة لنفسه ويخبر بأشياء فإذا ظهر كذبه فيها قال إن الله وعدني بذلك غير أنه بدا له منه وأسند ذلك إلى أهل البيت مبالغة في ترويج أكاذيبه.
وأما الآية فالمراد بها إنما هو محو المنسوخ وإثبات الناسخ ومحو السيئات بالحسنات كما قال تعالى: " إن الحسنات يذهبن السيئات " هود 114 ومحو الحسنات بالردة على ما قال تعالى: " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " البقرة 217 أو محو المباحات وإثبات الطاعات على ما قاله أهل التفسير أو محو ما يشاء من الآجال أو الأرزاق وإثبات غيرها ويجب الحمل على ذلك جمعا بينه وبين الأدلة القاطعة الدالة على امتناع الجهل في حق الله تعالى.
وكشف الغطاء عن ذلك يتحقق بالفرق بين النسخ والبداء فنقول: إذا عرف معنى البدآء وأنه مستلزم للعلم بعد الجهل والظهور بعد الخفاء وأن ذلك مستحيل في حق الله تعالى على ما بيناه في كتبنا الكلامية فالنسخ ليس كذلك فإنه لا يبعد أن يعلم الله تعالى في الأزل استلزام الأمر بفعل من الأفعال للمصلحة في وقت معين واستلزام نسخه للمصلحة في وقت آخر فإذا نسخه في الوقت الذي علم نسخه فيه فلا يلزم من ذلك أن يكون قد ظهر له ما كان خفياً عنه ولا أن يكون قد أمر بما فيه مفسدة ولا نهى عما فيه مصلحة وذلك كإباحته الأكل في الليل من رمضان وتحريمه في نهاره.
فإن قيل: لا يخلو إما أن يكون الباري تعالى قد علم استمرار أمره بالفعل المعين أبداً أو إلى وقت معين وعلم أنه لا يكون مأموراً بعد ذلك الوقت: فإن كان الأول استحال نسخه لما فيه من انقلاب علمه جهلاً وإن كان الثاني فالحكم يكون منتهياً بنفسه في ذلك الوقت فلا يتصور بقاؤه بعده وإلا لانقلب علم الباري جهلاً وإذا كان منتهياً بنفسه فالنسخ لا يكون مؤثراً فيه لا في حالة علم الله تعالى أنه يكون الفعل مأموراً فيها ولا في حالة علم الله أنه لا يكون مأموراً فيها لما فيه من انقلاب علمه إلى الجهل وإذا لم يكن الناسخ مؤثراً فيه فلا يتصور نسخه.
قلنا: الأمر مطلق والباري علم أن الأمر بالفعل ينتهي بالناسخ في الوقت الذي علم أن النسخ يقع فيه لا أنه علم انتهاءه إلى ذلك الوقت مطلقاً بل علم انتهاءه بالنسخ فلو لم يكن منتهيا بالنسخ لانقلب علمه جهلاً وعلى هذا فلا يلزم من انتهاء الأمر في ذلك الوقت بالنسخ أن لا يكون الأمر منسوخاً
الفصل الثالث
في الفرق بين التخصيص والنسخنقول إن التخصيص والنسخ وإن اشتركا من جهة أن كل واحد منهما قد يوجب تخصيص الحكم ببعض ما تناوله اللفظ لغةً غير أنهما يفترقان من عشرة أوجه.
الأول: أن التخصيص يبين أن ما خرج عن العموم لم يكن المتكلم قد أراد بلفظه الدلالة عليه والنسخ يبين أن ما خرج لم يرد التكليف به وإن كان قد أراد بلفظه الدلالة عليه.
الثاني: أن التخصيص لا يرد على الأمر بمأمور واحد والنسخ قد يرد على الأمر بمأمور واحد.
الثالث: أن النسخ لا يكون في نفس الأمر إلا بخطاب من الشارع بخلاف التخصيص فإنه يجوز بالقياس وبغيره من الأدلة العقلية والسمعية.
الرابع: أن الناسخ لا بد وأن يكون متراخياً عن المنسوخ بخلاف المخصص فإنه يجوز أن يكون متقدماً على المخصص ومتأخراً عنه كما سبق تحقيقه.

الخامس: أن التخصيص لا يخرج العام عن الاحتجاج به مطلقا في مستقبل الزمان فإنه يبقى معمولاً به فيما عدا صورة التخصيص بخلاف النسخ فإنه قد يخرج الدليل المنسوخ حكمه عن العمل به في مستقبل الزمان بالكلية وذلك عندما إذا ورد النسخ على الأمر بمأمور واحد.
السادس: أنه يجوز التخصيص بالقياس ولا يجوز به النسخ.
السابع: أن النسخ رفع الحكم بعد أن ثبت بخلاف التخصيص.
الثامن: أنه يجوز نسخ شريعة بشريعة ولا يجوز تخصيص شريعة بأخرى.
التاسع: أن العام يجوز نسخ حكمه حتى لا يبقى منه شيء بخلاف التخصيص.
العاشر: وهو ما ذكره بعض المعتزلة أن التخصيص أعم من النسخ وأن كل نسخ تخصيص وليس كل تخصيص نسخاً إذ النسخ لا يكون إلا بتخصيص الحكم ببعض الأزمان والتخصيص يعم تخصيص الحكم ببعض الأشخاص وبعض الأحوال وبعض الأزمان وفيه نظر وذلك أنه إن ثبت أن ما ذكر من صفات التخصيص الفارقة بينه وبين النسخ داخلة في مفهوم التخصيص أو ملازمة خارجة فلا وجود لها في النسخ فلا يكون التخصيص أعم من النسخ لأن الأعم لا بد وأن يصدق الحكم به مع جميع صفاته اللازمة لذاته على الأخص وذلك مما لا يصدق على النسخ فلا يكون النسخ تخصيصاً.
وإلا فلقائل أن يقول: ما ذكر من الصفات الفارقة بين التخصيص والنسخ إنما هي فروق بين أنواع التخصيص وليست من لوازم مفهوم التخصيص بل التخصيص أعم من النسخ ومن جميع الصور المذكورة وهو قادح لا غبار عليه اللهم إلا أن يرجع إلى الاصطلاح وإطلاق اسم التخصيص على بعض هذه الأنواع والنسخ على البعض الآخر فحاصل النزاع يرجع إلى الإطلاق اللفظي ولا منازعة فيه بعد فهم عوز المعنى.
الفصل الرابع
في شروط النسخ الشرعيوهي منقسمة إلى متفق عليه ومختلف فيه.
أما المتفق عليه فأن يكون الحكم المنسوخ شرعياً وأن يكون الدليل الدال على ارتفاع الحكم شرعياً متراخياً عن الخطاب المنسوخ حكمه وأن لا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدا بوقت معين.
وأما الشروط المختلف فيها فأن يكون قد ورد الخطاب الدال على ارتفاع الحكم بعد دخول وقت التمكن من الامتثال وأن يكون الخطاب المنسوخ حكمه مما لا يدخله الاستثناء والتخصيص وأن يكون نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة وأن يكون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين وأن يكون الناسخ مقابلاً للمنسوخ مقابلة الأمر بالنهي والمضيق بالموسع وأن يكون النسخ ببدل فإن ذلك كله مختلف فيه والحق أن هذه الأمور غير معتبرة كما يأتي.
وإذ أتينا على ما أردناه من المقدمة فلا بد من العود إلى المسائل المتشعبة عن النسخ وهي عشرون مسألةً.
المسألة الأولى
في إثبات النسخ على منكريهوقد اتفق أهل الشرائع على جواز النسخ عقلاً وعلى وقوعه شرعاً ولم يخالف في ذلك من المسلمين سوى أبي مسلم الأصفهاني فإنه منع من ذلك شرعاً وجوزه عقلاً ومن أرباب الشرائع سوى اليهود فإنهم انقسموا ثلاث فرق: فذهبت الشمعنية إلى امتناعه عقلاً وذهبته العنانية منهم إلى امتناعه سمعاً لا عقلاً وذهبت العيسوية إلى جوازه عقلاً ووقوعه سمعاً واعترفوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لكن إلى العرب خاصةً لا إلى الأمم كافةً.
والدليل على الجواز العقلي العقل والسمع.
أما العقل فهو أن المخالف لا يخلو إما أن يكون ممن يوافق على أن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير نظر إلى حكمة وغرض وإما أن يكون ممن يعتبر الحكمة والغرض في أفعاله تعالى: فإن كان الأول فلا يمتنع عليه تعالى أن يأمر بالفعل في وقت وينهى عنه في وقت كما أمر بالصيام في نهار رمضان ونهى عنه في يوم العيد وإن كان الثاني فمع بطلانه على ما عرفناه في كتب الكلام فلا يمتنع أن يعلم الله استلزام الأمر بالفعل في وقت معين للمصلحة واستلزام النهي عنه للمصلحة في وقت آخر.
فإن المصالح مما يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال حتى إن مصلحة بعض الأشخاص في الغنى أو الصحة أو التكليف ومصلحة الآخر في نقيضه فكذلك جاز أن تختلف المصلحة باختلاف الأزمان حتى أن مصلحة بعض أهل الأزمان في المداراة والمساهلة ومصلحة أهل زمان آخر في الشدة والغلظة عليهم إلى غير ذلك من الأحوال.

وإذا عرف جواز اختلاف المصلحة باختلاف الأزمان فلا يمتنع أن يأمر الله تعالى المكلف بالفعل في زمان لعلمه بمصلحته فيه وينهاه عنه في زمن آخر لعلمه بمصلحته فيه كما يفعل الطبيب بالمريض حيث يأمره باستعمال دواء خاص في بعض الأزمنة وينهاه عنه في زمن آخر بسبب اختلاف مصلحته عند اختلاف مزاجه وكما يفعل الوالد بولده من التأديب له وضربه في زمان واللين له والرفق به في زمان آخر على حسب ما يتراءى له من المصلحة.
ولهذا خص الشارع كل زمان بعبادة غير عبادة الزمن الآخر كأوقات الصلوات والحج والصيام ولولا اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة لما كان كذلك ومع جواز اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة لا يكون النسخ ممتنعاً.
هذا ما يدل على الجواز العقلي من جهة العقل وأما من جهة السمع فقوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " البقرة 106 فهذه الآية تدل على جواز النسخ على الله تعالى شرعاً.
أما بالنسبة إلى من خالف في ذلك من المسلمين فظاهر لموافقته على أن الآية من كلام الله تعالى وأن كلامه صدق وأما بالنسبة إلى اليهود فلأنه إذا ثبت أن محمداً رسول الله بما أثبتناه من الأدلة القاطعة في علم الكلام وأنه صادق فيما يدعيه من الوحي إليه من الله تعالى فقد ادعى كون هذه الآية من كلام الله فكان صادقاً في ذلك وكانت الآية حجة على جواز النسخ.
وأما ما يدل على وقوع النسخ في الشرع إما بالنسبة إلى من خالف من المسلمين في ذلك فهو أن الصحابة والسلف أجمعوا على أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع الشرائع السالفة وأجمعوا على نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس باستقبال الكعبة وعلى نسخ الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ونسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب التربص حولاً كاملاً عن المتوفى عنها زوجها ووجوب ثبات الواحد للعشرة المستفاد من قوله تعالى: " إن يكن منكم عشرون صابرون " الأنفال 65 الآية بقوله : " الآن خفف الله عنكم " الأنفال 66 الآية إلى غير ذلك من الأحكام المتعددة.
وأما بالنسبة إلى منكر ذلك من اليهود فيدل عليه أنه ورد في التورية أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه وقد حرم ذلك في شريعة من بعده.
وأيضاً فإن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من الفلك إني جعلت لك كل دابة مأكلاً لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه وقد حرم كثيراً من الدواب على من بعده من أرباب الشرائع وهو عين النسخ.
فإن قيل: يحتمل أن أمر آدم والإباحة لنوح وذريته كان مقيداً بظهور شريعة من بعده فتحريم ذلك على من بعده لا يكون نسخاً لانتهاء مدة الحكم الأول لكونه كان مقيداً بظهور شريعة من بعده.
قلنا: الأمر لآدم والإباحة لنوح كان مطلقاً والأصل عدم التقييد.
وإن قيل إنه كان ذلك مقيداً في علم الله تعالى بظهور شريعة أخرى.
قلنا: فهذا هو عين النسخ فإن الله تعالى إذا أمر بالفعل مطلقاً فهو عالم بأنه سينسخه ويعلم وقت نسخه فتقييده في علمه لا يخرجه عن حقيقة النسخ.
وقد احتج عليهم بإلزامات أخر منها أن العمل كان مباحاً في يوم السبت ثم حرم على موسى وقومه ومنها أن الختان كان في شرع إبراهيم جائزاً بعد الكبر وقد أوجبه موسى يوم ولادة الطفل ومنها أن الجمع بين الأختين كان مباحاً في شريعة يعقوب وقد حرم ذلك في شريعة من بعده.
ولقائل أن يقول: العمل في يوم السبت وكذلك الختان في حالة الكبر وكذلك الجمع بين الأختين كان مباحاً بحكم الأصل ورفع ما كان ثابتاً بحكم الأصل العقلي لا يكون نسخاً كما علم فيما تقدم.
فإن قيل: لو كان النسخ جائزاً عقلاً لم يخل نسخ ما أمر به إما أن يكون لحكمة ظهرت لم تكن ظاهرة حالة الأمر أو لا يكون كذلك فإن لم يكن لحكمة ظهرت له كان عابثاً والعبث على الحكيم محال وإن كان الأول فقد بدا له ما لم يكن والبدآء على الله تعالى محال.
وأيضاً فإنه لو جاز نسخ الأحكام الشرعية لكون التكليف بها مصلحةً في وقت ومفسدة في وقت لجاز نسخ ما وجب من الاعتقادات في التوحيد وما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز وهو محال.

وأيضاً فإن الخطاب المنسوخ حكمه إما أن يكون موقتاً بوقت أو هو دال على التأبيد: فإن كان الأول فهو غير قابل للنسخ لانتهائه بانتهاء ذلك الوقت وإن كان الثاني فهو محال من أربعة أوجه: الأول: إنه من ذلك اعتقاد المكلف دوام الحكم وتأييده وهو جهل قبيح وما لزم منه القبيح فهو قبيح.
الثاني: أنه يلزم منه أن لا يبقى لنا طريق إلى معرفة التأبيد بتقدير إرادة التأبيد وذلك مما يوجب إعجاز الرب تعالى عن إعلامنا بالتأبيد وهو محال.
الثالث: أنه لو جاز النسخ مع أن اللفظ للتأبيد لما بقي لنا وثوق بوعد الله تعالى ووعيده ولا بشيء من الظواهر اللفظية ولا يخفى ما في ذلك من اختلاف الشرائع واتجاه قول الباطنية.
الرابع: أنه يلزمكم على هذا جواز نسخ شريعتكم ولم تقولوا به وأيضاً فإنه لو جاز رفع الحكم بعد وقوعه فإما أن يكون رفعه قبل وجوده أو بعد عدمه أو في حال وجوده: الأول محال لأن رفع ما لم يوجد غير متصور والثاني محال لأن رفع المعدوم ممتنع والثالث يلزم منه أن يكون الشيء حالة وجوده مرتفعاً وذلك أيضاً ممتنع.
وأيضاً فإن الفعل المأمور به إما أن يكون حسناً أو قبيحاً: فإن كان الأول فقد نهى عن الحسن وإن كان الثاني فقد أمر بالقبيح.
وأيضاً فإنه إما أن يكون طاعةً أو معصيةً: فإن كان طاعة فقد نهى عن الطاعة وإن كان معصية فقد أمر بالمعصية.
وأيضاً فإما أن يكون مراداً أو مكروهاً فإن كان مراداً فقد صار بالنهي مكروهاً وإن كان مكروهاً فقد صار بالأمر مراداً.
وأما ما ذكرتموه من الدليل السمعي على الجواز العقلي فلا وجه له.
أما قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها " البقرة 106 فالمراد بالنسخ الإزالة ونسخ الآية بإزالتها عن اللوح المحفوظ.
وأما ما ذكرتموه على الوقوع الشرعي فلا نسلم أن شريعة محمد ناسخة لشرائع من تقدم على ما يأتي تقريره.
وأما وجوب استقبال بيت المقدس فإنه لم يزل بالكلية لجواز التوجه إليه عند الإشكال ومع العذر فكان ذلك تخصيصاً لا نسخاً.
وأما تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم فإنما زالت لزوال سببها وهو امتياز المنافقين من حيث إنهم لا يتصدقون على المؤمنين ووجوب التربص حولاً كاملاً لم يزل بالكلية لبقائه عندما إذا كانت مدة حملها سنة فكان ذلك أيضاً من باب التخصيص لا من باب النسخ.
سلمنا الجواز العقلي ولكن لا نسلم الجواز الشرعي وبيانه من وجهين: الأول: قوله تعالى في صفة القرآن: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " فصلت 42 فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل وهذه حجة من منع جواز نسخ القرآن مطلقاً.
الثاني: أن موسى الكليم كان نبياً حقاً بالإجماع منا ومنكم وبالدلائل الدالة على صدقه في رسالته وقد نقل عنه نقلاً متواتراً أنه قال: هذه الشريعة مؤبدة عليكم ما دامت السموات والأرض وروي عنه أنه قال: الزموا يوم السبت أبدا فقد كذب بذلك من ادعى نسخ شريعته فلو قيل بجواز نسخ شريعته لزم منه أن يكون كاذباً وهو محال.
والجواب عن الإشكال الأول أن النسخ لم يكن لحكمة ظهرت له بعد أن لم تكن ظاهرةً بل إن قلنا برعاية الحكمة بحكمة كان عالماً بها على ما سبق في الفرق بين النسخ والبدآء.
وعن الإشكال الثاني أن اعتقاد التوحيد وكل ما مستند معرفته دليل العقل لا يخلو إما أن يقال بأن وجوبه ثابت بالعقل كما قاله المعتزلة أو بالشرع كما نقوله نحن: فإن كان الأول فلا يخفى إحالة نسخ ما ثبت وجوبه عقلاً لأن الشارع لا يأتي بما يخالف العقل وإن كان الثاني فالعقل يجوز أن لا يرد الشرع بوجوبه ابتداء فضلاً عن نسخه بعد وجوبه.
وعن الثالث قولهم إن الخطاب إن كان موقتاً فلا يكون قابلاً للنسخ لا نسلم ذلك فإنه لو قال في رمضان حجوا في هذه السنة ثم قال قبل يوم عرفة لا تحجوا فإنه يكون جائزاً عندنا على ما يأتي في جواز نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال.
قولهم: وإن كان دالا على التأبيد فهو محال لا نسلم ذلك.
قولهم في الوجه الأول إنه يلزم منه جهل المكلف باعتقاد التأبيد فقد أجاب عنه أبو الحسين البصري بأنه إنما يفضي إلى ذلك إن لو لم يكن قد اقترن بالخطاب المنسوخ ما يشعر بنسخه وليس كذلك: وقد بينا إبطال ما ذهب إليه في تأخير البيان إلى وقت الحاجة.

والوجه في الجواب أن نقول: دلالة الخطاب على التأبيد لا يلزمها التأبيد مع القول بجواز النسخ فإذا اعتقد المكلف التأبيد فالجهل إنما جاءه من قبل نفسه لا من قبل ما اقتضاه الخطاب بل الواجب أن يعتقد التأبيد بشرط عدم الناسخ ثم وان أفضى ذلك إلى الجهل في حق العبد فالقول بقبح ذلك من الله تعالى مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه فيما تقدم.
ثم متى يكون ذلك قبيحاً إذا استلزم مصلحة تربو على مفسدة جهله أو إذا لم يكن كذلك؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
وبيان لزوم المصلحة الزائدة هنا ما فيه من زيادة الثواب باعتقاده دوام ما أمر به والعزم على فعله والانقياد لقضاء الله وحكمه في الأمر والنهي كيف وإن ما ذكروه منتقض بما يحدثه الله تعالى للعبد من الغنى والصحة فإن ذلك مما يوجب اعتقاد دوامه له مع جواز إزالته بالفقر والمرض.
قولهم في الوجه الثاني إنه يفضي إلى تعجيز الرب تعالى عن إعلامنا بالتأبيد ليس كذلك لجواز أن يخلق لنا العلم الضروري بذلك.
وما ذكروه في الوجه الثالث فمندفع فإنه إن كان اللفظ الوارد في الخطاب مما لا يحتمل التأويل فالوثوق به حاصل لا محالة وإن كان مما يحتمل التأويل فيجب أن يكون الوثوق به على حسب ما اقتضاه الظاهر لا قطعاً وذلك غير مستحيل.
وما ذكروه في الوجه الرابع فغير صحيح فإنا لا نمنع من جواز نسخ شرعنا عقلاً وإنما نمنع منه شرعاً لورود خبر الصادق بذلك عندنا وهو قوله تعالى: " وخاتم النبيين " الأحزاب 40 وقوله صلى الله عليه وسلم: " ألا إنه لا نبي بعدي " والخلاف في خبر الصادق محال ومع ذلك فإنا لا نحيل عقلاً أن يكون ذلك الخبر مشروطاً بقيد.
قولهم: لو جاز رفع الحكم إما أن يكون قبل وقوعه فمندفع فإنا وإن أطلقنا لفظة الرفع في النسخ إنما نريد به امتناع استمرار المنسوخ وأنه لولا الخطاب الدال على الانقطاع لاستمر وذلك لا يلزم عليه شيء مما قيل.
قولهم: الفعل المأمور به إما أن يكون حسناً أو قبيحاً فهو مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه.
قولهم: إما أن يكون طاعةً أو معصيةً قلنا هو طاعة حالة كونه مأموراً ومعصية حالة كونه منهياً فالطاعة والمعصية ليست من صفات الأفعال بل تابعة للأمر والنهي.
قولهم: إما أن يكون مراداً أو مكروهاً لا نسلم الحصر لجواز أن لا يكون مراداً ولا مكروهاً إذ الإرادة والكراهة عندنا غير لازمة للأمر والنهي وبتقدير أن يكون ما أمر به مراداً جاز أن يكون مراداً حالة الأمر دون حالة النهي.
قولهم: المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ ليس كذلك فإنه قال تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " البقرة 106 والقرآن خير كله من غير تفاوت فيه فلو كان المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ وكتابة أخرى بدلها لما تحقق هذا الوصف وإنما يتحقق الخيرية بالنسبة إلينا فيما يرجع إلى أحكام الآيات المرفوعة عنا والموضوعة علينا من حيث إن البعض قد يكون أخف من البعض فيما يرجع إلى تحمل المشقة أو أن ثواب البعض أجزل من ثواب البعض على اختلاف المذاهب فوجب حمل النسخ على نسخ أحكام الآيات لا على ما ذكروه.
وأما منع كون شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لشرع من تقدم فمخالف لإجماع السلف قاطبةً.
والكلام في هذا المقام إنما هو مع منكر النسخ من الإسلاميين وما يذكرونه في تقدير ذلك فسيأتي الجواب عنه أيضاً وأما ما ذكروه على باقي صور النسخ فهو أيضاً خلاف إجماع السلف كيف وإن ما ذكروه من التخريج لا وجه له.
قولهم إن التوجه إلى بيت المقدس لم يزل بالكلية قلنا: لا خلاف أنه كان يجب التوجه إليه حالة عدم الإشكال والعذر وقد زال ذلك بالكلية فكان نسخاً.
قولهم إن وجوب تقديم الصدقة إنما زال لزوال سببه قلنا: الأصل بقاء السبب وما ذكروه من السبب يلزم منه أن كل من لم يتصدق من الصحابة أن يكون منافقاً ولم يتصدق أحد منهم سوى علي عليه السلام على ما نقله الرواة وذلك ممتنع.
قولهم إن وجوب التربص لم يزل بالكلية قلنا: لا خلاف بين أهل الملة في أنه كان التربص حولاً كاملاً واجباً سواء كانت مدة الحمل سنةً أو لم تكن وذلك مما رفع بالكلية.

وما ذكروه من امتناع نسخ القرآن بقوله: " لا يأتيه الباطل " فصلت 42 الآية فليس فيه ما يدل على امتناع النسخ إلا أن يكون النسخ إبطالاً له وليس كذلك.
وبيانه أن النسخ لا معنى له سوى قطع الحكم الذي دل عليه اللفظ مع كون المخاطب مريداً لقطعة على ما سبق وذلك لا يكون إبطالاً له بل تحقيقاً لمقصوده.
وما ذكروه من قول موسى فمختلق لم تثبت صحته عن موسى عليه السلام وقد قيل إن أول من وضع ذلك لهم ابن الراوندي ليعارض به دعوى الرسالة من محمد صلى الله عليه وسلم لما ظهر من تسمحه في الدين.
ويدل على ذلك أن أحبارهم ككعب الأحبار وابن سلام ووهب ابن منبه وغيرهم كانوا أعرف من غيرهم بما في التورية وقد أسلموا ولم يذكروا شيئاً من ذلك: ولو كان ذلك صحيحاً لكان من أقوى ما يتمسك به اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في معارضته.
ولم ينقل عنهم شيء من ذلك ثم أنهم مختلفون في نفس متن الحديث فإن منهم من قال الحديث إن أطعتموني لما أمرتكم به ونهيتكم عنه ثبت ملككم كما ثبتت السموات والأرض وليس في ذلك ما يدل على إحالة النسخ.
وإن سلمنا صحة ما نقلوه فيحتمل أنه أراد بالشريعة التوحيد ويحتمل أنه أراد بقوله: مؤبدة ما لم تنسخ بشريعة نبي آخر ومع احتمال هذه التأويلات فلا يعارض قوله ما ظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات القاطعة الدالة على صدقه في دعواه الرسالة ونسخ شريعة من تقدم كيف وإن لفظ التأبيد قد ورد في التورية ولم يرد به الدوام كقوله: إن العبد يستخدم ست سنين ثم يعتق في السابعة فإن أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم أبداً وكقوله في البقرة التي أمروا بذبحها هذه سنة لكم أبداً وكقوله قربوا كل يوم خروفين قرباناً دائماً.
وأما العيسوية فيمتنع عليهم بعد التسليم بصحة رسالته وصدقه في دعواه بما اقترن بها من المعجزة القاطعة تكذيبه فيما ورد به التواتر القاطع عنه بدعوى البعثة إلى الأمم كافةً ونزول القرآن بذلك وهو قوله تعالى: " يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً " الأعراف 158 وقوله تعالى: " وما أرسلناك إلا كافةً للناس " سبأ 28 وقال في وصف ما أنزل عليه هذا هدىً للناس ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت إلى الأحمر والأسود " وقوله: " بعثت إلى الناس كافةً " وقوله: " لو كان أخي موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي " ويدل على ذلك ما اشتهر عنه وتواتر من دعائه لطوائف الجبابرة والأكاسرة.
وتنفيذه إلى أقاصي البلاد وطلب الدخول في ملته والقتال لمن جاحده من العرب وغيرهم في نبوته والله أعلم.
المسألة الثانية اتفق القائلون بجواز النسخ على جواز نسخ حكم الفعل بعد خروج وقته واختلفوا في جواز ذلك قبل دخول الوقت وذلك كما لو قال الشارع في رمضان حجوا في هذه السنة ثم قال قبل يوم عرفة لا تحجوا.
فذهبت الأشاعرة وأكثر أصحاب الشافعي وأكثر الفقهاء إلى جوازه ومنع من ذلك جماهير المعتزلة وأبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي وبعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل والمختار جوازه وقد احتج الأصحاب بحجج ضعيفة.
الحجة الأولى قوله تعالى: " يمحو الله ما يشاء ويثبت " الرعد 39 دل على أنه يمحو كل ما يشاء محوه على كل وجه فيدخل فيه محو العبادة قبل دخول وقتها ولا دلالة فيه لأن الآية إنما تدل على محو كل ما يشاء محوه وليس فيها ما يدل على أنه يشاء محو العبادة قبل دخول وقتها مع كون ذلك ممتنعاً عند الخصم وإن بين إمكان مشيئة ذلك بغير الآية ففيه ترك الاستدلال بالآية كيف وإنه قد أمكن حمل المحو على ما هو حقيقة فيه وهو محو الكتابة مما يكتبه الملكان من المباحات وتبقيه المعاصي والطاعات.
ومنهم من احتج بقصة إبراهيم عليه السلام وأمر الله له بذبح ولده ونسخه عنه بذبح الفداء ودليل أمره بذلك انه قد روي انه تعالى قال لإبراهيم: اذبح ولدك وروي واحدك والقرآن دل عليه بقوله: " يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر " الصافات 102 وانه نسخ بذبح الفدا بقوله: " وفديناه بذبح عظيم " الصافات 107 وهذا أيضاً مما يضعف الاحتجاج به جداً غير أنه قد وجه الخصوم على هذه الحجة اعتراضات واهية لا بد من ذكرها والإشارة إلى الانفصال عنها تكثيراً للفائدة ثم نذكر بعد ذلك وجه الضعيف في الآية المذكورة.

أما الأسئلة فأولها أنهم قالوا إن ذلك إنما كان مناماً لا أصل له فلا يثبت به الأمر ولهذا قال: إني أرى في المنام سلمنا أن منامه أصل يعتمد عليه ولكن لا نسلم أنه كان قد أمر.
وقول ولده: افعل ما تؤمر ليس فيه دلالة على أنه كان قد أمر ولهذا علقه على المستقبل ومعناه: افعل ما يتحقق من الأمر في المستقبل سلمنا أنه كان مأموراً.
لكن لا نسلم أنه كان مأموراً بالذبح حقيقةً بل بالعزم على الذبح امتحاناً له بالصبر على العزم وذلك بلاء عظيم والفداء إنما كان عما يتوقعه من الأمر بالذبح لا عن نفس وقوع الأمر بالذبح أو بمقدمات الذبح من إخراجه إلى الصحراء وأخذ المدية والحبل وتله للجبين فاستشعر إبراهيم أنه مأمور بالذبح ولذلك قال تعالى: " قد صدقت الرؤيا " الصافات 105 سلمنا أنه كان مأموراً بالذبح حقيقةً إلا أنه قد وجد منه فإن قد روي أنه كان كلما قطع جزءاً عاد ملتحماً إلى آخر الذبح ولهذا قال الله تعالى: " قد صدقت الرؤيا " الصافات 105 وإذا كان ما أمر به من الذبح قد وقع فالفداء لا يكون نسخاً.
سلمنا أن الذبح حقيقةً لم يوجد لكن قد روي أن الله تعالى منعه من الذبح بأن جعل على عنق ولده صفيحةً من نحاس أو حديد مانعةً من الذبح لا أن ذلك كان بطريق النسخ.
والجواب عن الأول أن منام الأنبياء فيما يتعلق بالأوامر والنواهي وحي معمول به وأكثر وحي الأنبياء كان بطريق المنام وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن وحيه كان ستة أشهر بالمنام ولهذا قال عليه السلام: " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة " فكانت نسبة الستة أشهر من ثلاثة وعشرين سنةً من نبوته كذلك ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ما احتلم نبي قط يعني ما تشكل له الشيطان في المنام على الوجه الذي يتشكل لأهل الاحتلام كيف وإنه لو كان ذلك خيالاً لا وحياً لما جاز لأبراهيم العزم على الذبح المحرم بمنام لا أصل له ولما سماه بلاء مبيناً ولما احتاج إلى الفداء.
وعن الثاني أن قوله: افعل ما تؤمر " وإن لم يكن ظاهراً في الماضي لكنه قد يرد ويراد به الماضي.
ولهذا فإنه لو قال القائل: قد أمرني السلطان بكذا فإنه يصح أن يقال له: افعل ما تؤمر أي ما أمرت به وأنت مأمور ويجب الحمل عليه ضرورة حمل الولد على إخراجه إلى الصحراء وأخذ آلات الذبح وترويع الولد فإن ذلك كله مما يحرم من غير أمر ولا إذن في ذلك.
وعن الثالث أن حمل الأمر على العزم أو على مقدمات الذبح على خلاف قوله: " إني أرى في المنام أني أذبحك " الصافات 102 ثم لو كان مأموراً بالعزم على الذبح ومقدمات الذبح لا غير لما سماه بلاء مبيناً ولما احتاج إلى الفداء لكون المأمور به مما وقع ولما قال الذبيح: " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " الصافات 102 فإن ذلك مما لا ضرر عليه فيه.
وقوله: " قد صدقت الرؤيا " معناه أنك عملت في المقدمات عمل مصدق للرؤيا بقلبه لكن لقائل أن يقول: إذا كان قد أمر بإخراج الولد إلى الصحراء وأخذ المدية والحبل وتله للجبين مع إبهام عاقبة الأمر عليه وعلى ولده فإنه يظهر من ذلك لهما أن عاقبة الأمر إنما هي الذبح وذلك عين البلاء به يتحقق قول الذبيح: " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " الصافات 102 وأما تسمية الكبش فداء فإنما كان عن الأمر المتوقع لا عن الأمر الواقع غير أن هذا مما لا يستقيم على أصل أبي الحسين البصري لما فيه من توريط المكلف في الجهل حيث أوجب عليه ما يظهر منه الأمر بالذبح ولا أمر.
وعن الرابع أنه لو كان قد أتى بما أمر به من الذبح لما احتاج إلى الفداء ولا اشتهر ذلك وظهر لأنه من أكبر الآيات الباهرات وحيث لم ينقله سوى بعض الخصوم دل على ضعفه.
وعن الخامس أن ذلك من المعتزلة لا يصح لأنهم لا يرون التكليف بما لا يطاق وهذا تكليف بما لا يطاق كيف وإنه لو كان كما ذكروه لنقل أيضاً واشتهر لكونه من المعجزات العظيمة هذا ما في هذه الأسئلة والأجوبة.
وأما وجه الضعف في الاحتجاج بقصة إبراهيم فمن جهة أن لقائل أن يقول: وإن سلمنا أنه نسخ عنه الأمر بالذبح لكن لا نسلم أنه نسخ قبل التمكن من الامتثال بل إنما كان ذلك بعد التمكن من الامتثال والخلاف إنما هو فيما قبل التمكن لا بعده.
ولا سبيل إلى بيان أنه نسخ قبل التمكن من

الامتثال إلا بعد بيان أن مطلق الأمر يقتضي الوجوب على الفور أو أن وقت الأمر كان مضيقاً لا يجوز التأخير عنه للنبي عليه السلام وأن النبي عليه السلام لا يجوز عليه صغائر المعاصي والكل ممنوع على ما عرف.
الحجة الثانية أن الله تعالى نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم قبل فعلها وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً يوم الحديبية على رد من هاجر إليه ثم نسخ ذلك قبل الرد بقوله تعالى: " فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار " الممتحنة 10 وأيضاً فإن الإجماع من الخصوم واقع على أن الله تعالى لو أمرنا بالمواصلة في الصوم سنة جاز أن ينسخه عنا بعد شهر منها وذلك نسخ للصوم فيما بقي من السنة قبل حضور وقته وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحلت لي مكة ساعةً من نهار " ومع ذلك منع من القتال فيها وهو نسخ قبل وقت الفعل.
وهذه الحجج أيضاً ضعيفة.
أما الأولى فلأن لقائل أن يقول: لا نسلم أن نسخ تقديم الصدقة كان قبل التمكن من الوقت ويدل عليه أمران: الأول عتاب الله لهم بقوله: " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقة فإن لم تفعلوا وتاب الله عليكم " المجادلة 13 الآية ولو لم يكن وقت الفعل قد حضر لما حسن ذلك الثاني أن علياً رضي الله عنه ناجى بعد تقديم الصدقة وذلك يدل على حضور وقت الفعل.
وأما الثانية فلأنه لا يمتنع أن يكون ذلك بعد مضي وقت تمكن المهاجرة فيه إليه مع ردهن ولا دليل على وقوع نسخ ذلك قبل دخول وقت الفعل فلا يكون حجةً.
وأما الثالثة فلأن النسخ ورد على بعض ما تناوله اللفظ فكان بياناً أن مراده من اللفظ إنما هو بعض السنة ويكون النهي متناولاً لغير ما تناوله الأمر وذلك غير ممتنع وهذا بخلاف ما إذا نسخ قبل دخول شيء من الوقت لأن النهي يكون متناولاً لغير ما تناوله الأمر ولا يلزم من جواز ذلك ثم جوازه هاهنا.
وأما الرابعة فلأن إباحة القتال في تلك الساعة لا يقتضي وقوع القتال ولا بد وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون النهي عن القتال بعد مضي تلك الساعة ولا دليل يدل على وقوع النسخ قبل دخول الوقت كيف وأنه لا دلالة في قوله: أحلت لي مكة ساعةً على إباحة القتال بل لعله أراد بذلك إباحة قتل أناس معينين كابن خطل وغيره فالنهي عن القتال لا يكون نسخاً لإباحة القتال.
والأقرب في ذلك حجتان: الحجة الأولى التمسك بقصة الإسراء وهو ما صح بالرواية أن الله تعالى فرض ليلة الإسراء على نبيه وعلى أمته خمسين صلاةً فأشار عليه موسى بالرجوع وقال له: أمتك ضعفاء لا يطيقون ذلك فاستنقص الله ينقصك وأنه قبل ما أشار عليه وسأل الله في ذلك فنسخ الخمسين إلى أن بقي خمس صلوات وذلك نسخ لحكم الفعل قبل دخول وقته.
الحجة الثانية أنه يجوز أن يأمر الله تعالى زيداً بفعل في الغد ويمنعه منه بمانع عائق له عنه قبل الغد فيكون مأموراً بالفعل في الغد بشرط انتفاء المانع.
وإذا جاز الأمر بشرط انتفاء المانع مع تعقيبه بالمنع جاز الأمر بالفعل بشرط انتفاء الناسخ مع تعقيبه بالنسخ إذ الفعل لا يفرق بين الحالتين وهو إلزام ملزم.
فإن قيل أما قصة الإسراء فهي خبر واحد فلا يمكن إثبات مثل هذه المسألة به وإن كان حجةً إلا أنه يقتضي نسخ حكم الفعل قبل التمكن وقبل تمكن المكلف من العلم به لنسخه قبل الإنزال وذلك مما لا يحصل معه الثواب بالعزم على الادواء والاعتقاد لوجوبه ولم يقولوا به.
وأما الحجة الثانية فلا نسلم أنه يجوز أن يأمر زيداً في الغد ويمنعه منه قبل الغد لأنه لا يخلو إما أن يأمره مطلقاً ويريد منه الفعل أو بشرط زوال المنع فإن كان الأول فمنعه منه بعد ذلك يكون تكليفاً بما لا يطاق وهو محال.
وإن كان الثاني فالأمر بالشرط مما لا يجوز وقوعه من العالم بعواقب الأمور على ما سبق تقريره في الأوامر وهذا بخلاف ما إذا أمر جماعة بفعل في الغد فإنه يجوز أن يمنع بعضهم من الفعل لأن ذلك يدل على أنه لم يرد بخطابه من علم منعه وإذا لم يجز في المنع فكذلك في النسخ.
ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من وجوه: الوجه الأول: أنه إذا نهى المكلف عن الفعل الذي أمر به قبل دخول وقته فالأمر والنهي قد تواردا على شيء واحد من جهة واحدة في وقت واحد وهو محال وذلك لأن الفعل في نفسه في ذلك الوقت إما أن يكون حسناً أو قبيحاً.

وعند ذلك فلا يخلو الباري تعالى عند الأمر بالفعل إما أن يكون عالماً بما هو عليه الفعل من الحسن والقبح وكذلك في حالة النهي أو لا يكون عالماً به أصلاً أو هو عالم به في حالة النهي دون حالة الأمر أو في حالة الأمر دون حالة النهي: فإن كان الأول فإن كان الفعل حسناً فقد نهى عن الحسن مع علمه به وإن كان قبيحاً فقد أمر بالقبيح مع علمه به وهو قبيح وإن كان الثاني فهو محال لما يلزمه من الجهل في حق الله تعالى وكذلك إن كان الثالث أو الرابع.
كيف وإنه إذا ظهر له في حالة النهي ما لم يكن قد ظهر له في حالة الأمر فهو عين البدآء والبدآء على الله محال.
الوجه الثاني: أنه إذا أمر بالفعل في وقت معين ثم نهى عنه فقد بان أنه لم يرد إيقاعه ويكون قد أمر بما لم يرده ولو جاز ذلك لما بقي لنا وثوق بقول من أقوال الشارع لجواز أن يكون المراد بذلك القول ضد ما هو دال على إرادته وذلك محال.
الوجه الثالث أن ذلك مما يفضي إلى أن يكون الفعل الواحد مأموراً منهياً والأمر والنهي عندكم كلام الله وكلامه صفة واحدة فيكون الكلام الواحد أمراً نهياً بشيء واحد في وقت واحد وذلك محال.
والجواب قولهم في قصة الإسراء إنها خبر واحد قلنا والمسألة عندنا من مسائل الاجتهاد ولذلك لا يكفر المخالف فيها ولا يبدع.
قولهم إنه نسخ عن المكلفين قبل علمهم به قلنا: فقد نسخ عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه وإن سلمنا أنه نسخ عن المكلفين قبل علمهم به ولكن لم قالوا بامتناعه.
قولهم إنه لا يتعلق به فائدة الثواب باعتقاد الوجوب والعزم على الفعل فهو مبني على رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وهو ممنوع على ما عرف من أصلنا.
قولهم على الحجة الثانية إنا لا نسلم الأمر مع المنع قلنا: قد سبق تقريره في الأوامر.
قولهم: إن أراد منه الفعل فهو تكليف بما لا يطاق قلنا: وإن كان كذلك فهو جائز عندنا على ما تقرر قبل.
قولهم: وإن لم يكن مريدا له فهو أمر بشرط عدم المنع من العالم بعواقب الأمور وذلك محال لما سبق قلنا: وقد سبق أيضا في الأوامر جواز ذلك وإبطال كل ما تخيلوه مانعاً.
قولهم في المعارضة الأولى إنه يلزم من ذلك أن يكون الرب تعالى آمراً وناهياً عن فعل واحد في وقت واحد وهو محال لا نسلم إحالته.
قولهم: إما أن يكون حسناً أو قبيحاً فهو مبني على الحسن والقبح العقلي وهو باطل لما سبق فلئن قالوا وإن لم يكن حسناً ولا قبيحاً فلا يخلو إما أن يكون مشتملاً على مصلحة أو مفسدة.
فإن كان الأول فقد نهى عما فيه مصلحة وإن كان الثاني فقد أمر بما فيه مفسدة قلنا: وهذا أيضاً مبني على رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وهو باطل لما عرف من أصلنا بل جاز أن يكون الأمر والنهي لا لمصلحة ولا لمفسدة.
وإن سلم عدم خلوه عن المصلحة والمفسدة ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك الأمر بالمفسدة والنهي عن المصلحة بل جاز أن يقال إنه مشتمل على المصلحة حالة الأمر ومشتمل على المفسدة حالة النهي ولا مفسدة حالة الأمر ولا مصلحة حالة النهي على ما تقرر قبل ولا يلزم من ذلك الجهل في حق الله تعالى ولا البدآء لعلمه حالة الأمر بما الفعل مشتمل عليه من المصلحة وانه سينسخه في ثاني الحال لما يلازمه من المفسدة المقتضية للنسخ حالة النسخ كما علم.
قولهم في المعارضة الثانية: إذا أمر بالفعل ثم نهى عنه فتبين أنه أمر بما لم يرد مسلم وعندنا ليس من شرط الأمر إرادة المأمور به كما سبق تعريفه.
قولهم يلزم من ذلك عدم الوثوق بجميع أقوال الشارع إن أرادوا بذلك أنه إذا خاطب بما يحتمل التأويل أنا لا نقطع بإرادته لما هو الظاهر من كلامه فمسلم ولكن لا نسلم امتناع ذلك وهذا هو أول المسألة وإن أرادوا به أنه لا يمكن الاعتماد على ظاهره مع احتمال إرادة غيره من الاحتمالات البعيدة فغير مسلم وإن أرادوا غير ذلك فلا نسلم تصوره.
قولهم في المعارضة الثالثة إنه يلزم منه أن يكون الفعل الواحد في وقت واحد مأموراً منهياً قلنا: مأمور منهي معاً أو لا معاً؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
قولهم إن كلام الله عندكم صفة واحدة لا نسلم ذلك إن سلكنا مذهب عبد الله بن سعد من أصحابنا وإن سلكنا مذهب الشيخ أبي الحسن فلم قالوا بالإحالة.

قولهم يلزم منه أن تكون الصفة الواحدة أمراً نهياً قلنا: إنما تسمى الصفة الواحدة بهذه الأسماء بسبب اختلاف تعلقاتها ومتعلقاتها فإن تعلقت بالفعل سميت أمراً وإن تعلقت بالترك سميت نهياً وذلك إنما يمتنع أن لو اتحد زمان التعلق بالفعل والترك.
وأما إذا كان زمان التعلق مختلفاً فلا والمأمور والمنهي وإن كان زمانه متحداً لكن زمان تعلق الأمر به غير زمان تعلق النهي به ومع التغاير فلا امتناع.
المسألة الثالثة اتفق الجمهور على جواز نسخ حكم الخطاب إذا كان بلفظ التأبيد كقوله: صوموا أبداً خلافاً لشذوذ من الأصوليين ودليل جوازه أن الخطاب إذا كان بلفظ التأبيد غايته أن يكون دالاً على ثبوت الحكم في جميع الأزمان بعمومه ولا يمتنع مع ذلك أن يكون المخاطب مريداً لثبوت الحكم في بعض الأزمان دون البعض كما في الألفاظ العامة لجميع الأشخاص.
وإذا لم يكن ذلك ممتنعاً فلا يمتنع ورود الناسخ المعرف لإرادة المخاطب لذلك ولو فرضنا ذلك لما لزم عنه المحال وكان جائزاً.
فإن قيل: لفظ التأبيد جار مجرى التنصيص على كل وقت من أوقات الزمان بخصوصه والتنصيص على وجوب الفعل في الوقت المعين بخصوص لا يجوز نسخه فكذلك هذا.
وأيضاً فإنا لو أمرنا بالعبادة بلفظ يقتضي الاستمرار جاز النسخ فلو جاز ذلك مع التقييد بلفظ التأبيد لم يكن للتقييد معنىً.
وأيضاً فإنه لو جاز نسخ ما ورد بلفظ التأبيد لما بقي لنا طريق إلى العلم بدوام العبادة في زمان إرادة التكليف.
وأيضاً فإن المخاطب إذا أخبر بلفظ التأبيد لم يجز نسخه فكذلك في غير الخبر.
والجواب عن الأول: لا نسلم أن لفظ التأبيد ينزل منزلة التنصيص على كل وقت بعينه بل هو في العرف قد يطلق للمبالغة كما في قول القائل: لازم فلاناً أبداً وفلان أبدا يكرم الضيف وأدام الله ملك الأمير أبداً.
وإن سلمنا أنه ينزل منزلة التنصيص على الأوقات المعينة فعندنا لا يمتنع نسخ حكم الخطاب إذا كان مقيداً بوقت معين كما إذا قال: صل وقت زوال الشمس ركعتين فإنه يجوز نسخه بعد دخول الوقت وقبله على ما عرف من أصلنا.
وعن الثاني أن فائدة التأبيد تأكيد الاستمرار فإذا ورد النسخ كانت فائدته تأكيد المبالغة في الاستمرار لا نفس الاستمرار.
ثم يلزمهم على ما ذكروه ما إذا أتى بلفظ عام كما لو قال كل من دخل داري فأكرمه فإنه يجوز تخصيصه مع تأكيده بكل وجميع فما هو جوابهم في التخصيص فهو جواب لنا في النسخ.
عن الثالث أن ما ذكروه إنما يصح إن لو كان لفظ التأبيد يفيد العلم ولا طريق يفيده سواه والأمران ممنوعان: أما الأول فلما سبق وأما الثاني فلجواز أن يخلق الله تعالى العلم الضرروي بذلك أو بما يقترن باللفظ من القرائن المفيدة لليقين كما في القرائن المقترنة بخبر التواتر ثم ما ذكروه لازم عليهم في تخصيص العام المؤكد فإنه جائز مع توجه ما ذكروه في النسخ بعينه عليه والجواب أن ذلك يكون متحداً.
وعن الرابع بمنع ذلك في الخبر أيضاً.
المسألة الرابعة مذهب الجميع جواز نسخ حكم الخطاب لا إلى بدل خلافاً لبعض الشذوذ ودليله أمران الأول ما يدل على الجواز العقلي وهو أنا لو فرضنا وقوع ذلك لم يلزم عنه لذاته محال في العقل ولا معنى للجائز عقلاً سوى هذا ولأنه لا يخلو إما أن لا يقال برعاية الحكمة في أفعال الله تعالى أو يقال بذلك: فإن كان الأول فرفع حكم الخطاب بعد ثبوته لا يكون ممتنعاً لأن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء وإن كان الثاني فلا يمتنع في العقل أن تكون المصلحة في نسخ الحكم دون بدله.
الثاني ما يدل على الجواز الشرعي وهو أن ذلك مما وقع في الشرع كنسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ونسخ الاعتداد بحول كامل في حق المتوفى عنها زوجها ونسخ وجوب ثبات الرجل لعشرة ونسخ وجوب الإمساك بعد الفطر في الليل ونسخ تحريم ادخار لحوم الأضاحي وكل ذلك من غير بدل إلى غير ذلك من الأحكام التي نسخت لا إلى بدل والوقوع في الشرع أدل الدلائل على الجواز الشرعي.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وهو قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " أخبر أنه لا ينسخ إلا ببدل والخلف في خبر الصادق محال.

قلنا: ما ذكروه إنما هو دليل لزوم البدل في نسخ لفظ الآية وليس فيه دلالة على نسخ حكمها وذلك هو موضع الخلاف سلمنا دلالة ما ذكروه على نسخ الحكم لكن لا نسلم العموم في كل حكم وإن سلمنا ولكنه مخصص بما ذكرناه من الصور سلمنا أنه غير مخصص لكن ما المانع أن يكون رفع الحكم بدل إثباته وهو خير منه في الوقت الذي نسخ فيه لكون المصلحة في الرفع دون الإثبات وإن سلم امتناع وقوع ذلك شرعاً لكنه لا يدل على عدم الجواز العقلي.
المسألة الخامسة وكما يجوز نسخ حكم الخطاب من غير بدل كما بيناه يجوز نسخه إلى بدل أخف منه كنسخ تحريم الأكل بعد النوم في ليل رمضان إلى حله وإلى بدل مماثل كنسخ وجوب التوجه إلى القدس بالتوجه إلى الكعبة وهذان مما لا خلاف فيهما عند القائلين بالنسخ وإنما الخلاف في نسخ الحكم إلى بدل أثقل منه.
ومذهب أكثر أصحابنا وجمهور المتكلمين والفقهاء جوازه خلافاً لبعض أصحاب الشافعي وبعض أهل الظاهر ومنهم من أجازه عقلاً ومنع منه سمعاً.
ودليل جوازه عقلاً ما سبق في المسألة المتقدمة ودليل الجواز الشرعي وقوع ذلك في الشرع فمن ذلك أن الله تعالى أوجب صيام رمضان في ابتداء الإسلام مخيراً بينه وبين الفداء بالمال ونسخه بتحتم الصوم وهو أثقل من الأول.
ومن ذلك أن الله تعالى أوجب في ابتداء الإسلام الحبس في البيوت والتعنيف حداً على الزنى ونسخه بالضرب بالسياط والتغريب عن الوطن في حق البكر وبالرجم بالحجارة في حق الثيب ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكل ذلك أثقل من الأول.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة العقل والسمع.
أما من جهة العقل فهو أن النسخ إما أن يكون لا لمصلحة أو لمصلحة: فإن كان الأول فهو عبث وقبيح فلا يكون جائزاً على الشارع وإن كان لمصلحة فإما أن تكون أدنى من مصلحة المنسوخ أو مساويةً لها أو راجحةً عليها: فإن كان الأول فهو أيضاً ممتنع لما فيه من إهمال أرجح المصلحتين واعتبار أدناهما وإن كان الثاني فليس الناسخ أولى من المنسوخ فلم يبق غير الثالث.
وإذا كان النسخ إنما يكون للأصلح والأنفع والأقرب إلى حصول الطاعة وذلك إنما يكون بنقل المكلفين من الأشد إلى الأخف ومن الأصعب إلى الأسهل لكونه أقرب إلى حصول الطاعة وأسهل في الانقياد وإذا كان بالعكس كان إضراراً بالمكلفين لأنهم إن فعلوا التزموا المشقة الزائدة وإن تركوا استضروا بالعقوبة والمؤاخذة وذلك غير لائق بحكمة الشارع.
وأما من جهة السمع فنصوص: أولها قوله تعالى: " يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً " ولا تخفيف في نسخ الأخف إلى الأثقل.
وثانيها قوله تعالى: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " البقرة 185 وفي نسخ الأخف إلى الأثقل إرادة العسر وفيه تكذيب خبر الصادق.
وثالثها قوله تعالى: " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " الأعراف 157 والأصر هو الثقل أخبر أنه يضع عنهم الثقل الذي حمله للأمم قبلهم فلو نسخ ذلك بما هو أثقل منه كان تكذيباً لخبره تعالى وهو محال.
ورابعها قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " البقرة 106 وليس المراد منه أنه يأتي بخير من الآية في نفسها إذ القرآن كله خير لا تفاضل فيه وإنما المراد به ما هو خير بالنسبة إلينا وذلك هو الأخف والأسهل في الأحكام.
والجواب عن المعقول أن ما ذكروه لازم عليهم في ابتداء التكليف ونقل الخلق من الإباحة والإطلاق إلى مشقة التكليف وكذلك في نقلهم من الصحة إلى السقم ومن الشبيبة إلى الهرم ومن الجدة إلى العدم وإعدام القوي والحواس بعد وجودها فإن ما نقلهم إليه أشق عليهم مما نقلهم عنه وكل ما ذكروه فهو بعينه لازم هاهنا وما هو الجواب في صورة الإلزام فهو جوابنا في محل النزاع.
وعن الآية الأولى أنه لا عموم فيها حتى يلزم من ذلك إرادة التخفيف في كل شيء وبتقدير العموم فليس فيه ما يدل على إرادة التخفيف على الفور بل جاز أن يكون المراد من ذلك التخفيف في المآل برفع أثقال الآخرة والعقاب على المعاصي بما يحصل لنا من الثواب الجزيل على الأعمال الشاقة علينا في الدنيا وعلى طباعنا تسميةً للشيء بعاقبته.

ومنه قوله تعالى: " فما أصبرهم على النار " البقرة 175 وقوله تعالى: " إنما يأكلون في بطونهم نارا " النساء 10 ومنه يقال لدوا للموت وابنوا للخراب وبتقدير إرادة الفور فلا يمتنع التخصيص كما خص بأثقال تكاليفه المبتدأة وابتلائه في الأبدان والأموال كما سبق تقريره وما ذكرناه من الأدلة الدالة على وقوع ذلك صالح لتخصيص هذه الآية.
وعن الآية الثانية: أنه يجب حملها على ما فيه اليسر والعسر بالنظر إلى المآل حتى لا يلزم منه كثرة التخصيص بابتداء التكاليف وما وقع به الابتلاء في الدنيا في الأبدان والأموال ولا يخفى أن التكليف بما هو أشق في الدنيا إذا كان ثوابه المآلي أكثر وأدفع للعقاب المجتلب بالمعاصي أنه يسر لا عسر.
وإن سلمنا أن المراد به إرادة اليسر وعدم إرادة العسر العاجل لكنه يجب تخصيصه بما ذكرناه جمعاً بين الأدلة.
وعن الآية الثالثة: أنه لا يلزم من وضع الأصر والثقل الذي كان على من قبلنا عنا امتناع ورود نسخ الأخف بالأثقل في شرعنا.
وعن الآية الرابعة: أنه لو كان ذلك عائداً إلى نسخ التلاوة فلا حجة فيه إذ النزاع إنما هو في نسخ الحكم الأخف بالأثقل وإن كان عائداً إلى نسخ حكم الآية فالخير في الأمور الدينية يرجع إلى ما هو أكثر في الثواب.
ومنه يقال الفرض خير من النفل بمعنى أنه أكثر في الثواب وإن كان أشق من النفل على النفس وفي الأمور الدنيوية يرجع إلى ما هو خير في العاجل وأصلح ولا يختص ذلك بالأسهل.
ولهذا يحسن أن يقول الطبيب للمريض الجوع والعطش أصلح لك وخير من الشبع والري وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون التكليف بالأشق أكثر ثواباً وأصلح في المآل على ما قال تعالى: " ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله " التوبة 120 إلى قوله: " إلا كتب لهم به عمل صالح " التوبة 120 وقال تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " الزلزلة 7 - 8 وقال تعالى: " جزاء بما كانوا يعملون " الواقعة 24 وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله " عنها ثوابك على قدر نصبك " فكان التكليف بالأشق خيراً من الأخف.
المسألة السادسة اتفق العلماء على جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس ونسخهما معاً خلافاً لطائفة شاذة من المعتزلة ويدل على ذلك العقل والنقل: أما العقل فهو أن جواز تلاوة الآية حكم ولهذا يثاب عليها بالإجماع وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات " وما يترتب عليها من الوجوب والتحريم وغير ذلك حكم وإذا كانا حكمين جاز أن يكون إثباتهما مصلحة في وقت ومفسدة في وقت وأن لايكون إثبات أحدهما مصلحةً مطلقاً وإثبات أحدهما مصلحة في وقت دون وقت وإذا كان كذلك جاز رفعهما معاً ورفع أحدهما دون الآخر كما سبق تقريره.
وأما النقل أما نسخ التلاوة والحكم فيدل عليه ما روت عائشة أنها قالت فيما أنزل عشر رضعات محرمات فنسخت بخمس وليس في المصحف عشر رضعات محرمات ولا حكمها فهما منسوخان.
وأما نسخ الحكم دون التلاوة فكنسخ حكم آية الاعتداد بالحول ونسخ حكم آية الوصية للوالدين.
وأما نسخ التلاوة دون الحكم فما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله ورسوله فإنه منسوخ التلاوة دون الحكم.
وهل يجوز بعد نسخ تلاوة الآية أن يمسها المحدث ويتلوها الجنب فذلك مما تردد الأصوليون فيه والأشبه المنع من ذلك.
فإن قيل: الحكم مع التلاوة ينزل منزلة العلم مع العالمية والحركة مع المتحركية والمنطوق مع المفهوم وكما لا يمكن الانفكاك بين العلم والعالمية والمنطوق مع المفهوم فكذلك التلاوة مع حكمها.
وأما ما يخص نسخ الحكم دون التلاوة فهو أن الحكم إذا نسخ وبقيت التلاوة كانت موهمةً بقاء الحكم وذلك مما يعرض المكلف إلى اعتقاد الجهل والحكيم يقبح منه ذلك وأيضاً إذا بقيت التلاوة دون حكمها تبقى عرية عن الفائدة ويمتنع خلو القرآن عن الفائدة.
وأما ما يخص نسخ التلاوة دون الحكم فوجهان: الأول: أن الآية ذريعة إلى معرفة الحكم فإذا نسخت الآية دون الحكم أشعر ذلك بارتفاع الحكم وفيه تعريض المكلف لاعتقاد الجهل وهو قبيح من الشارع.

الثاني: أن نسخ التلاوة دون حكمها يكون عرياً عن الفائدة حيث إنه لم يلزم من ذلك إثبات حكم ولا رفعه وما عرى من التصرفات عن الفائدة كان عبثاً والعبث على الله محال.
والجواب عن الأول: لا نسلم أولا أن العالمية مغايرة لقيام العلم بالذات ولا المتحركية مغايرة لقيام الحركة بالذات ولا الملازمة بين المنطوق والمفهوم ليصح التمثيل.
وإن سلمنا جميع ذلك ولكن لا نسلم أن التلاوة مع الحكم نازلة منزلة ما ذكروه بل هي نازلة منزلة الأمارة والعلامة على الحكم في ابتداء ثبوته دون حالة دوامه.
وعلى هذا فلا يلزم من انتفاء الأمارة في طرف الدوام انتفاء ما دلت عليه وكذلك لا يلزم من انتفاء الحكم لدليل انتفاء الأمارة الدالة عليه.
وعن قولهم إن التلاوة إذا ثبتت بعد نسخ الحكم عرضت المكلف لاعتقاد الجهل متى إذا نصب الله تعالى دليلاً على نسخ الحكم أو إذا لم ينصب؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
وذلك لأن الناظر إذا كان مجتهداً عرف دليل النسخ وإن كان مقلداً فغرضه تقليد المجتهد العارف بدليل النسخ ثم وإن كان كما ذكروه فلا نسلم أن ذلك ممتنع في حق الله تعالى إلا على فاسد أصل من يقول بالتحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه.
وعن قولهم إنه ليس في بقاء التلاوة فائدة بعد نسخ الحكم أن ذلك مبني على رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وهو غير مسلم وإن سلما ذلك فلا يمتنع أن يكون الباري تعالى قد علم في ذلك حكمةً استأثر بها ونحن لا نشعر بذلك.
وعن قولهم إن الآية إذا نسخت عرضت المكلف لاعتقاد الجهل إنما يلزم ذلك ان لو كان يلزم من انتفاء الدلالة على الحكم في الدوام انتفاء الحكم وهو غير مسلم ولا يلزم من الدليل الدال على نسخ التلاوة أن يكون دالاً على نسخ الحكم.
وعن قولهم إنه لا فائدة في نسخ التلاوة مع بقاء الحكم ما سبق في قولهم إن بقاء التلاوة غير مفيد مع نسخ الحكم.
المسألة السابعة فيما يتعلق بنسخ الأخبار.
والنسخ إما أن يكون لنسخ الخبر أو لمدلوله وثمرته: فإن كان الأول فإما أن تنسخ تلاوته أو تكليفنا به بأن نكون قد كلفنا أن نخبر بشيء فينسخ عنا التكليف بذلك الأخبار وكل واحد من الأمرين جائز من غير خلاف بين القائلين بجواز النسخ وسواء كان ما نسخت تلاوته ماضياً أو مستقبلاً وسواء كان ما نسخ تكليف الإخبار به مما لا يتغير مدلوله كالإخبار بوجود الله تعالى وحدوث العالم أو يتغير كالإخبار بكفر زيد وإيمانه لأن كل ذلك حكم من الأحكام الشرعية فجاز أن يكون مصلحةً في وقت ومفسدةً في وقت آخر لكن هل يجوز أن ينسخ تكلفنا بالإخبار عما لا يتغير بتكليفنا بالإخبار بنقيضه ؟.
قالت المعتزلة: لا يجوز لأنه كذب والتكليف بالكذب قبيح وهو غير متصور من الشارع وهو مبني على أصولهم في التحسين والتقبيح العقلي ووجوب رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه وعلى هذا فلا مانع من نسخ التكليف بالخبر بنقيض الخبر.
وأما إن كان النسخ لمدلول الخبر وفائدته فذلك المدلول إما أن يكون مما لا يتغير كمدلول الخبر بوجود الإله سبحانه وحدوث العالم أو مما يتغير: فإن كان الأول فنسخه محال بالإجماع وأما إن كان مدلوله مما يتغير وسواء كان ماضياً كالإخبار بما وجد من إيمان زيد وكفره أو مستقبلاً وسواء كان وعداً أو وعيداً أو حكماً شرعياً.
فقد اختلف في رفعه ونسخه فذهب القاضي أبو بكر والجبائي وأبو هاشم وجماعة من المتكلمين والفقهاء إلى امتناع رفعه.
وذهب أبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري إلى جوازه ومنهم من فصل بين الخبر الماضي والمستقبل فمنعه في الماضي وجوزه في المستقبل.
والمختار جوازه ماضياً كان أو مستقبلاً وذلك لأنه إذا ما دل عليه كان الإخبار متكرراً والخبر عام فيه فأمكن أن يكون الناسخ مبيناً لإخراج بعض ما تناوله اللفظ وإن المراد بعض ذلك المذكور كما في الأوامر والنواهي.
فإن قيل: الفرق بين الخبر وبين الأمر والنهي أن نسخ الخبر يؤذن بكونه كذباً ولهذا فإنه لو قال: أهلك الله زيداً ثم قال: ما أهلك الله زيداً كان كذباً بخلاف الأمر والنهي وإن سلمنا إمكان نسخ مدلول الخبر لكن إذا كان مدلوله حكماً شرعياً تكليفاً.

أما إذا لم يكن كذلك فلا وذلك لأنه إذا كان حكمه تكليفاً كان الخبر في معنى الأمر والنهي والأمر يجوز نسخ حكمه كما لو قال: أمرتكم ونهيتكم وأوجبت عليكم بخلاف ما إذا لم يكن كذلك.
والجواب عن الأول أن ذلك إنما يفضي إلى الكذب إن لو لم يمكن حمل الناسخ على غير ما أريد من الخبر وليس الأمر كذلك على ما حققناه وأما إذا قال: أهلك الله زيداً فإهلاكه إنما لم يدخله النسخ لأنه لا يتكرر حتى يمكن رفع بعضه وتبقية البعض بل إنما يقع دفعة واحدة فلو أخبر عن عدمه مع اتحاده كان كذباً لاتحاد المثبت والمنفي.
وعن الثاني أنهم إن أرادوا بقولهم إن الخبر بالحكم الشرعي في معنى الأمر أن صيغته كصغيته فهو خلاف الحسن وإن أرادوا به أنه يفيد إيجاب الفعل كما في الأمر فمسلم ولكن لا يلزم أن يكون هو هو فإنه لا يلزم من اشتراك شيئين مختلفين في لازم واحد عام لهما اتحادهما وغايته تسليم نسخ مدلول بعض الأخبار وليس فيه ما يدل على امتناع نسخ غيره مما قد بينا.
المسألة الثامنة اتفق القائلون بالنسخ على جواز نسخ القرآن بالقرآن لتساويه في العلم به ووجوب العمل وذلك كما بيناه من نسخ الاعتداد بالحول بأربعة أشهر وعشر ونسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول بقوله: " أأشفقتم " المجادلة 13 ونسخ وجوب ثبوت الواحد للعشرة بقوله تعالى: " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً " الأنفال 66 واتفقوا أيضاً على جواز نسخ السنة المتواترة بالمتواترة منها ونسخ الآحاد منها بالمتواتر ونسخ الآحاد بالآحاد كما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم زيارة القبور بنهيه عنها ثم نسخ ذلك بقوله: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها " وكما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " في شارب الخمر فإن شربها الرابعة فاقتلوه " فنسخ ذلك بما روي عنه أنه حمل إليه من شربها الرابعة فلم يقتله.
وأما نسخ المتواتر منها بالآحاد فقد اتفقوا على جوازه عقلاً واختلفوا في وقوعه سمعاً فأثبته داود وأهل الظاهر ونفاه الباقون.
وقد احتج النافون لذلك بالإجماع والمعنى: أما الإجماع فما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وأيضاً ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول أعرابي بوال على عقبيه ووجه الاحتجاج به أنهما لم يعملا بخبر الواحد ولم يحكما به على القرآن وما ثبت من السنة تواتراً وكان ذلك مشتهراً فيما بين الصحابة ولم ينكر عليهما منكر فكان ذلك إجماعاً.
وأما المعنى فهو أن الآحاد ضعيف والمتواتر أقوى منه فلا يقع الأضعف في مقابلة الأقوى.
ولقائل أن يقول: عدم قبول خبر الواحد فيما ذكر لا يمنع من قبول خبر الواحد مطلقاً وذلك لأنه لا مانع أن يكون امتناع قبوله لعدم حصول الظن بصدقه ولهذا قال عمر: لا ندري أصدقت أم كذبت وقال علي في الأعرابي ما قال.
وإلا فكيف يمكن القول بعدم قبول خبر الواحد معما بينا من كون خبر الواحد حجة ومعما بيناه من جواز تخصيص التواتر بالآحاد وما ذكروه من المعنى فهو باطل بالتخصيص على ما سبق كيف وإنه وإن كان أضعف من المتواتر من جهة كونه آحاداً إلا أنه أقوى من المتواتر من جهة كونه خاصاً والمتواتر عاماً.
والظن الحاصل من الخاص إذا كان آحاداً أقوى من الظن الحاصل من العام المتواتر لأن تطرق الضعف إلى الواحد من جهة كذبه واحتمال غلطه وتطرق الضعف إلى العام من جهة تخصيصه واحتمال إرادة بعض ما دل عليه دون البعض واحتمال تطرق التخصيص إلى العام أكثر من تطرق الخطإ والكذب إلى العدل فكان الظن المستفاد من خبر الواحد أقوى.
وأما المثبتون فقد احتجوا بالنقل والمعنى.
أما النقل فمن وجهين: الأول أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتاً بالسنة المتواترة لأنه لم يوجد في الكتاب ما يدل عليه وإن أهل قبا كانوا يصلون إلى بيت المقدس بناء على السنة المتواترة فلما نسخ جاءهم منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: " إن القبلة قد حولت " فاستداروا بخبره والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم فدل على الجواز.
الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفذ الآحاد إلى أطراف البلاد لتبليغ الناسخ والمنسوخ ولولا قبول خبر الواحد في ذلك لما كان قبوله واجباً.

وأما المعنى فمن وجهين: الأول أن النسخ أحد البيانين فكان جائزاً بخبر الواحد كالتخصيص.
الثاني أن نسخ القرآن بخبر الواحد جائز على ما سيأتي بيانه فنسخ السنة المتواترة به أولى.
ولقائل أن يقول: أما قصة أهل قبا فمن أخبار الآحاد ولا نسلم ثبوت مثل هذه القاعدة به كيف وإنه يحتمل أن يكون قد اقترن بقوله قرائن أوجبت العلم بصدقه من قربهم من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم لضجة الخلق في ذلك نازلاً منزلة الخبر المتواتر.
وأما تنفيذ الآحاد للتبليغ فإنما يجوز فيما يجوز فيه خبر الواحد وما لا فلا.
وما ذكروه من المعنى الأول فحاصله يرجع إلى قياس النسخ على التخصيص وهو إنما يفيد في الأمور الظنية فلم قالوا إنما نحن فيه من هذا القبيل كيف والفرق حاصل وذلك أن النسخ رفع لما ثبت بخلاف التخصيص على ما سبق معرفته فلم قالوا بأنه إذا قبل خبر الواحد فيما لا يقتضي الرفع لما ثبت يقبل في رفع ما ثبت.
وأما المعنى الثاني فلا نسلم صحة نسخ القرآن بخبر الواحد على ما يأتي.
المسألة التاسعة المنقول عن الشافعي رضي الله عنه في أحد قوليه إنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن.
ومذهب الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء جوازه عقلاً ووقوعه شرعاً.
احتج المثبتون على الجواز العقلي والوقوع الشرعي.
أما الجواز العقلي فهو أن الكتاب والسنة وحي من الله تعالى على ما قال تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 غير أن الكتاب متلو والسنة غير متلوة ونسخ حكم أحد الوحيين بالآخر غير ممتنع عقلاً.
ولهذا فإنا لو فرضنا خطاب الشارع بجعل القرآن ناسخاً للسنة لما لزم عنه لذاته محال عقلاً.
وأما الوقوع الشرعي فيدل عليه أمور: الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاءه مسلماً رده حتى إنه رد أبا جندل وجماعةً من الرجال فجاءت امرأة فأنزل الله تعالى: " فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار " الممتحنة وهذا قرآن نسخ ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من السنة.
الثاني أن التوجه إلى بيت المقدس لم يعرف إلا من السنة وقد نسخ بقوله تعالى: " فول وجهك شطر المسجد الحرام " البقرة 144 ولا يمكن أن يقال بأن التوجه إلى بيت المقدس كان معلوماً بالقرآن وهو قوله: " فثم وجه الله " البقرة 115 لأن قوله فثم وجه الله تخيير بين القدس وغيره من الجهات والمنسوخ إنما هو وجوب التوجه إليه عيناً وذلك غير معلوم من القرآن.
الثالث أن المباشرة في الليل كانت محرمة على الصائم بالسنة وقد نسخ ذلك بقوله تعالى: " فالآن باشروهن " البقرة 187.
الرابع أن صوم عاشوراء كان واجباً بالسنة ونسخ بصوم رمضان في قوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " البقرة 185.
الخامس أن تأخير الصلاة إلى انجلاء القتال كان جائزاً بالسنة ولهذا قال يوم الخندق وقد أخر الصلاة حشا الله قبورهم ناراً لحبسهم له عن الصلاة وقد نسخ ذلك الجواز بصلاة الخوف الواردة في القرآن.
فإن قيل ما ذكرتموه من صور نسخ السنة بالقرآن ما المانع أن يكون الحكم في جميع ما ذكرتموه ثابتا بقرآن نسخ رسمه وبقي حكمه؟ وإن سلمنا أنه ثابت بالسنة ولكن ما المانع أن يكون النسخ وقع بالسنة ودلالة ما ذكرتموه من الآيات على أحكامها ليس فيه ما يدل على عدم ارتفاع الأحكام السابقة بالسنة ويدل على أن الأمر على ما ذكرناه أن الشافعي كان من أعلم الناس بالناسخ والمنسوخ وأحكام التنزيل وقد أنكر نسخ السنة بالقرآن ولولا أن الأمر على ما ذكرناه لما كان إنكاره صحيحاً.
ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على نسخ السنة بالقرآن غير أنه معارض بالنص والمعقول: أما النص فقوله تعالى: " لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل 44 جعل السنة بياناً فلو نسخت لخرجت عن كونها بياناً وذلك غير جائز.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أنه لو نسخت السنة بالقرآن لزم تنفير الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن طاعته لإيهامهم أن الله تعالى لم يرض ما سنه الرسول وذلك مناقض لمقصود البعثة ولقوله تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله " النساء 64.

الثاني أن السنة ليست من جنس القرآن لأن القرآن معجزة ومتلو ومحرم تلاوته على الجنب ولا كذلك السنة وإذا لم يكن القرآن من جنس السنة امتنع نسخه لها كما يمتنع نسخ القرآن بحكم دليل العقل وبالعكس.
والجواب عن السؤال الأول أن إسناد إثبات ما ذكرناه من الأحكام المنسوخة إلى ما وجد من السنة من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وتقريراته صالح لإثباتها وقد اقترن بها الإثبات فكان الإثبات مستنداً إليها وكذلك الكلام في إسناد نسخها إلى ما وجد من الآيات الصالحة للنسخ من ترتب النسخ عليها فبتقدير وجود خطاب آخر يكون إسناد الأحكام المذكورة إليه بتقدير نسخه وكذلك تقدير وجود سنة ناسخة لها مع عدم الاطلاع عليها وإمكان إسناد نسخها إلى ما وجد من الآيات الصالحة لنسخها من غير ضرورة يكون ممتنعاً.
ولو فتح هذا الباب لما استقر لأحد قدم في إثبات ناسخ ولا منسوخ لأن ما من ناسخ يقدر إلا ويحتمل أن يكون الناسخ غيره وما من منسوخ حكمه يقدر إلا ويحتمل أن يكون إسناد ذلك الحكم إلى غيره وهو خلاف إجماع الأمة في الاكتفاء بالحكم على كون ما وجد من الخطاب الصالح لنسخ الحكم هو الناسخ وأن ما وجد من الدليل الصالح لإثبات الحكم هو المثبت وإن احتمل إضافة الحكم والنسخ إلى غير ما ظهر مع عدم الظفر به بعد البحث التام عنه.
وعن المعارضة بالنص من وجهين: الأول أن المراد بقوله: " لتبين للناس " النحل 44 إنما هو التبليغ وذلك يعم تبليغ الناس من القرآن وغيره وليس فيه ما يدل على امتناع كون القرآن ناسخاً للسنة.
الثاني وإن سلمنا أن المراد بقوله: لتبين للناس إنما هو بيان المجمل والعام والمطلق والمنسوخ لكن لا نسلم دلالة ذلك على انحصار ما ينطق به في البيان بل جاز مع كونه مبيناً أن ينطق بغير البيان ويكون محتاجاً إلى بيان.
وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول من ثلاثة أوجه: الأول: أن ذلك إنما يصح أن لو كانت السنة من عند الرسول من تلقاء نفسه وليس كذلك بل إنما هي من الوحي على ما قال تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 الثاني: أنه لو امتنع نسخ السنة بالقرآن لدلالته على أن ما شرعه أولا غير مرضي لامتنع نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة وهو خلاف إجماع القائلين بالنسخ.
الثالث: أن ما ذكروه إنما يدل على أن المشروع أولاً غير مرضي أن لو كان النسخ رفع ما ثبت أولاً وليس كذلك بل هو عبارة عن دلالة الخطاب على أن الشارع لم يرد بخطابه الأول ثبوت الحكم في وقت النسخ دون ما قبله.
وعن المعارضة الثانية أنه لا يلزم من اختلاف جنس السنة والقرآن بعد اشتراكهما في الوحي بما اختص بكل واحد منهما امتناع نسخ أحدهما بالآخر.
وعلى هذا فنقول القرآن يكون رافعاً لحكم الدليل العقلي وإن لم يسم ناسخاً.
المسألة العاشرة قطع الشافعي وأكثر أصحابه وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وأجاز ذلك جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة ومن الفقهاء مالك وأصحاب أبي حنيفة وابن سريج واختلف هؤلاء في الوقوع.
والمختار جوازه عقلاً لما ذكرناه في المسألة المتقدمة وأما الوقوع فقد احتج القائلون به بأن الوصية للوالدين والأقربين نسخت بقوله صلى الله عليه وسلم: " ألا لا وصية لوارث " قالوا: ولا يمكن أن يقال بأن الناسخ للوصية آية الميراث لأن الجمع ممكن من حيث إن الميراث لا يمنع من الوصية للأجانب وهو ضعيف لما فيه من نسخ حكم القرآن المتواتر بخبر الآحاد وهو ممتنع على ما يأتي ولأنه لا يلزم من كون الميراث مانعاً من الوصية للوارث أن يكون مانعاً من الوصية لغير الوارث.
واحتجوا أيضاً بأن جلد الزاني الثابت بقوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " النور 2 نسخ بالرجم الثابت بالسنة وهو ضعيف لما فيه من نسخ القرآن بآحاد السنة وهو ممتنع على ما يأتي وفي حق الشيخ والشيخة من جهة أنه أمكن أن يقال إن نسخ الجلد بالرجم إنما كان بقرآن نسخ رسمه وهو ما روي عن عمر أنه قال: كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله ورسوله.

ولا يمكن أن يقال إن ذلك لم يكن قرآنا بما روي عن عمر أنه قال: لولا أنني أخشى أن يقال: زاد عمر في القرآن ما ليس منه لكتبت: الشيخ والشيخة إذا زنيا على حاشية المصحف وذلك يدل على أنه لم يكن قرآناً.
لأنا نقول: غاية قول عمر الدلالة على إخراج ذلك عن المصحف والقرآن لنسخ تلاوته وليس فيه دلالة على أنه لم يكن قرآناً.
فإن قيل: الشيخ والشيخة لم يثبت بالتواتر بل بقول عمر ونسخ المتواتر بالآحاد ممتنع على ما يأتي وسواء كان ذلك قرآناً أو سنة.
قلنا: والسنة وهو رجم النبي صلى الله عليه وسلم للزاني لم يثبت بالتواتر بل بطريق الآحاد وغايته أن الأمة مجمعة على الرجم والإجماع ليس بناسخ بل هو دليل وجود الناسخ المتواتر وليس إحالته على سنة متواترة لم تظهر لنا أولى من إحالته على قرآن متواتر لم يظهر لنا تواتره بسبب نسخ تلاوته.
وأما النافون لذلك فقد احتجوا بحجج نقلية وعقلية: أما النقلية فمن خمسة أوجه: الأول: قوله تعالى: " لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل 44 وصف نبيه بكونه مبيناً والناسخ رافع والرفع غير البيان.
الثاني: قوله تعالى: " وإذا بدلنا آية مكان آية " النحل 101 أخبر أنه إنما يبدل الآية بالآية لا بالسنة الثالث: أن المشركين عند تبديل الآية مكان آية قالوا: إنما أنت مفتر فأزال الله تعالى وهمهم بقوله: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " النحل 102 وذلك يدل على أن التبديل لا يكون إلا بما نزله روح القدس.
الرابع: قوله تعالى: " قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي " يونس 15 وهو دليل على أن القرآن لا ينسخ بغير القرآن.
الخامس: قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " البقرة 106 وذلك يدل على أن الآية لا تنسخ إلا بآية.
وبيانه من وجوه: الأول: أنه قال: " نأت بخير منها أو مثلها " والسنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله.
الثاني: أن الله تعالى وصف نفسه بأنه الذي يأتي بخير منها وذلك لا يكون إلا والناسخ قرآن لا سنة.
الثالث: وصف البدل بأنه خير أو مثل وكل واحد من الوصفين يدل على أن البدل من جنس المبدل أما المثل فظاهر وأما ما هو خير.
فلأنه لو قال القائل لغيره لا آخذ منك درهما إلا وآتيك بخير منه فإنه يفيد أنه يأتيه بدرهم خير من الأول.
الرابع قوله: " ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " دل على أن الذي يأتي به هو المختص بالقدرة عليه وذلك هو القرآن دون غيره.
وأما من جهة المعقول فمن وجهين: الأول: أن السنة إنما وجب اتباعها بالقرآن في قوله تعالى: " وما أتاكم به الرسول فخذوه " الحشر 7 وقوله: فاتبعوه وذلك يدل على أن السنة فرع القرآن والفرع لا يرجع على أصله بالإبطال والإسقاط كما لا ينسخ القرآن والسنة بالفرع المستنبط منهما وهو القياس.
الثاني: أن القرآن أقوى من السنة ودليله من ثلاثة أوجه.
الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بم تحكم؟ قال بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله قدمه في العمل به على السنة والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك وذلك دليل قوته.
الثاني: أنه أقوى من جهة لفظه لأنه معجز والسنة ليست معجزة.
الثالث: أنه أقوى من جهة حكمه حيث اعتبرت الطهارة في تلاوته عن الجنابة والحيض وفى مس مسطوره مطلقاً والأقوى لا يجوز رفعه بالأضعف.
والجواب عن الآية الأولى من ثلاثة أوجه: الأول: أنه يجب حمل قوله لتبين للناس على معنى لتظهر للناس لكونه أعم من بيان المجمل والعموم لأنه يتناول إظهار كل شيء حتى المنسوخ وإظهار المنسوخ أعم من إظهاره بالقرآن.
الثاني: أن نسخ حكم الآية بيان لها فيدخل في قوله لتبين للناس وتبين القرآن أعم من تبيينه بالقرآن الثالث: أنه وإن لم يكن النسخ بياناً غير أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بكونه مبيناً لا يخرجه عن اتصافه بكونه ناسخاً.
وعن الآية الثانية من وجهين: الأول: أنها ظاهرة في تبديل رسم آية بآية النزاع إنما هو في تبديل حكم الآية وليس فيه ما يدل على تبديل حكمها بآية أخرى.

الثاني: أن الله تعالى أخبر أنه إذا بدل آية مكان آية قالوا إنما أنت مفتر وليس في ذلك ما يدل على أن تبديل الآية لا يكون إلا بآية.
وذلك كما لو قال القائل لغيره إذا أكلت في السوق سقطت عدالتك فإن ذلك لا يدل على أنه لا يأكل إلا في السوق.
وعن قوله: " قل نزله روح القدس " النحل 102 أن ذلك لا يدل عل امتناع نسخ القرآن بالسنة إلا أن تكون السنة لم ينزل بها روح القدس وليس كذلك إذ السنة من الوحي وإن كانت لا تتلى ما سبق تقريره.
وعن الآية الرابعة من وجهين: الأول: أن قوله: " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " أي في تبديل آية مكان آية وليس فيه ما يدل على امتناع تبديل حكم الآية بغير الآية.
الثاني: أن النسخ وإن كان بالسنة فهي من الوحي على ما تقدم فلم يكن متبعاً إلا ما يوحى إليه به.
وعن الآية الأخيرة من ثلاثة أوجه: الأول: لا نسلم دلالتها على امتناع نسخ حكم الآية بغير الآية قولهم في الوجه الأول إن السنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله.
قلنا: قوله: " ما ننسخ من آية " البقرة 106 إما أن يراد به نسخ رسمها أو نسخ حكمها فإن كان الأول فهو ممتنع فإنه وصف البدل بكونه خيراً منها والقرآن خير كله ولا يفضل بعضه على بعض.
وإن كان الثاني فذلك يدل على أن الحكم الناسخ يكون خيراً من الحكم المنسوخ أو مثله ونحن نقول إنه لا يمتنع أن يكون الحكم الناسخ أصلح في التكليف وأنفع للمكلف.
وأما الوجه الثاني فلا دلالة فيه لأن السنة إذا كانت ناسخةً فالآتي بما هو خير إنما هو الله تعالى والرسول مبلغ ولا يدل ذلك على أن الناسخ لا يكون إلا قرآناً بل الإتيان بما هو خير أعم من ذلك.
وأما الوجه الثالث فلا دلالة فيه على لزوم المجانسة بين الآية المنسوخ حكمها وبين ناسخه لأنه وصفه بكونه خيراً والقرآن لا تفاوت فيه على ما سبق فعلم أن المفاضلة والمماثلة إنما هي راجعة إلى الحكم المنسوخ والحكم الناسخ على ما سبق.
وعلى هذا فلا نسلم أنه إذا قال له ما آخذ منك درهماً إلا وآتيك بخير منه أنه يدل على المجانسة فإن ما هو خير أعم من الجنس فكأنه قال: آتيك بشيء هو خير مما أخذت منك والمذكور أولاً.
وإن كان هو الآية والضمير في قوله بخير منها وإن كان عائداً إليها فلا يلزم منه المجانسة بين المضمر والمظهر.
وأما الوجه الرابع فنحن قائلون بموجبه فإن المتمكن من إزالة الحكم بما هو خير منه إنما هو الله عز وجل.
الوجه الثاني أن الآية تدل على أنه لا بد في نسخ كل آية من الإتيان بآية هي خير منها أو مثلها ضرورة الإخبار ولكن ليس في ذلك دلالة على أن الآية المأتي بها هي الناسخة لإمكان أن يكون بدلاً عن الآية الأولى وإن كان الناسخ غيرها.
الثالث أن ظاهر الآية يتناول نسخ رسم الآية والأصل تنزيل اللفظ على حقيقته وفي حمله على نسخ الحكم صرفه إلى جهة المجاز وهو خلاف الأصل والنزاع إنما وقع في نسخ الحكم لا في نسخ الرسم.
وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول من ثلاثة أوجه.
الأول أن ذلك إنما يمتنع إن لو كانت السنة رافعةً لما هي فرع عليه من القرآن وليس كذلك بل ما هي فرع عليه غير مرفوع بها وما هو مرفوع بها ليست فرعاً عليه.
الثاني أن ما ذكروه حجة عليهم فإن القرآن قد دل على وجوب الأخذ بما يأتي به الرسول ووجوب اتباعه فإذا أتى بنسخ حكم الآية ولم يتبع كان على خلاف ما ذكروه.
الثالث أن السنة ليست رافعةً للقرآن وإنما هي رافعة لحكمه وحكمه ليس أصلاً لها فإذا المرتفع ليس هو الأصل وما هو الأصل غير مرتفع.
وعن المعارضة الثانية أن القرآن وإن كان معجزاً في نظمه وبلاغته ومتلواً ومحترماً فليس فيه ما يدل على أن دلالة كل آية منه أقوى من دلالة غيره من الأدلة ولهذا فإنه لو تعارض عام من الكتاب وخاص من السنة المتواترة كانت السنة مقدمةً عليه وكذلك أيضاً لو تعارضت آية ودليل عقلي فإن الدليل العقلي يكون حاكما عليها.
وكذلك الإجماع وكثير من الأدلة على ما يأتي في الترجيحات وعلى هذا فلا يمتنع رفع حكم الآية بدليل السنة كيف وإن السنة الناسخة ليست معارضة ولا نافية لمقتضى الآية بل مبينة ومخصصة على ما سبق.
المسألة الحادية عشرة اختلفوا في جواز نسخ الحكم الثابت بالإجماع فنفاه الأكثرون وأثبته الأقلون.

والمختار مذهب الجمهور ودليله أن ما وجد من الإجماع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقراض زمن الوحي لو نسخ حكمه فإما أن يكون بنص من كتاب أو سنة أو بإجماع آخر أو قياس: لا جائز أن يكون بنص لأن ذلك النص لا بد وأن يكون موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سابقاً على هذا الإجماع لاستحالة حدوث نص بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك النص متقدماً على الإجماع لكان إجماعهم على خلاف مقتضاه خطأ وهو غير متصور من الأمة ولا جائز أن يكون بإجماع آخر لأن الإجماع الثاني إما أن يكون بناء على دليل رافع لحكم الإجماع الأول أو لا بناء على دليل فإن لم يكن مبيناً على دليل كان خطأ والأمة مصونة عنه وإن كان ذلك بدليل فذلك الدليل إما أن يكون نصاً أو قياساً: لا جائز أن يكون نصاً لأنه لا بد وأن يكون متقدماً على الإجماعين متحققاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويلزم من ذلك الخطأ في الإجماع الأول وهو محال ولا جائز أن يكون قياساً لأنه لا بد له من أصل والحكم في ذلك الأصل إما أن يكون بدليل متجدد بعد الإجماع الأول أو سابق عليه: فإن كان بدليل متجدد فهو إما إجماع أو قياس لاستحالة تجدد النص.
فإن كان إجماعاً فلا بد له من دليل وذلك الدليل لا بد وأن يكون نصاً أو قياساً على أصل آخر فإن قياسا على أصل آخر فالكلام في ذلك الأصل كالكلام في الأول فإما أن يتسلسل أو ينتهي إلى أصل ثابت بالنص والتسلسل محال والثاني يلزم منه أن يكون النص على أصل القياس سابقاً على الإجماع الأول.
وعند ذلك فصحة القياس عليه مشروطة بعدم الإجماع الأول على مناقضته ونسخ الإجماع الأول به متوقف على صحته وهو دور ممتنع.
هذا كله إن كان دليل أصل القياس الذي هو مستند الإجماع متجدداً وإن كان سابقاً على الإجماع الأول فعدول أهل الإجماع عنه دليل على عدم صحة القياس عليه وإلا كان إجماعهم خطأ وهو محال.
وأما إن كان الناسخ لحكم الإجماع الأول هو القياس فلا بد وأن يكون مستنداً إلى أصل ثابت بالنص والكلام في نسخ النص به مما يفضي إلى الدور كما قررناه قبل.
فإن قيل: فلو اختلفت الأمة في المسألة على قولين فقد أجمعت على أن المقلد له الأخذ بأي القولين شاء ولو أجمعت بعد ذلك على أحد القولين فقد أجمعت على حصر ما أجمعت أولا عل تجويزه وهو نسخ حكم الإجماع بالإجماع.
قلنا: نحن لا نسلم تصور انعقاد الإجماع الثاني على ما سبق في مسائل الإجماع.
المسألة الثانية عشرة مذهب الجمهور أن الإجماع لا ينسخ به خلافاً لبعض المعتزلة وعيسى بن أبان.
ودليل الامتناع أن المنسوخ به إما أن يكون حكم نص أو إجماع أو قياس: الأول محال لأن الإجماع إما أن يكون مستنداً إلى دليل أو ليس مستنداً إلى دليل فإن لم يكن مستنداً إلى دليل فهو خطأ.
وإن كان مستنداً إلى دليل فذلك الدليل إما أن يكون نصاً أو قياساً لا جائز أن يكون قياساً لما سنبينه بعد وإن كان نصاً فالناسخ ذلك النص لا الإجماع وإن قيل إن الإجماع ناسخ فليس إلا بمعنى أنه يدل على الناسخ وإن كان ناسخاً لحكم إجماع سابق فهو باطل بما في المسألة التي قبلها.
وإن كان ناسخاً لحكم قياس فالقياس إما أن يكون صحيحاً أو لا يكون صحيحاً: فإن كان صحيحاً فإجماع الأمة على خلاف مقتضاه إن كان لا لدليل فهو خطأ وإن كان لدليل فذلك الدليل إما أن يكون نصاً أو قياساً: فإن كان نصاً فالرافع لحكم ذلك القياس هو النص وإن كان قياساً فإما أن يكون راجحاً على القياس الأول أو مرجوحاً أو مساوياً فإن كان راجحاً فالأول لا يكون مقتضاه ثابتاً لأن شرط ثبوت الحكم رجحان مقتضيه وكذلك إن كان مساوياً وإن كان القياس الأول راجحاً فالإجماع على القياس الثاني خطأ وهو ممتنع.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالنقل والمعنى.
أما النقل فهو أن ابن عباس حين قال لعثمان كيف تحجب الأم عن الثلث بالأخوين والله تعالى يقول: " فإن كان له إخوة فلأمه السدس " النساء 11 والأخوان ليسا بإخوة؟ قال عثمان حجبها قومك يا غلام وذلك دليل النسخ بالإجماع.
وأما المعنى فهو أن الإجماع دليل من أدلة الشرع القطعية فجاز النسخ به كالقرآن والسنة المتواترة.

قلنا: أما قصة ابن عباس مع عثمان إنما يصح الاستدلال بها إن لو كان حكم الأم مع الأخوين منسوخاً وليس كذلك إلا أن يكون الأخوان ليسا بإخوة وليس كذلك على ما سبق بيانه في مسائل العموم.
وما ذكروه من المعنى فحاصله يرجع إلى إثبات كونه ناسخاً بالقياس على النص وهو غير مسلم الصحة في مثل هذه المسائل وإن كان صحيحاً غير أنه مما يمتنع التمسك به لما بيناه.
المسألة الثالثة عشرة اختلفوا في نسخ حكم القياس فمنهم من منع من ذلك مطلقاً كالحنابلة والقاضي عبد الجبار في بعض أقواله مصيراً منهم إلى أن القياس إذا كان مستنبطاً من أصل فالقياس باق ببقاء الأصل فلا يتصور رفع حكمه مع بقاء أصله ومنهم من جوز ذلك مطلقاً كأبي الحسين البصري لكنه فصل بين القياس الموجود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والقياس الموجود بعده فقال: إن كان القياس موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون قد نص على أصل كتنصيصه على تحريم بيع البر بالبر متفاضلاً وتعبد الناس بقياس غير البر على البر بواسطة الكيل مثلاً بإمارة تدل عليه فإذا قضى بتحريم بيع الأرز بناء على القياس على البر فلا يمتنع نسخه بالنص وبالقياس: أما النص فبأن ينص بعد ذلك على إباحة بيع الأرز وينسخ تحريمه وأما القياس فبأن ينص على إباحة بيع بعض المأكولات ويتعبد بالقياس عليه بواسطة كونه مأكولاً بأمارة هي أقوى من الإمارة الدالة على أن علة تحريم البر هي الكيل.
وإن كان القياس موجوداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون قد اجتهد بعض المجتهدين فأداه القياس إلى تحريم شيء بعد البحث عن الأدلة المعارضة وعدم الظفر بها ثم اطلع بعد ذلك على نص أو إجماع متقدم أو قياس أرجح من قياسه فإنه يلزم من ذلك رفع حكم قياسه الأول وإن كان ذلك لا يسمى نسخاً.
قال: وهذا كله إنما يتم على القول بأن كل مجتهد مصيب حيث إنه تعبد بالقياس الأول ثم رفع وأما من لا يقول بأن كل مجتهد مصيب فإنه لا يقول بتعبده بالقياس الأول فرفعه لا يكون متحققاً وهذا جملة ما ذكره أبو الحسين.
وأما نحن فنقول: العلة الجامعة في القياس إما أن تكون منصوصةً أو مستنبطةً بنظر المجتهد.
فإن كانت منصوصةً فهي في معنى النص وما مثل هذا القياس فليكن نسخ حكمه بنص أو بقياس في معناه ولو ذهب إليه ذاهب بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعدم اطلاعه على ناسخه بعد البحث عنه فإنه وإن كان متعبداً باتباع ما أوجبه ظنه فرفع حكمه في حقه بعد اطلاعه على الناسخ لا يكون نسخاً متحدداً بل تبين أنه كان منسوخاً وفرق بين الأمرين.
وأما إن كانت العلة الجامعة مستنبطة بنظر المجتهد فحكمها في حقه غير ثابت بالخطاب فرفعه في حقه عند الظفر بدليل يعارضه ويترجح عليه لا يكون نسخاً على قولنا إن النسخ رفع حكم خطاب على ما قررناه وإن كانت مشاركاً للنسخ في رفع الحكم وقطع استمراره وسواء قلنا إن كل مجتهد مصيب أو لم نقل بذلك.
المسألة الرابعة عشرة اختلفوا في النسخ بالقياس على ثلاثة أقوال ثالثها الفرق بين القياس الجلي والخفي وهو قول أبي القاسم الأنماطي من أصحاب الشافعي.
والمختار أنه إن كانت العلة الجامعة في القياس منصوصةً فهي في معنى النص فيصح النسخ به وإن كانت غير منصوصة فإما أن يكون القياس قطعياً أو ظنياً بأن تكون العلة فيه مستنبطة بنظر المجتهد.
فإن كان قطعياً كقياس الأمة على العبد في تقويم النصيب على السيد المعتق فإنه وإن كان مانعاً من إثبات حكم دليل آخر كان نصاً أو قياساً فلا يكون ذلك نسخاً وإن كان في معنى النسخ لكونه ليس بخطاب عل ما بيناه من أن النسخ إنما هو الخطاب الدال على ارتفاع حكم خطاب آخر.
وإن كان القياس ظنياً فيمنع أن يكون ناسخاً لأن المنسوخ حكمه إما أن يكون نصاً أو إجماعاً أو قياساً: الأول والثاني محال إن كان النص والإجماع خاصاً لكون النص الخاص والإجماع مقدماً على القياس الظني بالاتفاق وإن كان عاماً فلا نسخ لأن القياس ليس بخطاب على ما سبق وإن كان قياساً فلا بد وأن يكون القياس الثاني راجحاً على الأول.

وعند ذلك فتارة نقول إن القياس الأول لا يكون قياساً لعدم ترجحه وإن الترجح شرط في الاقتضاء وتارة نقول إنه وإن لزم منه رفع حكمه فهو في معنى النسخ ولكنه ليس بنسخ لما بيناه من أن النسخ هو الخطاب الدال على ارتفاع حكم خطاب وهو غير متحقق فيما نحن فيه.
وللمخالف شبهتان: الأولى: قوله تعالى: " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله " الأنفال 66 أوجب نسخ ثبات الواحد للعشرة وليس مصرحاً به وإنما هو منبه عليه وذلك هو نفس نسخ حكم النص بالقياس.
الثاني: أنهم قالوا النسخ أحد البيانين فجاز بالقياس كالتخصيص.
والجواب عن الأولى أنها إنما تصح إن لو كان ثبوت الواحد للاثنين الرافع ثبوت الواحد للعشرة مستفاداً من القياس وليس كذلك بل استفادته إنما هي من نفس مفهوم اللفظ.
وعن الثانية أنها منقوضة بالإجماع وبدليل العقل وبخبر الواحد فإنه يخصص به ولا ينسخ به.
المسألة الخامسة عشرة اتفق الكل على جواز النسخ بفحوى الخطاب كدلالة قوله تعالى: " ولا تقل لهما أف " الإسراء 23 على تحريم الضرب وغيره من أنواع الأذى وعلى جواز نسخ حكمه وإنما اختلفوا في جواز نسخ الأصل دون الفحوى والفحوى دون الأصل غير أن الأكثر على أن نسخ الأصل يفيد نسخ الفحوى لأن الفحوى تابع للأصل ولا يتصور بقاء التابع مع ارتفاع المتبوع.
وأما نسخ الفحوى دون الأصل فقد تردد فيه قول القاضي عبد الجبار فجوزه تارةً نظراً إلى أن ذلك جار مجرى التنصيص على تحريم التأفيف وتحريم الضرب العنيف فكأنه قال: لا تقل لهما أف ولا تضربهما فرفع حكم أحدهما يفيد رفع حكم الآخر ومنع منه تارةً ووافقه على المنع أبو الحسين البصري مصيراً منهما إلى أن تحريم التأفيف إنما كان إعظاماً للوالدين فإذا أبيح ضربهما كان ذلك نقضاً للغرض من تحريم التأفيف.
والمختار في ذلك أن يقال. إثبات تحريم الضرب في محل السكوت إما أن يقال إنه ثابت بالقياس على تحريم التأفيف في محل النطق أو أنه ثابت بدلالة اللفظ لغةً على اختلاف المذاهب فيه.
فإن كان الأول فيجب أن يقال بأن نسخ حكم الأصل يوجب رفع حكم الفرع لاستحالة بقاء الفرع دون أصله وإن لم يسم ذلك نسخاً لما سبق وإن رفع حكم الفرع لا يوجب رفع حكم الأصل إذ لا يلزم من رفع التابع رفع المتبوع.
وإن كان الثاني فلا يخفى أن دلالة اللفظ على تحريم التأفيف بجهة صريح اللفظ وعلى تحريم الضرب بجهة الفحوى وهما دلالتان مختلفتان غير أن دلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق وعند ذلك أمكن أن يقال بأن رفع حكم إحدى الدلالتين لا يلزم منه رفع حكم الدلالة الأخرى.
فإن قيل: فإذا كانت دلالة الفحوى تابعةً لدلالة المنطوق فرفع الأصل مما يمتنع معه بقاء التابع وأيضاً فإن الغرض من دلالة المنطوق إعظام الوالدين فرفع حكم الفحوى مما يخل بالغرض من دلالة المنطوق فيمتنع معه بقاء حكم المنطوق.
قلنا: أما الأول فمندفع وذلك لأن دلالة الفحوى وإن كانت تابعةً لدلالة المنطوق فنسخ حكم المنطوق ليس نسخاً لدلالته بل نسخاً لحكمه ودلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق على حكمه لا أنها تابعة لحكمه ودلالته باقية بعد نسخ حكمه كما كانت قبل نسخه فما هو أصل لدلالة الفحوى غير مرتفع وما هو المرتفع ليس أصلاً للفحوى.
وأما الثاني فغاية ما يلزم من نسخ حكم الفحوى إبطال الغرض من أصل إثبات الحكم فيه ولا يخفى أن غرض إثبات التحريم للتأفيف مغاير لغرض تخصيصه بالذكر تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ولا يلزم من إبطال أحد الغرضين إبطال الغرض الآخر.
المسألة السادسة عشرة اختلفوا في نسخ حكم أصل القياس هل يبقى معه حكم الفرع أو لا؟ فذهب بعض أصحاب أبي حنيفة إلى بقائه والباقون إلى امتناعه وهو المختار لأن ثبوت الحكم في الفرع تابع لاعتبار علته بحكم الأصل فإذا نسخ حكم الأصل خرجت العلة المستنبطة منه عن أن تكون معتبرةً في نظر الشارع فبطل ما كان تابعا لاعتبارها.

فإن قيل: يلزم مما ذكرتموه نسخ حكم الفرع بالقياس على حكم الأصل حيث جعلتم رفع حكم الفرع تابعاً لرفع حكم الأصل والنسخ بالقياس غير جائز على ما قررتموه ثم ما ذكرتموه من انتفاء التابع لانتفاء المتبوع متى يلزم ذلك إذا كان الحكم يفتقر في دوامه إلى دوام سببه أو إذا لم يفتقر؟ الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم بافتقاره إليه؟ وإن سلمنا ذلك ولكن ما ذكرتموه منتقض بالأب فإنه يتبعه ولده الطفل في الإسلام والكفر ولو زال إسلام الأب بالردة لم يلزم منه زوال ما كان ثابتاً للولد من الإسلام تبعاً له.
قلنا: جواب الأول أنا لا نسلم أن رفع الحكم في الفرع كان بالقياس على رفع حكم الأصل وإلا لافتقر إلى علة جامعة نافية لهما وليس كذلك وإنما قيل برفعه لانتفاء علته وفرق بين انتفاء الحكم لانتفاء موجبه وبين انتفائه بالقياس.
وجواب الثاني أنه إن قيل بافتقار الحكم في دوامه إلى دوام علته فهو المطلوب وإن لم يقل بذلك فلا خلاف بين أئمة الفقه أنه وإن لم يفتقر الحكم في دوامه إلى دوام ضابط حكمة الحكم المعرف للحكم في الفرع في ابتدائه انه لا بد من دوام احتمال الحكمة حتى إنه لو انتهت حكمة الحكم قطعاً امتنع بقاؤه بعدها وإذا لم يكن بد من دوام احتمال الحكمة فلا بد من أن تكون معتبرة لاستحالة بقاء الحكم لحكمة غير معتبرة وبنسخ حكم الأصل زال اعتبارها وانتفاء ما لا بد منه في دوام الحكم يوجب رفع الحكم.
وعلى هذا فقد اندفع النقض فإنا لا نسلم أن إسلام الأب علة موجبة لإسلام الابن حتى يلزم من انتفاء إسلامه انتفاء إسلام الابن ولا أن دوام إسلام الأب معتبر في دوام إسلام الابن ليلزم من انتفائه انتفاؤه.
المسألة السابعة عشرة لا نعرف خلافا بين الأمة في أن الناسخ إذا كان مع جبريل عليه السلام لم ينزل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت له حكم في حق المكلفين بل هم في التكليف بالحكم الأول على ما كانوا عليه قبل إلقاء الناسخ إلى جبريل وإنما الخلاف فيما إذا ورد النسخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ الأمة هل يتحقق بذلك النسخ في حقهم أو لا؟.
فذهب بعض أصحاب الشافعي إلى الإثبات وبعضهم إلى النفي وبه قال أصحاب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل وهو المختار.
وبيانه أن النسخ له لازم وهو ارتفاع حكم الخطاب السابق وامتناع الخروج بالفعل الواجب أولاً عن العهدة ولزوم الإتيان بالفعل الواجب الناسخ والأثم بتركه والثواب على فعله وهذه اللوازم منتفية ويلزم من انتفاء اللازم.
انتفاء الملزوم أما أن الحكم السابق لم يرتفع فهو أن المكلف يثاب على فعله ويخرج به عن العهدة ويأثم بتركه له قبل بلوغ النسخ إليه بالإجماع ولهذا فإن أهل قبا لما بلغهم نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة استداروا والنبي صلى الله عليه وسلم اعتد لهم بالركعات التي أتوا بها بعد نزول النسخ قبل علمهم بالنسخ ولم ينكر عليهم.
وأما أن الخطاب بالنسخ غير لازم للمكلف قبل البلوغ فبيانه بالنص والحكم.
أما النص فقوله تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " الإسراء 15 وقوله تعالى: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء 165 وقوله تعالى: " وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً " القصص 59.
وأما الحكم فهو أن المكلف لو فعل العبادة التي ورد بها الناسخ على وجهها كان آثماً عاصياً غير خارج به عن العهدة كما لو صلى إلى الكعبة قبل بلوغ النسخ إليه ولو كان مخاطباً بذلك لخرج به عن العهدة ولما كان عاصياً بفعل ما خوطب به وللمخالفين خمس شبه.
الشبهة الأولى أن المكلف متصرف بالإذن من الشارع فلزم رفعه برفع الشرع له وإن لم يعلم المكلف بالرفع كما لو عزل الموكل الوكيل عن التصرف فإنه لا ينعقد تصرفه بعد ذلك وإن لم يعلم بعزله.
الثانية أن النسخ إسقاط حق لا يعتبر فيه رضي من يسقط عنه فلا يعتبر فيه علمه كالطلاق والعتق والإبراء.
الثالثة أن النسخ إباحة ترك الفعل بعد إيجابه أو إباحة فعله بعد خطره فلا يتوقف ذلك على علم من أبيح له كما لو قال لزوجته: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق ثم أذن لها من حيث لا تعلم فإنه يثبت حكم الإباحة في حق الزوجة ولا يقع الطلاق بخروجها.

الرابعة أن نسخ الحكم إباحة ترك المنسوخ الذي هو حق الشارع فوجب أن يثبت قبل علم المباح له كما لو قال القائل أبحت ثمرة بستاني لكل من دخله فإنه يباح لكل داخل وإن لم يعلم بذلك.
الخامسة أن رفع الحكم يتحقق بعد علم المكلف بالنسخ فرفعه إما أن يكون بعلمه أو بالنسخ والعلم غير مؤثر في الرفع فكان الرفع بالنسخ ولزم رفعه عند تحقق النسخ.
والجواب عن الأول بمنع عزل الوكيل قبل علمه بالعزل.
وعن الثانية لم قالوا بأن النسخ إذا لم يتوقف على رضى المنسوخ عنه لا يتوقف على علمه ولا يلزم من عدم اعتبار العلم في صورة الاستشهاد عدم اعتباره في النسخ فإنه لا مانع أن يكون عدم اعتبار العلم ثم لعدم تضمنه رفع حكم خطاب سابق بخلاف ما نحن فيه فكان العلم مشترطاً فيه لما ذكرناه.
وعن الثالثة والرابعة بمنع الحكم فيما ذكروه من صوره الاستشهاد.
وعن الخامسة أن رفع الحكم بالنسخ مشروط بالعلم ولا تحقق للمشروط دون شرطه.
المسألة الثامنة عشرة الزيادة على النص هل تكون نسخاً وقد اتفق العلماء على أن الزيادة إذا كانت عبادةً منفردةً بنفسها عن العبادة المزيد عليها أنها لا تكون نسخاً لحكم المزيد عليه وذلك كزيادة صلاة على صلوات أو صوم أو حجة أو زكاة إلا ما نقل عن بعض العراقيين أنهم قالوا: إن زيادة صلاة سادسة على الصلوات الخمس يكون نسخاً من جهة أن الصلاة الوسطى المأمور بالمحافظة عليها في قوله تعالى: " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " تخرج عن كونها وسطى وهو غير صحيح لوجهين: الأول: أن النسخ إنما يكون لحكم شرعي على ما تقدم وكون العبادة وسطى أمر حقيقي ليس بحكم شرعي.
الثاني: أنه يلزم عليه أن لو أوجب الشارع أربع صلوات ثم أوجب صلاة خامسة أو زكاة أو صوماً أن يكون ذلك نسخاً لإخراج العبادة الأخيرة عن كونها أخيرة وإخراج العبادات السابقة عن كونها أربعاً وهو خلاف الإجماع.
وإنما اختلفوا في غير هذه الزيادة كزيادة ركعة على ركعات صلاة واحدة وزيادة جلدات على جلدات حد واحد وزيادة صفة في رقبة الكفارة كالإيمان إلى غير ذلك من الزيادات: فذهبت الشافعية والحنابلة وجماعة من المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم إلى أنها لا تكون نسخاً وقالت الحنفية تكون نسخاً ومنهم من فصل.
ثم القائلون بالتفصيل منهم من قال إن كانت الزيادة قد أفادت خلاف ما أفاده مفهوم المخالفة والشرط كانت الزيادة نسخاً كإيجاب الزكاة في معلوفة الغنم فإنه خلاف ما أفاده قوله صلى الله عليه وسلم: " في الغنم السائمة زكاة " من نفي الزكاة عن المعلوفة وإلا فلا.
ومنهم من قال إن كانت الزيادة مغيرةً لحكم المزيد عليه في المستقبل كزيادة التغريب في المستقبل على الحد وزيادة عشرين جلدةً على حد القذف كانت نسخاً وإن لم تغير حكمه في المستقبل فإنها لا تكون نسخاً وسواء كانت الزيادة لا تنفك عن المزيد عليه كما لو وجب علينا ستر الفخذ فإنه يجب ستر بعض الركبة ضرورة أن ما لا يتم الواجب.
إلا به فهو واجب أو كانت الزيادة عند تعذر المزيد عليه وذلك كإيجاب قطع رجل السارق بعد قطع يديه وهذا هو مذهب الكرخي وأبي عبد الله البصري من المعتزلة.
ومنهم من قال إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغيراً شرعياً بحيث صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على حسب ما كان يفعل قبلها كان وجوده كعدمه ووجب استئنافه كزيادة ركعة على ركعتي الفجر كان ذلك نسخاً أو كان قد خير بين فعلين فزيد فعل ثالث فإنه يكون نسخاً لتحريم ترك الفعلين السابقين وإلا فلا وذلك كزيادة التغريب على الحد وزيادة عشرين جلدةً على حد القذف وزيادة شرط منفصل في شرائط الصلاة كزيادة الوضوء وهذا هو مذهب القاضي عبد الجبار.
ومنهم من قال إن كانت الزيادة متصلة بالمزيد عليه اتصال اتحاد رافع للتعدد والانفصال كزيادة ركعتين على ركعتي الصبح فهو نسخ وإن لم تكن الزيادة كذلك كزيادة عشرين جلدةً على حد القذف فلا تكون نسخاً.
وهذا هو الذي اختاره الغزالي والمختار أنه إن كانت الزيادة متأخرةً عن المزيد عليه وكانت رافعةً لحكم شرعي كان ذلك نسخاً ووجب النظر في دليل الزيادة فإن كان مما يجوز بمثله نسخ حكم النص فهو نسخ وإلا فلا.

وإن لم تكن الزيادة متأخرةً عن المزيد عليه أو كانت رافعةً لحكم العقل الأصلي لا غير لم يكن ذلك نسخاً شرعياً وإن كان نسخاً لغوياً وجاز بكل ما يصلح أن يكون دليلاً في موضعه وإن لم يجز به النسخ كالقياس وخبر الواحد ونحوه وهذا هو اختيار أبي الحسين البصري.
وإذ أتينا على شرح المذاهب بالتفصيل فلا بد من النظر فيما يتفرع على هذه المذاهب من المسائل الفرعية والكشف عن وجه الحق في كل واحدة منها تتمةً للمقصود وهي عشرة فروع: الفرع الأول إذا وجبت الزكاة في معلوفة الغنم لا يكون ذلك نسخاً لحكم قوله صلى الله عليه وسلم في الغنم السائمة زكاة لأنه لا يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة كما سبق في إبطال دليل الخطاب وإنما يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة بناء على حكم العقل الأصلي فرفعه لا يكون نسخاً لما تقدم وإن سلمنا أن دليل الخطاب حجة وأنه يدل على نفي الزكاة عن المعلوفة فلا يخفى أن وجوب الزكاة فيها يكون رافعاً لما اقتضاه دليل الخطاب فيكون نسخاً.
الفرع الثاني إذا زيدت ركعة على ركعتي الصبح بحيث صارت صلاة الصبح ثلاث ركعات قال أبو الحسين البصري هذا ليس بنسخ لحكم الدليل الدال على وجوب صلاة الصبح لأن زيادة الركعة إما أن تكون نسخاً للركعتين أو نسخاً لأجزائها ووجوبها أو نسخاً لوجوب التشهد عقيب الركعتين: لا جائز أن يكون نسخاً للركعتين لأن النسخ لا يتعلق بالأفعال كيف وإن الركعتين قارتان لم يرتفعا ولا جائز أن يكون نسخاً لأجزائها وإلا كان زيادة غسل عضو آخر في طهارة الصلاة ناسخاً لأجزائها ووجوبها الذي كان قبل إيجاب غسل العضو الزائد ولم يقل به من قال بهذا المذهب كالقاضي عبد الجبار كما عرف من مذهبه ولا جائز أن يكون نسخاً لوجوب التشهد عقيب الركعتين لأنه إنما كان واجباً آخر الصلاة وذلك غير مرتفع ولا متغير وإنما المتغير آخر الصلاة فإن آخرها كان بآخر الركعتين والآن صار آخر الثلاث.
وقد قيل في إبطاله لا نسلم الحصر فإنه كان يحرم الزيادة على الركعتين والتحريم حكم شرعي وقد ارتفع بالزيادة وليس بحق إذ لقائل أن يقول: إنما يصح ذلك أن لو كان الأمر بالركعتين مقتضياً للنهي عن الزيادة عليهما وليس كذلك بل أمكن أن يكون ذلك مستفاداً من دليل آخر فزيادة الركعة على الركعتين لا يكون نسخا لحكم الدليل الدال على وجوب الركعتين.
وقد قيل في إبطاله أيضاً إن النسخ إنما هو لأجزاء الركعتين بتقدير انفرادهما وهو حكم شرعي وقد ارتفع بالزيادة وفيه نظر إذ يمكن أن يقال: معنى كون الركعتين مجزية أنه يخرج بها عن عهدة الأمر ومعنى الخروج بها عن العهدة أنه لا يجب مع فعلها شيء آخر وليس ذلك حكماً شرعياً ليكون رفعه نسخاً شرعياً بل هو من مقتضيات النفي الأصلي وإنما طريق الرد عليه أن يقال: ما ذكره من الإلزام باشتراط غسل العضو الزائد وإن كان لازماً على القاضي عبد الجبار فغير لازم لغيره كالغزالي ونحوه من القائلين يكون ذلك نسخاً فلا بد من الدلالة عليه ولم يتعرض لذلك وإن قدر لزوم ذلك فلا يخفى أن وجوب التشهد بعد الركعتين حكم شرعي وقد ارتفع بزيادة الركعة.
والقول بأن المغير إنما هو آخر الصلاة ليس كذلك فإن التشهد كان واجبا عقيب الركعتين وبالزيادة صار غير واجب.
الفرع الثالث زيادة التغريب على الحد وزيادة عشرين جلدةً على الثمانين ليس بنسخ لأن النسخ يستدعي رفع ما ثبت للثمانين من الحكم الشرعي ولا تحقق له إذ الأصل بقاء ما كان لها من الحكم قبل الزيادة بعدها.
فإن قيل: بيان ارتفاع حكم الثمانين من خمسة أوجه: الأول: أن الثمانين قبل الزيادة كانت كل الحد الواجب وقد صارت بعد الزيادة بعض الحد.
الثاني: أن الثمانين كانت مجزئة قبل الزيادة وقد ارتفع إجزاؤها بالزيادة.
الثالث: الثمانون وحدها كان يتعلق بها التفسيق ورد الشهادة وبعد الزيادة زال تعلق ذلك بالثمانين.
الرابع: أن الثمانين قبل الزيادة كان يجب الاقتصار عليها وبعد الزيادة زال هذا الوجوب.
الخامس: أن قبل الزيادة كانت الزيادة غير واجبة وقد زال هذا الحكم بإيجاب الزيادة.
والجواب عن الأول أنه لا معنى لكون الثمانين قبل الزيادة كل الواجب إلا أنها واجبة وغيرها ليس بواجب ووجوبها لم يرتفع وإنما المرتفع بالزيادة عدم وجوب الزيادة وذلك معلوم بالبراءة الأصلية فلا يكون رفعه نسخاً شرعياً.

================

ج6. كتاب : الإحكام في أصول القرآن ابن حزم



وعن الثاني ما سبق في الفرع الذي قبله.
وعن الثالث لا نسلم أن التفسيق ورد الشهادة متعلق بالثمانين بل بالقذف وإن سلمنا تعلق ذلك بالثمانين إلا أن معنى التفسيق يرجع إلى عدم موافقة أمر الشارع ورد الشهادة إلى عدم قبولها وذلك معلوم بالنفي الأصلي ورد الشهادة وإن كان معلوماً من قوله تعالى: " ولا تقبلوا لهم شهادة " فليس من مقتضيات دليل إيجاب الثمانين فرفعه لا يكون نسخاً شرعياً.
وعن الرابع أن معنى وجوب الاقتصار على الثمانين قبل الزيادة أنها واجبة ولا تجوز الزيادة عليها ووجوبها لم يرتفع وإنما المرتفع عدم الجواز المستند إلى البراءة الأصلية وذلك ليس بنسخ على ما تقدم وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الإلزام الخامس أيضاً.
الفرع الرابع إذا أوجب الله تعالى غسل الرجلين على التعيين ثم خيرنا بين ذلك وبين المسح على الخفين أو خيرنا في الكفارة بين الإطعام والصيام ثم زاد ثالثاً وهو الإعتاق هل يكون ذلك نسخاً لوجوب غسل الرجلين على التعيين ووجوب التخيير بين الإطعام والصيام على التعيين؟ الحق إنه نسخ لغسل الرجلين وليس نسخاً للتخيير بين الإطعام والصيام لأن التخيير بين الإطعام والصيام على التعيين معناه أن الواجب واحد منهما وأن غيرهما لايقوم مقامهما ووجوب أحدهما لا يقوم مقامهما ووجوب أحدهما لا بعينه غير مرتفع وإنما المرتفع كون غيرهما لايقوم مقامهما وذلك حكم ثابت بمقتضى النفي الأصلي فرفعه لايكون نسخاً شرعياً.
الفرع الخامس إذا وقف الله تعالى الحكم على شاهدين بقوله: " فاستشهدوا شهيدين " البقرة 282 فإذا جوز الحكم بشاهد ويمين بخبر الواحد فهل يكون ذلك نسخاً للحكم بالشاهدين على التعيين؟ الحق أنه ليس بنسخ وذلك لأن مقتضى الآية جواز الحكم بالشاهدين وأن شهادتهما حجة وليس فيه ما يدل على امتناع الحكم بحجة أخرى إلا بالنظر إلى المفهوم ولا حجة فيه على ما تقدم وإن كان حجةً فرفعه يكون نسخاً ولا يجوز بخبر الواحد.
الفرع السادس إذا أوجب الله تعالى عتق رقبة مطلقة في كفارة الظهار فتقييدها بعد ذلك بالإيمان إن ثبت أن الله تعالى أراد بكلامه الدلالة على أجزاء الرقبة الكافرة وغيرها كان التقييد بالإيمان نسخاً ولا يجوز بدليل العقل والقياس وخبر الواحد وإلا كان تقييداً للمطلق لا نسخاً.
الفرع السابع إذا أوجب الله تعالى قطع يد السارق ورجله على التعيين فإباحة قطع رجله الأخرى بعد ذلك إن كان رافعا لعدم الإباحة الثابتة بحكم العقل الأصلي فلا يكون نسخاً شرعياً وإن كان رافعاً للتحريم وإن جاز أن يكون نسخاً فليس نسخا لمقتضى النص الأول لعدم دلالته عليه.
الفرع الثامن إذا زيد في الطهارة اشتراط غسل عضو زائد على الأعضاء الستة فلا يكون ذلك نسخاً لوجوب غسل الأعضاء الستة إذ هي واجبة مع وجوب غسل العضو الزائد ولا لإجزائها عند الاقتصار عليها لأن معنى كونها مجزئة أن امتثال الأمر بفعلها غير متوقف على أمر آخر وامتثال الأمر بفعلها غير مرتفع وإنما المرتفع عدم التوقف على شرط آخر وذلك المرتفع وهو عدم اشتراط أمر آخر إنما كان مستنداً إلى حكم العقلي الأصلي فلا يكون رفعه نسخاً شرعياً وعلى هذا يكون الحكم فيما إذا زيد في الصلاة شرط آخر.
الفرع التاسع قوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " البقرة 187 دال على جعل أول الليل غاية للصوم فإيجاب صوم أول الليل بعد ذلك هل يكون نسخاً لما دلت عليه الآية من كون أول الليل غاية للصوم وظرفاً له؟ والحق في ذلك أن يقال: إن قلنا إن مفهوم الغاية ليس بحجة وأنه لا يدل على مد الحكم إلى غاية أن يكون الحكم فيما بعد الغاية على خلاف ما قبلها فإيجاب صوم أول الليل لا يكون نسخاً لمدلول الآية وإلا كان نسخاً وامتنع ذلك بدليل العقل وخبر الواحد.
الفرع العاشر إذا قال الله تعالى صلوا إن كنتم متطهرين فاشتراط شرط آخر لا يكون نسخاً لأنه إما أن يكون نسخاً لوجوب الصلاة مع الطهارة أو لأجزائها أو لما فيه من رفع عدم اشتراط شرط آخر أو لشيء آخر: لا سبيل إلى الأول لأن الوجوب مع الطهارة لم يرتفع والثاني لا سبيل إليه لما سبق في الفرع الثامن ولا سبيل إلى الثالث لأنه رفع حكم العقل الأصلي فلا يكون نسخاً شرعياً والرابع لا بد من تصويره لأن الأصل عدمه.

وعلى هذا أيضاً قوله تعالى: " وليطوفوا بالبيت العتيق " الحج 29 موجب للطواف مطلقاً مع الطهارة ومن غير طهارة فاشتراط الطهارة بقوله صلى الله عليه وسلم الطواف بالبيت صلاة لا يكون نسخاً لوجوب الطواف لبقاء وجوبه ولا لإجزائه ولا لعدم اشتراط الطهارة لما بيناه ولذلك منع الشافعي من الإجزاء بقوله الطواف بالبيت صلاة.
وأبو حنيفة لما لم يسعه مخالفة الخبر قال بوجوب الطهارة مع بقاء الطواف مجزئاً من غير طهارة حيث اعتقد أن رفع الإجزاء يكون نسخاً لحكم الكتاب بخبر الواحد.
المسألة التاسعة عشرة اتفقوا على أن نسخ سنة من سنن العبادة لا يكون نسخا لتلك العبادة كنسخ ستر الرأس والوقوف على يمين الإمام في الصلاة واختلفوا في أن نسخ ما تتوقف عليه صحة العبادة هل يكون نسخاً لتلك العبادة؟ فذهب الكرخي وأبو الحسين البصري إلى أن ذلك لا يكون نسخاً للعبادة.
وسواء كان المنسوخ جزءاً من مفهوم العبادة كالركعة من صلاة الظهر مثلاً أو شرطاً خارجاً عن مفهوم الصلاة كالوضوء.
ومن المتكلمين من قال: إنه نسخ للعبادة مطلقاً وإليه ميل الغزالي ومنهم من فصل بين الجزء والشرط وأوجب نسخ العبادة بنسخ جزئها دون شرطها كالقاضي عبد الجبار.
والمختار أنه لا يكون ذلك نسخا للعبادة مطلقاً أما إذا كانت الصلاة أربع ركعات فكل ركعتين منها واجبة فنسخ أحد الواجبين لا يوجب نسخ الواجب الآخر وكذلك إذا كانت الصلاة واجبةً والطهارة شرط فيها فنسخ اشتراط الطهارة لا يكون موجباً لنسخ وجوب الصلاة بل الوجوب باق بحاله فلا نسخ.
فإن قيل: إذا أوجب الشارع أربع ركعات ثم نسخ منها وجوب ركعتين فقد نسخ وجوب أصل العبادة لا أنه نسخ للبعض وتبقية للبعض فإن الركعتين الباقيتين ليست بعض الأربع بل هي عبادة أخرى وإلا فلو كانت بعضاً منها لكان من صلى الصبح أربع ركعات آتياً بالواجب وزيادة كما لو أوجب عليه التصدق بدرهم فتصدق بدرهمين.
وإن سلمنا أن وجوب الركعتين باق بحاله غير أنها كانت قبل نسخ الركعتين لا تجزىء وقد ارتفع ذلك بنسخ الركعتين الزائدتين حيث صارت تجزىء وكان يجب تأخير التشهد إلى ما بعد الأربع وقد ارتفع ذلك وهو عين النسخ وعلى هذا يكون الحكم فيما إذا نسخ شرط العبادة فإنها كانت قبل النسخ لا تجزىء وقد ارتفع ذلك بنسخ الشرط.
والجواب: قولهم إن نسخ الركعتين نسخ لوجوب أصل العبادة ليس كذلك بدليل بقاء وجوب الركعتين.
قولهم الركعتان عبادة أخرى غير العبادة الأولى إن أرادوا بالغيرية أنها بعض منها والبعض غير الكل فمسلم ولكن لا يكون نسخاً للركعتين وإن كان نسخاً لوجوب الكل وإن أرادوا به أنها ليست بعضاً من الأربع فهو غير مسلم.
قولهم لو كانت بعضاً من الأربع لكان من صلى الصبح أربعاً قد أتى بالواجب وزيادة قلنا: ولو لم تكن بعضاً من الواجب الأول بل عبادةً أخرى لافتقرت في وجوبها إلى ورود أمر يدل على وجوبها وهو خلاف الإجماع وحيث لم تصح صلاة الصبح عند الإتيان بأربع ركعات فإنما كان لإدخال ما ليس من الصلاة فيها.
قولهم إنها كانت قبل نسخ الركعتين لا تجزىء قلنا: إن أريد به عدم امتثال الأمر والثواب عليها فذلك مستند إلى النفي الأصلي فرفعه لا يكون نسخاً وإن أريد به وجوب القضاء فهو نسخ لكن لا لنفس العبادة.
قولهم إنه كان يجب تأخير التشهد إلى ما بعد الأربع ليس كذلك فإن التشهد بعد الركعتين جائز نعم غايته أنه لم يكن واجباً وعدم وجوبه فلبقائه على النفي الأصلي فرفعه لا يكون نسخاً شرعياً على ما عرف نعم لو قيل برفع جوازه بحكم الشرع كان ذلك نسخاً.
وعلى هذا عرف الجواب عن قولهم إن العبادة كانت لا تجزىء دون الطهارة ثم صارت مجزئةً.
المسألة العشرون اتفق العلماء على جواز نسخ جميع التكاليف بإعدام العقل الذي هو شرط في التكليف وأنه يستحيل أن يكلف الله أحداً بالنهي عن معرفته إلا على رأي من يجوز التكليف بما لا يطاق وذلك لأن تكليفه بالنهي عن معرفته يستدعي العلم بنهيه والعلم بنهيه يستدعي العلم بذاته فإن من لا يعرف الباري تعالى يمتنع عليه أن يكون عالماً بنهيه فإذا تحريم معرفته متوقف على معرفته وهو دور ممتنع.
وإنما الخلاف في أمرين:

الأول أنه هل يتصور نسخ وجوب معرفة الله تعالى وشكر المنعم ونسخ تحريم الكفر والظلم والكذب وكذلك كل ما قيل بوجوبه لحسنه وتحريمه لقبحه في ذاته: فذهبت المعتزلة بناء على فاسد أصولهم في اعتقاد الحسن والقبح الذاتي ورعاية الحكمة في أفعال الله تعالى إلى امتناع نسخ هذه الأحكام لاعتقادهم أن المقتضى لوجوبها وتحريمها إنما هو صفات ذاتية لا يجوز تبديلها ولا تغييرها ونحن قد أبطلنا هذه الأصول ونبهنا على فسادها فيما تقدم.
الثاني أنه وإن جاز نسخ هذه الأحكام فبعد أن كلف الله العبد هل يجوز أن ينسخ عنه جميع التكاليف أو لا؟اختلفوا فيه نفياً وإثباتاً واختار الغزالي المنع من ذلك مصيراً منه إلى أن المنسوخ عنه يجب عليه معرفة النسخ والناسخ والدليل المنصوب عليه.
فهذا النوع من التكليف لا يمكن نسخه بل هو باق بالضرورة وليس بحق فإنا وإن قلنا بأن النسخ لا يحصل في حق المكلف دون علمه بنزوله النسخ فلا يمتنع تحقق النسخ لجميع التكاليف في حقه عند علمه بالنسخ وإن لم يكن مكلفاً بمعرفة النسخ.
خاتمة في طريق معرفة الناسخ والمنسوخ فنقول: النصان إذا تعارضا إما أن يتعارضا من كل وجه أو من وجه دون وجه: فإن تنافيا من كل وجه فإما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوماً والآخر مظنوناً فإن كانا معلومين أو مظنونين فإما أن يعلم تأخر أحدهما عن الآخر أو اقترانهما أو لا يعلم شيء من ذلك: فإن علم تأخر أحدهما عن الآخر فهو ناسخ والمتقدم منسوخ وذلك قد يعرف إما بلفظ النسخ والمنسوخ كما لو قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا ناسخ وهذا منسوخ أو أجمعت الأمة على ذلك وإما بالتاريخ وذلك قد يعلم إما بأن يكون في اللفظ ما يدل على التقدم والتأخر كقوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " وإما بإسناد الراوي أحدهما إلى شيء متقدم كقوله: كان هذا في السنة الفلانية وهذا في السنة الفلانية وإحداهما معلومة التقدم على الأخرى هذا كله إذا كان سند الناسخ والمنسوخ مستوياً.
وليس من الطرق الصحيحة في معرفة النسخ أن يقول الصحابي كان الحكم كذا ثم نسخ فإنه ربما قال ذلك عن اجتهاد ولا أن يقول في أحد المتواترين إنه كان قبل الآخر لأنه يتضمن نسخ المتواتر بقول الواحد ولا يلزم ثبوت نسب الولد من صاحب الفراش ضمناً من قبول قول القابلة في الولد إنه من إحدى المرأتين وأن النسب لا يثبت بقولها ابتدأ مثل ذلك هاهنا كما قاله القاضي عبد الجبار فإن غاية ذلك الجواز ولا يلزم منه الوقوع ولا أن يكون أحدهما مثبتاً في المصحف بعد الآخر لأنه ليس ترتيب الآيات في المصحف على ترتيبها في النزول ولا أن يكون راوي أحدهما من أحداث الصحابة لأنه قد ينقل عمن تقدمت صحبته.
وإن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير واسطة فلجواز أن تكون رواية متقدم الصحبة متأخرةً ولا أن يكون إسلام أحد الراويين بعد إسلام الآخر لما ذكرناه في رواية الحدث ولا أن يكون أحد الراويين متجدد الصحبة بعد انقطاع صحبة الراوي الآخر لجواز سماعه عمن تقدمت صحبته ولا أن يكون أحد النصين على وفق قضية العقل والبراءة الأصلية والآخر على خلافه فإنه ليس تقدم الموافق لذلك أولى من المخالف.
وأما إن علم اقترانهما مع تعذر الجمع بينهما فعندي أن ذلك غير متصور الوقوع وإن جوزه قوم وبتقدير وقوعه فالواجب إما الوقف عن العمل بأحدهما أو التخيير بينهما إن أمكن وكذلك الحكم فيما إذا لم يعلم شيء من ذلك.
وأما إن كان أحدهما معلوماً والآخر مظنوناً فالعمل بالمعلوم واجب سواء تقدم أو تأخر أو جهل الحال في ذلك لكنه إن كان متأخراً عن المظنون كان ناسخاً وإلا كان مع وجوبه العمل به غير ناسخ.
هذا كله فيما إذا تنافياً من كل وجه وأما إن تنافيا من وجه دون وجه بأن يكون كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه دون وجه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه " فإنه خاص بالمبدل وعام في النساء والرجال وقوله: " نهيت عن قتل النسوان " فإنه خاص في النساء وعام بالنسبة إلى المبدل فالحكم فيهما كما لو تنافيا من كل وجه فعليك بالاعتبار والله أعلم.
الأصل الخامس
في القياسويشتمل على مقدمة وخمسة أبواب.
أما المقدمة ففي تحقيق معنى القياس وبيان أركانه.

أما القياس فهو في اللغة عبارة عن التقدير ومنه يقال: قست الأرض بالقصبة وقست الثوب بالذراع أي قدرته بذلك وهو يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة فهو نسبة وأضافة بين شيئين ولهذا يقال: فلان يقاس بفلان ولا يقاس بفلان أي يساويه ولا يساويه.
وأما في اصطلاح الأصوليين فهو منقسم إلى قياس العكس وقياس الطراد.
أما قياس العكس فعبارة عن تحصيل نقيض حكم معلوم ما في غيره لافتراقهما في علة الحكم وذلك كما لو قيل: لو لو يكن الصوم شرطاً في الاعتكاف لما كان شرطاً له عند نذره أن يعتكف صائماً كالصلاة فإن الصلاة لما لم تكن شرطاً في الاعتكاف لم تكن من شرطه إذا نذر أن يعتكف مصلياً.
فالأصل هو الصلاة والفرع هو الصوم وحكم الصلاة أنها ليست شرطاً في الاعتكاف والثابت في الصوم نقيضه وهو أنه شرط في الاعتكاف وقد افترقا في العلة لأن العلة التي لأجلها لم تكن الصلاة شرطا في الاعتكاف أنها لم تكن شرطاً فيه حالة النذر وهذه العلة غير موجودة في الصوم لأنه شرط في الاعتكاف حالة النذر إجماعاً.
وأما قياس الطرد فقد قيل فيه عبارات غير مرضية لا بد من الإشارة إليها وإلى إبطالها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار فيه.
فمنها قول بعضهم إنه عبارة عن إصابة الحق وهو منتقض بإصابة الحق بالنص والإجماع فإنه على ما قيل وليس بقياس كيف وإن إصابة الحق فرع للقياس وحكم له وحكم القياس لا يكون هو القياس.
ومنها قول بعضهم إنه بذل الجهد في استخراج الحق وهو أيضاً باطل بما أبطلنا به الحد الذي قبله كيف وإن بذل الجهد إنما هو منبىء عن حال القائس لا عن نفس القياس وقد قيل في إبطاله إنه غير منعكس لوجود المحدود دون الحد وذلك أن من رأى حكماً منصوصاً عليه وعلى علته وكانت علته مما يشهد الحس بها في الفرع فإن ذلك مقتضى تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بطريق القياس وإن لم يوجد فيه بذل جهد في استخراج الحق فقد وجد المحدود دون حده وليس بحق فإنه وإن لم يلحق المكلف بذل جهد في معرفة الحكم وعلته لكونهما منصوصين ولا في معرفة وجود العلة في الفرع لكونها محسةً فيه فلا بد من الاجتهاد في معرفة صحة النص إن كان آحاداً وإن كان متواتراً ولا بد من البحث عن كونه منسوخاً أم لا.
وإن لم يكن منسوخاً فلا بد من النظر في الأصل هل للعلة فيه معارض أو لا وإن لم يكن لها معارض في الأصل فلا بد من النظر في الفرع هل وجد فيه مانع أو فات شرط أو لا ثم وإن قدر انتفاء الاجتهاد مطلقاً في الصورة المفروضة فلا نسلم تحقق القياس فيها بل الحكم إنما يثبت في الفرع على هذا التقدير بالاستدلال لا بالقياس على ما يأتي تحقيقه.
ومنها قول بعضهم إن القياس هو التشبيه ويلزم عليه أن يكون تشبيه أحد الشيئين بالآخر في المقدار وفي بعض صفات الكيفيات كالألوان والطعوم ونحوها قياساً شرعياً إذ الكلام إنما هو في حد القياس في اصطلاح المتشرعين وليس كذلك.
ومنها قول بعضهم: القياس هو الدليل الموصل إلى الحق وهو باطل بالنص والإجماع.
ومنهم من قال: هو العلم الواقع بالمعلوم عن نظر وهو أيضاً باطل بالعلم الحاصل بالنظر في دلالة النص والإجماع كيف وإن العلم غير حاصل من القياس فإنه لا يفيد غير الظن وإن كان حاصلاً منه فهو ثمرة القياس فلا يكون هو القياس.
وقال أبو هاشم إنه عبارة عن حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه وهو باطل من وجهين: الأول أنه غير جامع لأنه يخرج منه القياس الذي فرعه معدوم ممتنع لذاته فإنه ليس بشيء الثاني أن حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه قد يكون من غير جامع فلا يكون قياساً وإن كان بجامع فيكون قياساً وليس في لفظه ما يدل على الجامع فكان لفظه عاماً للقياس ولما ليس بقياس.
وقال القاضي عبد الجبار: إنه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه وهو باطل بما أبطلنا به حد أبي هاشم في الوجه الأول.
وقال أبو الحسين البصري: القياس تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد وقد أورد على نفسه في ذلك إشكالا وأجاب عنه.
أما الإشكال فهو أن الفقهاء يسمون قياس العكس قياساً وليس هو تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم بل هو تحصيل نقيض حكم الشيء في غيره لافتراقهما في علة الحكم كما سبق تحقيقه.

وأما الجواب فحاصله أن تسمية قياس العكس قياساً إنما كان بطريق المجاز لفوات خاصية القياس فيه وهو إلحاق الفرع بالأصل في حكمه لما بينهما من المشابهة ويمكن أن يقال في جوابه أيضاً إنه وإن كان قياس العكس قياساً حقيقة غير أن اسم القياس مشترك بين قياس الطرد وقياس العكس فتحديد أحدهما بخاصيته لا ينتقض بالمسمى الآخر المخالف له في خاصيته وإن كان مسمى باسمه ولهذا فإنه لو حدت العين بحد يخصها لا ينتقض بالعين الجارية المخالفة لها في حدها وإن اشتركا في الاسم.
والمحدود هاهنا إنما هو قياس الطرد المخالف في حقيقته لقياس العكس غير أن ما ذكره من الحد مدخول من وجهين.
الأول: أن قوله تحصيل حكم الأصل في الفرع مشعر بتحصيل عين حكم الأصل في الفرع وهو ممتنع فكان من حقه أن يقول مثل حكم الأصل في الفرع.
الثاني: أن تحصيل حكم الأصل في الفرع هو حكم الفرع ونتيجة القياس ونتيجة الشيء لا تكون هي نفس ذلك الشيء فكان الأولى أن يقول: القياس هو اشتباه الفرع والأصل في علة حكم الأصل في نظر المجتهد على وجه يستلزم تحصيل الحكم في الفرع.
وقال القاضي أبو بكر: القياس حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما وقد وافقه عليه أكثر أصحابنا وهو مشتمل على خمسة قيود: الأول قوله: حمل معلوم على معلوم.
الثاني قوله: في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما.
الثالث قوله: بناء على جامع بينهما.
الرابع قوله: من إثبات حكم أو صفة لهما.
الخامس قوله: أو نفيه عنهما.
أما القيد الأول فيستدعي بيان معنى الحمل وبيان فائدة إطلاق لفظ المعلوم وفائدة حمل المعلوم على المعلوم أما الحمل فمعناه مشاركة أحد المعلومين للآخر في حكمه وإنما أطلق لفظ المعلوم لأنه ربما كانت صورة المحمول والمحمول عليه عدميةً وربما كانت وجوديةً فلفظ المعلوم يكون شاملاً لهما فإنه لو أطلق لفظ الموجود لخرج منه المعدوم ولو أطلق لفظ الشيء لاختص أيضاً بالموجود على رأي أهل الحق ولو قال: حمل فرع على أصل ربما أوهم اختصاصه بالموجود من جهة أن وصف أحدهما بكونه فرعاً والآخر بكونه أصلاً قد يظن أنه صفة وجودية والصفات الوجودية لا تكون صفةً للمعدوم وإن لم يكن حقاً فكان استعمال لفظ المعلوم أجمع وأمنع وأبعد عن الوهم الفاسد.
وإنما قال: حمل معلوم على معلوم لأن القياس يستدعي المقايسة وذلك لا يكون إلا بين شيئين ولأنه لولاه لكان إثبات الحكم أو نفيه في الفرع غير مستفاد من القياس أو كان معللاً بعلة غير معتبرة فيكون بمجرد الرأي والتحكم وهو ممتنع.
وأما القيد الثاني فإنما ذكره لأن حمل الفرع على الأصل قد بان أن معناه التشريك في الحكم وحكم الأصل وهو المحمول عليه قد يكون إثباتاً وقد يكون نفيا وكانت عبارته بذلك أجمع للنفي والإثبات.
وأما القيد الثالث فإنما ذكره لأن القياس لا يتم إلا بالجامع بين الأصل والفرع وإلا كان حمل الفرع على الأصل في حكمه من غير دليل وهو ممتنع.
وأما القيد الرابع فإنما ذكره لأن الجامع بين الأصل والفرع قد يكون تارةً حكماً شرعياً كما لو قال في تحريم بيع الكلب نجس فلا يجوز بيعه كالخنزير وقد يكون وصفاً حقيقياً كما لو قال في النبيذ مسكر فكان حراماً كالخمر.
وأما القيد الخامس فإنما ذكره لأن الجامع من الحكم أو الصفة قد يكون إثباتاً كما ذكرناه من المثالين وقد يكون نفياً أما في الحكم فكما لو قال في الثوب النجس إذا غسل بالخل غير طاهر فلا تصح الصلاة فيه كما لو غسله باللبن والمرق وأما في الصفة فكما لو قال في الصبي غير عاقل فلا يكلف كالمجنون.
وقد أورد عليه تشكيكات لا بد في ذكرها والإشارة إلى دفعها الإشكال الأول أن القول بحمل المعلوم على المعلوم إما أن يراد به إثبات مثل حكم أحدهما للآخر أو شيء آخر: فإن كان الأول فالقول ثانياً في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما يكون تكراراً من غير فائدة.
وإن كان الثاني فلا بد من بيانه كيف وإنه بتقدير أن يراد به شيء آخر فلا يجوز ذكره في تعريف القياس لأن ماهية القياس تتم بإثبات مثل حكم أحد المعلومين للآخر بأمر جامع فكان ذكر ذلك الشيء زائداً عما يحتاج إليه.

الثاني أن قوله في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع مثبت بالقياس وهو محال من جهة أن القياس فرع على ثبوت الحكم في الأصل فلو كان ثبوت الحكم في الأصل فرعاً على القياس كان دوراً.
الثالث أنه كما يثبت الحكم بالقياس فقد ثبتت الصفة أيضاً بالقياس كقولنا في الباري تعالى:عالم فكان له علم كالشاهد فالقياس أعم من القياس الشرعي والعقلي.
وعند ذلك إما أن تكون الصفة مندرجةً في الحكم أو لا تكون: فإن كان الأول كان القول بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما تكراراً لكون الصفة أحد أقسام الحكم وإن كان الثاني كان التعريف ناقصاً.
الرابع أن المعتبر في ماهية القياس الجامع من حيث هو جامع لا أقسام الجامع وذلك إن ماهية القياس قد تنفك عن كل واحد من أقسامه بعينه وما تنفك عنه الماهية لا يكون داخلاً في حدها وأيضاً فإنه لو وجب في ذكر ماهية القياس ذكر أقسام الجامع فالحكم والصفة الجامعة أيضاً كل واحد منهما منقسم إلى أقسام كثيرة لا تحصى فكان يجب استقصاؤها في الذكر وإلا كان الحد ناقصاً وهو محال.
الخامس أن كلمة أو للترديد والشك والتحديد إنما هو للتعيين والترديد ينافي التعيين.
السادس أن القياس الفاسد قياس وهو غير داخل في هذا الحد وذلك لأن هذا القائل قد اعتبر في حده حصول الجامع ومهما حصل الجامع كان صحيحاً فالفاسد الذي لم يحصل الجامع فيه في نفس الأمر لا يكون داخلا فيه فكان يجب أن يقال بأمر جامع في ظن المجتهد فإنه يعم القياس الفاسد الذي لم يحصل الجامع فيه في نفس الأمر.
والجواب عن الإشكال الأول أن المراد بحمل المعلوم على المعلوم إنما هو التشريك بينهما في حكم أحدهما مطلقاً وقوله بعد ذلك في إثبات حكم أو نفيه إشارة إلى ذكرها بفاصل ذلك الحكم وأقسامه وهي زائدة على نفس التسوية في مفهوم الحكم فذكرها ثانيا لا يكون تكراراً.
وعن الثاني وإن كان هو أقوى الإشكالات الواردة هاهنا أن يقال: لا نسلم أن قول القائل حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما مشعر بإثبات حكم الأصل بالقياس حتى يلزم منه الدور لأن القياس على ما علم مركب من الأصل والفرع وحكم الأصل والوصف الجامع بين الأصل والفرع والحكم في الأصل غير مستند في ثبوته ولا نفيه إلى مجموع هذه الأمور إذ هو غير متوقف على الفرع ولا على نفيه وإنما هو متوقف في ثبوته على الوصف الجامع وهو العلة حيث إن الشرع لم يثبت الحكم في الأصل إلا بناء عليه.
ولهذا قال الحاد في هذه في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما والوصف الجامع ركن القياس وليس هو نفس القياس فلا يكون ثبوت الحكم في الأصل ولا نفيه بالقياس بل بالعلة وليست هي نفس القياس وإنما الثابت والمنفي بالقياس إنما هو حكم الفرع لا غير.
وعن الثالث من وجهين: الأول أنه مبني على تصور القياس في غير الشرعيات وهو غير مسلم على ما يأتي بيانه وما ذكروه من المثال فقد أبطلنا صحة القياس فيه في أبكار الأفكار.
الثاني وإن سلمنا تصور القياس في غير الشرعيات غير أن الكلام إنما وقع في تحديد القياس الشرعي في مصطلح أهل الشرع وذلك لايكون إلا فيما كان حكم الأصل فيه شرعياً والصفة ليست حكماً شرعياً فلا تكون مندرجةً فيه وعلى هذا فخروج القياس العقلي عن الحد المذكور للقياس الشرعي لا يكون موجباً لنقصانه وقصوره.
وعن الرابع أنه وإن كان ذكر أقسام الجامع من الحكم والصفة وتعيين كل واحد غير داخل في مفهوم القياس فذكره لم يكن لتوقف مفهوم القياس عليه حتى يقال بقصور التعريف بل للمبالغة في الكشف والإيضاح بذكر الأقسام وذلك مما لا يخل بالحد ولا يلزم من ذلك الاستقصاء بذكر باقي أقسام الحكم والصفة لعدم وجوبه.
وعن الخامس أن التحديد والتعريف قد تم بقولنا: حمل معلوم على معلوم بأمر جامع بينهما وما وقع فيه الترديد بحرف أو فقد بان التحديد والتعريف غير متوقف عليه وإنما ذكر لزيادة البيان والإيضاح فلا يكون ذلك مانعاً من تعريف المحدود كيف وإنه لا معنى للترديد سوى بيان صحة انقسام الحكم والجامع إلى ما قيد وصحة الانقسام من الصفات اللازمة التي لا ترديد فيها.

وعن السادس أن المطلوب إنما هو تحديد القياس الصحيح الشرعي والفاسد ليس من هذا القبيل فخروجه عن الحد لا يكون مبطلاً له لكنه يرد عليه إشكال مشكل لا محيص عنه وهو أن الحكم في الفرع نفياً وإثباتاً متفرع على القياس إجماعاً وليس هو ركناً في القياس لأن نتيجة الدليل لا تكون ركناً في الدليل.
لما فيه من الدور الممتنع وعند ذلك فيلزم من أخذ إثبات الحكم ونفيه في الفرع في حد القياس أن يكون ركنا في القياس وهو دور ممتنع وقد أخذه في حد القياس حيث قال في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما إشارة إلى الفرع والأصل.
والمختار في حد القياس أن يقال إنه عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلة المستنبطة من حكم الأصل وهذه العبارة جامعة مانعة وافية بالغرض عرية عما يعترضها من التشكيكات العارضة لغيرها على ما تقدم.
وإذا عرف معنى القياس فهو يشتمل على أربعة أركان: الأصل والفرع وحكم الأصل والوصف الجامع.
أما الأصل فقد يطلق على أمرين الأول ما بني عليه غيره كقولنا: إن معرفة الله أصل في معرفة رسالة الرسول من حيث إن معرفة الرسول تنبني على معرفة المرسل.
الثاني ما عرف بنفسه من غير افتقار إلى غيره وإن لم يبن عليه غيره وذلك كما تقوله في تحريم الربا في النقدين فإنه أصل وإن لم يبن عليه غيره.
وعلى هذا اختلف العلماء في الأصل في القياس وذلك كما إذا قسنا النبيذ على الخمر المنصوص عليه بقوله عليه السلام: حرمت الخمرة لعينها في تحريم الشراب هل الأصل هو النص أو الخمر أو الحكم الثابت في الخمر وهو التحريم مع اتفاق الكل على أن العلة في الخمر وهي الشدة المطربة ليست هي الأصل.
فقال بعض المتكلمين: الأصل هو النص الدال على تحريم الخمر لأنه الذي بني عليه التحريم والأصل ما بني عليه.
وقالت الفقهاء: الأصل إنما هو الخمر الثابتة حرمته لأن الأصل ما كان حكم الفرع مقتبسا منه ومردوداً إليه وهذا إنما يتحقق في نفس الخمر.
وقال بعضهم: الأصل إنما هو الحكم الثابت في الخمر لأن الأصل ما انبنى عليه غيره وكان العلم به موصلاً إلى العلم بغيره أو الظن وهذه الخاصية موجودة في حكم الخمر فكان هو الأصل.
قالوا: وليس الأصل هو النص لأن النص هو الطريق إلى العلم بالحكم ولو تصور العلم بالحكم في الخمر دون النص كان القياس ممكناً ولأنه لو كان النص هو الأصل لكونه طريقاً إلى معرفة الحكم لكان قول الراوي هو أصل القياس بطريق الأولى لكونه طريقاً إلى معرفة النص وليس كذلك بالاتفاق.
وليس الأصل أيضاً هو الخمر لأنه يعلم الخمر ولا يعلم أن الحرمة جارية فيه ولا في الفرع بخلاف ما إذا علم الحكم فكان هو الأصل.
واعلم أن النزاع في هذه المسألة لفظي وذلك لأنه إذا كان معنى الأصل ما يبنى عليه غيره فالحكم أمكن أن يكون أصلاً لبناء الحكم في الفرع عليه على ما تقرر وإذا كان الحكم في الخمر أصلا فالنص الذي به.
معرفة الحكم يكون أصلاً للأصل وعلى هذا أي طريق عرف به حكم الخمر من إجماع أو غيره أمكن أن يكون أصلاً وكذلك الخمر فإنه إذا كان محلاً للفعل الموصوف بالحرمة فهو أيضاً أصل للأصل فكان أصلاً.
والأشبه أن يكون الأصل هو المحل على ما قاله الفقهاء لافتقار الحكم والنص إليه ضرورةً من غير عكس فإن المحل غير مفتقر إلى النص ولا إلى الحكم.
وأما الفرع فهل هو نفس الحكم المتنازع فيه أو محله؟ اختلفوا فيه: فمن قال بأن الأصل هو الحكم في الخمر قال الفرع هو الحكم في النبيذ ومن قال أن الأصل هو المحل قال الفرع هو المحل وهو النبيذ وإن كان الأولى أن يكون الفرع هو الحكم المتفرع على القياس والمحل أصل الحكم المفرع على القياس فتسمية الخمر أصلاً أولى من تسمية النبيذ فرعاً من حيث إن الخمر أصل للتحريم الذي هو الأصل بخلاف النبيذ فإنه أصل للفرع لا أنه فرع له.
وأما الوصف الجامع فهو فرع في الحكم لكونه مستنبطاً من محل حكم المنصوص عليه فهو تبع للنص والحكم ومحله وهو أصل في الفرع لكون الحكم المتنازع فيه في النبيذ مبنياً عليه وتسمية الوصف الجامع في الفرع أصلاً أولى من تسمية النص في الخمر والتحريم ومحله أصلاً للاختلاف في ذلك والاتفاق على كون الوصف في ذلك أصلاً.
وإذا عرف معنى القياس وأركانه فلنشرع في بيان أبوابه: الباب الأول في شرائط القياس

ويشتمل على مقدمة وأقسام.
أما المقدمة فاعلم أن القياس على ما سبق تعريفه يستدعي أركانا لا يتم دونها وثمرةً هي نتيجته فأما الأركان فهي أربعة: الفرع المسمى بصورة محل النزاع وهي الواقعة التي يقصد تعدية حكمها إلى الفرع والحكم الشرعي الخاص بالأصل والعلة الجامعة بين الأصل والفرع.
وأما ثمرته فحكم الفرع فإنه إذا تم القياس أنتج حكم الفرع وليس حكم الفرع من أركان القياس إذ الحكم في الفرع متوقف على صحة القياس فلو كان ركنا منه لتوقف على نفسه وهو محال.
وعلى هذا فشروط القياس لا تخرج عن شروط هذه الأركان فمنها ما يعود إلى الأصل ومنها ما يعود إلى الفرع: وما يعود إلى الأصل فمنها ما يعود إلى حكمه ومنها ما يعود إلى علته فلنرسم في كل واحد منهما قسماً.
القسم الأول
في شرائط حكم الأصل وهي ثمانيةالشرط الأول أن يكون حكماً شرعياً لأن الغرض من القياس الشرعي إنما هو تعريف الحكم الشرعي في الفرع نفياً وإثباتاً فإذا لم يكن الحكم في الأصل شرعياً فلا يكون الغرض من القياس الشرعي حاصلاً كيف وإنه إذا كان قضية لغوية فقد بينا امتناع جريان القياس فيه في اللغات.
الشرط الثاني يكون ثابتاً غير منسوخ حتى يمكن بناء الفرع عليه وإلا فبتقدير أن لا يكون ثابتاً فلا ينتفع به ناظر ولا مناظر لأنه إنما تعدى الحكم من الأصل إلى الفرع بناء على الوصف الجامع وذلك متوقف على اعتبار الشارع له فإذا لم يكن الحكم المرتب على وصفه ثابتا في الشرع فلا يكون معتبراً.
الشرط الثالث أن يكون دليل ثبوته شرعياً لأن ما لا يكون دليله شرعياً لا يكون حكماً شرعياً.
الشرط الرابع أن لا يكون حكم الأصل متفرعاً عن أصل آخر وهذا ما ذهب إليه أكثر أصحابنا والكرخي خلافاً للحنابلة وأبي عبد الله البصري وذلك لأن العلة الجامعة بينه وبين أصله إما أن تكون هي العلة الجامعة بينه وبين فرعه أو هي غيرها: فإن كان الأول فالأصل الذي به الشهادة بالاعتبار إنما هو الأصل الأخير لا الأصل الأول فليقع الرد إليه وإلا فهو تطويل من غير فائدة وذلك كما لو قال الشافعي مثلاً في السفرجل مطعوم فجرى فيه الربا قياساً على التفاح ثم قاس التفاح في تحريم الربا على البر بواسطة الطعم أيضاً.
وإن كان الثاني وهو أن تكون العلة في القياسين مختلفةً فلا تخلو إما أن تكون العلة التي عدي بها الحكم من الأصل الممنوع حكمه إلى فرعه مؤثرةً أي ثابتةً بنص أو إجماع أو مستنبطةً منه: فإن كان الأول فقد أمكن إثبات الحكم في الفرع الأول بالعلة المؤثرة ولم يبق للقياس على الأصل الممنوع حكمه وقياسه على الأصل الأخير حاجة بل هو تطويل غير مفيد.
وإن كان الثاني وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة فسخ النكاح بالجذام عيب يثبت به الفسخ في البيع فيثبت به الفسخ في النكاح قياساً على الرتق والقرن ثم قاس الرتق والقرن عند توجيه منعه على الجب والعنة بواسطة فوات غرض الاستمتاع به فلا يصح القياس فيه وذلك لأن الحكم في الفرع المتنازع فيه أولاً إنما يثبت بما ثبت به حكم أصله.
فإذا كان حكم أصله ثابتاً بعلة أخرى وهي ما استنبطت من الأصل الآخر فيمتنع تعدية الحكم بغيرها لأن غيرها لم يثبت اعتبار الشارع له ضرورة أن الحكم الثابت معه ثابت بغيره بالاتفاق فلو ثبت الحكم به في الفرع الأول مع عدم اعتباره كان ذلك إثباتاً للحكم بالمعنى المرسل الخلي عن الاعتبار وذلك ممتنع.
وعلى هذا فإن قلنا بجواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مع كونه ممتنعاً كما يأتي تقريره فهو ممتنع هاهنا حيث إنا قطعنا بأن العلة المستنبطة من الأصل الممنوع مما لم يلتفت إليها الشارع في إثبات الحكم في أصلها للاتفاق على ثبوته بغيرها.

والجمع بين العلل إنما يكون حيث يمكن الظن باعتبار الشارع لها من إثبات الحكم على وفقها هذا كله إن كان حكم الأصل مقولاً به من جهة المستدل ممنوعاً من جهة المعترض وأما إن كان مقولاً به من جهة المعترض ممنوعاً من جهة المستدل وذلك كما لو قال الحنفي في مسألة تعيين النية عندما إذا نوى النفل أتى بما أمر به فوجب أن يصح كما إذا كان عليه فريضة الحج ونوى النفل فإن الحكم في الأصل مما لا يقول به الحنفي بل الشافعي فلا يصح من المستدل بناء الفرع عليه لأنه إما أن يذكر ذلك في معرض التقرير لمأخذ من هو منتم إليه أو في معرض الإلزام للخصم: فإن كان الأول فهو ممتنع لأنه إنما يعرف كون الوصف الجامع مأخذاً لأمامه بإثباته للحكم على وفقه وبالقياس على الأصل الذي لا يقول به إمامه لا يعرف ذلك.
وإن كان الثاني وذلك بأن يقول هذا هو عندك علة الحكم في الأصل المقيس عليه وهو موجود في محل النزاع فيلزمك الاعتراف بحكمه وإلا فيلزم منه إبطال المعنى وانتقاضه لتخلف الحكم عنه من غير معارض ويلزم من إبطال التعليل به امتناع إثبات الحكم به في الأصل فهو أيضاً ممتنع لوجهين: الأول أن للمعترض أن يقول: الحكم في الأصل لم يكن عندي ثابتاً على هذا الوصف بل بناء على غيره ويجب تصديقه فيه لكونه عدلاً والظاهر من حاله الصدق وهو أعرف بمأخذ مذهبه الثاني أنه وإن كان الحكم في الأصل معللاً بالوصف المذكور غير أن حاصل الإلزام يرجع إلى إلزام المعترض بالتخطئة في الفرع بإثبات خلاف حكمه ضرورة تصويبه في اعتقاد كون الوصف الجامع علة للحكم في الأصل المقيس عليه وهو غير لازم إذ ليس تخطئته في الفرع ضرورة تصويبه في تعليل حكم الأصل بالوصف المذكور أولى من تخطئته في تعليل حكم الأصل بالوصف المذكور وتصويبه في حكم الفرع.
الشرط الخامس أن لا يكون حكم الأصل معدولاً به عن سنن القياس والمعدول به عن سنن القياس على قسمين : الأول ما لا يعقل معناه وهو على ضربين: إما مستثنى من قاعدة عامة أو مبتدأ به: فالأول كقبول شهادة خزيمة وحده فإنه مع كونه غير معقول المعنى مستثنىً من قاعدة الشهادة.
والثاني كأعداد الركعات وتقدير نصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات فإنه مع كونه غير معقول المعنى غير مستثنى من قاعدة سابقة عامة وعلى كلا التقديرين يمتنع فيه القياس.
الثاني ما شرع ابتداء ولا نظير له ولا يجري فيه القياس لعدم النظير وسواء كان معقول المعنى كرخص السفر والمسح على الخفين لعلة دفع المشقة أو هو غير معقول المعنى كاليمين في القسامة وضرب الدية على العاقلة ونحوه.
الشرط السادس إذا كان حكم الأصل متفقاً عليه فقد اختلفوا في كيفية الاتفاق: فمنهم من قال بأنه يكفي أن يكون ذلك متفقاً عليه بين الفريقين لا غير ومنهم من قال لا يكفي ذلك بل لا بد وأن يكون متفقاً عليه بين الأمة وإلا فإن كان متفقاً عليه بين الفريقين فقط فلا يصح القياس عليه وسموه قياساً مركباً.
وقبل النظر في مأخذ الحجاج فلا بد من النظر في معنى القياس المركب وأقسامه.
أما القياس المركب فهو أن يكون الحكم في الأصل غير منصوص عليه ولا مجمع عليه من الأمة وهو قسمان: الأول مركب الأصل والثاني مركب الوصف.
أما التركيب في الأصل فهو أن يعين المستدل علةً في الأصل المذكور ويجمع بها بينه وبين فرعه فيعين المعترض فيه علةً أخرى ويقول: الحكم عندي ثابت بهذه العلة وذلك كما إذا قال في مسألة الحر بالعبد مثلاً عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب فإن المكاتب غير منصوص عليه ولا مجمع عليه بين الأمة لاختلاف الناس في وجوب القصاص على قاتله وإنما هو متفق عليه بين الشافعي وأبي حنيفة وعند ذلك فللحنفي أن يقول العلة في المكاتب المتفق عليه المانعة من جريان القصاص فيه عندي إنما هو جهالة المستحق من السيد أو الورثة.
فإن سلم ذلك امتنعت التعدية إلى الفرع لخلو الفرع عن العلة وإن أبطل التعليل بها فأنا أمنع الحكم في الأصل لأنه إنما ثبت عندي بهذه العلة وهي مدرك إثباته ولا محذور في نفي الحكم لانتفاء مدركه إذ لم يلزم منه مخالفة نص ولا إجماع وعلى كلا التقديرين فالقياس يكون ممتنعاً إما لمنع حكم الأصل وإما لعدم علة الأصل في الفرع.

قال بعض الأصوليين: وإنما سمي هذا النوع قياساً مركباً لاختلاف الخصمين في علة الأصل وليس بحق وإلا كان كل قياس اختلف في علة أصله وإن كان منصوصاً أو متفقاً عليه بين الأمة مركباً وليس كذلك.
والأشبه أنه إنما سمي بذلك لاختلاف الخصمين في تركيب الحكم على العلة في الأصل فإن المستدل يزعم أن العلة الجامعة مستنبطة من حكم الأصل وهي فرع له والمعترض يزعم أن الحكم في الأصل فرع على العلة وهي المثبتة له وأنه لا طريق إلى إثباته سواها وأنها غير مستنبطة منه ولا هي فرع عليه ولذلك منع ثبوت الحكم عند إبطالها وإنما سمي مركب الأصل لأنه نظير في علة حكم الأصل.
وأما مركب الوصف فهو ما وقع الاختلاف فيه في وصف المستدل هل له وجود في الأصل أو لا؟ وذلك كما لو قال المستدل في مسألة تعليق الطلاق بالنكاح تعليق فلا يصح قبل النكاح كما لو قال: زينب التي أتزوجها طالق فللخصم أن يقول: لا نسلم وجود التعليق في الأصل بل هو تنجيز فإن ثبت أنه تعليق فأنا أمنع الحكم وأقول بصحته كما في الفرع ولا يلزمني من المنع محذور لعدم النص عليه وإجماع الأمة وإنما سمي مركب الوصف لأنه خلاف في تعيين الوصف الجامع.
وإذ أتينا على بيان معنى القياس المركب وأقسامه فنقول: لا يخلو إما أن ينظر في ذلك إلى الناظر المجتهد أو المناظر: فإن كان الأول فإن كان له مدرك في ثبوت حكم الأصل سوى النص والإجماع فالقياس صحيح لأنه إذا غلب على ظنه صحة القياس فلا يكابر نفسه فيما أوجبه ظنه وإن لم يكن له مدرك سوى النص والإجماع فالقياس متعذر لتعذر إثبات حكم الأصل وإن كان الثاني فالمختار بعد إبطال ما يعارض به الخصم في القسم الأول من التركيب وتحقيق وجود ما يدعيه في الأصل في القسم الثاني منه إنما هو التفصيل وهو أن الخصم إما أن يكون مجتهداً أو مقلداً.
فإن كان مجتهداً وظهر في نظره إبطال المدرك الذي بني عليه حكم الأصل فله منع حكم الأصل وعند ذلك فالقياس لا يكون منتفعاً به بالنسبة إلى الخصم.
وإن كان مقلداً فليس له منع الحكم في الأصل وتخطئة إمامه فيه بناء على عجزه هو عن تمشية الكلام مع المستدل وذلك لاحتمال أن لا يكون ما عينه المعترض هو المأخذ في نظر إمامه وبتقدير أن يكون هو المأخذ في نظر إمامه فلا يلزم من عجز المقلد عن تقريره عجز إمامه عنه لكونه أكمل حالاً منه وأعرف بوجه ما ذهب إليه وتقريره.
وقد قيل إنه وإن كان لا بد من تخطئة إمام المعترض إما في حكم الأصل أو الفرع فليس للخصم تخطئة إمامه في حكم الأصل دون الفرع وليس بحق فإنه كما أنه ليس للخصم تخطئة إمامه في حكم الأصل دون الفرع فليس للمستدل تخطئة إمام المعترض في الفرع دون الأصل ولا أولوية.
فإن قيل: بل تخطئته في الفرع أولى لوقوع الخلاف فيه بين إمام المستدل وإمام المعترض بخلاف حكم الأصل فيقال كما أن الخلاف واقع في الفرع بين الإمامين فالخلاف في الأصل أيضاً واقع بين الأئمة إذ هو غير مجمع عليه وليس موافقة إمام المستدل في الفرع أولى من موافقة المخالف في الأصل.
الشرط السابع أن لا يكون الدليل الدال على إثبات حكم الأصل دالاً على إثبات حكم الفرع وإلا فليس جعل أحدهما أصلاً للآخر أولى من العكس.
الشرط الثامن اختلف الأصوليون في اشتراط قيام الدليل على تعليل حكم الأصل وجواز القياس عليه نفياً وإثباتاً والمختار أنه إن أريد بالدليل الدال على ذلك أن يكون دليلاً خاصاً بذلك الأصل من كتاب أو سنة أو إجماع فهو باطل.
وإن أريد به أنه لا بد من قيام دليل على ذلك بجهة العموم والشمول فهو حق: وذلك لأنا سنبين أن كل أصل أمكن تعليل حكمه فإنه يجب تعليله وإنه يجوز القياس عليه وذلك لأن مدرك كون القياس حجةً إنما هو إجماع الصحابة على ما يأتي.
وقد علمنا من تتبع أحوالهم في مجاري اجتهاداتهم أنهم كانوا يقيسون الفرع على الأصل عند وجود ما يظن كونه علةً لحكم الأصل في الأصل فظن وجوده في الفرع وإن لم يقم دليل خاص على وجوب تعليل حكم ذلك الأصل وجواز القياس عليه حتى قال عمر لأبي موسى الأشعري: اعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك ولم يفصل.
وكذلك اختلفوا في قوله: أنت علي حرام حتى قاسه بعضهم على الطلاق وبعضهم على الظهار وبعضهم على اليمين ولم ينقل نص خاص ولا إجماع على القياس على تلك الأصول ولا على جواز تعليلها.


القسم الثاني
في شروط علة الأصلوقد اتفق الكل على جواز تعليل حكم الأصل بالأوصاف الظاهرة الجلية العرية عن الاضطراب وسواء أكان الوصف معقولاً كالرضى والسخط أم محساً كالقتل والسرقة أم عرفياً كالحسن والقبح وسواء أكان موجوداً في محل الحكم كما ذكر من الأمثلة أم ملازماً له غير موجود فيه كتحريم نكاح الأمة لعلة رق الولد لكن اختلفوا في شروط فلنفرض في كل واحد منها مسألة.
المسألة الأولى ذهب الأكثرون إلى أن شرط علة الأصل أن لا يكون محل حكم الأصل ولا جزءً من محله.
وذهب آخرون إلى جوازه.
والمختار إنما هو التفصيل وهو امتناع ذلك في المحل دون الجزء وذلك لأن الكلام إنما هو واقع في علة أصل القياس فلو كانت العلة فيه هي محل حكم الأصل بخصوصه لكانت العلة قاصرةً لاستحالة كون محل حكم الأصل بخصوصه متحققاً في الفرع وإلا كان الأصل والفرع متحداً وهو محال.
نعم إنما يمكن ذلك فيما إذا لم تكن علة حكم الأصل متعديةً لأنه لا يعد في استلزام محل الحكم لحكمة داعية إلى ذلك الحكم كاستلزام الأوصاف العامة لمحل الأصل والفرع.
وأما الجزء فلا يمتنع التعليل به لاحتمال عموم الأصل والفرع.
المسألة الثانية اختلفوا في جواز كون العلة في الأصل بمعنى الأمارة المجردة والمختار أنه لا بد وأن تكون العلة في الأصل بمعنى الباعث أي مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم وإلا فلو كانت وصفاً طردياً لا حكمة فيه بل أمارة مجردة فالتعليل بها في الأصل ممتنع لوجهين: الأول: أنه لا فائدة في الأمارة سوى تعريف الحكم والحكم في الأصل معروف بالخطاب لا بالعلة المستنبطة منه.
الثاني: أن علة الأصل مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عنه فلو كانت معرفةً لحكم الأصل لكان متوقفاً عليها ومتفرعاً عنها وهو دور ممتنع.
المسألة الثالثة ذهب الأكثرون إلى امتناع تعليل الحكم بالحكمة المجردة عن الضابط.
وجوزه الأقلون ومنهم من فصل بين العلة الظاهرة المنضبطة بنفسها والحكمة الخفية المضطربة فجوز التعليل بالأولى دون الثانية وهذا هو المختار.
أما إذا كانت الحكمة ظاهرةً منضبطةً غير مضطربة فلأنا أجمعنا على أن الحكم إذا اقترن بوصف ظاهر منضبط مشتمل على حكمة غير منضبطة بنفسها أنه يصح التعليل به وإن لم يكن هو المقصود من شرع الحكم بل ما اشتمل عليه من الحكمة الخفية فإذا كانت الحكمة وهي المقصود من شرع الحكم مساويةً للوصف في الظهور والانضباط كانت أولى بالتعليل بها.
وأما إذا كانت الحكمة خفية مضطربة غير منضبطة فيمتنع التعليل بها لثلاثة أوجه: الأول أنها إذا كانت خفيةً مضطربةً مختلفةً باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال فلا يمكن معرفة ما هو مناط الحكم منها والوقوف عليه إلا بعسر وحرج ودأب الشارع فيما هذا شأنه على ما ألفناه منه إنما هو رد الناس فيه إلى المظان الظاهرة الجلية دفعاً للعسر عن الناس والتخبط في الأحكام.
ولهذا فإنا نعلم أن الشارع إنما قضى بالترخص في السفر دفعاً للمشقة المضبوطة بالسفر الطويل إلى مقصد معين ولم يعلقها بنفس المشقة لما كانت مما يضطرب ويختلف ولهذا فإنه لم يرخص للحمال المشقوق عليه في الحضر وإن ظن أن مشقته تزيد على مشقة المسافر في كل يوم فرسخ وإن كان في غاية الرفاهية والدعة لما كان ذلك مما يختلف ويضطرب.
الثاني: أن الإجماع منعقد على صحة تعليل الأحكام بالأوصاف الظاهرة المنضبطة المشتملة على احتمال الحكم كتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان لحكمة الزجر أو الجبر وتعليل صحة البيع بالتصرف الصادر من الأهل في المحل لحكمة الانتفاع وتعليل تحريم شرب الخمر وإيجاب الحد به لحكمة دفع المفسدة الناشئة منه ونحوه ولو كان التعليل بالحكمة الخفية مما يصح لم احتيج إلى التعليل بضوابط هذه الحكم والنظر إليها لعدم الحاجة إليها ولما فيه من زيادة الحرج بالبحث عن الحكمة وعن ضابطها مع الاستغناء بأحدهما.

الثالث: أن التعليل بالحكمة المجردة إذا كانت خفيةً مضطربةً مما يفضي إلى العسر والحرج في حق المكلف بالبحث عنها والاطلاع عليها والحرج منفي بقوله تعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج 78 غير أنا خالفناه في التعليل بالوصف الظاهر المنضبط لكون المشقة فيه أدنى فبقينا عاملين بعموم النص فيما عداه.
فإن قيل: ما ذكرتموه في جواز التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة فهو فرع إمكان ذلك وهو غير مسلم في الحكمة فإنها راجعة إلى الحاجات إلى المصالح ودفع المفاسد والحاجات مما تخفى وتزيد وتنقص فلا تكون ظاهرةً ولا منضبطةً وإن سلمنا إمكان ذلك نادراً غير أنه يلزم من التوسل إلى معرفتها في آحاد الصور لتعيين القليل منها نوع عسر وحرج لا يلزم في التوسل إلى معرفة الضوابط الجلية والمظان الظاهرة المنضبطة المشتملة على احتمال الحكم في الغالب وذلك مدفوع بقوله تعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " .
وما ذكرتموه في امتناع التعليل بالحكمة الخفية: أما الوجه الأول فالبحث عن الحكمة الخفية وإن كان فيه نوع حرج ومشقة غير أنه لا بد منه عند التعليل بالوصف الظاهر المشتمل عليها ضرورة أنها علة لكون الوصف علةً ولولا اشتمال الوصف عليها لما كان علةً للحكم وإذا لم يكن بد من معرفتها في جعل الوصف علة للحكم وقد جعلت علة للعلة أمكن أن تجعل علة للحكم من غير حاجة إلى ضابطها.
وحيث لم تقض بالترخص في حق الحمال في الحضر دفعاً للمشقة عنه فغايته امتناع تعليل الرخصة بمطلق المشقة بل بالمشقة الخاصة بالسفر ولا يلزم من ذلك امتناع التعليل بالحكمة مطلقاً.
وأما الوجه الثاني فغاية ما فيه جواز التعليل بالضابط المشتمل على الحكمة وليس فيه ما يدل على امتناع التعليل بالحكمة قولكم: إنه لا حاجة إليه لا نسلم ذلك فإن الاطلاع عليه أسهل من الاطلاع على الحكمة.
وأما الوجه الثالث فهو أن الحرج اللازم عن البحث عن الحكمة الخفية وإن كان شاقاً غير أنه لا يزيد على البحث عنها عند التعليل بضابطها بل المشقة في تعرفها مع تعرف ضابطها أشق من تعرفها دون ضابطها.
وقد أجمعنا على مخالفة النص المذكور عند التعليل بالضابط وكانت مخالفته عند التعليل بالحكمة لا غير أقل مشقةً وحرجاً فكان أولى بالمخالفة.
والجواب عن الاعتراض الأول: أن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا كانت الحكمة ظاهرةً منضبطةً بنفسها في بعض الصور لا فيما لم يكن قولهم: إن الاطلاع عليها والبحث عنها أشق من البحث عن الضابط ليس كذلك فإنها إذا كانت ظاهرةً منضبطةً كالوصف فلا تفاوت.
وعن الاعتراض الأول: على الوجه الثاني: أن البحث عن الحكمة عند تجردها عن الضابط لا بد فيه من معرفة كميتها وخصوصيتها حتى نأمن من الاختلاف بين الأصل والفرع فيها وذلك غير ممكن في الحكمة الخفية المضطربة ولا يكفي فيه مجرد معرفة احتمالها بخلاف ما إذا كانت مضبوطةً بضابط فإنا نكتفي بمعرفة الضابط ومعرفة أصل احتمال الحكمة لا غير ويدل على ذلك ما ذكرناه من الاستشهاد وما ذكروه عليه فهو اعتراف بامتناع التعليل بمجرد الحكمة وهو المطلوب.
وعن الاعتراض على الوجه الثاني أنه لو أمكن التعليل بالحكمة لما احتيج إلى التعليل بالضابط: قولهم إن الوقوف عليه أسهل من الوقوف على الحكمة بمجردها قلنا: فيلزم من ذلك امتناع التعليل بالحكمة لما فيه من تأخير إثبات الحكم الشرعي إلى زمان إمكان الاطلاع على الحكمة مع إمكان إثباته بالضابط في أقرب زمان وذلك ممتنع.
وعن الاعتراض على الوجه الثالث أنا لا نسلم التساوي في الحرج والمشقة في البحث عن الحكمة مع ضابطها ومع خلوها عن الضابط وذلك لأنا نفتقر في البحث عنها عند خلوها عن الضابط إلى معرفة خصوصيتها وكميتها حتى نأمن من التفاوت فيها بين الأصل والفرع كما سبق ولا كذلك في البحث عنها مع ضابطها فإنا لا نفتقر في البحث عنها إلى أكثر من معرفة أصل احتمالها ولا يخفى أن الحرج في تعرفها على جهة التفصيل أتم من تعرفها لا بجهة التفصيل.
المسألة الرابعة اختلفوا في جواز تعليل الحكم الثبوتي بالعدم: فجوزه قوم ومنع منه آخرون وشرطوا أن تكون العلة للحكم الثبوتي أمراً وجودياً وهو المختار وبيانه من ثلاثة أوجه:

الأول: أن الحكم بكون الوصف علةً صفة وجودية لأن نقيض العلة لا علة و لا علة أمكن أن يكون صفة لبعض الأعدام ولو كان المفهوم من لا علة وجودياً لكان الوجود صفة للعدم وهو محال وإذا كان لا علة عدماً فالمفهوم من نقيضها وجودي.
الوجه الثاني: أنه يصح قول القائل أي شيء وجد حتى حدث هذا الأمر؟ ولو لم يكن الحدوث متوقفاً على وجود شيء لما صح هذا الكلام كما لو قال أي رجل مات حتى حدث لفلان هذا المال؟ حيث لم يكن حدوث المال لفلان متوقفاً على ما قيل.
الثالث: وهو خاص بما إذا كان الحكم ثابتاً بخطاب التكليف كالوجوب والحظر ونحوه وهو أن يقال قد ثبت أن العلة المستنبطة من الحكم لا بد وأن تكون بمعنى الباعث لا بمعنى الأمارة والباعث ما اشتمل على تحصيل مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تعليلها كما يأتي بيانه.
فإذا كان الحكم ثابتاً بخطاب التكليف لمثل هذا الغرض فلا بد وأن يكون ضابط ذلك الغرض مقدوراً للمكلف في إيجاده وإعدامه وإلا لما كان شرع ذلك الحكم مفيداً لمثل ذلك الغرض لعدم إفضائه إلى الغرض المطلوب والعدم المحض لا انتساب له إلى قدرة المكلف لا بإيجاد ولا إعدام فجعل ضابطاً لغرض الحكم ومقصوده لا يكون مفضياً إلى مقصود شرع الحكم فيمتنع التعليل به.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الوجه الأول معارض بما يدل على أن المفهوم من صفة العلة عدم وبيانه من وجهين: الأول أنه لو كانت صفة العلة أمراً وجودياً لم يخل إما أن تكون واجبةً لذاتها أو ممكنةً: الأول محال وإلا لما افتقرت إلى الموصوف بها والثاني يوجب افتقارها إلى علة مرجحة لها والكلام في صفة تلك العلة كالكلام في الأولى وهو تسلسل ممتنع.
الوجه الثاني: أنه يصح وصف الأمر العدمي بكونه علة للأمر العدمي ولهذا يصح أن يقال: إنما لم أسلم على فلان لأني لم أره وإنما لم أفعل كذا لعدم الداعي إليه.
وأما الوجه الثاني فليس فيه دلالة على توقف حدوث ذلك الأمر على تجدد وجود أمر آخر ولهذا فإنه يصح أن يقال أي شيء صنع هذا حتى حدث له هذا المال؟ وإن لم يكن حصول المال له موقوفاً على صنع من جهته لجواز حدوثه له عن إرث أو وصية.
وإن سلمنا دلالته على التوقف على الأمر الوجودي غير أنه معارض بما يدل على صحة تعليل الأمر الوجودي بالأمر العدمي وبيانه أنه يصح أن يقال ضرب فلان عبده لأنه لم يمتثل أمره وشتم فلان فلاناً لأنه لم يسلم عليه وهو تعليل للأمر الوجودي بالأمر العدمي.
وأما الوجه الثالث فهو وإن سلمنا أن العلة لا بد وأن تكون بمعنى الباعث وأن الباعث عبارة عما ذكرتموه ولكن لا نسلم امتناع كون الوصف العدمي باعثاً وذلك لأنا أجمعنا على جواز التعليل بالوصف الوجودي الظاهر المنضبط إذا كان يلزم من ترتيب الحكم على وفقه تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة ظاهرا فالعدم المقابل له يكون أيضاً ظاهراً منضبطاً ويكون مشتملاً على نقيض ما اشتمل عليه الوصف الوجودي وهو لا يخرج عن المصلحة أو المفسدة لأنه إن كان ما اشتمل عليه الوصف الوجودي مصلحةً فعدمه يلزمه عدم تلك المصلحة وعدم المصلحة مفسدة وإن كان ما اشتمل عليه الوصف الوجودي مفسدة فعدمه يلزمه عدم تلك المفسدة وعدم المفسدة مصلحة وهو مقدور للمكلف لأنه إذا كان مقابله وهو الوصف الوجودي مقدوراً فلا معنى لكونه مقدوراً إلا أنه مقدور على إيجاده وإعدامه فإذا العدم المقابل للوجود مقدور وإذا كان مقدورا وهو ظاهر منضبط مشتمل على مصلحة أو مفسدة فقد أمكن التعليل به كما أمكن التعليل بالوصف الوجودي.
والجواب عن الأول أن ما ذكروه من لزوم التسلسل بتقدير كون العلية صفةً وجوديةً لازم بتقدير كونها عدمية وذلك لأن المفهوم من صفة العلية إذا كان أمراً عدمياً فإما أن يكون واجباً لنفسه ومفهومه أو ممكناً: لا جائز أن يكون واجباً لذاته ولا لما افتقر في تحقيقه إلى نسبته إلى ذات العلة وكونه وصفاً لها وإن كان ممكناً فلا بد له من علة مرجحة والتسلسل لازم له وعند ذلك فالجواب يكون متحداً.
وما ذكروه من الاحتجاج ثانياً فلا يصح وذلك لأن وجود الداعي إلى الفعل شرط لوجود الفعل وكذلك الرؤية لزيد شرط في السلام عليه لا أن ذلك علة له وإنما أضيف عدم الأثر إليه بلام التعليل بجهة التجوز لمشابهته للعلة في افتقار الأثر إلى كل واحد منهما.

ولذلك يقال في صورة تعليق الطلاق والعتق بدخول الدار إنما طلقت الزوجة وعتق العبد لدخول الدار ويجب حمل ذلك على جهة التجوز جمعاً بينه وبين ما ذكرناه من الدليل.
قولهم على الوجه الثاني: ليس فيه دلالة على توقف الحدوث عل تجدد الوجود قلنا: دليله ما ذكرناه وما ذكروه من الاستشهاد فإنما صح بناء على الظاهر من جهة أن الغالب في حدوث المال لبعض الأشخاص أن يكون مستنداً إلى صنعة لا إلى ما ذكروه ونحن إنما نتمسك في هذا الوجه بالظاهر لا بالقطع.
وما ذكروه من المعارضة الدالة على تعليل الأمر الوجودي بالأمر العدمي غير صحيح فإن المعلل به ليس هو العدم المحض فإنه غير منتسب إلى فعل الشخص فلا يحسن جعله علة للعقاب لا عقلاً ولا شرعاً وإنما التعليل بالامتناع عن ذلك وكف النفس عنه وهو أمر وجودي لا عدمي.
وما ذكروه على الوجه الثالث فحاصله راجع إلى التعليل بالإعدام المقدور وهو أمر وجودي لا بالعدم المحض الذي لا قدرة للمكلف عليه وذلك غير ما وقع فيه النزاع.
وإذا عرف امتناع تعليل الوجود بالعدم المحض مما ذكرناه فبمثله يعلم أن العدم لا يكون جزأ من العلة المقتضية للأمر الوجودي ولا داخلاً فيها والوجه في الاعتراض على ذلك والانفصال فعلى ما تقدم.
ويخصه اعتراض آخر وهو أن انتفاء معارضة المعجزة بمثلها جزء من المعرف لكونها معجزةً وكذلك الدوران فإنه معرف لعلية المدار وأحد أجزاء الدوران العدم مع العدم.
وجوابه أنا لا نسلم أن العدم فيما ذكروه من صور الاستشهاد جزء من المعرف بل شرط والشرط غير الجزء.
وإذا عرف امتناع تعليل الحكم الثبوتي بالعدم المحض وامتناع جعله جزأ من العلة لزم امتناع التعليل بالصفات الإضافية وذلك لأن المفهوم من الصفة الإضافية إما أن يكون وجوداً أو عدماً لا جائز أن يكون وجوداً لأن الصفة الإضافية لا بد وأن تكون صفة للمضاف ويلزم من ذلك قيام الصفة الوجودية بالمعدوم المحض وهو محال.
وبيان لزوم ذلك أن الإضافة الواقعة بين المتناقضين وبين المتقدم والمتأخر قائمة لكل واحد من الأمرين وأحد المتقابلين مما ذكرناه لا بد وأن يكون معدوماً وإذا بطل أن يكون المفهوم من الإضافة وجوداً تعين أن يكون عدماً.
؟المسألة الخامسة اختلفوا في جواز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي: فجوزه قوم ومنع منه آخرون وشرطوا في العلة أن لا تكون حكماً شرعياً.
ونحن نشير إلى مأخذ الفريقين وننبه على ما فيه ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار: فأما من قال بأن الحكم يجوز أن يكون علةً للحكم فقد احتجوا عليه بأن أحد الحكمين قد يكون دائراً مع الحكم الآخر وجوداً وعدماً والدوران دليل كون المدار عليه للدائر وسنبين أن الدوران لا يدل على التعليل فيما بعد.
وأما القائلون بامتناع التعليل بالحكم فقد احتجوا بأن الحكم إذا كان علة لحكم آخر فإما أن يكون متقدماً عليه أو متأخراً عنه أو مقارناً له: لا جائز أن يقال بالأول وإلا لزم منه وجود العلة مع تخلف حكمها عنها وهو نقض للعلة.
ولا جائز أن يقال بالثاني لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم.
وإن كان الثالث فليس جعل أحدهما علةً للآخر أولى من العكس.
وأيضاً فإنه يحتمل أن لا يكون لحكم الأصل علة ويحتمل أن يكون وإذا كان معللاً احتمل أن لا يكون الحكم به هو العلة واحتمل أن يكون وعلى هذا فلا يكون علةً على تقديرين وإنما يكون علة على تقدير واحد ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد.
وأيضاً فإنه لو كان الحكم علة للحكم فإما أن يكون علة بمعنى الإمارة المعرفة أو بمعنى الباعث: لا جائز أن يقال بالأول لما سبق ولا جائز أن يقال بالثاني لأن القول بكون الحكم داعياً وباعثاً على الحكم محال خارق للإجماع.
ولقائل أن يقول: أما الحجة الأولى فلا نسلم امتناع التقدم.
قولهم: يلزم منه نقض العلة ليس كذلك فإن الحكم لم يكن علة لنفسه وذاته بل إنما يصير علة باعتبار الشرع له بقران الحكم الآخر به وذلك كما في تعليل تحريم شرب الخمر بالشدة المطربة فإن الشدة المطربة وإن كانت متقدمة على التحريم فلا يقال إنها علة قبل اعتبارها من الشرع بقران التحريم بها فلا تكون منتقضةً بتخلف التحريم عنها قبل ورود الشرع وإن سلمنا امتناع التقدم فما المانع أن يكون مقارناً؟.

قولهم: ليس جعل أحد المقترنين علة للآخر أولى من العكس ليس كذلك فإن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا كان أحد الحكمين مناسباً للحكم الآخر من غير عكس وإلا فمع قطع النظر عن جهة البعث في أحد الحكمين فلا يكون علة.
وما ذكروه من الترجيح فهو لازم عليهم في التعليل بالأوصاف الحقيقة وما هو جواب ثم فهو الجواب فيما نحن فيه.
وأما الحجة الثانية فالمختار من قسميها أنه علة بمعنى الباعث.
قولهم: إنه ممتنع خارق للإجماع دعوى مجردة لا دليل عليها.
وعند هذا فنقول: المختار أنه يجوز أن يكون الحكم علة للحكم بمعنى الإمارة المعرفة لكن لا في أصل القياس بل في غيره فقد حرمت كذا فإنه لا يمتنع أن يقول الشارع: مهما رأيتم أنني حرمت كذا فقد حرمت كذا ومهما أبحت كذا فقد أبحث كذا كما لو قال: مهما زالت الشمس فصلوا ومهما طلع هلال رمضان فصوموا.
وأما في أصل القياس فقد بينا أنه لا يجوز أن تكون العلة فيه بمعنى الإمارة المعرفة بل بمعنى الباعث فإذا كان الحكم علة لحكم أصل القياس فلا بد وأن يكون باعثاً عليه وعلى هذا فحكم الأصل إما أن يكون حكماً تكليفياً أو ثابتاً بخطاب الوضع والأخبار.
فإن كان ثابتاً بخطاب التكليف امتنع أن يكون الحكم الشرعي علةً له لأنه غير مقدور للمكلف لا في إيجاده ولا في إعدامه فلا يصلح أن يكون علةً لما ذكرناه في امتناع التعليل بالوصف العدمي وبما ذكرناه أيضاً يمتنع تعليله بالوصف العرفي والتقديري والوصف الوجودي الذي لا قدرة للمكلف على تحصله كالشدة المطربة والطعم والتعدية والصغر ونحوه.
وأما إن كان حكم الأصل ثابتاً بخطاب الوضع والأخبار فلا بد وأن يكون الحكم المعلل به باعثاً على حكم الأصل إما لدفع مفسدة لزمت من شرع الحكم مصلحة تلزم منه: فإن كان الأول فيمتنع أن يكون الحكم علةً لأن المفسدة اللازمة من الحكم المعلل به كانت مطلوبة الانتفاء بشرع حكم الأصل لما شرع الحكم المعلل به لما يلزم من شرعه من وجوه مفسدة مطلوبة الانتفاء للشارع: وإن كان الثاني فلا يمتنع تعليل الحكم بالحكم فإنه لا يمتنع أن يكون ترتيب أحد الحكمين على الآخر يستلزم حصول مصلحة لا يستقل بها أحدهما فقد ينحل من هذه الجملة أن إطلاق القول بامتناع التعليل بالحكم الشرعي وجوازه ممتنع بل لا بد من النظر إلى ما ذكرناه لما ذكرناه من التفصيل.
المسألة السادسة اشترط قوم أن تكون العلة ذات وصف واحد لا تركيب فيه كتعليل تحريم الخمر بالإسكار ونحوه ومنع من ذلك الأكثرون وهو المختار وذلك كتعليل وجوب القصاص بالمحدد بالقتل العمد العدوان.
ودليله أنه لا يمتنع أن تكون الهيئة الاجتماعية من الأوصاف المتعددة مما يقوم الدليل على ظن التعليل بها إما بمناسبة أو شبه أو سبر وتقسيم أو غير ذلك من طرق الاستنباط أو التخريج مع اقتران الحكم بها حسب دلالته على علية الوصف الواحد وكان علةً.
فإن قيل: ما ذكرتموه وإن دل على جواز التعليل بعلة ذات أوصاف غير أنه معارض بما يدل على امتناعه.
وبيانه من أربعة أوجه: المعارضة الأولى أن مجموع الأوصاف إذا كان علةً للحكم فالعلية صفة زائدة على مجموع تلك الأوصاف ودليله أمران: الأول: أنا نعقل الهيئة الاجتماعية من الأوصاف ونجهل كونها علةً والمعلوم غير المجهول.
الثاني: أنه يحسن أن يقال: الهيئة الاجتماعية من الأوصاف علة فنصفها بها والصفة يجب أن تكون غير الموصوف وعند ذلك فإما أن تكون صفة العلية بتمامها قائمةً بكل واحد من الأوصاف أو بواحد منها أو أنها مع اتحادها قائمة بالمجموع كل بعض منها قائم بوصف: لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان كل وصف علةً مستقلةً لأن العلة مجموع الأوصاف وهو خلاف الفرض كيف وإن ذلك محال كما يأتي.
وإن قيل بالثاني فالعلة ذلك الوصف الذي قامت به صفة العلية لا مجموع الأوصاف وهو أيضاً خلاف الفرض.
ولا جائز أن يقال بالثالث لأن صفة العلية متحدة فيلزم من ذلك تعدد المتحد لقيامه بالمتعدد أو اتحاد المتعدد وهو محال.
المعارضة الثانية أنه لو كانت العلية صفة لأوصاف متعددة فهي متوقفة على كل واحد من تلك الأوصاف ويلزم من ذلك أن يكون عدم كل وصف منها علةً مستقلةً لعدم صفة العلية ضرورة انتفائها عند عدمه وذلك محال لوجهين:

الأول أنه إذا انتفت جميع الأوصاف فإما أن يكون عدم كل وصف علةً مستقلةً لعدم العلية أو البعض دون البعض أو أنه لا واحد منها مستقل بل المستقل الجميع.
لا جائز أن يقال بالأول لأن معنى استقلال عدم كل واحد من الأوصاف بعدم العلية لا معنى له سوى أنه المفيد لذلك دون غيره ويلزم من ذلك امتناع استقلال كل واحد منها.
ولا جائز أن يقال بالثاني لأنه لا أولوية لاختصاص البعض بذلك دون البعض.
ولا جائز أن يقال بالثالث لما فيه من إخراج كل واحد من تلك الأوصاف عن الاستقلال بالعلية وقد قيل إنه مستقل.
الوجه الثاني: أنه إذا كان عدم كل وصف منها يستقل عند انفراده بعدم العلية فبتقدير انتفاء العلية عند انتفاء بعض الأوصاف يلزم منه أنه إذا انتفى بعد ذلك وصف آخر من تلك الأوصاف أن لا يكون موجباً لعدم العلية لكونها معدومةً ويلزم من ذلك نقض العلة العقلية وهو محال.
المعارضة الثالثة: أنه لا يخلو إما أن يكون كل واحد من تلك الأوصاف مناسباً للحكم أو لا واحد منها مناسب له أو المناسب البعض دون البعض: فإن كان الأول فيلزم من مناسبة كل واحد للحكم مع اقتران الحكم به أن يكون مستقلاً بالتعليل وعند ذلك فالحكم إما أن يضاف إلى كل واحد على سبيل الاستقلال أو إلى البعض دون البعض أو إلى الجملة والكل محال لما تقدم في المعارضة السابقة.
وإن كان الثاني فضم ما لا يصلح للتعليل إلى ما يصلح له لا يكون مفيداً للتعليل.
وإن كان الثالث فذلك هو العلة المستقلة لمناسبته وقران الحكم به ولا مدخل لغيره في التعليل.
المعارضة الرابعة: أن كل واحد من الأوصاف إذا لم يكن علة عند انفراده فعند انضمامه إن تجددت صفة العلية له فلا بد من تجدد أمر يقتضي العلية وذلك الأمر المتجدد لا بد له من علة متجددة توجبه والكلام في ذلك المتجدد كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع.
الجواب عن المعارضة الأولى من ثلاثة أوجه: الأول أنه لا معنى لكون مجموع الأوصاف علةً سوى أن الشارع قضى بالحكم رعايةً لما اشتملت عليه الأوصاف من الحكمة وليس ذلك صفة لها فلا يلزم ما ذكروه.
الثاني: أنه إن كانت العلية صفةً وجوديةً فممنوع وبيانه من وجهين: الأول: أنها لو كانت صفةً وجوديةً لكانت عرضاً والصفات المعلل بها أعراض والعرض لا يقوم بالعرض كما بيناه في أبكار الأفكار وغيره.
الثاني: أنها صفة إضافية وقد بينا فيما تقدم أن المفهوم من الصفة الإضافية غير وجودي وما ذكروه من المحال إنما يلزم بتقدير كونها صفةً وجوديةً وليس كذلك.
غير أن هذين الجوابين يناقضان ما ذكر من الوجه الأول في امتناع التعليل بالعدم.
الثالث: أن ما ذكروه منتقض بكون القول المخصوص خبراً أو استخباراً أو وعداً أو وعيداً أو غير ذلك مع تعدل ألفاظه وحروفه فإن كل ما ذكروه من الأقسام بعينه متحقق فيه ومع ذلك لم يمتنع وصفه بما وصف به فما هو الجواب هاهنا يكون جوابا في محل النزاع.
وعن الثانية: أنها مبنية على كون عدم الأوصاف علة لعدم العلية وليس كذلك لوجهين: الأول أن العدم لا يصلح أن يكون علية لما تقدم.
الثاني أن وجود كل واحد من الأوصاف شرط في تحقق العلية فانتفاء العلية عند انتفاء بعض الأوصاف أو كلها إنما هو لانتفاء الشرط لا لعلة عدم العلية.
وعن الثالثة أنه وإن لم يكن كل واحد من الأوصاف مناسباً للحكم مناسبة استقلال فلا يمتنع أن تكون مناسبة الاستقلال ناشئةً أو ملازمةً للهيئة الاجتماعية من الأوصاف كما في القتل العمد العدوان بالنسبة إلى وجوب القصاص ونحوه.
وعن الرابعة أن المتجدد والمستلزم للعلية إنما هو الانضمام الحادث بالفاعل المختار فلا تسلسل ثم يلزم على ما ذكروه تجدد الهيئة الاجتماعية من الأوصاف المتعددة فإنها غير متحققة في كل واحد واحد من الأوصاف مع لزوم ما ذكروه فما هو الجواب عن تجدد الهيئة الاجتماعية يكون جواباً عن تجدد صفة العلية.
المسألة السابعة اتفق الكل على أن تعدية العلة شرط في صحة القياس وعلى صحة العلة القاصرة كانت منصوصةً أو مجمعاً عليها وإنما اختلفوا في صحة العلة القاصرة إذا لم تكن منصوصةً ولا مجمعاً عليها.

وذلك كتعليل أصحاب الشافعي حرمة الربا في النقدين بجوهرية الثمينة: فذهب الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل والقاضي أبو بكر والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى صحتها وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبد الله البصري والكرخي إلى إبطالها.
والمختار صحتها.
وقد احتج القائلون بذلك بمسالك: المسلك الأول أنهم قالوا تعدية العلة إلى الفرع موقوف على صحتها في نفسها فلو كانت صحتها متوقفةً على تعديتها كان دوراً ممتنعاً ولقائل أن يقول إن أردتم بالتعدية الموقوفة على صحة العلة ثبوت الحكم بها في الفرع فهو مسلم وإن أردتم بالتعدية نقول بأن التعدية بالاعتبار الأول شرط في صحة العلة ليكون دوراً وإنما نقول بأن شرط صحة العلة التعدية بالاعتبار الثاني وهو غير مفض إلى الدور فإن صحة العلة وإن كانت مشروطةً بوجودها في غير محل النص فوجودها غير متوقف على صحتها في نفسها فلا دور وإن سلمنا توقف التعدية على الصحة وتوقف الصحة على التعدية فإنما يلزم الدور أن لو كان ذلك التوقف مشروطاً بتقدم كل واحد من الأمرين على الآخر وأما إذا كان ذلك بجهة المعية كما في توقف كل واحد من المضافين على الآخر فلا دور.
المسلك الثاني: أنهم قالوا إذا دار الحكم مع الوصف القاصر وجوداً وعدما دل على كونه علةً كالمتعدي وهو غير صحيح لما سنبينه من إبطال التمسك بالدوران.
المسلك الثالث: أنهم قالوا إذا جاز أن تكون علةً عند دلالة النص عليها جاز أن يكون علةً بالاستنباط وهو غير صحيح أيضاً.وذلك لأن عليتها عند دلالة النص مستفادة من النص ودلالة النص عليها غير متحققة حالة استنباطها فلا يلزم أن تكون علةً.
فإن قيل: إذا دل النص على علية الوصوف القاصر وجب الحكم بعلية المستنبط لما بينهما من الاشتراك في الحكمة قلنا: هذا قياس في الأسباب وسيأتي إبطاله والمعتمد في ذلك أن يقال إذا كان الوصف القاصر مناسباً للحكم والحكم ثابت على وفقه غلب على الظن كونه علة للحكم بمعنى كونه باعثاً عليه ولا معنى لصحة العلة سوى ذلك.
فإن قيل القضاء بصحة العلة يستدعي فائدةً فإن ما لا فائدة فيه لا يمكن القضاء بصحته وفائدة العلة إنما هي في إثبات الحكم بها والعلة القاصرة غير مثبتة للحكم في الأصل لكونه ثابتاً بالنص أو الإجماع ولأنها مستنبطة منه فتكون فرعاً عليه فلو كانت مثبتةً له لكان فرعاً عليها وهو دور ولا هي مثبتة للحكم في الفرع لعدم تعديتها فقد تعرت عن الفائدة بالكلية فلا تكون صحيحةً قلنا: وإن سلمنا امتناع إثبات الحكم بالعلية القاصرة وأن إثبات الحكم بها فائدة لها ولكن لا نسلم انحصار فائدتها في ذلك بل لها ثلاث فوائد أخر: الأولى: معرفة كونها باعثةً على الحكم بما اشتملت عليه من المناسبة أو الشبه وإذا كانت باعثة على الحكم كان الحكم معقول المعنى وكان أدعى إلى الانقياد وأسرع في القبول له مما لم يظهر فيه الباعث وكان تعبداً وإذا كان كذلك كان أفضى إلى تحصيل مقصود الشرع من شرع الحكم فكان التعليل بها مفيداً.
الثانية: أن العلة إذا كانت قاصرة فبتقدير ظهور وصف آخر متعد في محلها يمتنع تعدية الحكم به دون ترجيحه على العلة القاصرة وذلك من أجل الفوائد.
الثالثة: أنه إذا كانت القاصرة علةً وعرفناها فقد امتنع بسببها تعدية الحكم إلى الفرع وذلك أيضاً من أتم الفوائد.
فإن قيل: وإن كان ما ذكرتموه من جملة الفوائد وأن ذلك مما يغلب على الظن الصحة غير أن العمل بالظن على خلاف قوله تعالى: " وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " النجم 28 وحيث خالفناه في العلة المتعدية لاشتمالها على ما ذكرتموه من الفوائد وزيادة فائدة التعدية فلا يلزم منه المخالفة فيها دون ذلك.
قلنا: يجب حمل الآية على ما المطلوب فيه القطع جمعاً بينه وبين ما ذكرناه من الدليل سلمنا أنه لا فائدة في العلة القاصرة ولكن لا يلزم من ذلك امتناع القضاء بصحتها بدليل ما لو كانت منصوصةً.
المسألة الثامنة اختلفوا في جواز تخصيص العلة المستنبطة: فجوزه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل ومنع من ذلك أكثر أصحاب الشافعي

وقد قيل إنه منقول عن الشافعي ثم القائلون بجواز تخصيصها اتفقوا على جواز تخصيص العلة المنصوصة واختلفوا في جواز تخصيص المستنبطة إذا لم يوجد في محل التخلف مانع ولا فوات شرط فمنع منه الأكثرون وجوزه الأقلون والقائلون بالمنع في تخصيص العلة المستنبطة اختلفوا في جواز تخصيص العلة المنصوصة.
والمختار إنما هو التفصيل وهو أن يقال: العلة الشرعية لا تخلو إما أن تكون قطعيةً أو ظنيةً: فإن كانت قطعيةً فتخلف الحكم عنها لايخلو إما أن يكون لا بدليل أو بدليل لا جائز أن يقال بالأول لأنه محال.
وإن كانت ظنيةً فتخلف الحكم عنها إما في معرض الاستثناء أو لا في معرض الاستثناء.
فإن كان الأول كتخلف إيجاب المثل في لبن المصراة عن العلة الموجبة له وهي تماثل الأجزاء بالعدول إلى إيجاب صاع من التمر وتخلف وجوب الغرامة عمن صدرت عنه الجناية في باب ضرب الدية على العاقلة وتخلف حكم الربا مع وجود الطعم في العرايا ونحوه فذلك مما لا يدل على بطلان العلة بل تبقي حجةً فيما وراء صورة الاستثناء وسواء كانت العلة المخصوصة منصوصةً أو مستنبطةً وذلك لأن الدليل من النص أو الاستنباط قد دل على كونها علةً وتخلف الحكم حيث ورد بطريق الاستثناء عن قاعدة القياس كان مقررا لصحة العلة لا ملغياً لها.
وأما إن كان تخلف الحكم عنها لا بطريق الاستثناء فلا يخلو إما أن تكون العلة منصوصة أو مستنبطةً: فإن كانت منصوصةً فلا يخلو إما أن يمكن حمل النص على أن الوصف المنصوص عليه بعض العلة وذلك كتعليل انتقاض الوضوء بالخارج من غير السبيلين مأخوذاً من قوله عليه السلام الوضوء مما خرج فإنه إذا تخلف عنه الوضوء في الحجامة أمكن أخذ قيد الخارج من السبيلين في العلة وتأويل النص بصرفه عن عموم الخارج النجس إلى الخارج من المخرج المعتاد أو حمله على تعليل حكم آخر غير الحكم المصرح به في النص وذلك قوله تعالى: " يخربون بيوتهم بأيدهم وأيدي المؤمنين " الحشر 2 معللاً بقوله تعالى: " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " فإن الحكم المعلل المصرح به إنما هو خراب البيت وليس كل من شاق الله ورسوله يخرب بيته فأمكن حمل الخراب على استحقاق الخراب وجد الخراب أو لم يوجد.
أو أنه لا يمكن ذلك فإن أمكن تأويل النص بالحمل على معنى خاص أو حكم آخر خاص وجب التأويل لما فيه من الجمع بين دليل التعليل بتأويله ودليل إبطال العلة المذكورة وإن لم يمكن تأويله بغير الوصف المذكور والحكم المرتب عليه فغايته امتناع إثبات حكم العلية لما عارضها من النص النافي لحكمها والعلة المنصوصة في معنى النص وتخلف حكم النص عنه في صوره لما عارضه لا يوجب إبطال العمل به في غير صورة المعارضة فكذلك العلة المنصوصة.
وأما إن كانت العلة مستنبطةً فتخلف الحكم عنها إما أن يكون لمانع أو فوات شرط أو لا يكون: فإن كان الأول وذلك كما في تعليل إيجاب القصاص على القاتل بالقتل العمد العدوان وتخلف الحكم عنه في الآب والسيد بمانع الأبوة والسيادة فلا يكون ذلك مبطلاً للعلية فيما وراء صورة المخالفة لأن دليل الاستنباط قد دل على العلية بالمناسبة والاعتبار وقد أمكن إحالة نفي الحكم على ما ظهر من المانع لا على إلغاء العلة فيجب الحمل عليه جمعاً بين الدليل الدال على العلة والدليل الدال عل مانعية الوصف النافي للحكم فإن الجمع بين الأدلة أولى من إبطالها.
ولا يخفى أن القول بإبطال العلة يتخلف الحكم عنها مما يلزم منه إبطال الدليل الدال على العلة والدليل الدال على مانعية المانع فكان القول بإحالة نفي الحكم على المانع أولى.
فإن قيل: لا نسلم أن المناسبة وقران الحكم بها فقط دليل العلية بل مع الاطراد وإن سلمنا ذلك لكن لا نسلم إمكان تعليل انتفاء الحكم بالمانع لوجهين:

الأول: أن تعليل انتفاء الحكم بالمانع أو فوات الشرط في صورة التخلف يتوقف على وجود المقتضي للحكم فيها فإنه لو لم يكن المقتضي للحكم موجوداً فيها لكان الحكم منتفياً لانتفاء المقتضي لا للمانع ولا لفوات الشرط والقول بكون الوصف المذكور علةً يتوقف في صورة التخلف على وجود المانع أو فوات الشرط فإنا إذا لم نتبين وجود المانع ولا فوات الشرط فالحكم يجب أن يكون منتفياً لانتفاء ما يقتضيه وعند ذلك نتبين أن الوصف المذكور ليس بعلة وإذا توقف كل واحد من المقتضي والمانع على الآخر كان دوراً ممتنعاً وهذا الامتناع إنما لزم من التعليل بالمانع أو فوات الشرط في صورة التخلف فكان ممتنعاً.
الوجه الثاني أن انتفاء الحكم في صورة التخلف كان متحققاً قبل وجود المانع وفي تعليله بالمانع تعليل المتقدم بالمتأخر وهو محال وسواء كان المانع بمعنى الإمارة أو الباعث.
قلنا: جواب الأول أنا إذا رأينا الوصف مناسباً والحكم مقترناً به غلب على الظن تأول النظر إليه أنه علة مع قطع النظر عن البحث في جميع مجاري العلة هل الحكم مقارن لها أو لا وأما الاطراد فحاصله يرجع إلى السلامة عن النقص المعارض لدليل العلية وعدم المعارض عن داخل في دليل العلية وعن الدور من ثلاثة أوجه: الأول: لا نسلم أن تعليل انتفاء الحكم بالمانع يستدعي وجود المقتضي ودليله أنه يصح انتفاؤه بالمانع مع وجود المقتضي ومع كون المقتضي معارضاً للمانع فلأن يصح تعليل النفي به مع عدم المقتضي كان أولى.
الثاني: وإن سلمنا توقف التعليل بالمانع على وجود المقتضي ولكن لا نسلم توقف وجود المقتضي على وجود المانع فإن كون المقتضي مقتضياً إنما يعرف بدليله من المناسبة والاعتبار أو غير ذلك من الطرق وذلك متحقق فيما نحن فيه.
فيجب القضاء بكونه مقتضياً والمانع إنما هو من قبيل المعارض فإن وجد انتفاء الحكم المقتضي مع بقاء المقتضي بحاله مقتضياً وإن لم يوجد عمل المقتضي عمله.
الثالث: سلمنا توقف كل واحد منهما على الآخر لكن توقف معية أو توقف تقدم: الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا فلا دور.
وعن قولهم: فيه تعليل المتقدم بالمتأخر أن المعلل نفيه بالمانع إنما هو انتفاء الحكم الذي صار بسبب وجود المقتضي بعرضية الثبوت عرضيةً لازمةً لا مطلق حكم وذلك مما لا يسلم تقدمه على المانع المفروض وأما إن لم يظهر في صورة التخلف مانع ولا فوات شرط فالحق بطلان العلة وذلك لأن العلة المستنبطة إنما عرف كونها علةً باعتبار الشارع لها بثبوت الحكم على وفقها وذلك إن دل على اعتبارها.
فتخلف الحكم عنها مع ظهور ما يكون مستنداً لنفيه يدل على إلغائها وليس أحد الدليلين أولى من الآخر فيتقاومان ويبقى الوصف على ما كان قبل الاعتبار ولم يكن قبل ذلك علة فكذلك بعده.
فإن قيل: مناسبة الوصف وقران الحكم به دليل ظاهر على كونه علةً وكذلك سائر طرق الاستنباط وهذا الدليل قائم وإن وجد النقص وتخلف الحكم عن الوصف غايته أنه يوجب الشك في فساد العلة وتقاوم احتمال انتفاء الحكم لانتفاء العلة أو وجود المعارض على السواء وإذا كان دليل العلة ظاهراً ودليل الفساد مشكوكاً فيه فالمشكوك فيه لا يقع في مقابلة الظاهر.
ودليل وقوع الشك في فساد العلة في صورة النقض وتقاوم الاحتمال فيها أنه يحتمل أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقض لمعارض من وجود مانع أو فوات شرط ويحتمل أنه لفساد العلة وهما متقاومان.
وبيان التقاوم أن احتمال الانتفاء لانتفاء العلة وإن كان على وفق الأصل بالنسبة إلى احتمال انتفائه للمعارض دفعاً لمحذور المعارضة غير أنه على خلاف الأصل بالنظر إلى إبطال العلة مع قيام الدليل الدال على كون الوصف علةً واحتمال انتفاء الحكم للمعارض وإن كان على خلاف الأصل لما فيه من نفي الحكم مع قيام دليله غير أنه على وفق الأصل من جهة موافقة الدليل الدال على كون الوصف علة فإذا احتمال انتفاء الحكم لانتفاء العلة موافق للأصل من وجه ومخالف له من وجه فيتقاوم الاحتمالان على السواء وذلك مما يوجب الشك في فساد العلة والشك لا يعارض الظاهر بوجه.

قلنا: اذا اعترف بالشك في دليل فساد العلة فيلزم منه الشك في فساد العلة ويلزم من الشك في فساد العلة انتفاء الظن بكونها علةً لأن الصحة والفساد متقابلان فمهما وقع الشك في أحد المتقابلين وقع الشك في الآخر وإن كان أحدهما ظاهراً والآخر بعيداً فالقول بوقوع الشك في أحد المتقابلين مع ظهور الآخر ممتنع كما يمتنع الشك في الغيم مع ظن الصحو والشك في موت زيد مع ظن حياته وهذا بخلاف ما اذا شككنا في الطهارة وحكمنا بالنجاسة نظراً إلى النجاسة السابقة فإن الشك في هذه الصور لا يجامع النظر إلى الأصل بل عند النظر إلى الأصل يترجح أحد احتمالي الشك على الآخر فلا يبقى الشك متحققاً حتى إنه لو وقع الشك في النجاسة أو الطهارة مع النظر إلى الأصل لبقي الشك معمولاً به.
وهذا بخلاف ما نحن فيه فإن الشك انما وقع في فساد العلة في صورة النقض مع النظر إلى دليل العلة ولولا النظر إلى دليل العلة لكان الظاهر انتفاء الحكم لا انتفاء العلة ومهما كان كذلك فلا يمكن القضاء بظهور العلة مع أن تقاوم الاحتمال إنما كان بالنظر إلى دليل العلة.
كيف وإنه قد يمكن أن يقال: انتفاء الحكم مع وجود الوصف دليل ظاهر على أنه ليس بعلة وثبوت الحكم على وفقه مع مناسبته مما يوجب الشك في صحة التعليل به في محل الاعتبار والمشكوك فيه لايعارض الظاهر وبيان وقوع الشك في صحة التعليل في الأصل المستروح إليه أنه وإن كان ثبوت الحكم به على وفق الأصل غير أنه على خلاف الأصل بالنظر إلى دليل الفساد.
وثبوت الحكم لغيره وإن كان على خلاف الأصل مع عدم الظفر به إلا أنه على وفق الأصل بالنظر إلى دليل الفساد ويلزم من ذلك تقاوم الاحتمالات في صحة العلة وكان الظاهر قد دل على فسادها فلا يترك بالمشكوك فيه.
فإن قيل: ما ذكرتموه من دلائل عدم الانتقاض في الصور المذكورة معارض من ثمانية أوجه: الأول: وهو اختيار أبي الحسين البصري أن تخصيص العلة مما يمنع من كونها أمارة على الحكم في شيء من الفروع سواء ظن بها أنها جهة للمصلحة أو لم يكن ظن بها ذلك.
وبيان ذلك أنا إذا علمنا أن علة تحريم بيع الذهب بالذهب متفاضلاً هي كونه موزوناً ثم علمنا إباحة بيع الرصاص بالرصاص متفاضلاً مع أنه موزون لم يخل إما أن يعلم ذلك بعلة أخرى تقتضي إباحته أو بنص: فإن علمنا إباحته بعلة أخرى يقايس بها الرصاص على أصل مباح لكونه أبيض مثلاً فإنا عند ذلك لا نعلم تحريم بيع الحديد بالحديد متفاضلاً إلا بكونه موزوناً غير أبيض فإنا لو شككنا في كونه أبيض لم نعلم قبح بيعه متفاضلاً كما لو شككنا في كونه موزوناً فبان أنا لا نعلم بعد التخصيص تحريم شيء لكونه موزوناً فقط فبطل أن يكون الموزون وحده علة بل الموزون مع كونه غير أبيض وعلى هذا يكون الكلام فيما إذا دل على إباحة بيع الرصاص نص وسواء علمت علة الإباحة أو لم تعلم.
الثاني: قال بعض أصحابنا: اقتضاء العلة للحكم إما أن يعتبر فيه انتفاء المعارض أو لا يعتبر: فإن اعتبر لم تكن العلة علة الا عند انتفاء المعارض وذلك يقتضي أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ليس هو تمام العلة بل بعضها.
وإن لم يعتبر فسواء حصل المعارض أو لم يحصل يكون الحكم حاصلا وذلك يقدح في كون المعارض معارضاً.
الثالث: أنه لا بد وأن يكون بين كون المقتضي مقتضياً اقتضاء حقيقياً بالفعل وبين كون المانع مانعاً حقيقياً بالفعل منافاة بالذات وشرط طريان أحد المتنافيين بالذات انتفاء الأول وليس انتفاء الأول لطريان اللاحق وإلا لزم الدور وحيث كان شرط كون المانع مانعاً خروج المقتضي عن كونه مقتضياً بالفعل لم يجز أن يكون خروجه عن كونه مقتضياً بالفعل لأجل تحقق والا لزم الدور فاذا المقتضي إنما خرج عن كونه مقتضياً لا بالمانع بل بذاته وقد انعقد الإجماع على أن ما يكون كذلك لا يصلح للعلية.
الرابع: أن الوصف وإن وجد مع الحكم في الأصل فقد وجد مع الحكم في صورة النقض مع عدم الحكم ووجوده مع الحكم لا يقتضي القطع بكونه علةً لذلك الحكم ووجوده مع عدم الحكم في صورة النقض يقتضي القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم في تلك الصورة.
والوصف الحاصل في الفرع كما إنه مثل الوصف الحاصل في الأصل فهو مثل الوصف الحاصل في صورة النقض وليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر فلم يجز الحكم عليه بكونه علةً.

الخامس قالوا: لا طريق إلى صحة العلة الشرعية سوى جريانها مع معلولها فإذا لم تجر معه لم يكن إلى صحتها طريق.
السادس قالوا: العلة الشرعية إذا دل الدليل على تعلق الحكم بها امتنع تخصيصها كالعلة العقلية.
السابع قالوا: العلة في القياس طريق إلى إثبات الحكم في الفرع فإذا وجدت العلة في نوعين امتنع أن تكون طريقاً إلى العلم بحكم أحدهما دون الآخر كما في الإدراكات والأدلة العقلية.
الثامن قالوا: لو جاز وجود العلة الشرعية في فروع يثبت الحكم معها في البعض دون البعض لم يكن البعض بالإثبات أولى من البعض الآخر.
وما ذكرتموه من دليل الانتقاض في الصورة الأخيرة معارض من أربعة أوجه: الأول إجماع الصحابة على ذلك ودليله ما روي عن ابن مسعود أنه كان يقول هذا حكم معدول به عن سنن القياس واشتهر ذلك فيما بين الصحابة من غير نكير فصار إجماعاً.
الثاني: أن العلة الشرعية أمارة على الحكم في الفرع ووجودها في موضع من غير حكم لا يخرجها عن كونها أمارةً فإنه ليس من شرط كون الأمارة أمارةً على شيء أن يكون ذلك الشيء ملازماً لها دائماً بدليل وجود جميع الأمارات الشرعية على إثبات الأحكام وإن لم تكن الأحكام ملازمةً لها قبل ورود الشرع وبدليل الغيم الرطب فإنه أمارة على وجود المطر وإن لم يكن المطر ملازماً له ولذلك فإن وقوف مركوب القاضي على باب الملك أمارة على كونه في دار الملك ولا يخرج في ذلك أمارة لوجوده في بعض الأوقات والقاضي غير موجود في دار الملك بأن يكون مركوبه مستعاراً وكذلك خبر الواحد فإنه أمارة على وجود الحكم وتخلف حكمه عند وجود النص الراجح المخالف له لا يخرجه عن كونه أمارة عليه عند عدم ذلك النص.
الثالث: أن العلة المستنبطة أمارة فجاز تخصيصها كالمنصوصة.
الرابع: أن كون الوصف أمارة على الحكم في محل إما أن يتوقف على كونه إمارةً على ذلك الحكم في محل آخر أو لا يتوقف: فإن توقف فإما أن لا يتعاكس الحال في ذلك أو يتعاكس: الأول محال لما فيه من الدور والثاني أيضاً محال لعدم الأولوية وإن لم يتوقف فهو المطلوب.
والجواب عن المعارضة الأولى من المعارضات الدالة على امتناع التخصيص: أنا وإن سلمنا أن علة القياس أمارة على حكم الفرع معرفة له وأنه إذا تخلف الحكم عنها في صورة أخرى للمعارض لا يمكن إثبات الحكم بها في فرع من الفروع دون العلم بانتفاء ذلك المعارض لها المتفق عليه ولكن لا يلزم أن يكون انتفاء المعارض من جملة المعرف للحكم بل المعرف للحكم إنما هو ما كان باعثاً عليه في الأصل.
وانتفاء المعارض انما توقف إثبات حكم الامارة عليه ضرورة أن الحكم لا يثبت مع تحقق المعارض النافي له فكان نفيه شرطاً في إثبات حكم الأمارة لا أنه داخل في مفهوم الأمارة.
وعن الثانية أنه وإن سلم أن اقتضاء العلة للحكم لا يتوقف على عدم المعارض فما المانع منه قولهم إنه يكون الحكم حاصلاً وإن حصل المعارض لا نسلم ذلك فإن العلة وان كانت مقتضيةً للحكم فإنما يلزم وجود الحكم أن لو انتفى المعارض الراجح أو المساوي وعلى هذا فلا يلزم من انتفى القدح في المعارض ولا في العلة.
وعن الثالثة لا نسلم المنافاة بين اقتضاء المقتضي واقتضاء المانع ولا استحالة الجمع بينهما وإن استحال الجمع بين حكميهما وعلى هذا فلا يلزم من تحقق المانع خروج المقتضي عن جهة اقتضائه لا بذاته ولا بغيره بخلاف المتنافيات بالذات.
وعن الرابعة أنه وإن كان وجود الوصف مع الحكم في الأصل لا يوجب القطع بكونه علةً لكنه يغلب على الظن كونه علة ووجوده مع عدم الحكم في صورة النقص لا نسلم أنه يقتضي القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم بل الظن بالعلية باق بحاله وانتفاء الحكم إنما كان لوجود المعارض النافي للحكم على ما هو معلوم من قاعدة القائلين بتخصيص العلة.
وعن الخامسة لا نسلم أن اطراد العلة طريق إلى صحتها كما يأتي مفصلاً من كونه لا طريق سواه.

وعن السادسة لا نسلم أن العلة العقلية يمتنع تخلف الحكم عنها بل ذلك جائز عند فوات القابل لحكمها كما بيناه في الكلاميات وإن سلمنا امتناع تخلف حكمها عنها فليس ذلك لدلالة الدليل على تعلق الحكم بها ولا لكونها علةً بل إنما كان ذلك بكونها مقتضيةً للحكم لذاتها وذلك غير متحقق في العلة الشرعية فإنها ليست مقتضيةً للحكم لذاتها وإنما هي علة بوضع الشارع لها أمارةً على الحكم في الفرع.
وعن السابعة أنه ليست العلة في امتناع الافتراق في الدليل العقلي المتعلق بمدلولين وامتناع الافتراق في الإدراك المتعلق بمدركين كونه طريقاً لا دليلاً بل لكون الدليل العقلي موجباً لذاته ولكون الإدارك مما يجب العلم بالمدرك عنده عادةً بخلاف العلل الشرعية على ما سبق.
وعن الثامنة أنه إنما اختص البعض بتخلف الحكم دون البعض لاختصاصه بمعارض لا تحقق له فيما كان الحكم ثابتاً فيه.
وعن المعارضة الأولى من المعارضات الدالة على التخصيص أنه لا دلالة لقول ابن مسعود على أن القياس الذي كان الحكم ثابتاً على خلافه أنه حجة فالإجماع على ذلك لا يكون مفيداً وإن كان حجةً لكن يمكن حمله على ما إذا كان تخلف الحكم عنه بطريق الاستثناء ويجب الحمل عليه جمعاً بين الأدلة.
وعن الثانية لا نسلم أن تخلف الحكم عن الأمارة من غير معارض لا يخرجها عن كونها أمارةً وذلك لأنه إما أن يكون كل ما توقف عليه التعريف في صورة كانت الأمارة أمارةً فيه قد تحقق في صورة تخلف الحكم أو لم يتحقق: فإن كان الأول فتخلف الحكم عنه ممتنع وإن كان الثاني فالموجود في صورة التخلف ليس هو الأمارة التي توقف عليها التعريف بل البعض منها وعلى هذا يكون تخريج كل ما ذكروه من الصور.
وعن الثالثة: بمنع كون المستنبطة مع تخلف الحكم عنها من غير معارض أمارةً.
وعلى هذا فلم يوجد الجامع بين الأصل والفرع وإن دلوا على كونها أمارةً مع التخصيص بطريق آخر فهو كاف في المطلوب وخروج عن خصوص هذه الدلالة.
وعن الرابعة: أن المختار مما ذكروه من الأقسام قسم التوقف من الطرفين.
قولهم: إن ذلك يفضي إلى الدور إنما يلزم إن لو توقف كون الأمارة في كل واحدة من الصورتين على كونها أمارةً في الصورة الأخرى توقف تقدم أما إذا كان ذلك بطريق المعية فلا كما عرف ذلك فيما تقدم والله أعلم.
المسألة التاسعة اختلفوا في الكسر هل هو مبطل للعلة أو لا ؟ اختلفوا في الكسروهو تخلف الحكم المعلل عن معنى العلة وهو الحكمة المقصوده من الحكم هل هو مبطل للعلة أو لا؟ وصورته ما لو قال الحنفي في مسألة العاصي بسفره مسافر فوجب أن يترخص في سفره كغير العاصي في سفره وبين مسافة السفر بما فيه من المشقة فقال المعترض: ما ذكرته من الحكمة وهي المشقة منتقضة فإنها موجودة في حق الحمال وأرباب الصنائع الشاقة في الحضر ومع ذلك فإنه لا رخصة والأكثرون على أن ذلك غير مبطل للعلة.
والوجه فيه أن الكلام إنما هو مفروض في الحكمة التي ليست منطبطةً بنفسها بل بضابطها وعند ذلك فلا يخفى أن مقدارها مما لا ينضبط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال وما هذا شأنه.
فدأب الشارع فيه رد الناس إلى المظان الظاهرة الجلية دفعاً للعسر عن الناس والتخبط في الأحكام على ما قال تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " وعلى هذا فيمتنع التعليل بها دون ضابطها وإذا لم تكن علة فلا معنى لإيراد النقض عليها.
فإن قيل: المقصود من شرع الحكم إنما هو الحكمة دون ضابطها وعند ذلك فيحتمل أن يكون مقدار الحكمة في صورة النقض مساوياً لمقدارها في صورة التعليل ويحتمل أن يكون أزيد ويحتمل أن يكون أنقص.
وعلى تقدير المساواة والزيادة فقد وجد في صورة النقص ما كان موجوداً في صورة التعليل وإنما لا يكون موجوداً بتقدير أن يكون أنقض ولا يخفى أن ما يتم على تقديرين أغلب على الظن مما لا يتم إلا على تقدير واحد ومع ذلك فيظهر إلغاء ما ظن أن الحكم معلل به.
قلنا: الحكمة وإن كانت هي المقصودة من شرع الحكم لكن على وجه تكون مضبوطةً إما بنفسها أو بضابطها لما ذكرناه وما فرض من الحكمة في صورة النقض مجردةً عن ضابطها فامتنع كونها مقصودةً وبتقدير كونها مقصودةً فالنقض إنما هو من قبيل المعارض لدليل كونها معللاً بها.

وعلى هذا فانتفاء الحكم مع وجود الحكمة في دلالته على إبطال التعليل بالحكمة مرجوح بالنظر إلى دليل التعليل بها وذلك لأنه من المحتمل أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقص لمعارض ومع هذا الاحتمال فتخلف الحكم عنها لا يدل على إبطالها.
فإن قيل: بحثنا وسبرنا فلم نطلع على ما يصلح معارضاً في صورة النقص فيظهر أن انتفاءه لانتفاء العلة فهو معارض بقول المستدل بحثت في محل التعليل فلم أطلع على ما يصلح للتعليل سوى ما ذكرته فدل على التعليل به.
فإن قيل: بحثنا راجح لما فيه من موافقة انتفاء الحكم لانتفاء علته إذ هو الأصل نفياً للتعارض فهو معارض بما بحث المستدل من موافقة ما ظهر من دليل العلة من المناسبة والاعتبار فيتقاومان ويترجح كلام المستدل بأن مقدار الحكمة في صورة التعليل وإن كان مظنون الوجود في صورة النقض.
فيحتمل أن لا يكون موجوداً فيها وإلا كان مقطوعاً لا مظنوناً وهو موجود في صورة التعليل قطعاً مع قران الحكم به قطعاً وهو دليل العلية وما هو دليل البطلان موجودها في صورة النقض ظناً مع انتفاء الحكم قطعاً والمقطوع به من وجهين راجح على ما هو مقطوع من وجه ومظنون من وجه ولا يخفى أن مثل هذا الترجيح مما لا يتجه على النقض على المظنة فلذلك كان النقض لازماً على المظنة دون الحكمة.
فإن قيل: فلو فرض وجود الحكمة في صورة النقض قطعاً فما المختار فيه؟ قلنا: ذلك مما يمتنع وقوعه وبتقدير وقوعه فقد قال بعض أصحابنا: إنه لا الفتات إليه مصيراً منه إلى أن التوسل إلى معرفة ذلك في آحاد الصور بخفائه وندرته مما يلزم منه نوع عسر وحرج ولا يلزم مثله في التوسل إلى معرفة الضوابط الجلية فكان من المناسب حط هذه الكلفة عن المجتهد ورد الناس إلى الضوابط الجلية المشتملة على احتمال الحكم في الغالب.
ولقائل أن يقول: البحث عن الحكمة في آحاد الصور هل هي موجودة قطعاً وإن كان يفضي إلى العسر والحرج إلا أنا نعلم أن المقصود الأصلي من إثبات الأحكام ونفيها إنما هو الحكم والمقاصد.
فعلى تقدير وجود الحكمة في بعض الصور مماثلةً لها في محل التعليل قطعاً لو لم نقل بوجوب التعليل بها في غير محل التعليل لزم منه انتفاء الحكم مع وجود حكمته قطعاً وذلك ممتنع كما يمتنع إثبات الحكم مع انتفاء حكمته قطعاً فيما عدا الصورة النادرة وكذلك لو لم نقل بإلغائها عند تخلف الحكم عنها فيصح مع تيقنها فيلزم منه إثبات الحكم بها مع الضابط مع كونها ملغاة قطعاً ولا يخفى أن محذور إثبات الحكم لحكمة ألغاها الشارع أو نفي الحكم مع وجود حكمته يقيناً أعظم من المحذور اللازم للمجتهد من البحث عن الحكمة في آحاد الصور على ما لا يخفى.
وعلى هذا يكون الكلام فيما إذا فرض وجود الحكمة في صورة النقض أزيد منها في محل التعليل يقيناً لكن إن كان قد ثبت معها في صورة النقض حكم هو أليق بها بأن يكون وافياً بتحصيل أصل الحكمة وزيادة ولو رتب عليها في تلك الصورة الحكم المعلل كان فيه الإخلال بتلك الزيادة في صورة النقض فلا يكون ذلك نقضا للحكمة ولا إلغاء لها بل الواجب تخلف الحكم المعلل عنها وإثبات الحكم اللائق بها الوافي بتحصيل الزيادة لما فيه من رعاية أصل المصلحة وزيادتها فإنه أولى من رعاية أصل المصلحة وإلغاء الزيادة.
فإذاً انتفاء الحكم في هذه الصورة لا يدل على إلغاء الحكمة بل على اعتبارها بأصلها وصفتها ومثال ذلك ما إذا علل المستدل وجوب القطع قصاصاً بحكمة الزجر فقال المعترض مقصود الزجر في القتل العمد العدوان أعظم.
ومع ذلك فإنه لا يجب به القطع فللمستدل أن يقول: الحكمة في صورة النقض وإن كانت أزيد منها في محل التعليل غير أنه قد ثبت معها في صورة النقض حكم هو أليق بها وهو وجوب القتل.
المسألة العاشرة اختلفوا في النقض المكسور وهو النقض على بعض أوصاف العلة وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة بيع الغائب: مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلا يصح بيعه كما لو قال بعتك عبداً فقال المعترض هذا ينتقض بما لو تزوج امرأة لم يرها فإنها مجهولة الصفة عند العاقد لدى العقد ومع ذلك فإن النكاح يصح والأكثرون على رده وإبطاله.

وذلك لأن التعليل إنما وقع بكونه مبيعاً مجهول الصفة لا بكونه مجهول الصفة فقط والمنكوحة ليست مبيعةً وإن كانت مجهولة الصفة وإبطال التعليل ببعض أوصاف العلة لا يكون إبطالاً بجملة العلة.
نعم إن بين المعترض أنه لا تأثير للوصف الذي وقع به الأحتراز عن النقص في الحكم لا بانفراده ولا مع ضميمة إلى الوصف الآخر فالمستدل بين أمرين بين أن يبقى مصراً على التعليل بمجموع الوصفين وبين أن يترك الكلام على التعليل بالوصف المنقوض: فإن كان الأول فقد بطل التعليل بما علل به لعدم التأثير لا بالنقض.
وإن كان الثاني فقد بطل التعليل بالنقض لكونه وارداً على كل العلة فإن قيل الوصف المحذوف وإن لم يكن مناسباً ولا له تأثير في إثبات الحكم المعلل لا بانفراده ولا مع ضميمة إلى غيره فلا يمتنع أخذه في التعليل لفائدة الاحتراز عن النقض وإنما يخرج عن التعليل إن لو تعرى عن الفائدة بالكلية وليست الفائدة منحصرةً في المناسبة على ما تقدم.
قلنا: فائدة الاحتراز به عن النقض متوقفة على كونه من أجزاء العلة حتى إنه لو لم يكن من أجزاء العلة لكانت العلة ما وراءه والنقض إذ ذاك يكون وارداً عليها وكونه من أجزاء العلة يتوقف على إمكان الاحتراز به عن النقض وهو دور ممتنع.
المسألة الحادية عشرة اختلفوا في اشتراط العكس في العلل الشرعية: فأثبته قوم ونفاه أصحابنا والمعتزلة.
وقبل الخوض في الحجاج لا بد من بيان أقسام العكس واختلاف الاصطلاحات فيه وتعيين محل النزاع منها فنقول: أما العكس في اللغة فمأخوذ من رد أول الأمر إلى آخره وآخره إلى أوله وأصله شد رأس البعير بخطامه إلى ذراعه.
وأما في اصطلاح الحكماء فهو عبارة عن جعل اللازم ملزوماً والملزوم لازماً مع بقاء كيفية القضية بحالها من السلب والإيجاب وذلك كقول القائل في عكس القضية الحملية إذا كانت موجبةً كليةً كقولنا كل إنسان حيوان أو جزئيةً كقولنا بعض الإنسان حيوان بعض الحيوان إنسان أو كليةً سالبةً كقولنا لا شيء من الإنسان بحجر لا شيء من الحجر بإنسان وعلى قياسه عكس القضية الشرطية.
وأما في اصطلاح الفقهاء والأصوليين فقد يطلق العكس باعتبارين: الأول: منهما مثل قول الحنفي: لما لم يجب القتل بصغير المثقل لم يجب بكبيره بدليل عكسه في المحدد وهو أنه لما وجب بكبير الجارح وجب بصغيره وهو باطل فإنه لا مانع من ورود الشارع بوجوب القصاص بكل جارح وإن تخصص وجوبه في المثقل بالكبير منه.
وأما الثاني فهو انتفاء الحكم عند انتفاء العلة والعكس بهذا الاعتبار هو المقصود بالخلاف هاهنا.
والمختار فيه إنما هو التفصيل وهو أن جنس الحكم المعلل إما أن لا يكون له سوى علة واحدة أو أنه معلل بعلل في كل صورة بعلة فإن كان الأول وذلك كتعليل جنس وجوب القصاص في النفس بالقتل العمد العدوان فإنه لا علة له سواه فلا شك في لزوم انتفائه عند انتفاء علته لا لأنه يلزم من نفي العلة الواحدة نفي الحكم بل لأن الحكم لا بد له من دليل ولا دليل.
وإن كان الثاني كما في تعليل إباحة الدم بالقتل العمد العدوان والردة عن الإسلام والزنى في الإحصان وقطع الطريق وتعليل نقض الوضوء بالمس واللمس والبول والغائط فلا شك أنه لا يلزم من انتفاء بعض هذه العلل نفي جنس الحكم لجواز وجود علة أخرى وإنما يلزم نفيه بتقدير انتفاء جميع العلل.
هذا في جنس الحكم المعلل وأما آحاد أشخاص الحكم في آحاد الصور فإنه يمتنع تعليله بعلتين على ما يأتي تقريره وإنما يكون معللاً بعلة واحدة على طريق البدل فلا يلزم من نفي العلة المعينة نفيه لجواز وجود بدلها لما سبق.
فإن قيل: وإن كان الحكم معللاً بعلة واحدة ولا علة له سواها في دليل عليه فكانت مشابهةً للدليل العقلي في العقليات ولا يلزم من نفي الدليل في العقليات نفي المدلول ولهذا فإن الصنعة دليل وجود الرب تعالى ولو قدر انتفاؤها لم يلزم منه انتفاء وجود الرب تعالى فكذلك العلة الشرعية.
قلنا: العلة وإن كانت دليل الحكم فلا نعني بانتفاء الحكم عند انتفائها انتفاءه في نفسه بل انتفاء العلم أو الظن به ضرورة توقف ذلك على النظر الصحيح في الدليل ولا دليل وكذلك الحكم في الصنعة مع الصانع.
المسألة الثانية عشرة اتفقوا على جواز تعليل الحكم بعلل في كل صورة بعلة

واختلفوا في جواز تعليل الحكم الواحد في صورة واحدة بعلتين معاً: فمنهم من منع ذلك مطلقاً كالقاضي أبي بكر وإمام الحرمين ومن تابعهما ومنهم من جوز ذلك مطلقاً ومنهم من فصل بين العلل المنصوصة والمستنبطة فجوزه في المنصوصة ومنع منه في المستنبطة كالغزالي ومن تابعه.
والمختار إنما هو المذهب الأول وذلك لأنه لو كان معللاً بعلتين لم يخل إما أن تستقل كل واحدة بالتعليل أو أن المستقل بالتعليل إحداهما دون الأخرى أو أنه لا استقلال لواحدة منهما بل التعليل لا يتم إلا باجتماعهما.
لا جائز أن يقال بالأول لأن معنى كون الوصف مستقلاً بالتعليل أنه علة الحكم دون غيره ويلزم من استقلال كل واحدة منهما بهذا التفسير امتناع استقلال كل واحدة منهما وهو محال.
وإن كان الثاني أو الثالث فالعلة ليست إلا واحدةً وعلى هذا فلا فرق بين أن تكون العلة في محل التعليل بمعنى الباعث أو بمعنى الأمارة.
فإن قيل: نحن لا نفسر استقلال العلة بأن الحكم ثبت بها لا غير ليلزمنا ما قيل بل معنى استقلالها أنها لو انفردت لكان الحكم ثابتاً لها ولا أثر لانتفاء غيرها ولا يخفى وجه الفرق بينه وبين القسمين الآخرين سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع تعليل الحكم بعلتين على وجه تكون كل واحدة مستقلةً بالحكم لكنه معارض بما يدل على جوازه بالنظر إلى ما هو الواقع من أحكام الشرع وذلك أنا قد اتفقنا على ثبوت الحكم الواحد عقيب علل مختلفة كل واحدة قد ثبت استقلالها بالتعليل في صورة وعند ذلك فإما أن يقال: العلة منها واحدة أو الكل علة واحدة ذات أوصاف أو أن كل واحدة علة مستقلة: لا جائز أن يقال بالأول وإلا فهي معينة أو مبهمة: القول بالتعيين ممتنع لعدم الأولوية ولما فيه من خروج الباقي عن التعليل مع استقلال كل واحدة به وبهذا يبطل الإبهام.
والقسم الثاني أيضاً فلم يبق سوى القسم الثالث وهو الاستقلال ودليل ثبوت مثل هذه الأحكام الإجماع على إباحة قتل من قتل مسلماً قتلاً عمداً عدواناً وارتد عن الإسلام وزنى محصناً وقطع الطريق معاً وعلى ثبوت الولاية على الصغير المجنون وعلى امتناع نكاح من أولدته وأرضعته وعلى تحريم وطء الحائض المعتدة المحرمة وعلى انتقاض الوضوء بالمس واللمس والبول والغائط معاً.
والجواب عن الإشكال الأول أن الكلام إنما هو مفروض في حالة الاجتماع لا في حالة الانفراد والتقسيم في حالة الاجتماع فعلى ما سبق وأما الأحكام فالوجه في دفعها أن تقول أما إباحة قتل من قتل وارتد وزنى محصناً وقطع الطريق فالعلل وإن كانت فيه متعددة فالحكم أيضاً متعدد شخصاً وإن اتحد نوعاً.
ولذلك فإنه لا يلزم من انتفاء إباحة القتل بعد العود عن الردة إلى الإسلام انتفاء إباحة بباقي الأسباب الأخر ولا من انتفاء الإباحة بسبب إسقاط القصاص انتفاؤها بباقي الأسباب ويدل على تعدد الحكم أيضاً أن الإباحة بجهة القتل العمد العدوان حق للآدمي بجهة الخلوص.
ولذلك يتمكن من إسقاطه مطلقاً والإباحة بجهة الزنى والردة حق لله تعالى بجهة الخلوص دون الآدمي وذلك غير متصور في شيء واحد وعلى تقدير الاستيفاء فالمقدم حق الآدمي وهو الإباحة بجهة القصاص لأن حقه مبني على الشح والمضايقة وحق الله تعالى مبني على المسامحة والمساهلة من حيث إن الآدمي يتضرر بفوات حقه دون الباري تعالى.
وأما ثبوت الولاية على الصغير المجنون فمستندة إلى الصغر لسبقه على الجنون لكون الجنون لا يعرف إلا بعد حين وكذلك امتناع نكاح الوالدة المرضعة فإنه مستند إلى الولادة دون الرضاع لسبقها عليه.
وأما الوطء في حق الحائض المعتدة المحرمة فغير محرم على التحقيق وإنما المحرم في حق الحائض ملابسة الأذى وفي حق المعتدة تطويل العدة وفي حق المحرمة إفساد العبادة وهي أحكام متعددة لا أنها حكم واحد.
وأما المس واللمس وباقي الأسباب فالأحداث المرتبة عليها متعددة على رأي لنا.
وعلى هذا فلو نوى رفع حدث واحد منها لارتفع الباقي فأحكامها أيضاً متعددة لا أنها حكم واحد والنزاع إنما هو في تعليل الحكم الواحد بالشخص بعلتين لا في تعليل حكمين وعلى هذا فلا يخفى وجه التخريج لكل ما يرد من هذا القبيل.
المسألة الثالثة عشرة اختلفوا في العلة الواحدة الشرعية هل تكون علة لحكمين شرعيين أو لا؟

والمختار جوازه وذلك لأن العلة إما بمعنى الأمارة أو الباعث.
فإن كانت بمعنى الأمارة فغير ممتنع لا عقلاً ولا شرعاً نصب أمارة واحدة على حكمين مختلفين وذلك مما لا نعرف فيه خلافاً كما لو قال الشارع: جعلت طلوع الهلال أمارةً على وجوب الصوم والصلاة ونحوه.
وأما إن كانت بمعنى الباعث فلا يمتنع أيضاً أن يكون الوصف الواحد باعثاً للشرع على حكمين مختلفين أي مناسباً لهما وذلك كمناسبة شرب الخمر للتحريم ووجوب الحد وكذلك التصرف بالبيع من الأهل في المحل المرئي فإنه مناسب لصحة البيع ولزومه.
فإن قيل: إذا كان الوصف مناسبا لأحد الحكمين فمعنى كونه مناسباً له أنه لو رتب ذلك الحكم عليه لحصل مقصوده.
وعلى هذا فيمتنع أن يكون مناسباً للحكم الآخر لأنه لو ناسبه لكان بمعنى أن ترتيبه عليه محصل للمقصود منه وفي ذلك تحصيل الحاصل لكونه حاصلاً به لحكم الآخر وأيضاً فإنه إذا كان الوصف الواحد مناسباً لحكمين مختلفين: فإما أن يناسبهما من جهة واحدة أو من جهتين مختلفتين: فإن كان الأول فهو ممتنع إذ الشيء الواحد لا يكون مناسباً لشيء من جهة ما يناسب مخالفه وإن كان الثاني فعلة الحكمين مختلفة لا أنها متحدة.
والجواب عن الأول أن معنى المناسب للحكم أعم مما ذكروه وذلك لأن المناسب ينقسم إلى ما ترتيب الحكم الواحد عليه يستقل بتحصيل مقصوده وذلك مما يمنع كونه مناسباً للحكمين بهذا التفسير وإلى ما يتوقف حصول مقصوده على ترتيب الحكم عليه وإن لم يكن ذلك الحكم وافياً بتحصيل المقصود دون الحكم الآخر.
وعلى هذا فامتناع مناسبة الوصف الواحد للحكمين بالتفسير الأول وإن كان لازماً فلا يمتنع أن يكون مناسباً للحكمين بالتفسير الثاني.
وعن الإشكال الثاني أنه إذا عرف أن معنى مناسبة الوصف للحكمين توقف حصول المقصود منه على شرع الحكمين فلا يمتنع أن يكون الوصف مناسباً لهما من جهة واحدة.
المسألة الرابعة عشرة إذا كانت العلة في أصل القياس بمعنى الباعث فشرطها أن تكون ضابط الحكمة المقصودة للشرع كما قررناه من إثبات الحكم أو نفيه بحيث لا يلزم منه إثبات الحكم مع تيقن انتفاء الحكمة في صورة وإلا كان فيه إثبات الحكم مع انتفاء الحكمة المطلوبة منه يقيناً وهو ممتنع ومثاله ما لو قيل بأن حكمة القصاص إنما هي صيانة النفس المعصومة عن الفوات فمن ضبط صيانة النفس عن الفوات بالجرح لا غير كما يقوله أبو حنيفة فيلزمه شرع القصاص في حق من جرح ميتاً ضرورة وجود الضابط مع تيقن انتفاء الحكمة أو نفي الحكم مع وجود علته وهو ممتنع.
فإن قيل: وإن لزم من ذلك إثبات الحكم في صورة بدون حكمة.
فذلك الضابط في الأصل المذكور إنما يمتنع الضبط به إن لو لم يكن له سوى حكمة واحدة وأما إذا جاز أن يكون الوصف الواحد ضابطاً في كل صورة لحكمة فانتفاء حكمة إحدى الصورتين عن الأخرى لا يوجب أن يكون ثبوت الحكم في الصورة التي انتفت عنها تلك الحكمة عرياً عن الفائدة بل يكون ثبوته بالحكمة الخاصة بتلك الصورة والضابط لها ولحكمة الحكم في الصورة الأخرى شيء واحد.
قلنا: إذا اتحد الضابط فاختصاصه في كل صورة بحكمة مخالفة للحكمة المختصة به في الصورة الأخرى إما أن يكون ذلك لذاته أو لمخصص مختص بتلك الصورة دون الصورة الأخرى.
لا جائز أن يقال بالأول وإلا لزم الاشتراك بين الصورتين في الحكمتين ضرورة اتحاد المستلزم لها.
وإن قيل بالثاني فما به التخصيص في كل واحدة من الصورتين ولا وجود له في الصورة الأخرى يكون من جملة الضابط فالضابط للحكمتين يكون مختلفاً وإن كان مركبا من الوصف المشترك وما به تخصصت كل صورة من المخصص الزائد.
المسألة الخامسة عشرة ذهب جماعة إلى إن شرط ضابط الحكمة أن يكون جامعاً بحيث لا توجد الحكمة يقينا في صورة دونه مصيراً منهم إلى أنه لو كان كذلك فلا يخلو إما أن يثبت الحكم في الصورة التي وجدت فيها الحكمة دون ذلك الضابط أو لا يثبت: فإن كان الأول فيلزم مه إدارة الحكم على الحكمة دون ضابطها وهو ممتنع لما فيه من الاستغناء عن الضابط لإمكان إثبات الحكم بالحكمة دونه.

وإن كان الثاني فيلزم منه إهمال الحكمة مع العلم بأن الحكم لم يثبت إلا بها وهو ممتنع وصورة ذلك ضبط الحنفي العمدية باستعمال الجارح حيث إنه يلزم منه إهمال العمدية مع تيقن وجودها فيما إذا أدار حجر البزارة على رأسه أو ألقاه في بحر مغرق أو نار محرقة.
ولقائل أن يقول: ما ذكر من المحذور إنما يلزم إن لو امتنع تعليل الحكم في صورتين بعلتين وهو باطل لما سبق ومع جواز تعليل الحكم في صورتين بعلتين لا يمتنع أن تكون حكمة الحكم في الصورتين واحدة ولها في كل صورة ضابط بحسب تلك الصورة وذلك لا يجر إلى إهمال الحكمة ولا إلى إلغاء الضابط.
المسألة السادسة عشرة اختلفوا في جواز تعليل حكم الأصل بعلة متأخرة عن ذلك الحكم في الوجود وذلك كتعليل إثبات الولاية للأب على الصغير الذي عرض له الجنون بالجنون فإن الولاية ثابتة قبل عروض الجنون.
والمختار امتناعه وذلك لأن علة حكم الأصل إما أن تكون بمعنى الباعث أو بمعنى الأمارة المعرفة له.
فإن كان الأول فيلزم من تأخر العلة عن الحكم في الوجود أن يكون الحكم ثابتاً قبل ذلك إما لا بباعث أو بباعث غير العلة المتأخرة عنه لاستحالة ثبوت الحكم بباعث لا تحقق له مع الحكم.
وإن كان الثاني فهو ممتنع لوجهين: الأول: ما بيناه من امتناع كون العلة في الأصل بمعنى الأمارة.
الثاني: أنها وإن كانت بمعنى الأمارة فإنما هو في تعريف الحكم وقد عرف قبلها ضرورة سبقه في الوجود عليها وتعريف المعروف محال.
فإن قيل: ما ذكرتموه إنما يستقيم بتقدير امتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين وإلا فبتقدير تعليله بعلتين فلا يمتنع تعليله بعلة موجودة معه وعلة متأخرة عنه.
قلنا: أما أولاً فقد بينا امتناع تعليل الحكم بعلتين في صورة واحدة وبتقدير جواز ذلك فإنما يجوز لتقدير أن لا تكون إحدى العلتين متقدمة على الأخرى لما بيناه فيما تقدم.
المسألة السابعة عشرة إذا كان الحكم في الأصل نفياً والعلة له وجود مانع أو فوات شرط فقد اختلفوا في اشتراط وجود المقتضي لإثباته.
والمختار اشتراطه وذلك لأن الأحكام إنما شرعت لمصالح الخلق فما لا فائدة في إثباته فلا يشرع فانتفاؤه يكون لانتفاء فائدته وسواء وجدت ثم حكمة تقتضي نفيه أو لم توجد وفرق بين انتفاء الحكم لانتفاء فائدته وبين انتفائه لوجود فائدة نافية له.
وإذا كان كذلك فما لم يوجد المقتضي للإثبات كان نفي الحكم للمانع أو لفوات الشرط ممتنعاً.
فإن قيل: لا خفاء بأن وجود المقتضب من قبيل المعارض لوجود المانع وفوات الشرط فإذا استقل المانع وفوات الشرط بنفي الحكم مع وجود ما يعارضه ويكسر سورته فلأن يستقل بالنفي مع انتفاء المعارض كان أولى وأيضاً فإنا لو اشترطنا وجود المقتضي فيلزم منه التعارض بينه وبين المانع أو فوات الشرط والتعارض على خلاف الأصل لما فيه من إهمال أحد الدليلين.
وعند انتفاء المقتضي لو أحلنا نفي الحكم على نفي المقتضى مع تحقق ما يناسب نفي الحكم من المانع أو فوات الشرط لزم منه إهمال مناسبة المانع وفوات الشرط مع اقتران نفي الحكم به وهو خلاف الأصل.
قلنا: جواب الإشكال الأول أنه لا يلزم من انتفاء الحكم بالمانع وفوات الشرط مع وجود المقتضي المشترط في إعماله لما بيناه انتفاؤه له مع فوات شرط إعماله.
وجواب الثاني: أنه وإن لزم من وجود المقتضي التعارض بينه وبين المانع أو فوات الشرط فهو أهون من نفيه لوجود المانع مع فوات شرط إعماله على ما حققناه.
ولهذا كان نفي الحكم بالمانع وفوات الشرط مع وجود المقتضي متفقاً عليه بين القائلين بتخصيص العلة ومختلفاً فيه مع انتفاء المقتضي وبتقدير انتفاء المقتضي فنفي الحكم له دون ما ظهر من المانع وفوات الشرط وإن أفضى إلى إلغاء مناسبة المانع وفوات الشرط مع اعتباره إلا أنه أولى من انتفائه للمانع أو فوات الشرط.
ولهذا وقع الاتفاق من الكل على استقلاله بالنفي عند عدم المعارض ووقع الخلاف في استقلال المانع وفوات الشرط بالنفي مع القائلين بامتناع تخصيص العلة فكان النفي له أولى.

ولا يمكن أن يقال بإحالة النفي على نفي المقتضي والمانع معاً لأنه معا لأنه لا يخلو إما أن يكون كل واحد مستقلاً بالنفي أو أن المقتضي للنفي الهيئة الاجتماعية منهما وهما بمنزلة أجزاء العلة النافية لا سبيل إلى الأول لما بيناه من امتناع تعليل الحكم الواحد في صورة واحدة بعلتين مستقلتين ولا سبيل إلى الثاني لأن نفي المقتضي بتقدير انتفاء معارضه مستقل بالنفي إجماعاً وفيه إخراج المستقل عن الاستقلال وهو ممتنع.
وإذا ثبت أنه لا بد في التعليل بالمانع وفوات الشرط من وجود المقتضي فلا بد من بيانه بطريق تفصيلي يدل على وجوده وعليته بما يساعد من الأدلة وإن اتفق أن كان الشارع قد نص على نفي الحكم فهو دليل ظاهر على وجود المقتضى لأنه لو لم يكن المقتضي موجوداً كانت فائدة التنصيص على النفي التأكيد لاستقلال نفي المقتضي بالنفي.
والأصل أن يحمل كلام الشارع على فائدة التأسيس لكونها أصلاً وإنما يتم ذلك بالنظر إلى وجود المقتضي.
فإن قيل: اعتقاد وجود المقتضي حملاً للكلام على فائدة التأسيس يلزم منه نفي الحكم مع وجود ما يقتضيه وهو خلاف الأصل وليس مخالفة محذور مخالفة المقتضى مع كونه خلاف الأصل دفعاً لمحذور حمل الكلام على فائدة التأكيد أولى من العكس.
قلنا: بل المحذور اللازم من نفي الحكم مع وجود ما يقتضيه مخالفة المقتضي لا غير وهو غالب في الشرع ومحذور التأكيد مع كونه نادراً فيه مخالفة ما ظهر من مناسبة المانع واعتباره مع أن الغالب من حال الشارع اعتبار المناسبات لا إلغاؤها.
ولا يخفى أن التزام محذور عهد التزامه في الشرع غالباً وليس فيه التزام محذور آخر أولى من التزام محذور لم يعهد التزامه في الشرع غالباً وفيه التزام محذور آ خر.
المسألة الثامنة عشرة يجب أن تكون العلة المستنبطة من الحكم المعلل بها مما ترجع عليه بالإبطال يجب أن لا تكون العلة المستنبطة من الحكم المعلل بها مما ترجع على الحكم الذي استنبطت منه بالإبطال وذلك كتعليل وجوب الشاة في باب الزكاة بدفع حاجة الفقراء لما فيه من رفع وجوب الشاة وأن ارتفاع الأصل المستنبط منه يوجب إبطال العلة المستنبطة منه ضرورة توقف عليتها على اعتبارها به وأن لا تكون طرديةً محضةً كالطول والقصر والسواد والبياض ونحوه لما بيناه من أن العلة في الأصل لا تكون إلا بمعنى الباعث والوصف الطردي لا يكون باعثاً ولأن الحكم في الفرع إنما يثبت بما غلب على الظن أن الحكم في الأصل ثابت له وذلك غير متصور في الوصف الطردي وأن لا يكون لها في الأصل معارض لا تحقق له في الفرع لما يأتي تقريره وأن لا تكون مخالفة للنص الخاص أو للإجماع وهذا كله من الشروط المتفق عليها.
وقد اشترط فيها أن لا تكون مخصصةً لعموم القرآن وقد أبطلناه فيما تقدم وأن لا تعارضها علةً أخرى تقتضي نقيض حكمها وإنما يصح ذلك أن لو كانت العلة المعارضة لها راجحةً عليها وممتنعة التخصيص وقد عرف ما في ذلك وأن لا تتضمن زيادة على النص وإنما يصح ذلك أن لو كانت الزيادة منافيةً لمقتضى النص وأن تكون منتزعةً من أصل مقطوع بحكمه وليس كذلك لما بيناه من جواز القياس على أصل حكمه ثابت بدليل مظنون وأن لا تكون مخالفةً لمذهب الصحابي وليس كذلك لجواز أن يكون مذهب الصحابي مستنداً إلى علة مستنبطة من أصل آخر إلا أن تكون علته مع ظهورها راجحة وأن يكون وجودها في الفرع مقطوعاً به وليس كذلك لأن وجودها أحد ما يتوقف عيه الحكم في الفرع فكان الظن كافياً فيه كما في وجودها في الأصل وفي كونها علةً وفي نفي المعارض عنها في الأصل والفرع وبالجملة فهذه الشروط في محل الاجتهاد.
المسألة التاسعة عشرة اتفقوا على أن نصب الوصف سبباً وعلة من الشارع وأن دليله لا بد وأن يكون شرعياً وسواء كان كونه سبباً وعلةً وحكماً شرعياً أو لم يكن كما سبق وجه الكلام فيه وإنما اختلفوا في الدليل الدال على العلة الجامعة في القياس: فذهب بعض أصحابنا إلى أن شرطه أن لا يكون متناولاً لإثبات الحكم في الفرع وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة الفواكه مطعوم فجرى فيه الربا قياسا على البر ثم دل على كون الطعم علة بقوله عليه السلام: " لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل " فإنه وإن كان دليلاً على كون الطعم علةً بالإيماء فهو دليل على تحريم الربا في الفواكه بعمومه.

وربما كان الدليل الدال على العلة متناولاً لحكم الفرع بخصوصه دون حكم الأصل وذلك كما لو قال الحنفي في مسألة الخارج من غير السبيلين خارج نجس فينفض الوضوء كالخارج من السبيلين.
ثم دل على كون الخارج النجس علةً للنقض بقوله عليه السلام: " من قاء أو رعف أو أمذى فليتوضأ وضوءه للصلاة " فإن القيء والرعاف والمذي من حيث هو خارج نجس مناسب لنقض الوضوء فترتيب الحكم عليه في كلام الشارع يدل على التعليل به كما يأتي في طرق إثبات العلة ولكنه مع ذلك متناول لإثبات حكم الفرع بخصوصه دون حكم الأصل وإنما شرطوا امتناع ذلك مصيراً منهم إلى أنه إذا كان دليل العلة يستقل بالدلالة على الحكم المتنازع فيه فالاستدلال بالعلة على الحكم على وجه لا بد من إثباتها بدليل يستقل بإثبات الحكم المتنازع فيه يكون تطويلاً بلا فائدة فليعدل إليه أولاً.
ولقائل أن يقول: الاستدلال بالعلة المثبتة بالنص المتناول لحكم الفرع وإن أفضى إلى التطويل فحاصله يرجع إلى مناقشة جدلية وليس ذلك مما يقدح في صحة القياس المذكور ولا يكون قادحاً في المقصود وقد ينقدح عنه جواب آخر في بعض الصور وهو عند ما إذا كان العام الدال على حكم الفرع قد خص في صورة وكان المستدل ممن يرى أن العام بعد التخصيص لا يبقى حجة إلا في أقل الجمع فله أن يقول: إنما لم أتمسك بعموم النص في إثبات حكم الفرع لعدم مساعدة الدليل على إدراج الفرع فيه وذلك لا يمنع من التمسك به في إثبات العلة ولو في صورة واحدة ومهما كان كذلك لزم إثبات الحكم بتلك العلة في أي صورة وجدت ولذلك وقع التمسك به في إثبات العلة دون الحكم.
المسألة العشرون اختلف الشافعية والحنفية في حكم أصل القياس المنصوص عليه هل هو ثابت بالعلة أو النص؟ فقالت الشافعية إنه ثابت بالعلة وقالت الحنفية إنه ثابت بالنص محتجين على ذلك بأمور ثلاثة: الأول: أن الحكم في الأصل مقطوع به والعلة المستنبطة منه مظنونة والمقطوع به لا يكون ثابتاً بالمظنون.
الثاني: أن العلة مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عليه وتابعة له في الوجود فلو كان الحكم ثابتا بها لكان الأصل ثابتاً بما لا ثبوت له دون ثبوته وهو دور.
الثالث: أنه قد يثبت الحكم تعبداً من غير علة فلو كان ثابتا بالعلة لما ثبت مع عدمها.
واعلم أن الخلاف في هذه المسألة آئل إلى اختلاف في اللفظ وذلك أن قول أصحابنا بأن الحكم ثابت بالعلة لا يريدون به أن العلة معرفة له بالنسبة إلينا ضرورة أنها مستنبطة منه وأنها لا تعرف دون معرفته وإنما يريدون به أنها الباعثة للشارع على إثبات الحكم في الأصل وأنها التي لأجلها أثبت الشارع الحكم وأصحاب أبي حنيفة غير منكرين لذلك وحيث قالت الحنفية إن العلة غير مثبتةً للحكم لم يريدوا بذلك أنها ليست باعثةً وإنا أرادوا بذلك أنها غير معرفة لحكم الأصل بالنسبة إلينا وأصحابنا غير منكرين لذلك فلا خلاف في المعنى بل في اللفظ.
القسم الثالث
في شروط الفرع وهي خمسةالشرط الأول أن يكون خالياً عن معارض راجح يقتضي نقيض ما اقتضته علة القياس على رأي القائلين بجواز تخصيص العلة ليكون القياس مفيداً.
الشرط الثاني: أن تكون العلة الموجودة فيه مشاركةً لعلة الأصل إما في عينها كتعليل تحريم شرب النبيذ بالشدة المطربة المشتركة بينه وبين الخمر أو في جنسها كتعليل وجوب القصاص في الأطراف بجامع الجناية المشتركة بين القطع والقتل لأن القياس على ما تقدم إنما هو تعدية حكم الأصل إلى الفرع بواسطة علة الأصل.
فإذا لم تكن علة الفرع مشاركةً لها في صفة عمومها ولا خصوصها فلم تكن علة الأصل في الفرع فلا يمكن تعدية حكم الأصل إلى الفرع.
الشرط الثالث: أن يكون الحكم في الفرع مماثلاً لحكم الأصل في عينه كوجوب القصاص في النفس المشترك بين المثقل والمحدد أو جنسه كإثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها قياساً على إثبات الولاية في مالها فإن المشترك بينهما إنما هو جنس الولاية لا عينها ولو لم يكن كذلك لكان القياس باطلاً.
وذلك لأن شرع الأحكام لم يكن مطلوباً لذاته بل لما يفضي إليه من مقاصد العبد وسواء ظهر المقصود أم لم يظهر.
فإذا كان حكم الفرع مماثلاً لحكم الأصل علمنا أن ما يحصل به من المقصود مثل ما يحصل من حكم الأصل ضرورة اتحاد الوسيلة فيجب إثباته.

وأما إذا كان حكم الفرع مخالفاً لحكم الأصل مع أنه الوسيلة إلى تحصيل المقصود فإفضاؤه إلى الحكمة المطلوبة يجب أن يكون مخالفاً لإفضاء حكم الأصل إليها والمخالفة بينهما من الإفضاء إما أن تكون بزيادة في إفضاء حكم الأصل إليها أو في إفضاء حكم الفرع: فإن كان الأول: فلا يلزم من شرع الحكم في الأصل رعايةً لأصل المقصود وزيادة الإفضاء إليه شرع حكم الفرع تحصيلاً لأصل المقصود دون زيادة الإفضاء إليه لأن زيادة الإفضاء إلى المقصود مقصودة في نظر العقلاء وأهل العرف.
وإن كان الثاني: فهو ممتنع لأنا أجمعنا على امتناع ثبوت مثل حكم الفرع في الأصل.
وعند ذلك فتنصيص الشارع على حكم الأصل دون حكم الفرع يدل على أن حكم الأصل أفضى إلى المقصود من حكم الفرع وإلا فلو كان حكم الفرع أفضى إلى المقصود من حكم الأصل لكان أولى بالتنصيص عليه فإن قيل ما ذكرتموه فرع تصور الاختلاف في الأحكام الشرعية وليس كذلك وذلك لأن حكم الله هو كلامه وخطابه وذلك مما لا اختلاف فيه وإنما الاختلاف في تعلقاته ومتعلقاته.
وحكم الشارع بالوجوب لا يخالف حكمه بالتحريم من حيث هو حكم الله وكلامه وإن وقع الاختلاف في أمر خارج كالذم على الفعل والذم على الترك بسبب اختلاف محل الخطاب ولا يخفى أن اختلاف محل الخطاب غير موجب لاختلاف الحكم في نفسه بدليل اشتراك الصوم والصلاة في حكم الوجوب والقتل والزنى في التحريم.
وإن سلمنا تصور الاختلاف في نفس الحكم الشرعي ولكن ما المانع أن يكون إفضاء حكم الفرع إلى المقصود أتم من إفضاء حكم الأصل إليه.
قولكم: لو كان كذلك لكان التنصيص عليه في الأصل أولى إنما يلزم أن لو لم تكن فائدة التنصيص على حكم الأصل لقصد التنبيه بالأدنى على الأعلى وبتقدير أن لا يكون ذلك مقصوداً للشارع فإنما لم ينص عليه لاحتمال أن يكون ذلك لمانع مختص به لا وجود له في حكم الأصل.
والجواب عن السؤل الأول: أنه ليس حكم الشارع عبارةً عن مطلق كلامه وخطابه ليصح ما قيل بل الخطاب المقيد بتعلق خاص كما بيناه في حد الحكم وإذا كان التعلق داخلاً في مفهوم الحكم فالتعلقات مختلفة ويلزم من اختلافها اختلاف الأحكام.
وعن الثاني: أنه لو كانت فائدة تخصيص حكم الأصل بالتنصيص عليه التنبيه به على حكم الفرع لكان حكم الفرع ثابتاً بمفهوم الموافقة لا بالقياس ولجاز إثباته في الأصل وهو ممتنع.
قولهم: إنما لم ينص عليه لاحتمال اختصاصه بمانع.
قلنا: المانع إما أن يكون من لوازم صورة الأصل أو من لوازم مثل حكم الفرع أو من لوازم اجتماع الأمرين: فإن كان الأول فيلزم منه امتناع إثبات حكم الأصل في الأصل بطريق الأولى ضرورة كون مقصوده أدنى من مقصود حكم الفرع على ما وقع به الفرض.
وإن كان الثاني فيلزم منه امتناع ثبوته في الفرع أيضاً ضرورة أن ما هو المانع من إثباته في الأصل من لوازم نفس ذلك الحكم وإن كان الثالث فالأصل عدمه.
الشرط الرابع: أن لا يكون حكم الفرع منصوصاً عليه وإلا ففيه قياس المنصوص على المنصوص وليس أحدهما بالقياس على الآخر أولى من العكس وهذا مما لا نعرف خلافاً بين الأصوليين في اشتراطه.
الشرط الخامس أن لا يكون حكم الفرع متقدماً على حكم الأصل وذلك كما لو قاس الشافعي الوضوء على التيمم في الافتقار إلى النية لأنه يلزم منه أن يكون الحكم في الفرع ثابتاً قبل كون العلة الجامعة في قياسه علة ضرورة كونها مستنبطةً من حكم متأخر عنه اللهم إلا أن يذكر ذلك بطريق الإلزام للخصم لا بطريق مأخذ القياس.
وقد شرط قوم أن يكون الحكم في الفرع ثابتاً بالنص جملة لا تفصيلاً وهو باطل فإن الصحابة قاسوا قوله: أنت علي حرام على الطلاق واليمين والظهار ولم يوجد في الفرع نص لا جملة ولا تفصيلاً.
الباب الثاني في مسالك إثبات العلة الجامعة في القياس
المسلك الأول:
الإجماعوهو أن يذكر ما يدل على إجماع الأمة في عصر من الأعصار على كون الوصف الجامع علةً لحكم الأصل إما قطعاً أو ظناً فإنه كاف في المقصود وذلك كإجماعهم على كون الصغر علةً لثبوت الولاية على الصغير في قياس ولاية النكاح على ولاية المال.

فإن قيل: فإذا كانت العلة مجمعاً عليها قطعاً فكيف يسوغ الخلاف معها في مسائل الاجتهاد؟ قلنا بأن يكون وجودها ظنياً في الأصل أو الفرع وأما إن كان وجودها فيهما مع كونها مقطوعاً بعليتهما فلا.
المسلك الثاني:
النص الصريحوهو أن يذكر دليل من الكتاب أو السنة على التعليل بالوصف بلفظ موضوع له في اللغة من غير احتياج فيه إلى نظر واستدلال وهو قسمان: الأول: ما صرح فيه بكون الوصف علةً أو سبباً للحكم الفلاني وذلك كما لو قال: العلة كذا أو السبب كذا.
القسم الثاني: ما ورد فيه حرف من حروف التعليل كاللام والكاف ومن وإن والباء.
أما اللام فكقوله تعالى: " أقم الصلاة لدلوك الشمس " الإسراء 78 أي زوال الشمس.
وكقوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " الذاريات 56 وكقوله عليه السلام: " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة " أي القوافل السيارة وذلك يدل على التعليل بالوصف الذي دخلت عليه اللام لتصريح أهل اللغة بأنها للتعليل.
وأما الكاف فكقوله تعالى: " كيلا يكون دولة بين الأغنياء " الحشر 7 أي كي لا تبقى الدولة بين الأغنياء بل تنتقل إلى غيرهم.
وأما من فكقوله تعالى: " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل " المائدة 32 وأما إن فكقوله عليه السلام في قتلى أحد زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك وكقوله عليه السلام في حق محرم وقصت به ناقته لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيباً فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً.
وأما الباء فكقوله تعالى: " جزاء بما كانوا يعملون " .
فهذه هي الصيغ الصريحة في التعليل وعند ورودها يجب اعتقاد التعليل إلا أن يدل الدليل على أنها لم يقصد بها التعليل فتكون مجازاً فيما قصد بها وذلك في اللام كما لو قيل: لم فعلت كذا؟ فقال: لأني قصدت أن أفعل وكما في قول القائل: أصلي لله وقول الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب فقصد الفعل لا يصلح أن تكون علة للفعل وغرضاً له.
وكذلك ذات الله تعالى لا تصلح أن تكون علةً للصلاة ولا الموت علةً للولادة ولا الخراب علةً للبناء بل علة الفعل ما يكون باعثاً على الفعل وهي الأشياء التي تصلح أن تكون بواعث.
وكما في قوله تعالى: " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " الحشر 2 " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " الأنفال 13 وليس كل من شاق الله ورسوله يخرب بيته فليست المشاقة علة لخراب البيت اللهم إلا أن يحمل لفظ الخراب على استحقاق الخراب أو على استحقاق العذاب فإنه يكون معللاً بالمشاقة.
المسلك الثالث:
ما يدل على العلية بالتنبيه والإيماء.وذلك بأن يكون التعليل لازماً من مدلول اللفظ وضعاً لا أن يكون اللفظ دالاً بوضعه على التعليل وهو ستة أقسام.
الأول ترتيب الحكم على الموصف بفاء التعقيب والتسبيب في كلام الله أو رسوله أو الراوي عن الرسول.
أما في كلام الله تعالى فكما في قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " المائدة 38 " واذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " المائدة 6.
وأما في كلام رسوله فكقوله عليه السلام " من أحيا أرضاً ميتةً فهي له " وقوله " ملكت نفسك فاختاري " .
وأما في كلام الراوي فكما في قوله: سها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فسجد وزنى ماعز فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في جميع هذه الصور يدل على أن ما رتب عليه الحكم بالفاء يكون علةً للحكم لكون الفاء في اللغة ظاهرةً في التعقيب.
ولهذا فإنه لو قيل جاء زيد فعمرو فإن ذلك يدل على مجيء عمرو عقيب مجيء زيد من غير مهلة ويلزم من ذلك السببية لأنه لا معنى لكون الوصف سبباً إلا ما ثبت الحكم عقيبه وليس ذلك قطعاً بل ظاهراً لأن الفاء في اللغة قد ترد بمعنى الواو في إرادة الجمع المطلق وقد ترد بمعنى ثم في إرادة التأخير مع المهلة كما سبق تعريفه.

غير أنها ظاهرة في التعقيب بعيدة فيما سواه وهذه الرتب متفاوتة فأعلاها ما ورد في كلام الله تعالى ثم ما ورد في كلام رسوله ثم ما ورد في كلام الراوي وسواء كان فقهياً أو لم يكن لكنه إن كان فقيهاً كان الظن بقوله أظهر وإذا لم يكن فقيهاً وإن كان في أدنى الرتب غير أنه مغلب على الظن لأنه إذا قال سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد فالظاهر من حاله مع كونه متديناً عالماً بكون الفاء موضوعةً للتعقيب أنه لو لم يفهم أن السهو سبب للسجود وإلا لما رتب السجود على السهو بالفاء لما فيه من التلبيس بنقل ما يفهم منه السببية ولا يكون سبباً بل ولما كان تعليقه للسجود بالسهو أولى من غيره.
القسم الثاني ما لو حدثت واقعة فرفعت إلى النبي عليه السلام فحكم عقيبها بحكم فإنه يدل على كون ما حدث علة لذلك الحكم.
وذلك كما روي أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: هلكت وأهلكت فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا صنعت؟ فقال واقعت أهلي في نهار رمضان عامداً فقال له عليه السلام: اعتق رقبة فإنه يدل على كون الوقاع علةً للعتق.
وذلك لأنا نعلم أن الأعرابي إنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن واقعته لبيان حكمها شرعاً وأن النبي عليه السلام إنما ذكر ذلك الحكم في معرض الجواب له لا أنه ذكره ابتداء منه لما فيه من إخلاء السؤال عن الجواب وتأخير البيان عن وقت الحاجة وكل ذلك وإن كان ممكناً إلا أنه على خلاف الظاهر.
وإذا كان ذلك جواباً عن سؤاله فالسؤال الذي عنه الجواب يكون ذكره مقدراً في الجواب في كلام المجيب فيصير كأنه قال: واقعت فكفر وقد عرف أن الوصف إذا رتب الحكم عليه في كلام الشارع بفاء التعقيب تحقيقاً فإنه يكون علة فكذلك إذا كان الحكم مرتبا عليه بفاء التعقيب تقديراً.
ولهذا كان هذا القسم ملحقاً بالقسم الذي قبله وإن كان دونه في الظهور والدلالة لكون الفاء فيه مقدرةً وفي الأول محققةً ولاحتمال أن يكون قد بدأ به لا عن قصد الجواب وذلك كما لو قال العبد لسيده: قد طلعت الشمس أو غربت.
فقال له: اسقني ماء فإنه لا يفهم منه الجواب لسؤاله ولا التعليل بل هو أمر له ابتداء بسقي الماء وعدول عن السؤال بالكلية إما لذهوله عن السؤال أو لعدم الالتفات اليه لعدم تعلق الغرض به غير أن هذا الاحتمال وإن كان منقدحاً هاهنا فهو بعيد في حق النبي عليه السلام فيما فرض السؤال عنه إذ الغالب عدم الذهول وأنه إنما قصد الجواب حتى لا يكون مؤخراً للبيان عن وقت الحاجة مع كونه خلاف الظاهر.
القسم الثالث: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفاً لو لم يقدر التعليل به لما كان لذكره فائدة ومنصب الشارع مما ينزه عنه وذلك لأن الوصف المذكور إما أن يكون مذكوراً مع الحكم في كلام الله تعالى أو كلام رسوله.
فإن كان في كلام الله تعالى وقدرنا أنه لو لم يقدر التعليل به فذكره لا يكون مفيداً ولا يخفى أن ذلك غير جائز في كلام الله تعالى إجماعاً نفياً لما لا يليق بكلامه عنه.
وإن كان ذلك في كلام رسوله فلا يخفى أن الأصل إنما هو انتفاء العبث عن العاقل في فعله وكلامه ونسبة ما لا فائدة فيه إليه لكونه عارفاً بوجوه المصالح والمفاسد فلا يقدم في الغالب على ما لا فائدة فيه واذا كان ذلك هو الظاهر من آحاد العقلاء فمن هو أهل للرسالة عن الله تعالى ونزول الوحي عليه وتشريع الأحكام أولى.
وإذا عرف ذلك فيجب اعتقاد كون الوصف المذكور في كلامه مع الحكم علة له.
وهذا القسم على أصناف وذلك لأن الشارع إما أن يذكر ذلك ابتداء من غير سؤال أو بعد السؤال.
فإن كان من غير سؤال فهو الصنف الأول وذلك كما في حديث ابن مسعود ليلة الجن حيث توضأ عليه السلام بماء كان قد نبذ فيه تميرات لاجتناب ملوحته فقال: ثمرة طيبة وماء طهور فإنه يدل على جواز الوضوء به وإلا كان ذكره ضائعاً لكون ما ذكر ظاهراً غير محتاج إلى بيان.

وان كان مع السؤال فلا يخلو إما أن يذكر ذلك الوصف في محل السؤال أو في غيره: فإن كان في محل السؤال فهو الصنف الثاني وذلك كما روي عنه عليه السلام أنه سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم فقال: فلا إذا " فهذا وإن فهم منه أن النقصان علة امتناع بيع الرطب بالتمر من ترتيبه الحكم على الوصف بالفاء واقترانه بحرف إذا وهي من صيغ التعليل غير أنا لو قدرنا انتفاء هذين لبقي فهم التعليل بالنقصان بحاله نظراً إلى أنه لو لم يقدر التعليل به لكان ذكره والاستفسار عنه غير مفيد.
وإن كان في غير محل السؤال وهو أن يعدل في بيان الحكم إلى ذكر نظير لمحل السؤال فهو الصنف الثالث وذلك كما روي عنه عليه السلام أنه لما سألته الجارية الخثعمية وقالت: يا رسول الله إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج فإن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال عليه السلام: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟ فقالت: نعم قال: فدين الله أحق بالقضاء.
فالخثعمية إنما سألت عن الحج والنبي عليه السلام ذكر دين الآدمي والحج من حيث هو دين نظير لدين الآدمي فذكره لنظير المسؤول عنه مع ترتيب الحكم عليه يدل على التعليل به وإلا كان ذكره عبثاً.
ويلزم من كون نظير الواقعة علةً للحكم المرتب عليها أن يكون المسؤول عنه أيضاً علةً لمثل ذلك الحكم ضرورة المماثلة وما مثل هذا يسميه الأصوليون التنبيه على أصل القياس فكأنه نبه على الأصل وعلى علة حكمه وعلى صحة إلحاق المسؤول عنه بواسطة العلة المومي إليها.
وليس من هذا القبيل ما مثل به بعض الأصوليين وذلك كما روي عن عمر أنه سأل النبي عليه السلام عن قبلة الصائم: هل تفسد الصوم؟ فقال عليه السلام: أرأيت لو تمضمضت أكان ذلك يفسد الصوم؟ فقال: لا وذلك لأن النبي عليه السلام إنما ذكر ذلك بطريق النقض لما توهمه عمر من كون القبلة مفسدةً للصوم لكونها مقدمةً للوقاع المفسد للصوم فنقض النبي عليه السلام ذلك بالمضمضة فإنها مقدمة للشرب المفسد للصوم وليست مفسدةً للصوم أما أن يكون ذلك تنبيهاً على تعليل عدم الإفساد بكون المضمضة مقدمةً للفساد فلا.
وذلك لأن كون القبلة والمضمضة مقدمةً لإفساد الصوم ليس فيه ما يتخيل أن يكون مانعاً من الإفطار بل غايته أن لا يكون مفطراً فكان الأشبه بما ذكره النبي عليه السلام أن يكون نقضاً لا تعليلاً.
وأيضاً فإن الأصل أن يكون الجواب مطابقاً للسؤال لا زائدا عليه ولا ناقصاً عنه أما الزيادة فلعدم تعلق الغرض بها وأما النقصان فلما فيه من الإخلال بمقصود السائل.
وعمر إنما سأل عن كون القبلة مفسدةً للصوم أم لا؟ فالجواب المطابق إنما يكون بما يدل على الإفساد أو عدمه وكون القبلة علة لنفي الفساد غير مسؤول عنه فلا يكون اللفظ الدال على ذلك جواباً مطابقاً للسؤال بخلاف النقض فإنه يتحقق به أن القبلة غير مفسدة فكان جواباً مطابقاً للسؤال.
القسم الرابع: أن يفرق الشارع بين أمرين في الحكم بذكر صفة فإن ذلك يشعر بأن تلك الصفة هي علة التفرقة في الحكم حيث خصصها بالذكر دون غيرها فلو لم تكن علةً لكان ذلك على خلاف ما أشعر به اللفظ وهو تلبيس يصان منصب الشارع عنه.
وذلك منقسم إلى ما يكون حكم أحد الأمرين مذكوراً في ذلك الخطاب دون ذكر الآخر وإلى ما لا يكون مذكوراً فيه: الأول: كما في قوله عليه السلام القاتل لا يرث فإنه خصص القاتل بعدم الميراث بعد سابقة إرث من يرث.
والثاني: فمنه ما تكون التفرقة فيه بلفظ الشرط والجزاء كقوله: " لا تبيعوا البر بالبر " إلى قوله: " فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " ومنه ما يكون بالغاية كقوله تعالى: " ولا تقربوهن حتى يطهرن " البقرة 222 ومنه ما يكون بالاستثناء كقوله تعالى: " فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون " البقرة 237 ومنه ما يكون بلفظ الاستدراك كقوله تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " المائدة 89 ومنه أن يستأنف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الآخر كقوله عليه السلام " للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم "

القسم الخامس: أن يكون الشارع قد أنشأ الكلام لبيان مقصود وتحقيق مطلوب ثم يذكر في أثنائه شيئاً آخر لو لم يقدر كونه علة لذلك الحكم المطلوب لم يكن له تعلق بالكلام لا بأوله ولا بآخره فإنه يعد خبطاً في اللغة واضطراباً في الكلام وذلك مما تبعد نسبته إلى الشارع وذلك كقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع " الجمعة 9 فالآية إنما سيقت لبيان أحكام الجمعة لا لبيان أحكام البيع.
فلو لم يعتقد كون النهي عن البيع علة للمنع عن السعي الواجب إلى الجمعة لما كان مرتبطاً بأحكام الجمعة وما سيق له الكلام ولا تعلق به وذلك ممتنع لما سبق وقوله تعالى: " وذروا البيع " وإن كانت صيغته صيغة أمر إلا أنه في معنى النهي إذا النهي طلب ترك الفعل وقوله تعالى: " وذروا البيع " طلب لترك البيع فكان نهياً.
القسم السادس: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفاً مناسباً كقوله عليه السلام: " لا يقضي القاضي وهو غضبان " فإنه يشعر بكون الغضب علةً مانعةً من القضاء لما فيه من تشويش الفكر واضطراب الحال وكذلك اذا قال: أكرم العالم وأهن الجاهل فإنه يسبق إلى الفهم منه أن العلم علة للإكرام والجهل علة للإهانة وذلك لوجهين.
الأول: ما ألف من عادة الشارع من اعتبار المناسبات دون إلغائها فإذا قرن بالحكم في لفظه وصفا مناسباً غلب على الظن اعتباره له.
الثاني: ما علمنا من حال الشارع أنه لا يرد بالحكم خلياً عن الحكمة إذ الأحكام إنما شرعت لمصالح العبيد وليس ذلك بطريق الوجوب بل بالنظر إلى جري العادة المألوفة من شرع الأحكام فإذا ذكر مع الحكم وصفاً مناسباً غلب على الظن أنه علة له إلا أن يدل الدليل على أنه لم يرد به ما هو الظاهر منه فيجوز تركه.
وذلك كما في قوله لا يقضي القاضي وهو غضبان فإنه وإن دل بظاهره على أن مطلق الغضب علة فجواز القضاء مع الغضب اليسير يدل على أن مطلق الغضب ليس بعلة بل الغضب المانع من استيفاء النظر وإذا عرفت أقسام الوصف المومي إليه ترتب عليه النظر في مسألتين.
المسألة الاولى اختلف الأصوليون في اشتراط مناسبة الوصف المومي إليه: فأثبته قوم ونفاه آخرون كالغزالي وأتباعه.
حجة من قال باشتراط المناسبة أن الغالب من تصرفات الشارع أن تكون على وفق تصرفات العقلاء وأهل العرف ولو قال الواحد من أهل العرف لغيره أكرم الجاهل وأهن العالم قضى كل عاقل أنه لم يأمر بإكرام الجاهل لجهلة ولا أن أمره بإهانة العلم لعلمه وإن ذلك لا يصلح للتعليل نظرا إلى أن تصرفات العقلاء لا تتعدى مسالك الحكمة وقضايا العقل.
وأيضاً فإن الاتفاق من الفقهاء واقع على امتناع خلو الاحكام الشرعية عن الحكم إما بطريق الوجوب على رأي المعتزلة وإما بحكم الاتفاق على رأي أصحابنا وسواء ظهرت الحكمة أم لم تظهر.
وما يعلم قطعاً أنه لا مناسبة فيه ولا وهم المناسبة يعلم امتناع التعليل به.
والمختار أن تقول أما ما كان من القسم السادس الذي فهم التعليل فيه مستنداً إلى ذكر الحكم مع الوصف المناسب فلا يتصور فهم التعليل فيه دون فهم المناسبة لأن عدم المناسبة فيما المناسبة شرط فيه يكون تناقضاً.
وأما ما سواه من الأقسام فلا يمتنع التعليل فيها بما لا مناسبة فيه إلا أن تكون العلة بمعنى الباعث وأما بمعنى الأمارة والعلامة فلا.
وعلى هذا فما ذكروه من الحجة على امتناع التعليل بالوصف الطردي إنما يصح إن لو قيل إن التعليل بالوصف الطردي بمعنى الباعث ولا اتجاه لها في التعليل بمعنى الأمارة والعلامة.
وعلى هذا فلا امتناع في جعل الجهل علامةً على الإكرام والعلم علامةً على الإهانة إذا لم يكن هو الباعث بل الباعث غيره.
المسألة الثانية اتفقوا على صحة الإيماء فيما إذا كان حكم الوصف المومي إليه مدلولاً عليه بصريح اللفظ. كالأمثلة السابق ذكرها وأما إذا كان اللفظ يدل على الوصف بصريحه والحكم مستنبط منه غير مصرح به كما في قوله تعالى: " وأحل الله البيع وحرم الربا " فإن اللفظ بصريحة يدل على الحل والصحة مستنبطة منه.

ووجه استنباط الصحة منه أنه لو لم يكن البيع صحيحاً لم يكن مثمراً إذ هو معنى نفي الصحة وإذا لم يكن مثمراً مفيداً كان تعاطيه عبثاً والعبث مكروه والمكروه لا يحل وعند ذلك فيلزم من الحل الصحة لتعذر الحل مع انتفاء الصحة.
وهذا مما اختلف في كونه مومى إليه: فذهب قوم إلى امتناع الإيماء تمسكاً منهم بأن الإيماء إنما يتحقق إذا دل اللفظ بوضعه على الوصف والحكم كما سبق من الأمثلة وأما اذا دل على الوصف بالوضع وكان الحكم مستنبطاً منه فلا يدل ذلك على كونه مومي إليه كما إذا دل اللفظ على الحكم بوضعه وكان الوصف مستنبطاً منه فإنه لا يدل على الإيماء إلى الوصف وذلك كما في قوله عليه السلام حرمت الخمرة لعينها فإنه يدل على الحكم وهو التحريم وضعاً والشدة المطربة علة مستنبطة منه وليست مومي إليها.
وذهب المحققون إلى كونه مومي إليه وهو الحق وذلك لأنه إذا كان اللفظ بصريحه يدل على الوصف وهو الحل والصحة لازمة له لما تقرر فإثبات الحل وضعاً يدل على إرادة ثبوت الصحة ضرورة كونها لازمةً للحل فيكون ثابتاً بإثبات الشارع له مع وصف الحل وإثبات الشارع للحكم مقترناً بذكر وصف مناسب دليل الإيماء إلى الوصف كما لو ذكر معه الحكم بلفظ يدل عليه وضعاً ضرورة تساويهما في الثبوت وإن اختلفا في طريق الثبوت بأن كان أحدهما ثابتاً بدلالة اللفظ وضعاً والآخر مستنبطاً من مدلول اللفظ وضعا لأن الإيماء إنما كان مستفاداً عند ذكر الحكم والوصف بطريق الوضع من جهة اقتران الحكم بالوصف لا من جهة كون الحكم ثابتاً بطريق الوضع.
وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم مدلولا عليه وضعا والوصف مستنبط منه وذلك لأن الوصف المستنبط من الحكم المصرح به كما في المثال المذكور لم يكن وجوده لازماً من الحكم المصرح به ولا مناسبته لتحققه قبل شرع الحكم بخلاف الصحة مع الحل كما تقدم تحقيقه.
والمعتبر في الإيماء أن يكون الوصف المومي إليه مذكوراً في كلام الشارع مع الحكم أو لازما من مدلول كلامه والأمران مفقودان في الوصف المستبط بخلاف الحل مع الصحة.
المسلك الرابع:
في إثبات العلة بالسير والتقسيموذلك أن يقال: الحكم الثابت في الأصل إما أن يكون ثابتاً لعلة أو لا لعلة: لا جائز أن يقال بالثاني إذا هو خلاف إجماع الفقهاء على أن الحكم لا يخلو عن علة إما بجهة الوجوب كما قالت المعتزلة أو لا بجهة الوجوب كقول أصحابنا وبتقدير جواز خلوه عن العلة فالخلو عنها على خلاف الغالب المألوف من شرع الأحكام وذلك يدل ظاهراً على استلزام الحكم فيما نحن فيه للعلة وإذا كان لا بد له من علة فإما بأن تكون ظاهرةً أو غير ظاهرة: لا جائز أن تكون غير ظاهرة وإلا كان الحكم تعبداً وهو خلاف الأصل لوجوه ثلاثة: الأول: أن إثبات الحكم بجهة التعقل أغلب من إثباته بجهة التعبد وإدراج ما نحن فيه تحت الغالب أغلب على الظن.
الثاني: أنه إذا كان الحكم معقول المعنى كان على وفق المألوف من تصرفات العقلاء وأهل العرف والأصل تنزيل التصرفات الشرعية على وزان التصرفات العرفية.
الثالث: أنه إذا كان معقول المعنى كان أقرب إلى الانقياد وأسرع في القبول فكان أفضى إلى تحصيل مقصود الشارع من شرع الحكم فكان أولى وإذا كان لا بد من علة ظاهرة.
فإذا قال المناظر: الموجود في محل الحكم لا يخرج عن وصفين أو ثلاثة مثلاً لأني بحثت وسبرت فلم أطلع على ما سواه وكان أهلاً للنظر بأن كانت مدارك المعرفة بذلك لديه متحققة من الحس والعقل وكان عدلاً ثقة فيما يقول.
والغالب من حاله الصدق غلب على الظن انتفاء ما سوى المذكور من الأوصاف أو قال الأصل عدم كل موجود سوى ما وجد من الأوصاف المذكورة إلا أن يدل الدليل عليه والأصل عدم ذلك الدليل فإنه يغلب على الظن الحصر فيما عينه.
وإذا ثبت حصر الأوصاف فيما عينه فإذا بين بعد ذلك حذف البعض عن درجة الاعتبار في التعليل بدليل صالح مساعد له عليه بحيث يغلب على الظن ذلك فيلزم من مجموع الأمرين انحصار التعليل فيما استبقاه.
ضرورة امتناع خلو محل الحكم عن علة ظاهرة وامتناع وجود ما وراء الأوصاف المذكورة وامتناع إدراج المحذوف في التعليل لما دل عليه الدليل.

فإن قيل لعله لم يبحث ولم يسبر وإن بحث وسبر فلعله وجد وصفاً وراء ما أدعى الحصر فيه ولم يذكره ترويجاً لكلامه وإن لم يجد شيئاً وراء المذكور فلا يدل ذلك على عدمه فإن عدم العلم بالوصف جهل به والجهل بوجود الوصف لا يدل على عدمه وإن دل على عدمه بالنسبة إلى الباحث فلا يدل على عدمه بالنسبة إلى الخصم فإنه ربما كان عالماً بوجود وصف آخر وراء المذكور.
وعند ذلك فلا ينتهض بحث المستدل دليلاً في نظر خصمه على العدم لعلمه بمناقضته ثم وإن دل ذلك على حصر الأوصاف فيما ذكره فحذف بعض الأوصاف عن درجة الاعتبار في التعليل إنما يلزم منه انحصار التعليل في المستبقي أن لو كان الحكم في محل التعليل معقول المعنى.
وإما على تقدير كونه غير معقول المعنى فلا لأنه جاز أن يشترك المحذوف والمستبقي في انتفاء الاعتبار وإن كان الحكم معقول المعنى فغاية ما في حذف الوصف المحذوف إبطال معارض العلة ولا يلزم من ذلك صحة كون المستبقي علةً لأن صحة العلة إنما تكون بالنظر إلى وجود مصححها لا بالنظر إلى انتفاء معارضها.
قلنا إذا كان الباحث مسلماً عدلاً فالظاهر أنه صادق فيما أخبر به من البحث وعدم الاطلاع على وصف آخر وعند ذلك فالقضاء بنفي الوصف لا يكون مستنداً إلى عدم العلم به بل بناء على الظن بعدمه فإن الظن بعدم الشيء ملازم للبحث عن ذلك الشيء ممن هو أهله مع عدم الاطلاع عليه.
وعند ذلك فالظاهر أنه لو كان الخصم يعلم وجود وصف آخر لأبرزه وأظهره إفحاماً لخصمه وإظهاراً لعلم مست الحاجة إلى اظهاره فدعوى العلم منه بوجود وصف آخر من غير بيان مع إمكان البيان لا يكون مقبولاً لظهور العناد فيه ولو بين الخصم وجود وصف آخر فإنا وإن تبيناً انخرام حصر المستدل به.
غير أنه إذا أدرجه في الإبطال معما أبطل فإنه لا يعد منقطعاً فيما يقصده من التعليل بالوصف المستبقي واذا ثبت انحصار الأوصاف في القدر المذكور فلا يخفى أنه إذا أخرج البعض عن درجة الاعتبار تعين انحصار التعليل في المستبقي فإنه وإن جاز أن يكون الحكم تعبداً غير أنه بعيد لما سبق تقريره.
وليس القضاء بكون المستبقي علةً بناء على إبطال المعارض بل على أن الحكم في محل التعليل لا بد له من علة ظاهراً.
وعند ذلك يغلب على الظن انحصارها في الأوصاف المذكورة فإذا قام الدليل على إبطال البعض غلب على الظن التعليل بالمستبقي ويكون ذلك الظن مستفاداً من جملة القواعد الممهدة لا من نفس إبطال المعارض.
هذا كله في حق المناظر.
وأما الناظر المجتهد فإنه مهما غلب على ظنه شيء من ذلك فلا يكابر نفسه وكان مؤاخذاً بما أوجبه ظنه وعند ذلك فلا بد من بيان طرق الحذف.
الأول: منها أن يبين المستدل أن الوصف الذي استبقاه قد ثبت به الحكم في صورة بدون الوصف المحذوف وهو ملقب بالإلغاء وهو شديد الشبه بالعكس الذي ليس بمقبول وسيأتي الفرق بينهما.
ولا بد من بيان ثبوت الحكم مع الوصف المستبقي فإنه لو ثبت دونه كما ثبت المحذوف كان ذلك إلغاء للمستبقي أيضاً وعند ذلك فيتبين استقلال المستبقي بالتعليل ومع ظهور ذلك فيمتنع إدخال الوصف المحذوف في التعليل في محل التعليل.
لأنه يلزم منه إلغاء وصف المستدل في الفرع مع استقلاله ضرورة تخلف ما لم يثبت كونه مستقلاً وهو ممتنع ويمتنع أيضاً إضافة الحكم في محل التعليل إلى الوصف المحذوف لا غير لما فيه من إثبات الحكم بما لم يثبت استقلاله وإلغاء ما ثبت استقلاله وهو ممتنع.
لكن لقائل أن يقول: دعوى استقلال الوصف المستبقي في صورة الإلغاء بالتعليل من مجرد إثبات الحكم مع وجوده وانتفاء الوصف المحذوف غير صحيحة فإنه لو كان مجرد ثبوت الحكم مع الوصف في صورة الإلغاء كافياً في التعليل بدون ضميمة ما يدل على استقلالة بطريق من طرق إثبات العلة لكان ذلك كافياً في أصل القياس ولم يكن إلى البحث والسبر حاجة.

وكذا غيره من الطرق فإذا لا بد من بيان الاستقلال بالاستدلال ببعض طرق إثبات العلة وعند ذلك إن شرع المستدل في بيان الاستقلال ببعض طرق إثبات العلة فإن بين الاستقلال في صورة الإلغاء بالبحث والسبر كما أثبت ذلك في الأصل الأول فقد استقلت صورة الإلغاء بالاعتبار وأمكن أن تكون أصلاً لعلته وتبيناً أن الأصل الأول لا حاجة إليه فإن المصير إلى أصل لا يمكن التمسك به في الاعتبار إلا بذكر صورة أخرى مستقلة بالاعتبار يكون تطويلاً بلا فائدة وإن بين الاستقلال بطريق آخر فيلزمه مع هذا المحذور محذور آخر وهو الانتقال في إثبات كون الوصف علةً من طريق إلى طريق آخر وهو شنيع في مقام النظر.
الطريق الثاني: أن يكون ما يحذفه من جنس ما ألفنا من الشارع عدم الالتفات إليه في إثبات الأحكام كالطول والقصر والسواد والبياض ونحوه.
الطريق الثالث: أن يكون ما يحذفه من جنس ما ألفنا من الشارع إلغاءه في جنس ذلك الحكم المعلل فيجب إلغاؤه وإن كان مناسباً وذلك كما في قوله عليه السلام: " من أعتق شركاً له من عبد قوم عليه نصيب شريكه " فإنه وإن أمكن تقرير مناسبة بين صفة الذكورة وسراية العتق غير أنا لما عهدنا من الشارع التسوية بين الذكر والأنثى في أحكام العتق ألغينا صفة الذكورة في السراية بخلاف ما عداه من الأحكام.
الطريق الرابع: إذا قال بحثت في الوصف المحذوف فلم أجد فيه مناسبة ولا ما يوهم المناسبة وكان أهلاً للنظر والبحث عدلاً فالظاهر صدقه وأن الوصف غير مناسب ويلزم من ذلك حذفه ضرورة كون العلة في الأصل بمعنى الباعث على ما تقرر قبل وامتناع اعتبار ما لا يكون مناسباً.
فإن قيل: البحث والسبر وإن دل على عدم المناسبة في الوصف المحذوف فللمعترض أن يقول: بحثت في الوصف المستبقي فلم أجد فيه مناسبةً وعند ذلك فإن بين المستدل المناسبة فيه فقد انتقل في إثبات العلة من طريقة السبر إلى المناسبة وإن لم يبين ذلك لم يكن وصف المعترض بالحذف أولى من وصف المستدل.
قلنا: إن كان قد سبق من المعترض تسليم مناسبة كل واحد من الوصفين فلا يسمع منه بعد بيان المستدل نفي المناسبة في الوصف المحذوف منع المناسبة في المستبقي لكون مانعاً لما سلمه ولا يجب على المستدل بيان المناسبة في الوصف المستبقي.
وإن لم يسبق من المعترض تسليم ذلك فللمستدل طريق صالح في دفع السؤال من غير حاجة إلى بيان المناسبة في الوصف المستبقي وهو ترجيح سبره على سبر المعترض بموافقته للتعدية وموافقة سبر المعترض للقصور والتعدية أولى من القصور على ما يأتي تقريره في الترجيحات.
المسلك الخامس
في إثبات العلة المناسبة والإحالةويشتمل على ثمانية فصول.
الفصل الأول
في تحقيق معنى المناسبقال أبو زيد: المناسب عبارة عما لو عرض على العقول تلقته بالقبول.
وما ذكره وإن كان موافقاً للوضع اللغوي حيث يقال هذا الشيء مناسب لهذا الشيء أي ملائم له غير أن تفسير المناسب بهذا المعنى وإن أمكن أن يتحققه الناظر مع نفسه فلا طريق للمناظر إلى إثباته على خصمه في مقام النظر لإمكان أن يقول الخصم: هذا مما لم يتلقه عقلي بالقبول فلا يكون مناسباً بالنسبة الي وإن تلقاه عقل غيري بالقبول.
فإنه ليس الاحتجاج علي بتلقي عقل غيري له بالقبول أولى من الاحتجاج على غيري بعدم تلقي عقلي له بالقبول وعلى هذا بني أبو زيد امتناع التمسك في إثبات العلة في مقام النظر بالمناسبة وقران الحكم بها وإن لم يمتنع التمسك بذلك في حق الناظر لأنه لا يكابر نفسه فيما يقضي به عقله.
والحق في ذلك أن يقال: المناسب عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحكم وسواء كان ذلك الحكم نفيا أو إثباتا وسواء كان ذلك المقصود جلب مصلحة أو دفع مفسدة وهو أيضاً غير خارج عن وضع اللغة لما بينه وبين الحكم من التعلق والارتباط.
وكل ما له تعلق بغيره وارتباط فإنه يصح لغةً أن يقال إنه مناسب له ولا يخفى إمكان إثبات مثل ذلك في مقام النظر على الخصم بما لو أعرض عنه الخصم وأصر معه على المنع كان معانداً.
الفصل الثاني
في تحقيق معنى المقصود المطلوب من شرع الحكم

المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد لتعالى الرب تعالى عن الضرر والانتفاع وربما كان ذلك مقصوداً للعبد لأنه ملائم له وموافق لنفسه.
ولذلك إذا خير العاقل بين وجود ذلك وعدمه اختار وجوده على عدمه وإذا عرف أن المقصود من شرع الحكم إنما هو تحصيل المصلحة أو دفع المضرة فذلك إما أن يكون في الدنيا أو في الآخرة: فإن كان في الدنيا فشرع الحكم إما أن يكون مفضياً إلى تحصيل أصل المقصود ابتداء أو دواماً أو تكميلاً.
فالأول: مثل القضاء بصحة التصرف الصادر من الأهل في المحل تحصيلاً لأصل المقصود المتعلق به من الملك أو المنفعة كما في البيع والإجارة ونحوهما.
وأما الثاني: فكالقضاء بتحريم القتل وإيجاب القصاص على من قتل عمداً عدواناً لإفضائه إلى دوام المصلحة المعلقة بالنفس الإنسانية المعصومة.
وأما الثالث: فكالحكم باشتراط الشهادة ومهر المثل في النكاح فإن مكمل لمصلحة النكاح لا أنه محصل لأصلها لحصولها بنفس اعتبار التصرف وصحته.
وأما في الاخرى فالمقصود العائد إليها من شرع الحكم لا يخرج عن جلب الثواب ودفع العقاب.
فالأول: كالحكم بإيجاب الطاعات وأفعال العبادات لإفضائه إلى نيل الثواب ورفع الدرجات.
والثاني: فكالحكم بتحريم أفعال المعاصي وشرع الزواجر عليها دفعا لمحذور العقاب المرتب عليها.
الفصل الثالث
في بيان مراتب إفضاء الحكم
إلى المقصودمن شرع الحكم واختلافهاالمقصود إما أن يكون حاصلا من شرع الحكم يقينا أو ظنا أو أن الحصول وعدمه متساويان أو أن عدم الحصول راجح على الحصول.
أما الأول: فمثاله إفضاء الحكم بصحة التصرف بالبيع إلى إثبات الملك.
وأما الثاني: فكشرع القصاص المرتب على القتل العمد العدوان صيانة للنفس المعصومة عن الفوات فإنه مظنون الحصول راجح الوقوع إذ الغالب من حال العاقل أنه إذا علم أنه إذا قتل قتل أنه لا يقدم على القتل فتبقى نفس المجني عليه إلى نظائره من الزواجر وليس ذلك مقطوعاً به لتحقق الإقدام على القتل مع شرع القصاص كثيراً.
وأما القسم الثالث: فقلما يتفق له في الشرع مثال على التحقيق بل على طريق التقريب وذلك كشرع الحد على شرب الخمر لحفظ العقل فإن إفضاءه إلى ذلك متردد حيث إنا نجد كثرة الممتنعين عنه مقاومةً لكثرة المقدمين عليه لا على وجه الترجيح والغلبة لأحد الفريقين على الآخر في العادة.
ومثال القسم الرابع: إفضاء الحكم بصحة نكاح الآيسة إلى مقصود التوالد والتناسل فإنه وإن كان ممكناً عقلاً غير أنه بعيد عادة فكان الإفضاء إليه مرجوحاً.
فهذه الأقسام الأربعة وإن كانت مناسبةً نظراً إلى أنها موافقة للنفس غير أن أعلاها القسم الأول لتيقنه ويليه الثاني لكونه مظنوناً راجحاً ويليه الثالث لتردده ويليه الرابع لكونه مرجوحاً.
والقسمان الأولان متفق على صحة التعليل بهما عند القائلين بالمناسبة وأما القسم الثالث والرابع: فلكون المقصود فيهما غير ظاهر للمساواة في الثالث والمرجوحية في الرابع فالاتفاق واقع على صحة التعليل بهما إذا كان ذلك في آحاد الصور الشاذة وكان المقصود ظاهراً من الوصف في غالب صور الجنس وإلا فلا.
وذلك كما ذكرناه من مثال صحة نكاح الآيسة لمقصود التوالد فإنه وإن كان غير ظاهر بالنسبة إلى الآيسة إلا انه ظاهر فيما عداها.
وعلى هذا فلو خلا الوصف الذي رتب عليه الحكم عن المقصود الموافق للنفس قطعاً وإن كان ظاهراً في غالب صور الجنس كما في لحوق النسب في نكاح المشرقي للمغربية وشرع الاستبراء في شراء الجارية لمعرفة فراغ الرحم فيما إذا اشترى الجارية ممن باعها منه في مجلس البيع الأول لعلمنا بفراغ رحمها من غيره قطعاً وإن كان ذلك ظاهراً في غالب صور الجنس فيما عدا هذه الصور فلا يكون مناسباً ولا يصح التعليل به لأن المقصود من شرع الأحكام الحكم فشرع الأحكام مع انتفاء الحكمة يقيناً لا يكون مفيداً فلا يرد به الشرع خلافا لأصحاب أبي حنيفة.
الفصل الرابع
في أقسام المقصود من شرع الحكم
واختلاف مراتبه في نفسه وذاتهوهو لا يخلو إما أن يكون من قبيل المقاصد الضرورية أو لا يكون من قبيل المقاصد الضرورية.
فإن كان من قبيل المقاصد الضرورية فإما أن يكون أصلاً أو لا يكون أصلاً.

فإن كان أصلاً فهو الراجع إلى المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فإن حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضروريات وهي أعلى مراتب المناسبات والحصر في هذه الخمسة الأنواع إنما كان نظرا إلى الواقع العلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة.
أما حفظ الدين فبشرع قتل الكافر المضل وعقوبة الداعي إلى البدع وأما حفظ النفوس فبشرع القصاص وأما حفظ العقول فبشرع الحد على شرب المسكر وأما حفظ الأموال التي بها معاش الخلق فبشرع الزواجر للغصاب والسراق.
وأما إن لم يكن أصلاً فهو التابع المكمل للمقصود الضروري وذلك كالمبالغة في حفظ العقل بتحريم شرب القليل من المسكر الداعي إلى الكثير وإن لم يكن مسكراً فإن أصل المقصود من حفظ العقل حاصل بتحريم شرب المسكر لا بتحريم قليله وإنما يحرم القليل للتكميل والتتميم.
وأما إن لم يكن المقصود من المقاصد الضرورية فإما أن يكون من قبيل ما تدعو حاجة الناس إليه أو لا تدعو إليه الحاجة.
فإن كان من قبيل ما تدعو إليه الحاجة فإما أن يكون أصلا أو لا يكون أصلاً.
فإن كان أصلاً فهو القسم الثاني الراجع إلى الحاجات الزائدة وذلك كتسليط الولي على تزويج الصغيرة لا لضرورة ألجأت إليه بل لحاجة تقييد الكفوء الراغب خيفة فواته عند دعو الحاجة إليه بعد البلوغ لا إلى خلف.
وأما تسليط الولي على تربية الصغير وإرضاعه وشرآء المطعوم والملبوس له فليس من هذا القبيل بل من قبيل الضروريات الأصلية التي لا تخلو شريعة عن رعايتها وهذا القسم في الرتبة دون القسم الأول ولهذا جاز اختلاف الشرائع فيه دون القسم الأول وهو في محل المعارضة مع ما كان من قبيل التكملة والتتمة للقسم الأول ولهذا اشتركا في جواز اختلاف الشرائع فيهما.
وإن لم يكن أصلاً فهو التابع الجاري مجرى التتمة والتكملة للقسم الثاني وذلك كرعاية الكفاءة ومهر المثل في تزويج الصغيرة فإنه أفضى إلى دوام النكاح وتكميل مقاصده وإن كان أصل المقصود حاصلاً دون ذلك.
وهذ النوع في الرتبة دون ما تقدم أما بالنظر إلى المقصود الذي هو من باب الضرورات والحاجات فظاهر وأما بالنظر إلى ما هو من قبيل التكملة للمقصود الضروري فلكونه مكملا لما ليس بضروري.
وأما إن كان المقصود ليس من قبيل الحاجات الزائدة فهو القسم الثالث وهو ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات وذلك كسلب العبيد أهلية الشهادة من حيث إن العبد نازل القدر والمنزلة لكونه مستسخراً للمالك مشغولاً بخدمته فلا يليق به منصب الشهادة لشرفها وعظم خطرها جرياً للناس على ما ألفوه وعدوه من محاسن العادات وإن كان لا تتعلق به حاجة ضرورية ولا زائدة ولا هو من قبيل التكملة لأحدهما وليس هذا من قبيل سلب ولايته على الطفل فإن سلب ولايته من قبيل الحاجات لأن الولاية على الطفل تستدعي الخلو والفراغ والنظر في أحواله واستغراق العبد بما هو الواجب عليه من خدمة مالكه مانع له من ذلك ولا كذلك في الشهادة لاتفاقهما في بعض الأحيان.
الفصل الخامس
اختلفوا في الحكم إذا ثبت لوصف مصلحي
على وجه يلزم منه وجود مفسدةمساوية له أو راجحة عليه هل تنخرم مناسبته أو لا؟ فأثبته قوم ونفاه آخرون.
وقد احتج من قال ببقاء المناسبة من وجوه أربعة.
الأول: أن مناسبة الوصف تنبني على ما فيه من المصلحة والمصلحة أمر حقيقي لا تختل بمعارضة المفسدة ودليله أن المصلحة والمفسدة المتعارضتان إما أن يتساويا أو تترجح إحداهما على الأخرى.
فإن كان الأول فإما أن تبطل كل إحداة منهما بالأخرى أو أن تبطل إحداهما بالأخرى من غير عكس أو لا تبطل واحدة منها بالأخرى الأول محال لأن عدم كل واحدة منهما إنما هو بوجود الأخرى وذلك يجر إلى وجودهما مع عدمهما ضرورة أن العلة لا بد وأن تكون متحققةً مع المعلول والثاني محال لعدم الأولوية.

والثالث هو المطلوب وإن كانت إحداهما أرجح من الأخرى فلا يلزم منه إبطال المرجوحة إلا أن تكون بينهما منافاة ولا منافاة لما بيناه من جواز اجتماعهما في القسم الأول ولأن الراجحة منهما إذا كانت معارضةً بالمرجوحة فإما أن ينتفي شيء من الراجحة لأجل المرجوحة أو لا ينتفي منها شيء فإن كان الأول فهو محال أن تتساويا لما سبق في القسم الأول ولأنه ليس انتفاء بعض الراحج وبقاء بعضه أولى من العكس ضرورة التساوي في الحقيقة وإن تفاوتا فالكلام في الراجح كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع.
وإذا كانت المصلحة لا تختل بمعارضة المفسدة فالعقل يقضي بمناسبتها للحكم وبالنظر إلى المعارض يقضي بانتفاء الحكم لأجل المعارض ولهذا يحسن من العاقل أن يقول الداعي إلى إثبات الحكم موجود غير أنه يمنعني منه مانع ولو اختلت مناسبة الوصف لما حسن من العاقل هذه المقالة.
الوجه الثاني: أنه قد يتعارض في نظر الملك عند الظفر بجاسوس عدوه المنازع له في ملكه قتله وعقوبته زجراً له ولأمثاله عن الحبس المضر به والإحسان إليه وإكرامه إما للاستهانة بعدوه أو لقصد كشف أسراره.
وأي الأمرين سلك فإنه لا يعد خارجاً عن مذاق الحكمة ومقتضى المناسبة وإن لزم منه فوات المقصود الحاصل من سلوك مقابله وسواء تساويا أو كان أحدهما راجحاً.
الثالث: أنه إذا اجتمع الأخ من الأبوين مع الأخ من الأب في الميراث فإنه قد يتعارض في نظر الناظر تقديم الأخ من الأبوين لاختصاصه بقرابة الأمومة والتسوية بينهما لاشتراكهما في جهة العصوبة وإلغاء قرابة الأمومة وتفضيل الأخ من الأبوين لاختصاصه بمزيد القرابة.
ومع ذلك فالعقل يقضي بتأدي النظر من غير احتياج إلى ترجيح بأن ورود الشرع بالاحتمال الأول مناسب غير خارج عن مذاق العقول ولو كان ترجيح الوصف المصلحي معتبراً في مناسبته لما كان كذلك.
الرابع: أن الشارع قد ورد بصحة الصلاة في الدار المغصوبة نظراً إلى ما فيها من المصلحة وبتحريمها نظراً إلى ما فيها من مفسدة الغصب فلو اشترط الترجيح في المناسبة لما ثبت الصحة ولا التحريم بتقدير التساوي بين مصلحة الصحة ومفسدة التحريم ولا حكم الصحة بتقدير رجحان مفسدة الغصب ولا التحريم بتقدير رجحان مصلحة الصحة لعدم المناسبة.
وهذه الحجج ضعيفة: أما الحجة الأولى فلقائل أن يقول: إن أردت أن مناسبة الوصف تنبني على أنه لا بد في المناسبة من المصلحة على وجه لا يستقل بالمناسبة فمسلم ولكن لا يلزم من وجود بعض ما لا بد منه في المناسبة تحقق المناسبة.
وإن أردت أنها مستقلة بتحقيق المناسبة فممنوع وذلك لأن المصلحة وإن كانت متحققة في نفسها فالمناسبة أمر عرفي وأهل العرف لا يعدون المصلحة العارضة بالمفسدة المساوية أو الراجحة مناسبة.
ولهذا إن من حصل مصلحة درهم على وجه يفوت عليه عشرة يعد سفيهاً خارجاً في تصرفه عن تصرفات العقلاء ولو كان ذلك مناسباً لما كان كذلك وعلى هذا فلا يلزم من اجتماع المصلحة والمفسدة تحقق المناسبة.
وقول القائل إن الداعي موجود فالمراد به المصلحة دون المناسبة.
وقوله: غير أنه يمنعني منه مانع وإن كان صحيحاً في العرف فليس ذلك إلا لإخلال المانع المفسدي بمناسبة المصلحة لا بمعنى أن الانتفاء محال على المفسدة مع وجود المناسب للحكم.
وعلى هذا نقول بأن مناسبة كل واحدة من المصلحة والمفسدة تختل بتقدير التساوي وبتقدير مرجوحية إحداهما فالمختل مناسبتها دون مناسبة الراجحة ضرورة فوات شرط المناسبة لا لأن كل واحدة علة للإخلال بمناسبة الأخرى أو إحداهما ليلزم في ذلك ما قيل.
وأما الحجة الثانية فلقائل أن يقول أيضاً: مهما لم يترجح في نظر الملك وأهل العرف مصلحة ما عينه من أحد الطريقين من الإحسان أو الإساءة بمقتضى الحالة الراهنة فإن فعله لا يكون مناسباً ويكون بتصرفه خارجاً عن تصرفات العقلاء.
وأما الحجة الثالثة فلقائل أن يقول: لا نسلم جواز الجزم بمناسبة ما عين دون ظهور الترجيح في نظر الناظر وبعد ظهور الترجيح فليس الجزم بمناسبة الوصف في نفس الأمر قطعاً لجواز أن يكون في نفسه مرجوحاً وإن لم يطلع عليه.

وأما الحجة الرابعة: فبعيدة عن التحقيق وذلك لأن الكلام إنما هو مفروض في إثبات حكم لمصلحة يلزم من إثباته تحصيلاً للمصلحة مفسدة مساوية أو راجحة وما ذكر من مفسدة تحريم الغصب وهي شغل ملك الغير غير لازمة من ترتيب حكم المصلحة عليها وهو صحة الصلاة فإنا وإن لم نقض بصحة الصلاة فالمفسدة اللازمة من الغضب لا تختل بل هي باقية بحالها ولو كانت لازمةً من حكم المصلحة لا غير لانتفت المفسدة المفروضة بانتفاء حكم المصلحة وليس كذلك.
وحيث لم تكن مفسدة تحريم الغضب لازمة عن حكم المصلحة كان من المناسب اعتبار كل واحدة منهما في حكمها وهي المصلحة والمفسدة إذ لا معارضة بينهما على ما تقرر.
وإذا تقرر توقف المناسبة على الترجيح فللمعلل ترجيح وصفه بطرق تفصيلية تختلف باختلاف المسائل وله الترجيح بطريق إجمالي يطرد في جميع المسائل وحاصله أن يقول المعلل لو لم يقدر ترجيح المصلحة على ما عارضها من المفسدة مع البحث وعدم الاطلاع على ما يمكن إضافة الحكم إليه في محل التعليل سوى ما ذكرته لزم أن يكون الحكم قد ثبت تعبداً وهو خلاف الأصل لوجهين.
الأول: أن الغالب من الأحكام التعقل دون التعبد فإدراج ما نحن فيه تحته أولى.
الثاني: أنه إذا كان معقول المعنى كان الحكم أقرب إلى الانقياد وأدعى إلى القبول فإن الانقياد إلى المعقول المألوف أقرب مما ليس كذلك فكان أفضى إلى المقصود من شرع الحكم.
لكن لقائل أن يقول: ما ذكرتموه من البحث عن وصف آخر تمكن إضافة الحكم إليه مع عدم الظفر به وإن دل على ترجيح جهة المصلحة فهو معارض بما يدل على عدم ترجيحها وهو عدم الاطلاع على ما به تكون راجحةً على معارضها مع البحث عنه وعدم الظفر به وليس أحد البحثين أولى من الآخر.
فإن قلتم: بل ما ذكرناه أولى من جهة أن بحثنا عن وصف صالح للتعليل وذلك لا يتعدى محل الحكم فمحله متحد وبحثكم إنما هو عما به الترجيح وهو منحصر في محل الحكم فإن ما به الترجيح قد يكون بما يعود إلى ذات العلة وقد يكون بأمر خارج عنها كما يأتي تقريره فكان ما ذكرناه أولى.
قلنا: ما به الترجيح إن كان خارجاً عن محل الحكم فلا يتحقق به الترجيح في محل الحكم وإن كان في محل الحكم فقد استوى البحثان في اتحاد محلهما ولا ترجيح بهذه الجهة وبتقدير تسليم اتحاد محل بحث المستدل والتعدد في محل بحث المعترض.
غير أن الظن الحاصل من البحثين إما أن يكون متساوياً أو متفاوتاً: وبتقدير المساواة ورجحان ظن المعترض فلا ترجيح في جانب المستدل وإنما يترجح بتقدير أن يكون ظنه راجحاً.
ولا يخفى أن ما يقع على تقدير من تقديرين يكون أغلب مما لا يقع إلا على تقدير واحد وينبغي أن يعلم أن اشتراط الترجيح في تحقيق المناسبة إنما يتحقق على رأي من لا يرى تخصيص العلة.
وأما من يرى جواز تخصيصها وجواز إحالة انتفاء الحكم على تحقق المعارض مع وجود المقتضي فلا بد له من الاعتراف بالمناسبة وإن كانت المصلحة مرجوحةً أو مساويةً.
فإن انتفاء الحكم بالمانع مع وجود المقتضي إما أن يكون لمقصود راجح على مقصود المقتضي للإثبات أو مساو له أو مرجوح بالنسبة إليه فإن كان راجحاً فقد قيل بمناسبة المقتضي للإثبات مع كون مقصوده مرجوحاً وإلا فلو لم يكن مناسباٍ كان الحكم منتفياً لانتفاء المناسب لا لوجود المانع وإن كان مساوياً.
فكذلك أيضاً وإن كانت مفسدة المانع مرجوحةً فقد قيل بانتفاء الحكم له ولولا مناسبته للانتفاء لما انتفى الحكم به فإنه لو جاز أن ينتفي الحكم بما ليس بمناسب لجاز أن يثبت بما ليس بمناسب.
الفصل السادس
في كيفية ملازمة الحكمة لضابطها
وبيان أقسامهافنقول: الحكمة اللازمة لضابطها إما أن تكون ناشئةً عنه وإما أن لا تكون ناشئةً عنه.
والتي لا تكون ناشئةً عنه إما أن تكون للوصف دلالة على الحاجة إليها أو لا تكون كذلك.
فالأول: كشرع الرخصة في السفر لدفع المشقة الناشئة من السفر.
والثاني: كالحكم بصحة البيع بإفضائه إلى الانتفاع بالعوض فإن الانتفاع لازم لصحة البيع ظاهراً وليس ناشئاً عن البيع ولكن للبيع وهو التصرف الصادر من الأهل في المحل وهو الإيجاب والقبول دلالة على الجاحة إليه.

والثالث: كما في ملك نصاب الزكاة فإنه يناسب إيجاب الزكاة من حيث إنه نعمة والنعمة تناسب الشكر لإفضاء الشكر إلى زيادة النعمة على ما قال تعالى: " ولئن شكرتم لأزيدنكم " والزكاة صالحة لأن تكون شكراً لما فيها من إظهار النعمة وإظهار النعمة في العرف يعد شكراً.
ولا يخفى أن ما مثل هذا المقصود وهو زيادة النعمة ملازم لترتيب إيجاب الزكاة على ذلك النصاب وليس زيادة النعمة ناشئة عن نفس ملك النصاب كما كانت المشقة ناشئةً عن السفر ولا لملك النصاب دلالة على الحاجة إلى زيادة النعمة كدلالة البيع على الحاجة إلى الانتفاع.
الفصل السابع
في أقسام المناسب
بالنظر إلى اعتباره وعدم اعتبارهفنقول: الوصف المناسب إما أن يكون معتبراً في نظر الشارع أو لا يكون معتبراً فإن كان معتبراً فاعتباره إما أن يكون بنص أو إجماع أو بترتيب الحكم على وفقه في صورة بنص أو إجماع.
فإن كان معتبراً بنص أو إجماع فيسمى المؤثر على ما سبق تحقيقه في المسائل المتقدمة وإذا كان معتبراً بترتيب الحكم على وفقه في صورة فالذي تقتضيه القسمة العقلية تسعة أقسام وذلك لأنه إما أن يكون معتبراً بخصوص وصفه أو بعموم وصفه أو بخصوصه وعمومه وإن كان معتبراً بخصوص وصفه دون عموم وصفه فإما أن يكون معتبرا في عين الحكم المعلل أو في جنسه أو في عينه وجنسه.
وإن كان معتبراً بعموم وصفه فإما أن يكون معتبراً في عين الحكم أو جنسه أو في عينه وجنسه وإن كان معتبراً بعموم وصفه وخصوصه فإما أن يكون معتبراً في عين الحكم أو جنسه أو في عينه وجنسه وأما إن لم يكن الوصف معتبراً فلا يخلو إما أن يظهر مع ذلك إلغاؤه أو لم يظهر منه ذلك.
فهذه جملة الأقسام المذكورة غير أن الواقع منها في الشرع لا يزيد على خمسة.
القسم الأول: أن يكون الشارع قد اعتبر خصوص الوصف في خصوص الحكم وعموم الوصف في عموم الحكم في أصل آخر وذلك كما في إلحاق القتل بالمثقل بالمحدد لجامع القتل العمد العدوان فإنه قد ظهر تأثير عين القتل العمد العدوان في عين الحكم وهو وجوب القتل في المحدد وظهر تأثير جنس القتل من حيث هو جناية على المحل المعصوم بالقود في جنس القتل من حيث هو قصاص في الأيدي وهذا القسم هو المعبر عنه بالملائم وهو متفق عليه بين القياسين ومختلف فيما عداه.
القسم الثاني: أن يكون الشارع قد اعتبر خصوص الوصف في خصوص الحكم من غير أن يظهر اعتبار عينه في جنس ذلك الحكم في أصل آخر متفق عليه ولا جنسه في عين ذلك الحكم ولا جنسه في جنسه ولا دل على كونه علةً نص.
ولا إجماع لا بصريحه ولا إيمائه وذلك كمعنى الإسكار فإنه يناسب تحريم تناول النبيذ وقد ثبت اعتبار عينه في عين التحريم في الخمر ولم يظهر تأثير عينه في جنس ذلك الحكم ولا جنسه في عينه ولا جنسه في جنسه ولا إجماع عليه فلو قدرنا انتفاء النصوص الدالة على كون الإسكار علةً فلا يكون معتبراً بنص أيضاً وهذا هو المناسب الغريب وهو مختلف فيه بين القياسين وقد أنكره بعضهم وإنكاره غير متجه لأنه يفيد الظن بالتعليل.
ولهذا فإنا إذا رأينا شخصاً قابل الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة مع أنه لم يعهد من حاله قبل ذلك شيء فيما يرجع إلى المكافأة وعدمها غلب على الظن ما رتب الحكم عليه والذي يؤيد ذلك أنه لا يخلو إما أن يكون الحكم قد ثبت لعلة أو لا لعلة.
فإن كان لا لعلة فهو بعيد لما سبق تقريره من امتناع خلو الأحكام عن العلل وإن كان لعلة فإما أن يكون لما لم يظهر أو لما ظهر: الأول ويلزم منه التعبد وهو بعيد على ما عرف والثاني هو المطلوب.
فإن قيل: الفرق بين ما نحن فيه وبين صورة الاستشهاد إنا قد ألفنا من تصرفات العقلاء مقابلة الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة فكان ذلك من قبيل القسم الأول وهو الملائم المتفق عليه لا من قبيل القسم الثاني وهو الغريب المختلف فيه.
قلنا: نحن إنما نفرض الكلام في شخص لم يعهد من حاله قبل ذلك الفعل موافقة ولا مخالفة فلا يكون من الملائم المتفق عليه ولا من الملغى ومع ذلك فإن التعليل يظهر من فعله لكل عاقل نظراً إلى أن الغالب إنما هو غلبة طبيعة المكافأة بالانتقام والإحسان في حق العاقل كما أن الغالب من الشارع اعتبار المناسبات دون إلغائها.

وليس هذا من القسم الأول في شيء لأن القسم الأول مفروض فيما علم من الشارع اعتبار العين في العين فيه والجنس في الجنس والفرق بين الأمرين ظاهر.
القسم الثالث أن يكون الشارع قد اعتبر جنس الوصف في جنس الحكم لا غير أي أنه لم يعتبر مع ذلك عينه في عينه ولا عينه في جنسه ولا جنسه في عينه ولا دل عليه نص ولا إجماع وهذا أيضاً من جنس المناسب الغريب المختلف فيه بين القياسين إلا أنه دون القسم الثاني وذلك لأن الظن الحاصل باعتبار الخصوص لكثرة ما به الاشتراك أقوى من الظن الحاصل من اعتبار العموم في العموم وذلك كاعتبار جنس المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس التخفيف.
فإن عين مشقة الحائض ليست عين مشقة المسافر بل من جنسها وعين التخفيف عن المسافر بإسقاط الركعتين الزائدتين ليس عين التخفيف عن الحائض بإسقاط أصل الصلاة بل من جنسها.
واعلم أن الوصف المعلل به وكذلك الحكم المعلل له أجناس: منها ما هو عال ليس فوقه ما هو أعلى منه ومنها ما هو قريب إليه ليس بينه وبينه واسطة ومنها ما هو متوسط بين الطرفين إما على السواء أو أنه إلى أحد الطرفين أقرب من الآخر.
فأما الجنس العالي للحكم الخاص فكونه حكماً وأخص منه كونه وجوباً أو تحريماً أو غير ذلك من الأحكام وأخص من الوجوب العبادة وغير العبادة وأخص من العبادة الصلاة وغير الصلاة وأخص من الصلاة الفرض والنفل.
وأما الجنس العالي للوصف الخاص فكونه وصفاً تناط الأحكام به وأخص منه كونه مناسباً بحيث يخرج منه الشبهي وأخص منه المصلحة الضرورية وأخص منه حفظ النفس والعقل وعلى هذا النحو فالظن في هذا القسم مما يزيد وينقص بسبب التفاوت فيما به الاشتراك من الجنس العالي والسافل والمتوسط فيما كان الاشتراك فيه بالجنس السافل فهو أغلب على الظن وما كان الاشتراك فيه بالأعم فهو أبعد وما كان بالمتوسط فمتوسط على الترتيب في الصعود والنزول.
القسم الرابع: المناسب الذي لم يشهد له أصل من أصول الشريعة بالاعتبار بطريق من الطرق المذكورة ولا ظهر إلغاؤه في صورة ويعبر عنه بالمناسب المرسل وسيأتي الكلام عنه فيما بعد.
القسم الخامس: المناسب الذي لم يشهد له أصل بالاعتبار بوجه من الوجوه وظهر مع ذلك إلغاؤه وإعراض الشارع عنه في صوره فهذا مما اتفق على إبطاله وامتناع التمسك به وذلك كقول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان وهو صائم يجب عليك صوم شهرين متتابعين.
فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال لو أمرته بذلك لسهل عليه ذلك واستحقر إعتاق رقبة في قضاء شهوة فرجه فكانت المصلحة في إيجاب الصوم مبالغةً في زجره فهذا وإن كان مناسباً غير أنه لم يشهد له شاهد في الشرع بالاعتبار مع ثبوت الغاية بنص الكتاب.
الفصل الثامن
في إقامة الدلالة
على أن المناسبة والاعتبار دليل كون الوصف علةً
وذلك لأن الأحكام إنما شرعت لمقاصد العباد أما أنها مشروعة لمقاصد وحكم فيدل عليه الإجماع والمعقول.
أما الإجماع فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله تعالى لا تخلو عن حكمة ومقصود وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب كما قالت المعتزلة أو بحكم الاتفاق والوقوع من غير وجوب كقول أصحابنا وأما المعقول فهو أن الله تعالى حكيم في صنعه فرعاية الغرض في صنعه إما أن يكون واجباً أو لا يكون واجباً: فإن كان واجباً فلم يخل عن المقصود وإن لم يكن واجباً ففعله للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود فكان المقصود لازماً من فعله ظناً.
وإذا كان المقصود لازماً في صنعه فالأحكام من صنعه فكانت لغرض ومقصود والغرض إما أن يكون عائدا إلى الله تعالى أو إلى العباد ولا سبيل إلى الأول لتعاليه عن الضرر والانتفاع ولأنه على خلاف الإجماع فلم يبق سوى الثاني.
وأيضاً فإن الأحكام مما جاء بها الرسول فكانت رحمة للعالمين لقوله تعالى: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " الأنبياء 107 فلو خلت الأحكام عن حكمة عائدة إلى العالمين ما كانت رحمة بل نقمة لكون التكليف بها محض تعب ونصب.

وأيضاً قوله تعالى: " ورحمتي وسعت كل شيء " الأعراف 156 فلو كان شرع الأحكام في حق العباد لا لحكمة لكانت نقمةً لا رحمة لما سبق وأيضاً قوله عليه السلام لا ضرر ولا ضرار في الإسلام فلو كان التكليف بالأحكام لا لحكمة عائدة إلى العباد لكان شرعها ضرراً محضاً وكان ذلك بسبب الإسلام وهو خلاف النص.
وإذا ثبت أن الأحكام إنما شرعت لمصالح العباد فإذا رأينا حكماً مشروعاً مستلزماً لأمر مصلحي فلا يخلو إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم أو ما لم يظهر لنا لا يمكن أن يكون الغرض ما لم يظهر لنا وإلا كان شرع الحكم تعبداً وهو خلاف الأصل لما سبق تقريره فلم يبق إلا أن يكون مشروعاً لما ظهر وإذا كان ذلك مظنوناً فيجب العمل به لأن الظن واجب الاتباع في الشرع ويدل على ذلك إجماع الصحابة على العمل بالظن ووجوب اتباعه في الأحكام الشرعية.
فمن ذلك ما اشتهر عنهم في زمن عمر من تقدير حد شارب الخمر بثمانين جلدة بسبب ظن وقع لهم من قول علي رضي الله عنه أرى أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي وإذا هذي افترى فأرى أن يقام عليه حد المفترين إقامة للشرب الذي هو مظنة الافتراء مقام الافتراء في حكمه.
ومن ذلك حكمهم في إمامة أبي بكر بالرأي والظن وقياسهم العهد على العقد في الإمامة ورجوعهم إلى اجتهاد أبي بكر في قتال بني حنيفة حيث امتنعوا من أداء الزكاة واتفاقهم على كتبة المصحف وجمع القرآن بين الدفتين بالرأي والظن واتفاقهم على الاجتهاد في مسألة الجد والإخوة على وجوه مختلفة.
ومن ذلك ما اشتهر عن آحاد الصحابة من العمل بالظن والرأي من غير نكير عليه.
فمن ذلك قول أبي بكر: أقول في الكلالة برأيي وحكمه بالرأي في التسوية في العطاء ومن ذلك قول عمر: أقول في الجد برأيي وأقضي فيه برأيي وقضى فيه بآراء مختلفة وقوله في حديث الجنين لولا هذا لقضينا فيه برأينا وتشريكه في المسألة الحمارية لما قيل له هب أن أبانا كان حماراً ألسنا من أم واحدة؟ ومن ذلك ما نقل عن عثمان إنه قال لعمر في بعض الأحكام إن اتبعت رأيك فرأيك أشد وإن تتبع من قبلك فنعم ذلك الرأي إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى.
فإن قيل: لا نسلم استلزام شرع الأحكام للحكم والمقاصد وذلك لأن شرع الأحكام من صنع الله تعالى وصنعه إما أن يستلزم الحكمة والمقصود أو لا يستلزم والأول ممتنع لسبعة عشر وجهاً: الأول: أن القائل قائلان: قائل يقول بأن أفعال العبيد مخلوقة لله تعالى وقائل إنها مخلوقة للعبيد فمن قال إنها مخلوقة لله تعالى فيلزمه من ذلك أن يكون خالقا للكفر والمعاصي وأنواع الشرور مع أنه لا حكمة ولا مقصود في خلق هذه الأشياء.
ومن قال إنها مخلوقة للعبيد فإنما كانت مخلوقةً لهم بواسطة خلق الله تعالى القدرة لهم على ذلك فخلقه للقدرة الموجبة لهذه الأمور لا يكون أيضاً لحكمة.
الثاني: أنه لو استلزم فعله للحكمة ما أمات الأنبياء وأنظر إبليس وما أوجب تخليد أهل النار في النار لعدم الحكمة في ذلك.
الثالث: أنه لو كان لحكمة ومقصود فعند تحقق الحكمة لا يخلو إما أن يجب الفعل بحيث لا يمكن عدمه أو لا يجب: فإن كان الأول فيلزم منه أن يصير الباري تعالى مضطراً غير مختار وإن لم يجب الفعل فقد أمكن وجوده تارةً وعدمه تارةً وعند ذلك إما أن يترجح أحد الممكنين على الآخر لمقصود أو لا لمقصود فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع وإن كان الثاني فهو المطلوب.
الرابع: أنه لو كان صنع الرب تعالى يستلزم الغرض والمقصود فذلك المقصود إما أن يكون حادثاً أو قديماً: فإن كان قديماً فيلزم منه قدم الصنع والمصنوع وهو محال وإن كان حادثاً فإما أن يتوقف حدوثه على مقصود آخر أو لا يتوقف فالأول يلزم منه التسلسل والثاني هو المطلوب.
الخامس: أنه تعالى قد كلف بالإيمان من علم أنه لا يؤمن كأبي جهل وغيره وذلك مما يستحيل معه الإيمان وإلا كان علمه جهلاً والتكليف بما لا يمكن وقوعه على وجه يعاقب المكلف على عدم فعله مجرد عن الغرض والحكمة.
السادس: أن حكم الله هو كلامه وخطابه وكلامه وخطابه قديم والمقصود لا جائز أن يكون قديماً وإلا لزم منه موجود قديم غير الباري تعالى وصفاته وهو محال وإن كان حادثاً فيلزم منه تعليل القديم بالحادث وهو ممتنع.

السابع: أن خلق الباري تعالى للعالم في وقته المعلوم المحدود مع جواز خلقه قبله أو بعده وتقديره بشكله المقدر مع جواز أن يكون أصغر أو أكبر مما لا يوقف منه على غرض ومقصود.
الثامن: أنه لو كان له في فعله غرض ومقصود لم يخل إما أن يكون فعله لذلك الغرض أولى من تركه أو لا يكون أولى: فإن كان الأول فيلزمه منه أن يكون الرب تعالى مستكملاً بذلك الصنع وناقصاً قبله وهو محال وإن لم يكن فعله أولى من الترك امتنع الفعل لعدم الأولوية.
التاسع: أن الحكم والمقاصد خفية وفي ربط الأحكام الشرعية بها ما يوجب الحرج في حق المكلف باطلاعه عليها بالبحث عنها والحرج منفي بقوله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج 78.
العاشر: أن وجود الحكمة مما يجب تأخره عن وجود شرع الحكم وما يكون متأخراً في الوجود يمتنع أن يكون علة لما هو متقدم عليه.
الحادي عشر: أنه لو كان شرع الأحكام للحكم لكانت مفيدةً لها قطعاً وذلك لأن الله تعالى قادر على تحصيل تلك الحكمة قطعاً.فلو فعل ما فعله قصداً لتحصيل تلك الحكمة لكان الظاهر منه أنه فعله على وجه تحصل الحكمة به قطعاً وأكثر الأحكام من الزواجر وغيرها غير مفيدة لما ظن أنها حكم لها قطعاً.
الثاني عشر: أنه لا يخلو إما أن يكون الرب تعالى قادراً على تحصيل تلك الحكمة الحاصلة من شرع الحكم دون شرع الحكم أو لا يكون قادراً عليه: لا جائز أن لا يكون قادراً إذ هو صفة نقص والنقص على الله محال وإن كان قادراً على ذلك فشرع الحكم وتوسطه في البين لا يكون مفيداً بل هو محض عناء وتعب.
الثالث عشر: أن خلق الكافر شقياً في الدنيا مخلداً في العذاب أخرى مما لا حكمة فيه ولا مقصود.
الرابع عشر: أن الله تعالى قد أوجب على المكلف معرفته وذلك إما أن يكون على العارف به أو على غير العارف: الأول فيه تحصيل الحاصل والثاني يلزم منه المحال حيث أوجب معرفته على من لا يعرفه مع توقف معرفة إيجابه على معرفة ذاته وهو دور ولا مصلحة في شيء من ذلك.
الخامس عشر: أن الله تعالى قد أقدر العباد على المعاصي وتركهم يرتكبون الفواحش وهو مطلع عليهم وقادر على منعهم من ذلك ولم يفعل شيئاً من ذلك وذلك مما لا حكمة فيه.
السادس عشر: أن الحكمة إنما تطلب في حق من تميل نفسه في صنعه إلى جلب نفع أو دفع ضرر والرب تعالى منزه عن ذلك.
السابع عشر: أن الحكمة إنما تطلب في فعل من لو خلا فعله عن الحكمة لحقه الذم وكان عابثاً والرب يتعالى عن ذلك لكونه متصرفاً في ملكه بحسب ما يشاء ويختار من غير سؤال عما يفعل على ما قال تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " الأنبياء 23 وإن لم يكن فعله مستلزماً للحكمة فهو المطلوب.
سلمنا استلزام شرع الحكم للحكمة ولكن لا يلزم أن يكون ما ظهر من المناسب علةً ولو كان يدل المناسب على كونه علة لكانت أجزاء العلة المناسبة عللاً بل غايته أن تكون جزء علة ولا يلزم من وجود جزء العلة في الفرع وجود الحكم.
سلمنا غلبة الظن بكون ما ظهر من المناسب علةً ولكن لا نسلم وجوب العمل بالظن مطلقاً لما سنبينه في مسألة كون القياس حجةً وما ذكرتموه من الدلائل فسيأتي الكلام عليها أيضاً في مسألة كون القياس حجة.
والجواب عما ذكروه من المنع ما سبق تقريره وعن الشبهة الأولى من ثلاثة أوجه.
الأول أن القدرة إنما تتعلق بالحدوث والوجود لا غير والكفر وأنواع المعاصي والشرور راجعة إلى مخالفة نهي الشارع وليس ذلك من متعلق القدرة في شيء.
الثاني وإن سلمنا أن جميع ذلك مخلوق لله تعالى فنحن لا ندعي ملازمة الحكمة لأفعاله مطلقاً حتى يطرد ذلك في كل مخلوق بل إنما ندعي ذلك فيما يمكن مراعاة الحكمة فيه وذلك ممكن فيما عدا أنواع الشرور والمعاصي ولا ندعي ذلك قطعاً بل ظاهراً.
الثالث وإن سلمنا لزوم الحكمة لأفعاله مطلقاً ولكن لا نسلم امتناع ذلك فيما ذكروه من الصور قطعاً لجواز أن يكون لازمها حكم لا يعلمها سوى الرب تعالى.
وبهذين الجوابين الأخيرين يكون جواب الشبهة الثانية.
وعن الثالثة أن وجود الفعل وإن قدر تحقق الحكمة غير واجب بل هو تبع لتعلق القدرة والإرادة به ومع ذلك فالباري لا يكون مضطرا بل مختاراً.

وعن الرابعة أن المقصود حادث ولكن لا يفتقر إلى مقصود آخر فإنا إنما ندعي ذلك فيما هو ممكن وافتقار المقصود إلى مقصود آخر غير ممكن لإفضائه إلى التسلسل الممتنع وإن كان مفتقراً إلى مقصود فذلك المقصود هو نفسه لا غيره فلا تسلسل.
وعن الخامسة أنا لا ندعي لزوم المقصود في كل فعل ليلزمنا ما قيل وإن كان ذلك لازماً فلا يمتنع أن يكون ذلك لحكمة استأثر الرب تعالى بالعلم بها كما بيناه في التكليف بما لا يطاق.
وعن السادسة أن الحكم ليس هو نفس الكلام القديم كما سبق تقريره بل الكلام بصفة التعلق فكان حادثاً وإن كان الحكم قديماً والمقصود حادثاً فإنما يمتنع تعليله به أن لو كان موجباً للحكم وليس كذلك بل إما بمعنى الأمارة والعلامة عند من يقول بذلك والحادث لا يمتنع أن يكون أمارةً على القديم وإما بمعنى الباعث فلا يمتنع أيضاً أن يكون متأخراً ويكون حكم الله القديم بما حكم به لأجل ما سيوجد من المقصود الحادث.
وعن السابعة بمنع انتفاء الحكمة فيما قيل وإن لم تكن معلومة لنا.
وعن الثامنة أن فعله لذلك الغرض أولى من تركه لكن بالنظر إلى المخلوق دون الخالق.
وعن التاسعة أنه لا حرج في ربط الأحكام بالحكم إذا كانت منضبطةً بأنفسها أو بأوصاف ظاهرة ضابطة لها لعدم العسر في معرفتها وإن كان في ذلك نوع عسر وحرج يكد العقل في الاجتهاد فيها فلا نسلم خلو ذلك عن المقصود وهو زيادة الثواب على ما قال عليه السلام: " ثوابك على قدر نصبك " .
وعن العاشرة أن الحكمة وإن كانت متأخرة في الوجود عن شرع الحكم فإنما يمتنع أن تكون علةً بمعنى المؤثر لا بمعنى الباعث.
وعن الحادية عشرة أنه لا يمتنع أن تكون الحكمة المقصودة من شرع الحكم إنما هو حصول الحكمة ظاهراً لا قطعاً.
وعن الثانية عشرة أنه لا يمتنع على بعض آراء المعتزلة أن يقال بأن الرب تعالى غير قادر على تحصيل ذلك الغرض الخاص من شرع ذلك الحكم دون شرعه ولا يلزم منه العجز ضرورة كونه غير ممكن.
وإن قدر أنه قادر على ذلك وهو الحق فلا يلزم أن يكون شرع الحكم غير مفيد مع حصول الفائدة به وإن قدر إمكان حصول الفائدة بطريق آخر.
وعن الثالثة عشرة أن الحكمة فيما ذكروه إما أن تكون ممتنعةً أو جائزةً فإن كان الأول فلا يلزم امتناعها فيما هي ممكنة فيه وإن كان الثاني فلا مانع من وجودها وإن لم نطلع نحن عليها.
وهو الجواب عن الرابعة عشرة كيف وأنه إنما يلزم الدور الممتنع أن لو قيل بتوقف الوجوب على معرفة المكلف للوجوب وليس كذلك على ما سبق تقريره في شكر المنعم.
وعن الخامسة عشرة ما هو جواب الشبهتين قبلها.
وعن السادسة عشرة بمنع ما ذكروه في رعاية الحكمة بل الحكمة إنما تطلب في فعل من لو وجدت الحكمة في فعله لما كان ممتنعاً بل واقعاً في الغالب.
وعن السابعة عشرة أن ما ذكروه إنما يلزم في حق من تجب مراعاة الحكمة في فعله والباري تعالى ليس كذلك على ما حققناه في كتبنا الكلامية.
قولهم: لا يلزم أن يكون ما ظهر من المناسب علةً قلنا لا يلزم أن يكون علةً قطعاً وإنما يلزم أن يكون علةً ظاهراً ضرورة أنه لا بد للحكم من علة ظاهرة على ما سبق تقريره ولا ظاهر سواه.
وأما أجزاء العلة وإن كانت مناسبة فإنما يمتنع التعليل بكل واحد منها لما سبق من امتناع تعليل الحكم الواحد في محل واحد بعلل بخلاف ما إذا اتحد الوصف أو تعدد وكانت العلة مجموع الأوصاف.
قولهم: لا نسلم وجوب العمل بذلك وإن كان مظنوناً قلنا: دليله ما ذكرناه وما سيأتي في مسألة إثبات القياس على منكريه وما يذكرونه على ذلك فسيأتي جوابه ثم أيضاً.
المسلك السادس:
إثبات العلة بالشبه.ويشتمل على ثلاثة فصول.
الفصل الأول
في حقيقة الشبه واختلاف الناس فيه
وما هو المختار فيهنقول: اعلم أن اسم الشبه وإن أطلق على كل قياس ألحق الفرع فيه بالأصل لجامع يشبهه فيه غير أن آراء الأصوليين مختلفة فيه: فمنهم من فسره بما تردد فيه الفرع بين أصلين ووجد فيه المناط الموجود في كل واحد من الأصلين إلا أنه يشبه أحدهما في أوصاف هي أكثر من الأوصاف التي بها مشابهته للأصل الآخر فإلحاقه بما هو أكثر مشابهةً هو الشبه.

وذلك كالعبد المقتول خطأ إذا زادت قيمته على دية الحر فإنه قد اجتمع فيه مناطان متعارضان أحدهما النفسية وهو مشابه للحر فيها ومقتضى ذلك أن لا يزاد فيه على الدية والثاني المالية وهو مشابه للفرس فيها ومقتضى ذلك الزيادة.
إلا أن مشابهته للحر في كونه آدمياً مثاباً معاقباً ومشابهته للفرس في كونه مملوكاً مقوماً في الأسواق فكان إلحاقه بالحر أولى لكثرة مشابهته له وليس هذا من الشبه في شيء فإن كل واحد من المناطين مناسب وما ذكر من كثرة المشابهة إن كانت مؤثرةً فليست إلا من باب الترجيح لأحد المناطين على الآخر وذلك لا يخرجه عن المناسب وإن كان يفتقر إلى نوع ترجيح.
ومنهم من فسره بما عرف المناط فيه قطعاً غير أنه يفتقر في آحاد الصور إلى تحقيقه وذلك كما في طلب المثل في جزاء الصيد بعد أن عرف أن المثل واجب بقوله تعالى: " فجزاء مثل ما قتل من النعم " .
وليس هذا أيضاً من الشبه إذ الكلام إنما هو مفروض في العلة الشبهية والنظر هاهنا إنما هو في تحقيق الحكم الواجب وهو الأشبه لا في تحقيق المناط وهو معلوم بدلالة النص ودليل أن الواجب هو الأشبه أنه أوجب المثل ونعلم أن الصيد لا يماثله شيء من النعم فكان ذلك محمولاً على الأشبه كيف وهو مجزوم مقطوع به والشبه مختلف فيه وكيف يكون المتفق عليه هو نفس المختلف فيه.
ومنهم من فسره بما اجتمع فيه مناطان مختلفان لا على سبيل الكمال إلا أن أحدهما أغلب من الآخر فالحكم بالأغلب حكم بالأشبه وذلك كاللعان فإنه قد وجد فيه لفظ الشهادة واليمين وليسا بمتمحضين لأن الملاعن مدع والمدعي لا تقبل شهادته لنفسه ولا يمينه وهذا وإن كان أقرب من المذاهب المتقدمة إلا أنه مهما غلبت إحدى الشائبتين فقد ظهرت المصلحة الملازمة لها في نظرنا فيجب الحكم بها ولكنه غير خارج عن التعليل بالمناسب.
وقد ذهب القاضي أبو بكر إلى تفسيره بقياس الدلالة وهو الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم ولكن يستلزم ما يناسب الحكم وسيأتي تحقيقه في موضعه بعد.
ومنهم من فسره بما يوهم المناسبة من غير اطلاع عليها وذلك أن الوصف المعلل به لا يخلو إما أن تظهر فيه المناسبة أو لا تظهر فيه المناسبة بوقوف من هو أهل معرفة المناسبة عليها وذلك بأن يكون ترتيب الحكم على وفقه مما يفضي إلى تحصيل مقصود من المقاصد المبينة من قبل فهو المناسب.
وإن لم تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام ممن هو أهله فإما أن يكون مع ذلك مما لم يؤلف من الشارع الالتفات إليه في شيء من الأحكام أو هو مما ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام.
فإن كان من الأول فهو الطردي الذي لا التفات إليه ومثاله ما لو قال الشافعي مثلاً في إزالة النجاسة بمائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تجوز إزالة النجاسة به كالدهن وكما لو علل في مسألة من المسائل بالطول والقصر والسواد والبياض ونحوهما: وإن كان الثاني فهو الشبهي وذلك لأنه بالنظر إلى عدم الوقوف على المناسبة فيه بعد البحث يجزم المجتهد بانتفاء مناسبته وبالنظر إلى اعتباره في بعض الأحكام يوجب إيقاف المجتهد عن الجزم بانتفاء المناسبة فيه فهو مشابه للمناسب في أنه غير مجزوم به في ظهور المناسبة فيه ومشابه للطردي في أنه غير مجزوم بظهور المناسبة فيه فهو دون المناسب وفوق الطردي.
ولعل المستند في تسميته شبهياً إنما هو هذا المعنى: ومثاله قول الشافعي في مسألة إزالة النجاسة طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث فإن الجامع هو الطهارة ومناسبتها لتعيين الماء فيها بعد البحث التام غير ظاهرة وبالنظر إلى كون الشارع اعتبرها في بعض الأحكام كمس المصحف والصلاة والطواف يوهم اشتمالها على المناسبة كما تقرر.
واعلم أن إطلاق اسم الشبه وإن كان حاصله في هذه الصور راجعاً إلى الاصطلاحات اللفظية غير أن أقربها إلى قواعد الأصول الاصطلاح الأخير وهو الذي ذهب إليه أكثر المحققين ويليه في القرب مذهب القاضي أبي بكر.
الفصل الثاني
في أن الشبه مع قران الحكم به دليل
على كون الوصف علةً

وبيانه أنا إذا رأينا حكماً ثابتاً عقيب وصفين وأحد الوصفين شبهي بالتفسير الأخير والآخر طردي فلا يخلو: إما أن يكون الحكم ثابتاً لمصلحة أو لا لمصلحة لا جائز أن يقال بالثاني إذ الحكم الشرعي لا يخلو عن مصلحة وإن لم يكن ذلك بطريق الوجوب كما تقرر قبل فلم يبق غير الأول وهو أنه ثابت لمصلحة وتلك المصلحة لا تخلو: إما أن تكون في ضمن الوصف الشبهي أو الطردي لعدم ما سواهما ولا يخفى أن اشتمال الوصف الشبهي على المصلحة أغلب على الظن من اشتمال الطردي عليها لأن الطردي مجزوم بنفي مناسبته والشبهي متردد فيه على ما تقرر وإذا كان ذلك هو الغالب على الظن فالظن معمول به في الشرعيات على ما تقدم تقريره.
الفصل الثالثزعم بعض أصحابنا أن الشبهي إذا اعتبر جنسه في جنس الحكم دون اعتبار عينه في عينه لا يكون حجةً بخلاف الوصف المناسب مصيراً منه إلى أن الشبهي إذا ظهر تأثير عينه في عين الحكم فالظن المستفاد منه في أدنى درجات الظن فإذا انحط عن هذه الرتبة إلى رتبة اعتبار الجنس في الجنس فقد اضمحل الظن بالكلية لأنه ليس تحت أدنى درجات الظن درجة سوى ما ليس بظن وما ليس بمظنون لا يكون حجةً وهذا بخلاف المناسب فإن الظن المستفاد منه باعتبار العين في العين قوي جداً فنزوله عن هذه الرتبة إلى رتبة اعتبار الجنس في الجنس وإن فات معه ذلك الظن الغالب فقد بقي له أصل الظن فكان حجةً.
وأيضاً فإن الوصف الشبهي إنما صار شبهياً باعتبار الشارع له في جنس الحكم المعلل وذلك في إفادة الظن دون المناسب المرسل والمناسب المرسل ليس بحجة لما سيأتي تقريره فما هو دونه أولى أن لا يكون حجةً وهذا بخلاف المناسب المتأيد بشهادة الجنس في الجنس فإنه فوق المناسب المرسل فلا يلزم من كون المرسل ليس بحجة أن يكون ذلك ليس بحجة.
ولقائل أن يقول: أما الأول فهو مبني على أن الشبهي المتأيد بشهادة العين في العين في أدنى درجات الظنون وهو غير مسلم بل للخصم أن يقول: ما هو في أدنى درجات الظنون إنما هو الشبهي المتأيد بشهادة الجنس في الجنس والنزول عن تلك الدرجة إلى ما دونها لا يوجب انمحاق الظن بالكلية كما قيل.
وأما الثاني فهو وإن سلم أن الشبهي إنما صار شبهياً بالتفات الشارع إليه في بعض الأحكام وأنه أدنى من المناسب المرسل من حيث إن مناسبة المرسل ظاهرة ومناسبة الشبهي غير ظاهرة بل موهومة متردد فيها.
غير أن الشبهي بعد أن ثبت كونه شبيهاً بالتفات الشارع إليه في بعض الأحكام إذا رأينا الشارع قد اعتبر جنسه في جنس الحكم المعلل فقد صار معتبراً ولا كذلك المرسل فإنه غير معتبر ولا يلزم من عدم الاحتجاج بما ليس معتبرا عدم الاحتجاج بالمعتبر.
المسلك السابع:
إثبات العلة بالطرد والعكس.وقد اختلف فيه: فذهب جماعة من الأصوليين إلى أنه يدل على كون الوصف علةً.
لكن اختلف هؤلاء: فمنهم من قال إنه يدل على العلية قطعاً كبعض المعتزلة ومنهم من قال يدل عليها ظناً كالقاضي أبي بكر وبعض الأصوليين وهو مذهب أكثر أبناء زماننا.
والذي عليه المحققون من أصحابنا وغيرهم أنه لا يفيد العلية لا قطعاً ولا ظناً وهو المختار وصورته ما إذا قيل في مسألة النبيذ مثلاً مسكر فكان حراماً كالخمر وأثبت كون المسكر علة للتحريم بدورانه مع التحريم وجوداً وعدماً في الخمر فإنه إذا صار مسكراً حرم وإن زال الإسكار عنه بأن صار خلا فإنه لا يحرم وقد احتج القائلون إنه ليس بحجة بأمرين: الأول ما ذكره الغزالي وهو أن قال حاصل الاطراد يرجع إلى سلامة العلة عن النقض وسلامة العلة عن مفسد واحد لا يوجب سلامتها عن كل مفسد وعلى تقدير السلامة عن كل مفسد فصحة الشيء لا تكون بسلامته عن المفسدات بل لوجود المصحح والعكس ليس شرطاً في العلل فلا يؤثر.
وهذه الحجة ضعيفة فإنه وإن سلم أن كل واحد من الأمرين على انفراده لا دلالة له على العلية فلا يلزم منه عدم التأثير بتقدير الإجتماع ودليله إجزاء العلة فإن كل واحد منها لا يستقل بإثبات الحكم ولم يلزم من ذلك عدم استقلال المجموع.
الحجة الثانية لبعض أصحابنا: قال إن الصور التي دار الحكم فيها مع الوصف وجوداً وعدماً لا بد أن تكون متمايزة بصفات خاصة بها وإلا كانت متحدةً لا متعددةً.

وعند ذلك فللخصم أن يأخذ الوصف الخاص بكل صورة من صور الطرد والعكس في العلة في تلك الصورة ويجعل العلة في كل صورة مجموع الوصفين وهما الوصف المشترك والوصف الخاص بها وهي من النمط الأول إذ لقائل أن يقول: الترجيح للتعليل بالوصف المشترك لكونه مطرداً في جميع مجاري الحكم فيكون أغلب على الظن بخلاف التعليل بالمركب من الوصف الخاص والمشترك.
فإن قيل: بل التعليل بالمركب أولى لما فيه من تعدد مدارك الحكم فإنه أولى من اتحاده لكونه أقرب إلى تحصيل مقصود الشارع من الحكم فهو مقابل بأن التعليل بالوصف المشترك يكون منعكساً بخلاف التعليل بالمركب من الوصفين في كل صورة ولا يخفى أن التعليل بالمطرد المنعكس أولى من التعليل بالمطرد الذي لا ينعكس للاتفاق عليه ولأن التعليل بالوصف المشترك يكون متعدياً بخلاف التعليل بالمركب من الوصفين في كل صورة فإنه يكون قاصراً والتعليل بالمتعدية أولى للاتفاق عليها والاختلاف في القاصرة.
والحق في ذلك أن يقال: مجرد الدوران لا يدل على التعليل بالوصف لوجهين: الأول أنه يجوز أن يكون الوصف وصفاً ملازماً للعلة وليس هو العلة وذلك كالرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة ولا سبيل إلى دفع ذلك إلا بالتعرض لانتفاء وصف غيره بدلالة البحث والسبر أو بأن الأصل عدمه.
ويلزم من ذلك الانتقال من طريقة الدوران إلى طريقة السبر والتقسيم وهو كاف في الاستدلال على العلية.
الثاني أن الدوران قد وجد فيما لا دلالة له على العلية كدوران أحد المتلازمين المتعاكسين كالمتضايفين وليس أحدهما علة للآخر وكذلك فإن الدوران كما وجد في جانب الحكم مع الوصف فقد وجد في جانب الوصف مع الحكم وليس الحكم علة للوصف.
فإن قيل: نحن لا ندعي أن مطلق الدوران دليل على علية الوصف ليلزم ما قيل بل بقيود ثلاثة وهي أن يكون حدوث ذلك الأثر مرتباً على وجود ذلك الوصف ترتباً عقلياً بحيث يصدق قول القائل: وجد هذا الشيء فحدث ذلك الأثر.
وأن لا يقطع بخروج هذا الوصف عن أن يكون علةً وموجباً لحدوث ذلك الأثر وأن لا يقطع بوجود علة أخرى لهذا الحكم سوى هذا الوصف ومهما وجد الدوران على هذه القيود كان دليلاً على العلية.
وذلك كما إذا دعي الإنسان باسم فغضب منه وإذا لم يدع به لم يغضب ورأينا ذلك منه مراراً مرة بعد مرة وجوداً وعدما فإنه يغلب على الظن أن ذلك الاسم هو سبب الغضب حتى إن الصبيان يعلمون ذلك منه ويتبعونه في الدروب داعين له بذلك الاسم المغضب له والدوران بهذه القيود متحقق في السكر مع التحريم فكان دليلاً على كونه علةً وخرج عليه ما ذكر من الرائحة الفائحة حيث قطعنا أنها ليست علةً وكذلك الحكم في كل واحد من المتضايفين بالنسبة إلى الآخر ولأنه يمتنع ترتيب كل واحد على الآخر في الوجود بالتفسير المذكور وكذلك الكلام في نسبة الحكم إلى الوصف وخرج عليه أيضاً ما إذا ظهر ثم علة مغايرة للمدار.
قلنا: ما ذكروه من دوران غضب الإنسان مع دعائه ببعض الأسماء بالقيود المذكورة لا نسلم غلبة الظن بكون ذلك الاسم علة بل به أو بملازمه وإنما يظهر كونه علة مع ظهور انتفاء الملازم والطريق في ذلك إنما هو التمسك بالعدم الأصلي أو بعدم الاطلاع عليه بعد البحث والسبر والتقسيم ويلزم منه الانتقال من طريقة الدوران إلى طريقة السبر والتقسيم وهي كافية في التعليل.
وقد ترد عليه أسئلة أخرى مشهورة الجواب آثرنا الإعراض عن ذكرها اكتفاء في إبطال الدوران بما ذكرناه فإنه في غاية القوة والدقة.
وإذا عرف أن الطرد والعكس لا يصلح دليلاً على العلية فالاطراد بانفراده أولى أن لا يكون دليلاً نظراً إلى أن الاطراد عبارة عن السلامة عن النقض المفسد والسلامة عن مفسد واحد غير موجبة للتصحيح.
خاتمة في أنواع النظر والاجتهاد في مناط الحكم وهو العلة. ولما كانت العلة متعلق الحكم ومناطه فالنظر والاجتهاد فيه إما في تحقيق المناط أو تنقيحه أو تخريجه أما تحقيق المناط فهو النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها وسواء كانت معروفةً بنص أو إجماع أو استنباط أما إذا كانت معروفةً بالنص فكما في جهة القبلة فإنها مناط وجوب استقبالها وهي معروفة بإيماء النص وهو قوله تعالى: " وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره " البقرة 144.

وكون هذه الجهة هي جهة القبلة في حالة الاشتباه فمظنون بالاجتهاد والنظر في الأمارات وأما إذا كانت معلومةً بالإجماع فكالعدالة فإنها مناط وجوب قبول الشهادة وهي معلومة بالإجماع وأما كون هذا الشخص عدلاً فمظنون بالاجتهاد.
وأما إذا كانت مظنونةً بالاستنباط فكالشدة المطربة فإنها مناط تحريم الشرب في الخمر فالنظر في معرفتها في النبيذ هو تحقيق المناط ولا نعرف خلافا في صحة الاحتجاج بتحقيق المناط إذا كانت العلة فيه معلومة بنص أو إجماع وإنما الخلاف فيه فيما إذا كان مدرك معرفتها الاستنباط.
وأما تنقيح المناط فهو النظر والاجتهاد في تعيين ما دل النص على كونه علةً من غير تعيين بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الأوصاف كل واحد بطريقة كما علم فيما تقدم مما ذكرناه من التعليل بالوقاع في قصة الأعرابي فإنه وإن كان مومى إليه بالنص غير أنه يفتقر في معرفته عيناً إلى حذف كل ما اقترن به من الأوصاف عن درجة الاعتبار بالرأي والاجتهاد وذلك بأن يبين أن كونه أعرابياً وكونه شخصاً معيناً وأن كون ذلك الزمان وذلك الشهر بخصوصه وذلك اليوم بعينه وكون الموطوءة زوجة وامرأة معينةً لا مدخل له في التأثير بما يساعد من الأدلة في ذلك حتى يتعدى إلى كل من وطىء في نهار رمضان عامداً وهو مكلف صائم وهذا النوع وإن أقر به أكثر منكري القياس فهو دون الأول.
وأما تخريج المناط فهو النظر والاجتهاد في إثبات علة الحكم الذي دل النص أو الإجماع عليه دون عليته وذلك كالاجتهاد في إثبات كون الشدة المطربة علة لتحريم شرب الخمر وكون القتل العمد العدوان علةً لوجوب القصاص في المحدد وكون الطعم علة ربا الفضل في البر ونحوه حتى يقاس عليه كل ما ساواه في علته وهذا في الرتبة دون النوعين الأولين ولذلك أنكره أهل الظاهر والشيعة وطائفة من المعتزلة البغداديين.
بسم الله الرحمن الرحيمالباب الثالث في أقسام القياس وأنواعه وهي خمس قسم: القسمة الأولى: القياس ينقسم إلى ما المعنى الجامع فيه باقتضاء الحكم في الفرع أولى منه في الأصل وإلى ما هو مساو وإلى ما هو أدنى.
فالأول كتحريم ضرب الوالدين بالنسبة إلى تحريم التأفيف لهما وما في معناه وسواء كان قطعياً أو ظنياً كما سبق تقريره في مسائل المفهوم.
وإن كان الثاني فكما في إلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على المعتق وكما في إلحاق نجاسة الماء بصب البول فيه من كوز بنجاسته بالبول فيه ونحوه.
وإن كان الثالث فكما في إلحاق النبيذ بالخمر في تحريم الشرب وإيجاب الحد ونحوه غير أن هذا النوع الثالث متفق على كونه قياساً ومختلف في النوعين الأولين كما سبق.
القسمة الثانية: القياس ينقسم إلى جلي وخفي.
فالجلي ما كانت العلة فيه منصوصةً أو غير منصوصة غير أن الفارق بين الأصل والفرع مقطوع بنفي تأثيره فالأول كإلحاق تحريم ضرب الوالدين بتحريم التأفيف لهما بعلة كف الأذى عنهما.
والثاني كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم النصيب حيث عرفنا أنه لا فارق بينهما سوى الذكورة في الأصل والأنوثة في الفرع وعلمنا عدم التفات الشارع إلى ذلك في أحكام العتق خاصة.
وأما الخفي فما كانت العلة فيه مستنبطةً من حكم الأصل كقياس القتل بالمثقل على المحدد ونحوه.
القسمة الثالثة. القياس ينقسم إلى مؤثر وملائم.
أما المؤثر فإنه يطلق باعتبارين: الأول ما كانت العلة الجامعة فيه منصوصة بالصريح أو الإيماء أو مجمعاً عليها.
والثاني ما أثر عين الوصف الجامع في عين الحكم أو عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم.
وأما الملائم فما أثر جنسه في جنس الحكم كما سبق تحقيقه ومن الناس من جعل المؤثر من هذه الأقسام ما أثر عينه في عين الحكم لا غير والملائم ما بعده من الأقسام.
القسمة الرابعة. القياس ينقسم إلى قياس علة ودلالة والقياس في معنى الأصل.
وذلك لأنه لا يخلو إما أن يكون الوصف الجامع بين الأصل والفرع قد صرح به أو لم يصرح به فإن صرح به فلا يخلو إما أن يكون هو العلة الباعثة على الحكم في الأصل أو لا يكون هو العلة بل هو دليل عليها.
فإن كان الأول فيسمى قياس العلة وذلك كالجمع بين النبيذ والخمر في تحريم الشرب بواسطة الشدة المطربة ونحوه وإنما سمي قياس العلة للتصريح فيه بالعلة.

وإن كان الثاني فيسمى قياس الدلالة وذلك كالجمع بين النبيذ والخمر بالرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة أو الجمع بين الأصل والفرع بأحد موجبي العلة في الأصل استدلالاً به على الموجب الآخر كما في الجمع بين قطع الجماعة ليد الواحد وقتل الجماعة للواحد في وجوب القصاص بواسطة الاشتراك في وجوب الدية عليهم بتقدير إيجابها.
وأما إن كان الوصف الجامع لم يصرح به في القياس كما في إلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على المعتق بواسطة نفي الفارق بينهما فيسمى القياس في معنى الأصل.
القسمة الخامسة. القياس لا يخلو إما أن يكون طريق إثبات العلة المستنبطة فيه المناسبة أو الشبه أو السبر والتقسيم أو الطرد والعكس كما سبق تحقيقه.
فإن كان الأول فيسمى قياس الإحالة.
وإن كان الثاني فيسمى قياس الشبه.
وإن كان الثالث فيسمى قياس السبر.
وإن كان الرابع فيسمى قياس الاطراد.
الباب الرابع في مواقع الخلاف في القياس وإثباته على منكريه وفيه ست مسائل.
المسألة الأولى يجوز التعبد بالقياس في الشرعيات عقلاً وبه قال السلف من الصحابة والتابعين والشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وأكثر الفقهاء والمتكلمين وقالت الشيعة والنظام وجماعة من معتزلة بغداد كيحيى الإسكافي وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب بإحالة ورود التعبد به عقلاً وإن اختلفوا في مأخذ الإحالة العقلية كما سنبينه وقال القفال من أصحاب الشافعي وأبو الحسين البصري بأن العقل موجب لورود التعبد بالقياس.
والمختار إنما هو الجواز ويدل على ذلك الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أنه لا خلاف بين العقلاء أنه يحسن من الشارع أن ينص ويقول: لا يقضي القاضي وهو غضبان لأن الغضب مم يوجب اضطراب رأيه وفهمه فقيسوا على الغضب ما كان في معناه كالجوع والعطش والإعياء المفرط وأن يقول: حرمت عليكم شرب الخمر ومهما غلب على ظنونكم أن علة التحريم الشدة المطربة الصادة عن ذكر الله المفضية إلى وقوع الفتن والعدواة والبغضاء لتغطيتها على العقل فقيسوا عليها كل ما في معناه من النبيذ وغيره ولو كان ذلك ممتنعاً عقلاً لما حسن ورود الشرع بذلك.
وأما من جهة التفصيل فمن وجهين: الأول هو أن العاقل إذا صح نظره واستدلاله أدرك بالأمارات الحاضرة المدلولات الغائبة وذلك كمن رأى جداراً مائلاً منشقاً فإنه يحكم بهبوطه أو رأى غيماً رطباً وهواءً بارداً حكم بنزول المطر أو رأى إنساناً خارجاً من بيت فيه قتيل وبيده سكين مخضبة بالدم حكم بكونه قاتلاً فإذا رأى الشارع قد أثبت حكماً في صورة من الصور ورأى ثم معنى يصلح أن يكون داعياً إلى إثبات ذلك الحكم ولم يظهر له ما يبطله بعد البحث التام والسبر الكامل فإنه يغلب على ظنه أن الحكم ثبت له وإذا وجد ذلك الوصف في صورة أخرى غير الصورة المنصوص عليها ولم يظهر له أيضاً ما يعارضه فإنه يغلب على ظنه ثبوت الحكم به في حقنا وقد علمنا أن مخالفة حكم الله تعالى سبب للعقاب فالعقل يرجح فعل ما ظن فيه المصلحة ودفع المضرة على تركه ولا معنى للجواز العقلي سوى ذلك.
الثاني أن التعبد بالقياس فيه مصلحة لا تحصل دونه وهي ثواب المجتهد على اجتهاده وإعمال فكره وبحثه في استخراج علة الحكم المنصوص عليه لتعديته إلى محل آخر على ما قال عليه السلام ثوابك على قدر نصبك وما كان طريقا إلى تحصيل مصلحة المكلف فالعقل لا يحيله بل يجوزه.
فإن قيل: ما ذكرتموه من جواز التعبد بالقياس بناء على ظن حصول المصلحة ودفع المضرة إنما يحسن إذا لم يكن الوصول إلى ذلك بطريق يقيني وأما إذا أمكن فلا وذلك لأنه مهما أمكن الوصول إلى المطلوب بطريق يؤمن فيه الخطأ فالعقل يمنع من سلوك طريق لا يؤمن فيه الخطأ فما لم تثبتوا أنه لم يوجد دليل شرعي قاطع يدل على ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع أمة فاتباع الظن يكون ممتنعاً عقلاً.
سلمنا أنه لم يوجد دليل قطعي على ذلك لكن إنما يسوغ العقل التمسك بالظن إذا لم يوجد دليل ظني راجع على ظن القياس مفض إلى حكم القياس وإلا كان العمل بما الخطأ فيه أقرب مما ترك وهو ممتنع عقلاً سلمنا دلالة ما ذكرتموه على تجويز العقل لذلك غير أنه منقوض ومعارض.

أما النقض فبصور: منها أن قول الشاهد الواحد بل العبيد والنساء المتمحضات في الحقوق المالية والدماء والفروج بل الفساق مغلب على ظن القاضي الصدق ومع ذلك لا يجوز له العمل به ومنها أن مدعى النبوة إذا غلب على الظن صدقه من غير دلالة المعجزة عليه لا يجوز اتباعه والعمل بقوله ومنها أن المصالح المرسلة وإن غلبت على الظن لا يجوز العمل بها ومنها أنه لو اشتبهت رضيعة بعشر أجنبيات أو ميتة بعشر مذكيات لم يجز مد اليد إلى واحدة منها وإن وجدت علامات مغلبة على الظن.
وأما المعارضة فمن خمسة وعشرين وجهاً: الأول: قال النظام إن العقل يقتضي التسوية بين المتماثلات في أحكامها والاختلاف بين المختلفات في أحكامها والشارع قد رأيناه فرق بين المتماثلات وجمع بين المختلفات وهو على خلاف قضية العقل وذلك يدل على أن القياس الشرعي غير وارد على مذاق العقل فلا يكون العقل مجوزاً له.
أما تفرقته بين المتماثلات فإنه فرض الغسل من المني وأبطل الصوم بإنزاله عمداً دون البول والمذي وأوجب غسل الثوب من بول الصبية والرش عليه من بول الغلام ونقص من عدد الرباعية في حق المسافر الشطر دون الثنائية وأوجب الصوم على الحائض دون الصلاة مع أن الصلاة أولى بالمحافظة عليها وحرم النظر إلى العجوز القبيحة المنظر وأباحه في حق الأمة الحسناء وقطع سارق القليل دون غاصب الكثير وأوجب الجلد بالقذف بالزنى دون القذف بالكفر وقبل في القتل شاهدين دون الزنى وجلد قاذف الحر الفاسق دون العبد العفيف وفرق في العدة بين الموت والطلاق مع استواء حال الرحم فيهما وجعل استبراء الرحم بحيضة واحدة في حق الأمة والحرة المطلقة بثلاث حيضات وأوجب تطهير غير الموضع الذي خرجت منه الريح مع أن القياس كان مقتضياً للتسوية في جميع هذه الصور بل ربما كان بعض الصور التي لم يثبت فيها الحكم أولى به مما ثبت فيها.
وأما تسويته بين المختلفات فإنه سوى بين قتل الصيد عمداً وخطأ في إيجاب الضمان وسوى في إيجاب القتل بين الردة والزنى وسوى في إيجاب الكفارة بين قتل النفس والوطء في رمضان والظهار مع الاختلاف وذلك مما يبطل الاعتبار بالأمثال ويوجب امتناع العمل بالقياس.
الثاني: قالت الشيعة: إن القول بالتعبد بالقياس يفضي إلى الاختلاف وذلك عند ما إذا ظهر لكل واحد من المجتهدين قياس مقتضاه نقيض حكم الآخر والاختلاف ليس من الدين لقوله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " النساء 82 وقوله تعالى: " وأن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " الشورى 13 وقوله: " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " الأنفال 46 وقوله: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً " الأنعام 159 وقوله تعالى: " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " آل عمران 105 ذكر ذلك في معرض الذم ولا ذم على ما يكون من الدين وقد ذم الصحابة الاختلاف حتى قال عمر لا تختلفوا فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافاً وأنه لما سمع ابن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين صعد المنبر وقال: رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفا فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أسمع اثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت وقال جرير بن كليب رأيت عمر ينهى عن المتعة وعلياً يأمر بها فقلت إن بينكما لشراً.
وكتب علي إلى قضاته أيام خلافته أن اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف وأرجو أن أموت كما مات أصحابي.
الثالث: أنه إذا اختلفت الأقيسة في نظر المجتهدين فإما أن يقال بأن كل مجتهد مصيب فيلزم منه أن يكون الشيء ونقيضه حقاً وهو محال وإما أن يقال بأن المصيب واحد وهو أيضاً محال فإنه ليس تصويب أحد الظنين مع استوائهما دون الآخر أولى من العكس.
الرابع: قال النبي صلى الله عليه وسلم أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصاراً فلو كان التنصيص منه على الأشياء الستة الربوية قصداً لقياس ما عداها من المطعومات عليها مع أنه كان قادراً على ما هو أصرح منه وللخلاف والجهل أدفع وهو أن يقول حرمت الربا في كل مطعوم لكان عدولاً منه عن الظاهر المفهوم إلى الخفي الموهوم وهو غير لائق بفصاحته وحكمته وهو خلاف نصه.

الخامس: أن الحكم في أصل القياس إن كان ثابتاً بالنص امتنع إثباته في الفرع لعدم وجود النص في الفرع وامتناع ثبوته فيه بغير طريق حكم الأصل وإلا لما كان تابعاً للأصل ولا فرعاً له وإن كان ثابتاً بالعلة فهو ممتنع لوجهين: الأول أن الحكم في الأصل مقطوع والعلة مظنونة والمقطوع به لا يثبت بالمظنون.
الثاني أن العلة في الأصل مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عليه والمتفرع على الشيء لا يكون مثبتاً لذلك الشيء وإلا كان دورا ممتنعاً.
السادس: أنه لو كانت العلة منصوصة كما لو قال حرمت الربا في البر لكونه مطعوماً فإنه لا يقتضي التحريم في غير البر فالمستنبطة أولى بعدم التعدية وبيان أن المنصوصة لا تقتضي التحريم في غير محل النص قصور دلالة اللفظ عن ذلك.
ولهذا فإنه لو قال: أعتقت كل عبد لي أسود عتق كل السودان من عبيده ولو قال: أعتقت عبدي سالماً لسواده أو لسوء خلقه فإنه لا يعتق غانم وإن كان أشد سواداً من سالم وأسوأ خلقاً.
السابع: أن حكم القياس إما أن يكون موافقاً للبراءة الأصلية أو مخالفاً لها: فإن كان الأول لم يكن القياس مفيداً لأنه لو قدر عدمه كان مقتضاه متحققاً بالبراءة الأصلية وإن كان الثاني فهو ممتنع لأن البراءة الأصلية متيقنة والقياس مظنون واليقين تمتنع مخالفته بالظن.
الثامن: أنه لو جاز التعبد بالقياس عقلا في الفروع لظن المصلحة لجاز مثل ذلك في أصول الأقيسة وهو محال لما فيه من التسلسل.
التاسع: أن الشرعيات مصالح فلو جاز إثباتها بالقياس لجاز أن يتعبد بالإخبار عن كون زيد في الدار عند غلبة الظن بكونه فيها بالأمارات وهو ممتنع.
العاشر: أن الرجم بالظن جهل ولا صلاح للخلق في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا فيه ويحكموا بما يجوز أن يكون مخالفاً لحكم الله تعالى.
الحادي عشر: أنه لا يستقيم قياس إلا بعلة والعلة ما توجب الحكم بذاتها وعلل الشرع ليس كذلك فلا قياس.
الثاني عشر: أن حكم الله تعالى خبره وذلك إنما يعرف بالتوقيف لا بالقياس لأن القياس من فعلنا لا من توقيف الشارع.
الثالث عشر: أن جلي الأحكام الشرعية لا يعرف إلا بالنصوص فكذلك خفيها كالمدركات فإن جليها وخفيها لا يدرك بغير الحس.
الرابع عشر: أنه لو كان للشرعيات علل لاستحال انفكاكها عن أحكامها كما في العلل العقلية فإنه يستحيل انفكاك الحركة القائمة بالجسم عن كون متحركاً لما كانت الحركة علة لكونه متحركاً وذلك يوجب ثبوت الأحكام الشرعية قبل ورود الشرع لتقدم العلل عليها وهو محال.
الخامس عشر: أنه لو كان القياس صحيحاً لكان حجة مع النص وذلك ممتنع بالإجماع.
السادس عشر: أن نظر القائس لا بد وأن يقع في منظور فيه والمنظور فيه ليس سوى النص والحكم وهو الواجب والحرام مثلاً وليس المنظور فيه هو النص إذ هوغير متناول للفرع والحكم فهو فعل المكلف ويلزم من ذلك أنه إذا لم يوجد فعل المكلف أن لا يصح القياس: ويلزم من فساد الأمرين فساد القياس الشرعي السابع عشر: أنه لو جاز التعبد بتحريم شيء أو وجوبه عند ظننا أنه مشابه لأصل محرم أو واجب بناء على أمارة لجاز أن يتعبد بذلك عند ظننا المشابهة من غير أمارة وهو محال.
الثامن عشر: أنه لو جاز التعبد بالقياس الشرعي لكان على عليته دلالةً والدلالة عليها إما النص والعلة المستنبطة التي فيها الخلاف غير منصوصة وإما العادات والعادات تكون مثبتةً للأحكام الشرعية فلا تكون مثبتة لأماراتها.
التاسع عشر: لو كانت المعاني المشروعة من الأصول أدلة على ثبوب الأحكام في الفروع لم يقف كونها أدلةً على شيء سواها كما في النصوص والاتفاق واقع على احتياج المستنبطة إلى دليل والمحتاج إلى الدليل لا يكون دليلاً كما في الأحكام.
العشرون: أنه إذا غلب على الظن تحريم ربا الفضل في البر إما لكونه مطعوم جنس أو مكيل جنس أو قوتاً أو مالاً فلا بد من رعاية المصلحة في ذلك وأي مصلحة في تحريم بيع ما هذه صفته.
الحادي والعشرون: أنه لو صح معرفة الحكم الشرعي مع كونه غيبياً بالقياس لصح معرفة الأمور الغيبية بالقياس وهو محال.
الثاني والعشرون: أن القياس فعل القائس وذلك مما لا يجوز أن يتوصل به إلى معرفة المصالح.

الثالث والعشرون: أن القياس لا بد فيه من علة مستنبطة من حكم الأصل والحكم في الأصل جاز أن يكون معللاً وجاز أن لا يكون معللا وبتقدير كونه معللاً يحتمل أن يكون الحكم ثابتاً بغير ما استنبط وبتقدير أن يكون ثابتاً بما استنبط يحتمل أن لا يكون متحققاً في الفرع إذا كان وجوده فيه ظنيا وما هذا شأنه لا يصلح للدلالة.
الرابع والعشرون: أنه لو جاز التعبد بالقياس لأفضى ذلك إلى تقابل الأدلة وتكافئها وأن يكون الرب تعالى موجباً للشيء ومحرماً له وهو محال على الله تعالى وبيان ذلك أنه قد يتردد الفرع بين أصلين حكم أحدهما الحل والآخر الحرمة فإذا ظهر في نظر المجتهد شبه الفرع بكل واحد منهما لزم الحكم بالحل والحرمة في شيء واحد وذلك محال.
الخامس والعشرون: أن القياس لا بد فيه من علة جامعة والعلل الشرعية لا بد وأن تكون على وزان العلل العقلية والعلة الشرعية يجوز عند القائلين بالقياس أن تكون ذات أوصاف والعلة العقلية ليست كذلك فإنها تستقل بحكمها كاستقلال الحركة بكون المحل الذي قامت به متحركاً واستقلال السواد بكون محله أسود ونحوه.
وأما من زعم أن العقل موجب للتعبد بالقياس الشرعي فقد احتج بثلاث شبه.
الأولى أن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بتعميم الحكم في كل صورة والصور لا نهاية لها فلا تمكن إحاطة النصوص بها فاقتضى العقل وجوب التعبد بالقياس.
الثانية أنه إذا غلب على الظن أن المصلحة في إثبات الحكم بالقياس وأنه أنفى للضرر فيجب اتباعه عقلاً تحصيلاً للمصلحة ودفعاً للمضرة كما يجب القيام من تحت حائط ظن سقوطه لفرط ميله وإن جاز أن تكون السلامة في القعود والهلاك في النهوض.
الثالثة أن العلل الشرعية ومناسبتها للأحكام مدركة بالعقل فكان العقل موجباً لورود التعبد بها كما توجب أحكام العلل العقلية.
والجواب عن السؤال الأول أنه إذا سلم أن القياس مغلب على الظن وجود المصلحة فهو بيان وهو وإن كان البيان فيه مرجوحاً بالنسبة إلى البيان القاطع فليس ذلك مما يمنع من التعبد به مع عدم الظفر بالبيان القاطع وإن كان ممكن الوجود وإلا لما جاز التعبد بالنصوص الظنية وأخبار الآحاد مع إمكان أن يخلق الله تعالى لنا العلم الضروري بالأحكام وإمكان وجود النصوص القاطعة الجلية.
وعلى هذا يخرج الجواب عن السؤال الثاني أيضاً.
وعن النقض بما ذكروه من الصور أن العقل يجوز ورود التعبد بكل ما هو مغلب عن الظن غير أنه لما ورد التعبد من الشارع بامتناع العمل به كان ذلك لمانع الشرع لا لعدم الجواز العقلي.
وعن المعارضة الأولى أن كل ما ظن فيه الجامع بين الأصل والفرع وظهرت صلاحيته للتعليل فالعقل لا يمنع من ورود التعبد من الشارع فيه بالإلحاق وحيث فرق الشارع في الصور المذكورة فلم يكن ذلك لاستحالة ورود التعبد بالقياس بل إنما كان ذلك إما لعدم صلاحية ما وقع جامعاً أو لمعارض له في الأصل أو في الفرع وحيث جمع بين مختلفات الصفات فإنما كان لاشتراكها في معنى جامع صالح للتعليل أو لاختصاص كل صورة بعلة صالحة للتعليل فإنه لا مانع عند اختلاف الصورة وإن اتحد نوع الحكم أن تعلل بعلل مختلفة لا أن الحكم ثبت في الكل بالقياس.
وعلى هذا نقول: ما لم يظهر تعليله وصحة القياس عليه إما لعدم صلاحية الجامع أو لتحقق الفارق أو لظهور دليل التعبد فلا قياس فيه أصلاً وإنما القياس فيما ظهر كون الحكم في الأصل معللاً فيه وظهر الاشتراك في العلة وانتفى الفارق.
وعن الثانية أن ذلك وإن أفضى إلى الاختلاف بين المجتهدين فإن ذلك غير محذور مطلقاً فإن جميع الشرائع والملل كلها من عند الله وهي مختلفة ولا محذور فيها وإلا لما كانت مشروعةً من عند الله كيف وإن الأمة الإسلامية معصومة عن الخطإ على ما عرف.
فلو كان الاختلاف مذموماً ومحذوراً على الإطلاق لكانت الصحابة مع اشتهار اختلافهم وتباين أقوالهم في المسائل الفقهية مخطئةً بل الأمة قاطبةً وذلك ممتنع.
وعلى هذا فيجب حمل ما ورد من ذم الاختلاف والنهي عنه على الاختلاف في التوحيد والإيمان بالله ورسوله والقيام بنصرته وفيما المطلوب فيه القطع دون الظن والاختلاف بعد الوفاق واختلاف العامة ومن ليس له أهلية النظر والاجتهاد وبالجملة كل ما لا يجوز فيه الاختلاف جمعاً بين الأدلة بأقصى الإمكان.

وقوله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " النساء 82 إنما المراد به نفي التناقض والاضطراب والاختلاف المناقض للبلاغة عن القرآن لا نفي الاختلاف في الأحكام الشرعية.
وأما إنكار عمر على ابن مسعود وأبي بن كعب فيجب أيضاً حمله على اختلافهما فيما سبق فيه الإجماع أو على اختلافهما بالنظر إلى مستفت واحد حذراً من تحيره.
وأما قول جرير لعلي وعمر عند اختلافهما في مسألة المتعة فيجب حمله على ما ظنه من إفضاء ذلك إلى فتنة وثوران أمر.
وأما ما كتبه علي إلى قضاته فيجب حمله أيضاً على خوفه من انفتاق فتق بسبب نسبته إلى تعصب لمخالفة من سبق.
وعن الثالثة باختيار تصويب كل مجتهد بناء على أن الحكم عند الله تعالى في حق كل واحد ما أدى إليه اجتهاده وذلك مما لا يمنع من كون الشيء ونقيضه حقاً بالنسبة إلى شخصين مختلفين كما في الصلاة وتركها بالنسبة إلى الحائض والطاهر وكالجهات المختلفة في القبلة حال اشتباهها بالنسبة إلى شخصين وبالنسبة إلى شخص واحد في حالتين مختلفتين وكجواز ركوب البحر في حق من غلب على ظنه السلامة وتحريمه في حق من غلب على ظن الهلاك.
وهذا بخلاف القضايا العقلية وما الحق فيه في نفس الأمر لا يكون إلا واحداً معيناً كحدوث العالم وقدمه ووجود الصانع وعدمه.
وعن الرابعة من وجهين: الأول أنه لو كان العدول من أصرح الطريقين وأبينهما إلى أدناهما مما يمتنع ويخل بالبلاغة لما ساغ ورود الكتاب بالألفاظ المجملة وإرادة المعين والعامة وإرادة الخاص والمطلقة وإرادة المقيد والألفاظ المحتملة ولما ساغ أيضا مثل ذلك من الرسول مع إمكان الإتيان بألفاظ صريحة ناصة على الغرض المطلوب وهو ممتنع خلاف الواقع.
الوجه الثاني: أنه غير بعيد أن يكون الله تعالى ورسوله قد علم أن في التعبد بالقياس والاجتهاد مصلحةً للمكلفين لا تحصل من التنصيص وذلك بسبب بعث دواعيهم على الاجتهاد طلباً لزيادة الثواب الحاصل به على ما نطق به النص في حق عائشة حتى تبقى الشريعة مستمرة غضةً طرية.
وعن الخامسة أن الحكم في الأصل وإن كان ثابتاً بالنص أو الإجماع لا بالعلة وأن ذلك غير متحقق في الفرع فلا نسلم وجوب ثبوت الحكم في الفرع بمثل طريق إثبات حكم الأصل بل يمكن أن يكون إثبات الحكم في الأصل مع كونه مقطوعاً به بدليل مقطوع به وفي الفرع بوجود ما كان قد ظهر كونه باعثاً على الحكم في الأصل ولا يلزم من كون الفرع تابعاً في حكمه للأصل اتحاد الطريق المثبت للحكم فيهما وإلا لما كان أحدهما تابعاً للآخر بل التبعية متحققة بمجرد إثبات الحكم في الفرع بما عرف كونه باعثاً على الحكم في الأصل.
وعن السادسة من وجهين: الأول قال بعضهم: إن علم قطعاً قصده للسواد عتق كل عبد أسود له وقال بعضهم: لا يكفي مجرد القصد بل لا بد مع ذلك من أن ينوي بهذا اللفظ عتق جميع السودان فإنه كاف في عتق كل عبد له أسود وغايته إطلاق اللفظ الخاص وإرادة العام وهو سائغ لغةً كما حمل قوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالهم " النساء 2 على النهي عن الإتلاف العام وكما حمل قول القائل والله لا أكلت لفلان خبزاً ولا شربت من مائه جرعةً إذا قصد به دفع المنة على أخذ الدراهم وغيرها من العروض حتى إنه يحنث بكل ذلك.
وقال بعضهم: لا يكفي ذلك لأن مجرد النية والإرادة لذلك غير كافية في العتق بل إن قال مع ذلك وقيسوا عليه كل أسود عتق كل عبد له أسود وهذا هو اختيار الصيرفي من أصحاب الشافعي وهو أقرب من الذي قبله.
الثاني: أنه لا يلزم من امتناع التعدية هاهنا امتناع التعدية في العلل المستنبطة الشرعية وذلك لأن العتق من باب التصرف في أملاك العبيد بالزوال ولا كذلك في الأحكام الشرعية وعند ذلك فلا يلزم من امتناع التعدية هاهنا مبالغة في صيانة ملك العبيد مثله في الأحكام الشرعية.
ولهذا فإنه لو اجتمع في المحل الواحد حقان لله وللآدمي وتضايق المحل عن استيفائهما كما لو وجب القتل على شخص بالردة وبالقتل الموجب للقصاص فإنه يقدم حق الآدمي على حق الله تعالى ويقتل قصاصاً لا بالردة.

ولهذا طرد أهل اللغة مثل ذلك وعدوه فيما لا يقتضي زوال ملك الآدمي فإنه لو قال القائل لغيره لا تأكل هذا الطعام فأنه مسموم ولا تشرب هذا الشراب فأنه مسهل ولا تجالس فلاناً لسواده فإن أهل اللغة يعدونه إلى كل ما هو من جنسه مشارك له في العلة.
وعلى هذا نقول إنه لو قال لوكيله بع هذا العبد لسواده أو لسوء خلقه وكان قد قال له مهما ظهر لك رضائي بشيء من التصرفات بقرائن الأحوال دون صريح الأقوال فافعله وعلم أن العلة في إطلاق البيع السواد وسوء الخلق خاصةً فله بيع كل ما شاركه في تلك العلة على وزان ذلك في الشرع.
وعن السابعة: أنها منقوضة بمخالفة البراءة الأصلية بالنصوص الظنية وبالإقرار والشهادة والفتوى وغير ذلك.
وعن الثامنة: أنه لو لم يرد النص بالحكم في أصول الأقيسة وإلا كان التعبد بإثبات أحكامها بالقياس على أصل آخر جائزا وإن امتنع ذلك لما فيه من التسلسل فلا يرد به التعبد لاستحالته في نفسه.
وعن التاسعة: أنه لا يمتنع في العقل أيضاً ورود التعبد بإخبارنا عن كون زيد في الدار عن ظن إذا ظهرت أمارة كونه في الدار.
وعن العاشرة: أنها مبينة على فاسد أصول الخصوم في وجوب رعاية الصلاح والأصلح وهو باطل على ما عرف من أصلنا وإن سلمنا وجوب رعاية المصلحة فلا يمتنع أن يكون في التعبد بالقياس مصلحة وقد استأثر الرب تعالى بالعلم بها كيف وإن ما ذكروه منقوض بورود التعبد بالنصوص الظنية وقبول الشهادة والاجتهاد في القبلة حالة الاشتباه وبقبول قول العدول في قيم المتلفات وأرش الجنايات وتقدير النفقات.
وعن الحادية عشرة أن العلة في القياس إنما هي بمعنى الأمارة والعلامة على الحكم في الفرع وذلك مما لا يمتنع التعبد باتباعه ولهذا فإنه لو قال الشارع مهما رأيتم وصف الشدة المطربة فاعلموا أني قضيت بتحريم ذلك المشتد المطرب كان واجب الاتباع.
وعن الثانية عشرة: أنه مهما لم يقم دليل يدل على وجوب التعبد بالقياس من نص أو إجماع فإنا لا نثبت به الحكم ولا ننفيه وإن كان يجوز ورود التعبد به عقلاً.
فإذا قال الشارع قد تعبدتكم بالقياس فمهما رأيتم الحكم قد ثبت في صورة وغلب على ظنونكم أنه ثبت لعلة وأنها وأنها متحققة في صورة أخرى فقيسوها كان ذلك إخباراً عن إثبات الحكم في الفرع وإن لم يرد مثل هذا النص فانعقاد الإجماع على ذلك يكون كافياً.
وعن الثالثة عشرة أنها قياس تمثيلي من غير جامع فلا يصح وقد أجاب بعضهم بأن كثيرالزعفران الواقع في الماء يعلم بالإدراك وخفيه إنما يعلم بإخبار من شاهده لا بنفس الإدراك وليس بحق فإن الخبر مستند إلى المشاهدة.
فإن قيل: الحكم في الفرع أيضاً مستند إلى الحكم الثابت بالنص فكان جلي الأحكام وخفيها مستنداً إلى النص.
قيل النص الوارد في الأصل لم يكن واردا في الفرع ولو ورد في الفرع لما احتيج إلى القياس وعن الرابعة عشرة أنا لا نسلم أن كون المتحرك متحركاً يزيد على قيام الحركة بالمحل فلا علة ولا معلول وإن سلمنا أن المتحركية معللة بالحركة ولكن ما ذكروه تمثيل من غير جامع وذلك لأن اسم العلة مشترك بين العلة العقلية والعلة الشرعية لأن العلة العقلية مقتضية للحكم بذاتها لا بوضع بخلاف العلة الشرعية فإنها بمعنى الأمارة والعلامة أو بمعنى الباعث ولا يمتنع أن يكون الوصف علامة على الحكم في بعض الأزمان دون البعض اتباعا لوضع الشارع ولا يمتنع أن يكون الوصف باعثاً لما يختص به من المصلحة في بعض الأزمان دون البعض كما أبيحت الخمرة في زمان وحرمت في زمان وجوز الصوم في زمان وحرم في زمان ويكون مناط معرفة ذلك اعتبار الشارع للوصف في وقت وإلغاءه في وقت آخر.
وعن الخامسة عشرة أن القياس عندنا حجة مع النص الموافق ولا يلزم أن يكون حجةً مع النص المخالف الراجح بدليل خبر الواحد فإنه حجة وإن لم يكن حجة مع النص المخالف الراجح.
وعن السادسة عشرة أن نظر القائس في الفرع وإن لم يكن في دلالة النص فهو ناظر في المعنى الجامع والدلالة على عليته وفي الحكم في الفرع وليس الحكم هو فعل المكلف بل الحكم إنما هو الوجوب أو التحريم المتعلق بفعله.
وعن السابعة عشرة أنه إن غلب على الظن مشابهة شيء لشيء محرم وأمكن ذلك من غير أمارة فالعقل يجوز ورود الشرع بالتعبد بتحريمه وإن لم يرد الشرع به.

وعن الثامنة عشرة بمنع الحصر فيما ذكروه وما المانع من طريق آخر يعرف كون الوصف الجامع علة من الإيماء أو غيره من طرق التخريج كما عرف.
وعن التاسعة عشرة: أن العلل المستنبطة من الأصول وإن كانت أدلةً على الأحكام في الفروع فليست أدلةً لذواتها وصفات أنفسها الذاتية كما في العلل العقلية بل إنما كانت أدلة بالوضع والتوقيف وجعل الشارع لها أدلة فلذلك افتقرت في جعلها أدلة إلى غيرها.
وعن العشرين: أن الكلام في هذه المسألة غير مختص بتصحيح القياس في آحاد الصور بل إنما هو في جواز ورود التعبد بالقياس في الجملة كيف وإن الوجه في ظهور المصلحة في التعليل بمطعوم جنس أو مكيل جنس أو غير ذلك مما قد تكلف بيانه في مسائل الفروع فعلى الناظر في ذلك بالاعتبار حتى إن كل ما لم يظهر فيه وجه المصلحة ولا دفع المفسدة من الأوصاف المستنبطة بدليله فالقياس فيه غير جائز.
وعن الحادية والعشرين أن كل ما هو غيب عنا لو جعل الله عليه أمارة تدل عليه كما جعل ذلك في الأحكام الشرعية كان الحكم في معرفته كما في الأحكام وحيث لم يجعل له أمارةً تدل عليه لم يكن معلوماً.
وعن الثانية والعشرين: لا نسلم أن التوصل إلى معرفة المصالح بفعل القائس وإنما فعل القائس وهو إثبات مثل حكم الأصل في الفرع تبع لمعرفة المصلحة المأخوذة من حكم الأصل.
وعن الثالثة والعشرين: أنه متى غلب على ظن القائس كون الحكم معللاً وظهرت له علة في نظره مجردة عن المعارض وتحقق وجودها في الفرع كان له القياس وإلا فلا.
وعن الرابعة والعشرين: أنه مهما تقابل في نظر القائس قياسان على التحليل والتحريم مثلاً فكل واحدة من العلتين غير موجبة لحكمها لذاتها فلا يلزم من ذلك اجتماع الحكمين وعلى هذا إن ترجحت إحداهما على الأخرى كان العمل بها وإن تعارضا من كل وجه أمكن أن يقال بالوقف إلى حين ظهور الترجيح وأمكن أن يقال بتخيير المجتهد في العمل بأي القياسين شاء على ما عرف من مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل.
وعن الخامسة والعشرين: لا نسلم أن العلل الشرعية على وزان العلل العقلية وإنما هي بمعنى الأمارات والعلامات وما كان بمعنى الأمارة والعلامة لا يمتنع أن يكون الظن الحاصل منه من مجموع أوصاف لا يستقل البعض بها وذلك كالظن الحاصل بنزول المطر عند طلوع الغيم وتكاثفه ودنوه من الأرض وهبوب الهواء البارد وكذلك ظن سقوط الجدار بميله وانشقاقه وتخلخل أجزائه إلى غير ذلك.
والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين بكون العقل موجباً لورود التعبد بالقياس أن الذي لا يتناهى إنما هو الجزئيات الداخلة تحت الأجناس الكلية أما الأجناس الكلية فلا نسلم أنها غير متناهية وعلى هذا فقد أمكن التنصيص على كل واحد من الأجناس بأن يقول الشارع كل مطعوم ربوي وكل مسكر حرام وكل قاتل عمداً عداوناً مقتول وكل سارق من حرز مثله لا شبهة له فيه مقطوع إلى نظائره والحكم في كل صورة من جزئيات ذلك الجنس يكون ثابتا بالنص.
وإن افتقرنا فيه إلى الاجتهاد في إدراج كل واحد تحت جنسه ليتم إثبات الحكم فيه بالنص فذلك إنما هو من باب تحقيق متعلق الحكم لا أنه قياس وعلى هذا فلا حاجة إلى القياس وإن سلمنا امتناع التعميم بغير القياس فإنما يجب التعبد به أن لو كان النبي عليه السلام مكلفاً بالتعميم وهو غير مسلم بل يمكن أن يقال بأنه إنما كلف بما يقدر على تبليغه بطريق المخاطبة وما ذكروه مبني على وجوب رعاية الصلاح والأصلح وهو غير مسلم على ما عرفناه في الكلاميات.
وعن الثانية أنها مبنية على كون العقل موجباً وعلى وجوب رعاية المصلحة وهو باطل على ما عرفناه وإن سلمنا أن العقل موجب عند ظهور المصلحة في نظر العاقل لكن متى إذا كان علم الله تعالى متعلقاً بما ظنه العبد على وفق ما ظنه العبد أو على خلافه الأول مسلم والثاني ممنوع وعند ذلك فمن الجائز أن يكون الرب تعالى قد علم أنه لا مصلحة للمكلفين في القياس وأنه مضر في حقهم على خلاف مظنون العبد.
ومع ذلك فلا يكون