كتاب الشهادات
المحلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب الشهادات
كتاب الشهادات (مسأله 1789) | كتاب الشهادات (مسأله 1790) | كتاب الشهادات (مسأله 1791 - 1792) | كتاب الشهادات (مسأله 1793 - 1798) | كتاب الشهادات (مسأله 1799 - 1807) | كتاب الشهادات (مسأله 1808 - 1818)
===========
كتاب الشهادات
1789 - مسألة: ولا يجوز أن يقبل في شيء من الشهادات من الرجال والنساء إلا عدل رضي. والعدل : هو من لم تعرف له كبيرة , ولا مجاهرة بصغيرة. والكبيرة : هي ما سماها رسول الله ﷺ كبيرة , أو ما جاء فيه الوعيد. والصغيرة : ما لم يأت فيه وعيد.
برهان ذلك : قول الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}. وليس إلا فاسق أو غير فاسق , فالفاسق : هو الذي يكون منه الفسق , والكبائر كلها فسوق فسقط قبول خبر الفاسق , فلم يبق إلا العدل : وهو من ليس بفاسق.
وأما الصغائر : فإن الله عز وجل قال : {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}. فصح : أن ما دون الكبائر مكفرة باجتناب الكبائر , وما كفره الله تعالى وأسقطه فلا يحل لأحد أن يذم به صاحبه ، ولا أن يصفه به.
وكذلك من تاب من الكفر فما دونه فإنه إذا سقط عنه بالتوبة ما تاب عنه لم يجز لأحد أن يذمه بما سقط عنه , ولا أن يصفه به. وقد اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : كل مسلم فهو عدل حتى يثبت عليه الفسق :
كما روينا من طريق أبي عبيدة قال : ، حدثنا كثير بن هشام قال : ، حدثنا جعفر بن برقان قال : كتب عمر إلى أبي موسى : المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربا عليه شهادة زور , أو مجلودا في حد , أو ظنينا في ولاء , أو قرابة. وحدثناه أيضا : أحمد بن عمر بن أنس العذري قال : ، حدثنا أبو ذر الهروي , وعبد الرحمن بن الحسن الفارسي قال : ، حدثنا أبو ذر : ، حدثنا الخليل بن أحمد القاضي السجستاني ، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد ، حدثنا يوسف بن موسى القطان ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه : أن عمر كتب إلى أبي موسى فذكره كما هو وقال عبد الرحمن بن الحسن الفارسي : ، حدثنا القاضي أحمد بن محمد الكرخي ، حدثنا محمد بن عبد الله العلاف ، حدثنا أحمد بن علي بن محمد الوراق ، حدثنا عبد الله بن أبي سعيد ، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني ، حدثنا سفيان عن إدريس بن يزيد الأودي عن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري , فذكره كما أوردناه.
قال أبو محمد : في هذه الرسالة ببعض هذه الأسانيد " وقس الأمور بعضها ببعض " وفي بعضها " واعرف الأشباه والأمثال " وعليها عول الحنفيون , والمالكيون , والشافعيون , في الحكم بالقياس , ثم لم يبالوا بخلافها في أن " المسلمين عدول بعضهم على بعض , إلا مجربا عليه شهادة زور , أو ظنينا في ولاء , أو قرابة ". فالمالكيون , والشافعيون : مجاهرون بخلاف هذا , والمسلمون عندهم على الرد حتى تصح العدالة.
وأما أبو حنيفة : فالمسلمون عنده على العدالة حتى يطعن الخصم في الشاهد فإذا طعن فيه الخصم توقف في شهادته حتى تثبت له العدالة. فهذا كله بخلاف قول عمر , فمرة قوله حجة , ومرة قوله ليس بحجة , وهذا كما ترى ,
فإن قيل : قد رويتم من طريق أبي عبيد ، حدثنا الأشجعي عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم النخعي قال : العدل من المسلمين الذي لم تظهر منه ريبة.
ومن طريق البخاري : ، حدثنا الحكم بن نافع هو أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، هو ابن أبي حمزة عن الزهري ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن بن عوف : أن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله ﷺ وإن الوحي قد انقطع , وإنما نأخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم , فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه , وليس لنا من سريرته شيء , والله يحاسبه في سريرته , ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه , وإن قال : إن سريرته حسنة.
قلنا : هذا خبر صحيح عن عمر , وكل ما ذكرنا عنه فمتفق على ما ذكرنا من أن كل مسلم فهو عدل ما لم يظهر منه شر ,
وكذلك قول إبراهيم ,
وكذلك ما روي من أن عمر قيل له : إن شهادة الزور قد فشت فقال : لا يوسر رجل في الإسلام بغير العدول : معناه على ظاهره : أن العدول هم المسلمون إلا من صحت عليه شهادة زور. حدثنا بذلك حمام عن الباجي عن عبد الله بن يونس ، حدثنا بقي بن مخلد ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، حدثنا المسعودي عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه قال : قال عمر بن الخطاب : ألا لا يوسر أحد في الإسلام بشهود الزور , فإنا لا نقبل إلا العدول.
روينا من طريق ابن أبي شيبة : ، حدثنا ابن أبي زائدة عن صالح بن حي عن الشعبي قال : تجوز شهادة الرجل المسلم ما لم يصب حرا أو تعلم عليه خربة في دينه.
ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا عباد بن العوام عن عوف عن الحسن أنه كان يجيز شهادة من صلى إلا أن يأتي الخصم بما يجرحه به.
فإن قيل : قد رويتم من طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم لا يجوز في الطلاق شهادة ظنين ، ولا متهم.
قلنا : قد يمكن أن يكون خص الطلاق , لقول الله تعالى فيه : {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} إلى قوله تعالى : {وأشهدوا ذوي عدل منكم} فلم يجز في الطلاق بالنص إلا من عرف لا من يتهم.
قال أبو محمد : احتج من ذهب إلى أن المسلمين عدول حتى تصح الجرحة : بأنه قبل البلوغ بريء من كل جرحة , فلما بلغ مسلما , فالإسلام خير , بل هو جامع لكل خير فقد صح منه الخير , فهو عدل حتى يوقن منه بضد ذلك. .
فقلنا : إذا بلغ المسلم فقد صار في نصاب من يكتب له الخير , ويكتب عليه الشر , ولا يمكن أن يكون أحد سلم من ذنب. قال تعالى : {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة}
وقال تعالى : {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة}. فصح : أنه لا أحد إلا وقد ظلم نفسه واكتسب إثما , فإذ قد صح هذا ، ولا بد , فلا بد من التوقف في خبره وشهادته حتى يعلم أين أحلته ذنوبه في جملة الفاسقين : فتسقط شهادته بنص كلام الله تعالى : {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} أم في جملة المغفور لهم ما أذنبوا , وما ظلموا فيه أنفسهم , وما كسبوا من إثم بالتوبة , أو باجتناب الكبائر , والتستر بالصغائر : بفضل الله تعالى علينا.
قال أبو محمد : وقال أبو يوسف : من سلم من الفواحش التي تجب فيها الحدود وما يشبه ما يجب فيه الحدود من العظائم , وكان يؤدي الفرائض , وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي : قبلنا شهادته ; لأنه لا يسلم عبد من ذنب. وإن كانت المعاصي أكثر من أخلاق البر رددنا شهادته. ولا نجيز شهادة من يلعب بالشطرنج ويقامر عليها. ولا من يلعب بالحمام ويطيرها. ولا من يكثر الحلف بالكذب.
قال أبو محمد : هذا كلام متناقض ; لأنه بناه على كثرة الخير وكثرة الشر وهذا باطل ; لأنه من ثبت عليه زنى مرة فهو فاسق حتى يتوب. ثم رد الشهادة باللعب بالحمام وما ندري ذلك محرما ما لم يسرق حمام الناس.
وقال الشافعي : إذا كان الأغلب والأظهر من أمره الطاعة والمروءة : قبلت شهادته , وإذا كان الأغلب من أمره المعصية , وخلاف المروءة : ردت شهادته.
قال أبو محمد : كان يجب أن يكتفي بذكر الطاعة والمعصية ,
وأما ذكره المروءة هاهنا ففضول من القول وفساد في القضية ; لأنها إن كانت من الطاعة فالطاعة تغني عنها , وإن كانت ليست من الطاعة فلا يجوز اشتراطها في أمور الديانة , إذ لم يأت بذلك نص قرآن ، ولا سنة.
وقال مالك في رواية محمد بن عبد الحكم عنه : من كان أكثر أمره الطاعة ولم يقدم على كبيرة فهو عدل
وهو قول أبي سليمان , وأصحابنا , وهو الحق كما بينا وبالله تعالى التوفيق.
**
كتاب الشهادات
1790 - مسألة: ولا يجوز أن يقبل في الزنى أقل من أربعة رجال عدول مسلمين , أو مكان كل رجل امرأتان مسلمتان عدلتان , فيكون ذلك ثلاثة رجال وامرأتين , أو رجلين وأربع نسوة , أو رجلا واحدا وست نسوة , أو ثمان نسوة فقط. ولا يقبل في سائر الحقوق كلها من الحدود والدماء , وما فيه القصاص والنكاح , والطلاق , والرجعة , والأموال , إلا رجلان مسلمان عدلان ; أو رجلان وامرأتان كذلك , أو أربع نسوة كذلك ويقبل في كل ذلك حاشا الحدود رجل واحد عدل أو امرأتان كذلك مع يمين الطالب. ويقبل في الرضاع وحده امرأة واحدة عدلة أو رجل واحد عدل.
فأما وجوب قبول أربعة في الزنى فبنص القرآن ,
ولا خلاف فيه , قال تعالى : {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة}.
وأما قبول رجلين في سائر الحقوق كلها , أو رجل وامرأتين في الديون المؤجلة , فإن الله تعالى قال : {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} إلى قوله {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء}
وقال تعالى : {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} إلى قوله : {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم}.
وادعى قوم : أن قبول عدلين من الرجال في سائر الأحكام قياسا على نص الله تعالى في الطلاق والرجعة. واختلفوا في قبول شهادة النساء منفردات في شيء من الأشياء , وفي قبولهن مع رجل فيما عدا الديون المؤجلة. واختلف القائلون بقبولهن منفردات في كم يقبل منهن في ذلك. واختلفوا أيضا في الشاهد ويمين الطالب فقال زفر صاحب أبي حنيفة : لا يجوز قبول النساء منفردات دون رجل في شيء أصلا , لا في ولادة ، ولا في رضاع , ولا في عيوب النساء , ولا في غير ذلك وأجازهن مع رجل في الطلاق , والنكاح , والعتق.
ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن برد عن مكحول قال : لا تجوز شهادة النساء إلا في الدين.
وروينا ضد هذا عن الشعبي
كما روينا من طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : من الشهادات شهادة لا يجوز فيها إلا شهادات النساء.
ومن طريق الزهري قال : مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن
وروينا من طريق ابن أبي سبرة عن موسى بن عقبة عن القعقاع ، عن ابن عمر : لا تجوز شهادة النساء وحدهن إلا على ما لا يطلع عليه غيرهن من عورات النساء وحملهن وحيضهن.
ومن طريق إبراهيم بن أبي يحيى ، عن ابن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي : لا تجوز شهادة النساء بحتا حتى يكون معهن رجل. وعن عطاء مثل هذا وعن عمر بن عبد العزيز مثله صح عنهما. وعن سعيد بن المسيب , وعبد الله بن عتبة : لا تقبل النساء إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن.
وروينا من طريق الحسن بن عمارة عن الزهري , والحكم بن عتيبة , قال الزهري : عن سعيد بن المسيب عن عمر , وقال الحكم : عن علي , ثم اتفق عمر , وعلي : على أنه لا تجوز شهادة النساء في الطلاق ; ، ولا في النكاح , ولا في الدماء , ولا الحدود.
ومن طريق ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن الحجاج بن أرطاة عن الزهري : مضت السنة من رسول الله ﷺ والخليفتين بعده : أنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود , والنكاح , والطلاق. وصح عن إبراهيم النخعي : أنه لا تجوز شهادة النساء في الطلاق , ولا في النكاح , ولا في الحدود وأجاز شهادة امرأتين مع رجل في العتق , والوصية , والدين. وصح عن الحسن البصري : لا تجوز شهادة النساء في الحدود , ولا في جراح العمد , ولا في الطلاق , ولا في النكاح , ولا مع رجل ، ولا دونه , وأنها جائزة في جراح الخطأ , وفي الوصايا , وفي الديون مع رجل , وفيما لا بد منه. وعن ابن المسيب لا تجوز شهادة النساء : في قتل , ولا في حد , ولا في طلاق , ولا نكاح. وعن قتادة : لا تجوز شهادة النساء : في طلاق , ولا في نكاح. وعن الزهري لا تقبل شهادة النساء : في حد , ولا طلاق , ولا نكاح ، ولا عتق وأجازها : في الوصايا في الديون , وفي القتل. وعن عمر بن عبد العزيز : لا تجوز شهادة النساء في الطلاق. وعن ربيعة : لا تجوز شهادة النساء في طلاق , ولا نكاح , ولا حد , ولا عتق وتجوز في البيوع , وفي كل حق يتراضون فيه , ويتعاطون المعروف عليه. وعن محمد بن الحنفية : تجوز شهادة النساء في الدية. وصح عن شريح : أنه أجاز شهادة امرأتين في عتاقة مع رجل. وصح عن الشعبي : قبول شهادة رجل وامرأتين في الطلاق , وجراح الخطأ , ولم يجز شهادة النساء في جراح عمد , ولا في حد. وصح عن أبي الشعثاء جابر بن زيد : قبول النساء مع رجل في الطلاق والنكاح. وصح عن إياس بن معاوية : قبول امرأتين في الطلاق. وعن حماد بن أبي سليمان : لا تقبل النساء في الحدود.
ومن طريق الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين : أن شريحا أجاز شهادة أربع نسوة على رجل في صداق امرأة.
ومن طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج عن هشام بن حجير عمن يرضى كأنه يريد طاووسا قال : تجوز شهادة النساء في كل شيء مع الرجال , إلا الزنى من أجل أنه لا ينبغي أن ينظرن إلى ذلك.
ومن طريق أبي عبيد ، حدثنا يزيد ، هو ابن هارون عن جرير بن حازم عن الزبير بن الخريت عن أبي لبيد قال : إن سكران طلق امرأته ثلاثا , فشهد عليه أربع نسوة , فرفع إلى عمر بن الخطاب , فأجاز شهادة النسوة , وفرق بينهما.
ومن طريق محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حراش بن مالك الجهضمي ، حدثنا يحيى بن عبيد عن أبيه : أن رجلا من عمان تملأ من الشراب فطلق امرأته ثلاثا , فشهد عليه نسوة , فكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب فأجاز شهادة النسوة , وأبت عليه الطلاق.
ومن طريق محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا أبو طلق عن امرأة : أن امرأة وطئت صبيا فقتلته , فشهد عليها أربع نسوة , فأجاز علي بن أبي طالب شهادتهن.
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص بن غياث عن أبي طلق عن أخته هند بنت طلق قالت : كنت في نسوة وصبي مسجى , فقامت امرأة فمرت فوطئته , فقالت أم الصبي : قتلته والله , فشهد عند علي عشر نسوة أنا عاشرتهن فقضى علي عليها بالدية وأعانها بألفين.
ومن طريق أبي عبيد ، حدثنا هشيم عن حجاج بن أرطاة عن عطاء قال : أجاز عمر بن الخطاب شهادة النساء مع الرجال : في الطلاق , والنكاح.
ومن طريق أبي عبيد ، حدثنا يزيد عن حجاج عن عطاء بن أبي رباح : أنه أجاز شهادة النساء في النكاح.
ومن طريق محمد بن المثنى ، حدثنا أبو معاوية وهو محمد بن خازم الضرير عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح قال : لو شهد عندي ثماني نسوة على امرأة بالزنى لرجمتها.ومن طريق عبد الرزاق ، حدثنا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال : تجوز شهادة النساء مع الرجال في كل شيء وتجوز على الزنى امرأتان وثلاثة رجال.
ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا إسماعيل ابن علية عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين : أن رجلا ادعى متاع البيت , فجاء أربع نسوة يشهدن فقلن : دفعنا إليه الصداق وقلنا : جهزها فقضى شريح عليه بالمتاع وقال له : إن عقرها من مالك هذا في غاية الصحة.
وأما المتأخرون : فإن سفيان الثوري قال في أحد قوليه : تقبل المرأتان مع رجل في القصاص , وفي الطلاق , والنكاح , وكل شيء حاش الحدود ويقبلن منفردات فيما لا يطلع عليه إلا النساء. وقال عثمان البتي , وسفيان في أحد قوليه : يقبلن مع رجل في الطلاق , والنكاح , وكل شيء حاش الحدود والقصاص ويقبلن منفردات فيما لا يطلع عليه إلا النساء , ولا يقبل في الرضاع إلا رجل وامرأتان. وقال الحسن بن حي : لا تجوز شهادة النساء مع رجل في الحدود , وتصدق المرأة وحدها في الولادة : أنها ولدت هذا الولد , ويلحق نسبه وإن لم يشهد لها بذلك أحد سواها. وقال ابن أبي ليلى : يقبلن منفردات في عيوب النساء , وما لا يطلع عليه إلا النساء , ولا يقبل في الرضاع إلا رجل وامرأتان أو رجلان. وقال الليث بن سعد : يقبلن منفردات فيما لا يطلع عليه الرجال , ولا يقبلن مع رجل : لا في قصاص , ولا حد , ولا طلاق , ولا نكاح وتجوز شهادة امرأتين ورجل في العتق والوصية.
وقال أبو حنيفة : تقبل شهادة امرأتين , ورجل في جميع الأحكام أولها عن آخرها , حاش القصاص والحدود ويقبلن في الطلاق والنكاح والرجعة مع رجل ، ولا يقبلن منفردات : لا في الرضاع , ولا في انقضاء العدة بالولادة , ولا في الأستهلال لكن مع رجل ويقبلن في الولادة المطلقة , وعيوب النساء منفردات. قال أبو يوسف , ، ومحمد بن الحسن : ويقبلن منفردات في انقضاء العدة بالولادة , وفي الأستهلال.
وقال مالك : لا تقبل النساء مع رجل ، ولا دونه : في قصاص , ولا حد , ولا طلاق , ولا نكاح , ولا رجعة , ولا عتق , ولا نسب , ولا ولاء , ولا إحصان. وتجوز شهادتهن مع رجل في الديون , والأموال , والوكالة , والوصية التي لا عتق فيها ويقبلن منفردات : في عيوب النساء , والولادة , والرضاع والأستهلال وحيث يقبل شاهد ويمين الطالب , فإنه يقضى فيه بشهادة امرأتين ويمين الطالب , ويقضى بامرأتين مع أيمان المدعي في القسامة.
وقال الشافعي : تقبل شهادة امرأتين مع رجل في الأموال كلها , وفي العتق ; لأنه مال , وفي قتل الخطأ , وفي الوصية لأنسان بمال ، ولا يقبلن في أصل الوصية لا مع رجل ، ولا دونه ويقبلن منفردات فيما لا يطلع عليه إلا النساء. وقال أبو عبيد : لا تقبل النساء مع رجل إلا في الأموال خاصة. وقال أبو سليمان : لا يقبلن مع رجل إلا في الأموال خاصة.
وأما اختلافهم في عدد ما يقبل منهن حيث يقبلن منفردات. فروينا عن عمر بن الخطاب كما ذكرنا أن مكان كل شاهد رجل امرأتان فلا يقبل فيما يقبل فيه رجلان إلا أربع نسوة. وعن علي بن أبي طالب مثل ذلك
وهو قول الشعبي , والنخعي في أحد قوليهما , وعطاء , وقتادة في قوله جملة , وابن شبرمة , والشافعي , وأصحابه , وأبي سليمان وأصحابه , إلا أنهم قالوا : تقبل في الرضاع امرأة واحدة. وقال عثمان البتي : لا يقبل فيما يقبل فيه النساء منفردات إلا ثلاث نسوة لا أقل.
وقالت طائفة : تقبل امرأتان في كل ما يقبل فيه النساء منفردات
وهو قول الزهري إلا في الأستهلال خاصة , فإنه يقبل فيه القابلة وحدها. وقال الحكم بن عتيبة : يقبل في ذلك كله امرأتان
وهو قول ابن أبي ليلى ومالك وأصحابه , وأبي عبيد
وقالت طائفة : تقبل امرأة واحدة.
روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه أجاز شهادة القابلة وحدها
وروينا ذلك عن أبي بكر , وعمر رضي الله عنهما في الأستهلال , وأن عمر ورث بذلك
وهو قول الزهري , والنخعي , والشعبي في أحد قوليهما
وهو قول الحسن البصري , وشريح , وأبي الزناد , ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة , وحماد بن أبي سليمان قال : وإن كانت يهودية كل ذلك قالوه في الأستهلال , إلا الشعبي , وحمادا فقالا : في كل ما لا يطلع عليه إلا النساء
وهو قول الليث بن سعد. وقال سفيان الثوري : يقبل في عيوب النساء , وما لا يطلع عليه إلا النساء امرأة واحدة
وهو قول أبي حنيفة , وأصحابه وصح ، عن ابن عباس ,
وروي عن عثمان , وعلي أميري المؤمنين ، وابن عمر , والحسن البصري , والزهري
وروي عن ربيعة , ويحيى بن سعيد وأبي الزناد , والنخعي , وشريح , وطاووس , والشعبي : الحكم في الرضاع بشهادة امرأة واحدة. وأن عثمان فرق بشهادتهما بين الرجال ونسائهم وذكر الزهري أن الناس على ذلك وذكر الشعبي ذلك عن القضاء جملة
وروي ، عن ابن عباس أنها تستحلف مع ذلك. وصح عن معاوية : أنه قضى في دار بشهادة أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها ولم يشهد بذلك غيرها.
وروينا عن عمر , وعلي , والمغيرة بن شعبة , وابن عباس : أنهم لم يفرقوا بشهادة امرأة واحدة في الرضاع
وهو قول أبي عبيد , قال : أفتي في ذلك بالفرقة ، ولا أقضي بها.
وروينا عن عمر : ، أنه قال : لو فتحنا هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين رجل وامرأته إلا فعلت. وقال الأوزاعي : أقضي بشهادة امرأة واحدة , قبل النكاح , وأمنع من النكاح , ولا أفرق بشهادتهما بعد النكاح.
قال أبو محمد : فكان من حجة من لم ير قبول النساء منفردات , ولا قبول امرأة مع رجل إلا في الديون المؤجلة فقط , أن قالوا : أمر الله تعالى في الزنى بقبول أربعة , وفي الديون المؤجلة برجلين , أو رجل وامرأتين , وفي الوصية في السفر باثنين من المسلمين , أو باثنين من غير المسلمين يحلفان مع شهادتهما , وفي الطلاق والرجعة بذوي عدل منا.
وقال رسول الله ﷺ في التداعي في أرض شاهداك أو يمينه , ليس لك إلا ذلك فلم يذكر الله تعالى ، ولا رسوله عليه الصلاة والسلام عدد الشهود وصفتهم إلا في هذه النصوص فقط , فوجب الوقوف عندها , وأن لا تتعدى , وأن لا يقبل فيما عدا ذلك إلا ما اتفق المسلمون على قبوله.
قال أبو محمد : ما نعلم أحدا ممن يخالفنا اتبع في أقواله في الشهادات النصوص الثابتة من القرآن , ولا من السنن , ولا من الإجماع , ولا من القياس , ولا من الأحتياط , ولا من قول الصحابة ، رضي الله عنهم ، فكل أقوال كانت هكذا فهي متخاذلة متناقضة باطل , لا يحل القول بها في دين الله تعالى , ولا يجوز الحكم بها , في دماء المسلمين , وفروجهم , وأبشارهم , وأموالهم , وذلك أننا هبك أمسكنا الآن عن الأعتراض على احتجاجهم بالنصوص المذكورة , لكن لنريهم بحول الله تعالى وقوته مخالفتهم لها جهارا : أما أبو حنيفة : فأجاز شهادة النساء في النكاح , والطلاق , والرجعة مع رجل , وليس هذا في شيء من الآيات , بل فيها : فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم. فمن أعجب شأنا ممن يرى خبر اليمين مع الشاهد خلافا لقول الله تعالى : {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} ، ولا يرى قوله بإجازة امرأتين مع رجل خلافا لقوله تعالى : {وأشهدوا ذوي عدل منكم}.
فإن قالوا : إن امرأة عدلة ورجلا عدلا يقع عليهما ذوي عدل منا
قلنا : وشهادة ثلاثة رجال وامرأتين في الزنى يقع عليهم وعلى واحدة منهما أربعة شهداء ، ولا فرق. ثم قبلوا شهادة امرأة واحدة حيث تقبل النساء منفردات ولم يقبلوها في الرضاع حيث جاءت السنة بقبولها وبه قال جمهور السلف.
فإن قالوا : قسنا ذلك على الديون المؤجلة
قلنا : فقيسوا الحدود في ذلك والقصاص على الديون المؤجلة ، ولا فرق فإن ادعوا إجماعا على أن لا يقبلن في الحدود أكذبهم عطاء.
فإن قالوا : خالف جمهور العلماء :
قلنا : وأنتم خالفتم في أن لا يقبلن النساء منفردات في الرضاع جمهور العلماء.
وأما مالك : فقاس بعض الأموال على الديون المؤجلة ولم يقس عليها العتق وقبل امرأتين لا رجل معهما مع يمين الطالب في الأموال والقسامة وما نعلم له سلفا في هذا روي عنه هذا القول. وخالف جمهور العلماء في رد شهادة امرأة واحدة في الأستهلال. وفي قبول امرأتين تقبل النساء منفردات.
وأما الشافعي : فقاس الأموال على الديون المؤجلة فيقال له : هلا قست سائر الأحكام على ذلك وما الفرق بين من قال : أقيس على ذلك كل حكم , لأنه حكم وحكم , وبين قولك أقيس على ذلك الأموال كلها ; لأنه مال ومال , وهل هاهنا إلا التحكم فهذا خلافهم للنصوص , وللقياس , ولقول السلف , وليس منهم أحد راعى الإجماع ; لأننا قد ذكرنا عن زفر أنه لا يقبل النساء منفردات في شيء من الأشياء.
وقد حدثنا يونس بن عبد الله ، حدثنا أبو بكر بن أحمد بن خالد ، حدثنا أبي ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا أبو عبيد ، حدثنا هشيم عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري قال : الشهادة على القتل أربعة كالشهادة على الزنى. وليت شعري من أين قاسوا القتل , والقصاص , والحدود على ما يقبل فيه رجلان فقط دون أن يقيسوها على الزنى الذي هو أشبه بها ; لأنه حد وحد , ودم ودم أو على ما يقبل فيه رجل وامرأتان ; لأنه حكم وحكم , وشهادة وشهادة فظهر فساد قولهم بيقين. فإذا قد سقطت الأقوال المذكورة فإن وجه الكلام والصدع بالحق : هو أن الله تعالى أمرنا عند التبايع بالإشهاد , فقال تعالى : {وأشهدوا إذا تبايعتم}. وأمرنا إذا تداينا بدين مؤجل أن نكتبه , وأن نشهد شهيدين من رجالنا , أو رجلا وامرأتين مرضيتين. وأمرنا عند الطلاق والمراجعة بإشهاد ذوي عدل منا. وليس في شيء من هذه النصوص ذكر ما نحكم به عند التنازع في ذلك والخصام من عدد الشهود , إذ قد يموت الشاهدان أو أحدهما , أو ينسيان أو أحدهما , أو يتغيران أو أحدهما. فمن أعجب شأنا أو أضل سبيلا ممن خالف أمر الله تعالى في الآيات المذكورة جهارا فقال : إذا تبايعتم فليس عليكم أن تشهدوا وإذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فلا تكتبوه إن شئتم. ولا تشهدوا عليه أحدا إن أردتم ثم أراد التمويه بالنص المذكور فيما ليس فيه منه شيء فخالف الآية فيما فيها وادعى عليها ما ليس فيها نعوذ بالله من البلاء. فسقط تعلقهم بالنصوص المذكورة.
وأما قول رسول الله ﷺ : شاهداك أو يمينه , ليس لك إلا ذلك فإن الحنفيين , والمالكيين , والشافعيين أول من يضم إلى هذا النص ما ليس فيه , فيجيزون في الأموال كلها رجلا وامرأتين , وليس ذلك في القرآن إلا في الديون المؤجلة فقط , فقد زادوا على ما في هذا الخبر بقياسهم الفاسد.
وأما نحن : فطريقنا في ذلك غير طريقهم , لكن نقول وبالله تعالى نستعين : قد صح عنه عليه الصلاة والسلام : ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر , والأعمش , كلاهما عن أبي وائل أن الأشعث دخل على عبد الله بن مسعود وهو يحدثهم بنزول قول الله تعالى : {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} فقال الأشعث : في نزلت , وفي رجل خاصمته في بئر فقال النبي ﷺ : ألك بينة قلت : لا , قال : فليحلف. فوجدناه عليه الصلاة والسلام قد كلف المدعي مرة شاهدين ; ومرة بينة مطلقة , فوجب أن تكون البينة كل ما قال قائل من المسلمين إنه بينة. ووجدنا الشاهدين العدلين يقع عليهما اسم بينة , فوجب قبولهما في كل شيء , حاش حيث ألزم الله تعالى أربعة فقط. ووجدناه عليه الصلاة والسلام قال : ما رويناه من طريق مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن رمح ، حدثنا الليث ، هو ابن سعد ، عن ابن الهادي عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر عن رسول الله ﷺ ، أنه قال في حديث فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل.
ومن طريق البخاري ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر أخبرني زيد ، هو ابن أسلم عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري , " أن رسول الله ﷺ قال في حديث : (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل قلنا : بلى يا رسول الله) فقطع عليه الصلاة والسلام بأن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل , فوجب ضرورة : أنه لا يقبل حيث يقبل رجل لو شهد إلا امرأتان , وهكذا ما زاد.
فإن قيل : فهلا قبلتم بهذا الأستدلال رجلا واحدا , فقد صح ذلك عن شريح , ومطرف بن مازن , وزرارة بن أوفى , أو شهادة امرأة واحدة , فقد قبلها معاوية
قلنا : منعنا من ذلك حكم رسول الله ﷺ باليمين مع الشاهد , فلو جاز قبول واحد حيث لم يقبله رسول الله ﷺ لكانت اليمين فضولا , وحاش له من ذلك.
فصح : أنه لا يجوز قبول رجل واحد , ولا امرأة واحدة إلا في الهلال كما ذكرنا في " كتاب الصيام " فقط وفي الرضاع. ل
ما روينا من طريق عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن أبان البلخي , ويعقوب بن إبراهيم , قالا جميعا : ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، هو ابن علية عن أيوب السختياني ، عن ابن أبي مليكة حدثني عبيد بن أبي مريم عن عقبة بن الحارث قال ابن أبي مليكة : وقد سمعته من عقبة بن الحارث , ولكني لحديث عبيد أحفظ , قال : تزوجت امرأة فجاءت امرأة سوداء فقالت : إني قد أرضعتكما فأتيت رسول الله ﷺ فقلت : يا رسول الله إني تزوجت امرأة , فجاءت امرأة سوداء فقالت إني قد أرضعتكما وهي كاذبة فأعرض عني , فأتيته من قبل وجهه فقلت : إنها كاذبة , فقال : كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما دعها عنك.
قال أبو محمد : فنهي النبي ﷺ تحريم ,
وروينا من طريق الحذافي ، حدثنا عبد الرزاق قال : ، حدثنا ابن جريج قال " قال ابن شهاب : جاءت امرأة سوداء إلى أهل ثلاثة أبيات تناكحوا فقالت : هم بني وبناتي , ففرق عثمان رضي الله عنه بينهم.
وروينا عن الزهري ، أنه قال : فالناس يأخذون اليوم بذلك من قول عثمان في المرضعات إذا لم يتهمن.
ومن طريق قتادة عن جابر بن زيد أبي الشعثاء ، عن ابن عباس قال : تجوز شهادة امرأة واحدة في الرضاع.
قال أبو محمد :
وأما الخبر الذي صدرنا به من قول الزهري مضت السنة من النبي ﷺ ومن أبي بكر , وعمر : أن لا تجوز شهادة النساء في الطلاق , ولا في النكاح , ولا في الحدود : فبلية ; لأنه منقطع من طريق إسماعيل بن عياش وهو ضعيف عن الحجاج بن أرطاة وهو هالك.
وأما الرواية عن عمر " لو فتحنا هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين رجل وامرأته إلا فعلت ذلك " فهو عن الحارث الغنوي وهو مجهول أن عمر.
وأيضا فإن هذا كلام بعيد عن عمر قول مثله ; لأنه لا فرق بين هذا وبين أن لا يشاء رجلان قتل رجل وإعطاء ماله لأخر , وتفريق امرأته عنه إلا قدرا على ذلك , بأن يشهدا عليه بذلك. وبضرورة العقل يدري كل أحد : أنه لا فرق بين امرأة وبين رجل , وبين رجلين , وبين امرأتين , وبين أربعة رجال , وبين أربع نسوة , في جواز تعمد الكذب والتواطؤ عليهم ,
وكذلك الغفلة ولو حينا إلى هذا , لكن النفس أطيب على شهادة ثماني نسوة منها على شهادة أربعة رجال. وهذا كله لا معنى له , إنما هو القرآن والسنة ، ولا مزيد.
وأما من احتج بتخصيص ما لا يجوز أن ينظر إليه الرجال فباطل , وما يحل للمرأة من النظر إلى عورة المرأة إلا كالذي يحل للرجل من ذلك , ولا يجوز ذلك إلا عند الشهادة أو الضرورة , كنظرهم إلى عورة الزانيين , والرجال والنساء في ذلك سواء وبالله تعالى التوفيق.
وأما اليمين مع الشاهد : فروينا عن عمر بن الخطاب أنه قضى باليمين مع الشاهد الواحد.
ومن طريق ابن وهب عن أنس بن عياض أخبرني ضمرة : أن جعفر بن محمد أخبرهم قال : سمعت أبي يقول للحكم بن عتيبة : قضى رسول الله ﷺ باليمين مع الشاهد وقضى بها علي بين أظهركم.
ومن طريق هشيم عن حصين بن عبد الرحمن : أن عبد الله بن عتبة بن مسعود قضى عليه بدين لأنسان أقام شاهدا واحدا وأحلفه مع شاهده. وصح عن عمر بن عبد العزيز , وعبد الرحمن بن عبد الحميد , وعن شريح.
وروي عن جماعة : منهم سليمان بن يسار , وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف , وأبو الزناد , وربيعة , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وإياس بن معاوية , ويحيى بن معمر , والفقهاء السبعة , وغيرهم
وهو قول مالك , والشافعي , إلا أنهما لا يقضيان بذلك إلا في الأموال. وجاء عن عمر بن عبد العزيز : أنه قضى بذلك في جراح العمد والخطأ ; ويقضي به مالك أيضا في القصاص في النفس ، ولا يقضي به في العتق , والشافعي يقضي به في العتق.
وروينا إنكار الحكم به عن الزهري , وقال : هو بدعة ما أحدثه الناس أول من قضى به معاوية وقال عطاء : أول من قضى به عبد الملك بن مروان , وأشار إلى إنكاره الحكم بن عتيبة.
وروي عن عمر بن عبد العزيز : الرجوع إلى ترك القضاء به ; لأنه وجد أهل الشام على خلافه , ومنع منه : ابن شبرمة , وأبو حنيفة , وأصحابه.
قال أبو محمد : قد ذكرنا بطلان التعلق في رد هذا الحكم وغيره بالتعلق بقول الله تعالى : {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}. وبقوله تعالى : {وأشهدوا ذوي عدل منكم} في الفصل الذي قبل هذا.
وكذلك بقوله عليه الصلاة والسلام شاهداك أو يمينه وسائر ما تعلقوا به في منع الحكم بيمين وشاهد أهذار , والعجب اعتراضهم في هذا بقول الزهري أول من قضى بذلك معاوية , وهم قد أخذوا بقيمة أحدثها معاوية في زكاة الفطر ، ولا يصح فيها أثر عن النبي ﷺ .
قال أبو محمد :
وروينا من طريق مسلم ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن بشر , وعبد الله بن نمير , قالا جميعا : ، حدثنا سيف بن سليمان أخبرني قيس بن سعد عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قضى بيمين وشاهد : ، حدثنا أحمد بن قاسم ، حدثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم ، حدثنا جدي قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن سليمان المنقري ، حدثنا مسدد , ، ومحمد بن المثنى , وعبد الله بن عبد الوهاب قالوا كلهم : ، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ قضى باليمين مع الشاهد.
ومن طريق أبي داود ، حدثنا أبو المصعب ، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قضى باليمين مع الشاهد. قال أبو داود : وزادني الربيع بن سليمان في هذا الخبر قال : أنا الشافعي عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال : فذكرت ذلك لسهيل بن أبي صالح فقال : أخبرني ربيعة وهو ثقة عندي أني حدثته إياه ، ولا أحفظه , قال عبد العزيز : وقد كانت أصابت سهيلا علة أذهبت بعض عقله ونسي بعض حديثه , فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عن أبيه عن أبي هريرة.
قال أبو محمد : فهذه آثار متظاهرة لا يحل الترك لها , فالواجب أن يحكم بذلك في الدماء والقصاص , والنكاح , والطلاق , والرجعة , والأموال , حاشا الحدود ; لأن ذلك عموم الأخبار المذكورة , ولم يأت في شيء من الأخبار منع من ذلك.
وأما الحدود : فلا طالب لها إلا الله تعالى , ولا حق للمقذوف في إثباتها , ولا في إسقاطها , ولا في طلبها ,
وكذلك المسروق منه , والمزني بامرأته أو حريمته أو أمته , أو غير ذلك : فليس لذلك كله طالب بلا يمين في شيء منها.
وقال الشافعي : إن في بعض الآثار إن النبي ﷺ حكم بذلك في الأموال وهذا لا يوجد أبدا في شيء من الآثار الثابتة وبالله تعالى التوفيق. والعجب من أصحاب أبي حنيفة يقولون دهرهم كله : المرسل , والمسند : سواء , في كل بلية يقولون بها , ثم يردون خبر جابر هذا : بأن غير الثقفي أرسله , وأنه روي مرسلا من طريق سعيد بن المسيب , وغيره , فاعجبوا لعدم الحياء ورقة الدين. وعجب آخر : وهو أنهم يقضون بالنكول في الدماء , والأموال , فيعطون المدعي بلا شاهد ، ولا يمين , لكن بدعواه المجردة وإن كان يهوديا أو نصرانيا برأيهم الفاسد , ويردون الحكم باليمين والشاهد , ويقضون بالعظائم بشهادة امرأتين دون يمين الطالب بآرائهم الفاسدة , واختيارهم المهلك , وينكرون الحكم بشهادة امرأتين مع يمين الطالب , وبشهادة رجل مع يمين الطالب , وينكرون الحكم بشهادة مسلم ثقة مع يمين الطالب , وهم يقضون بشهادة يهوديين , أو نصرانيين حيث لم يأت بذلك نص قرآن , ولا سنة صحيحة , ويضعفون سيف بن سليمان وهو ثقة. وهم آخذ الناس برواية كل كذاب , كجابر الجعفي , وغيره , ويحتجون بمغيب ذلك عن الزهري وعطاء وقد غاب عنهما حكم زكاة الذهب وزكاة البقر , أو علماه ورأياه منسوخا , فلم يلتفتوا هنالك إلى قولهما , وقلدوهما هاهنا , وهذا كما ترون ونسأل الله العاقبة ورأى مالك , والشافعي : أن لا يقضى باليمين والشاهد , إلا في الأموال. قال مالك : وفي القسامة وهذا لا معنى له ; لأنه تخصيص للخبر بلا دليل.
**
1791 - مسألة: ولا يجوز أن يقبل كافر أصلا , لا على كافر , ولا على مسلم حاش الوصية في السفر فقط , فإنه يقبل في ذلك مسلمان , أو كافران من أي دين كانا أو كافر وكافرتان , أو أربع كوافر. ويحلف الكفار هاهنا مع شهادتهم ، ولا بد بعد الصلاة أي صلاة كانت ولو أنها العصر لكان أحب إلينا بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ثم يحكم بما شهدوا به , فإن جاءت بينة مسلمون : بأن الكفار كذبوا : حلف المسلمان الشاهدان , أو المسلم والمرأتان , أو الأربع نسوة بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ثم يفسخ ما شهد به الكفار.
برهان ذلك : قول الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} والكافر فاسق فوجب أن لا يقبل.
وقال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} الآية فوجب أخذ حكم الله تعالى كله , وأن يستثني الأخص من الأعم , ليتوصل بذلك إلى طاعة الجميع , ومن تعدى هذا الطريق فقد خالف بعض أوامر الله تعالى : وهذا لا يحل :
روينا من طريق محمد بن إسحاق عن أبي النضر عن زاذان مولى أم هانئ ، عن ابن عباس عن تميم الداري في قول الله عز وجل: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} الآية , قال : برئ الناس منها غيري , وغير عدي بن بداء , وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام , فأتيا إلى الشام , وقدم عليهما بديل بن أبي مريم مولى بني سهم , ومعه جام من فضة يريد به الملك هو عظم تجارته , فمرض ; فأوصى إليها , قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء , فلما قدمنا دفعناه إلى أهله , فسألوا عن الجام .
فقلنا : ما دفع إلينا غير هذا , فلما أسلمت بعد قدوم النبي ﷺ المدينة تأثمت من ذلك , فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر , وأديت إليهم خمسمائة درهم , وأخبرتهم : أن عند صاحبي مثلها , فأتوا به النبي ﷺ فسألهم البينة فلم يجدوا , فأحلفه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله عز وجل : {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} الآية , فحلف عمرو بن العاص وواحد منهم , فنزعت الخمسمائة درهم من عدي بن بداء.
ومن طريق يحيى بن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كان تميم الداري , وعدي بن بداء : يختلفان إلى مكة للتجارة فخرج معهم رجل من بني سهم , فتوفي بأرض ليس فيها مسلم , فأوصى إليهما , فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة , مخوصا بالذهب , ففقده أولياؤه , فأتوا رسول الله ﷺ فاستحلفهما رسول الله ﷺ ما كتمنا , ولا اطلعنا , ثم عرف الجام بمكة , فقالوا : اشتريناه من تميم , وعدي , فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله إن هذا لجام السهمي , لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين فأخذا الجام , وفيهم نزلت هذه الآية. وبقولنا يقول جهور السلف :
روينا من طريق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : أن آخر سورة نزلت سورة المائدة , فما وجدتم فيها حلالا فحللوه , وما وجدتم فيها حراما فحرموه , وهذه الآية في المائدة فبطل أنها منسوخة وصح أنها محكمة.
ومن طريق ابن عباس ، أنه قال في هذه الآية : هذا لمن مات وعنده المسلمون فأمره الله عز وجل أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين , ثم قال عز وجل : {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين , فأمره الله تعالى أن يشهد على وصيته رجلين من غير المسلمين , فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله لا نشتري بشهادتنا ثمنا قليلا فإذا اطلع الأوليان على الكافرين كذبا حلفا : بالله إن شهادة الكافرين باطل , وإنا لم نغدر.
ومن طريق ابن عباس أيضا : في قوله تعالى : {أو آخران من غيركم} قال : من غير المسلمين من أهل الكتاب.
وروينا من طريق سعيد بن منصور , وزياد بن أيوب , قالا جميعا : ، حدثنا هشيم ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي : أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة " بدقوقا " فلم يجد أحدا من المسلمين يشهد على وصيته , فأشهد رجلين من أهل الكتاب , فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال أبو موسى : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله ﷺ فأحلفهما بعد العصر " بالله ما خانا ، ولا كذبا ، ولا بدلا ، ولا كتما , ولا غيبا , وأنها لوصية الرجل وتركته " فأمضى أبو موسى شهادتهما.
ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي ميسرة هو عمرو بن شرحبيل قال : لم ينسخ من سورة المائدة شيء.
ومن طريق وكيع عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب في قول الله عز وجل أو آخران من غيركم قال : من أهل الكتاب.
ومن طريق سعيد بن منصور ، حدثنا هشيم ، حدثنا سليمان التيمي عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى : {أو آخران من غيركم} قال : من غير أهل ملتكم.
ومن طريق وكيع عن عبد الله بن عون ، عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني في قول الله تعالى : {أو آخران من غيركم} قال : من غير أهل الملة.
ومن طريق سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن شريح قال : لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية , ولا تجوز في وصية إلا أن يكون مسافرا.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني , إلا في السفر , ولا تجوز في السفر إلا في الوصية.
ومن طريق سعيد بن منصور ، حدثنا خالد بن عبد الله الطحان عن داود الطائي عن الشعبي عن شريح قال : إذا مات الرجل في أرض غربة , ولم يجد مسلما فأشهد من غير المسلمين شاهدين , فشهادتهما جائزة , فإن جاء مسلمان فشهدا بخلاف ذلك أخذ بشهادة المسلمين وتركت شهادتهما.
ومن طريق سعيد بن منصور ، حدثنا هشيم ، حدثنا المغيرة عن إبراهيم النخعي في قول الله تعالى : {أو آخران من غيركم} قال : من غير أهل ملتكم.
ومن طريق شعبة ، حدثنا أبو بشر هو جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير قال : أو آخران من غيركم قال : إذا كان بأرض الشرك فأوصى إلى رجل من أهل الكتاب فإنهما يحلفان بعد العصر , فإن اطلع بعد حلفهما على أنهما خانا حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا واستحقوا.
ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي قال : ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا عمر بن علي المقدمي عن الأشعث عن الشعبي : أو آخران من غيركم قال : من اليهود والنصارى.
ومن طريق إسماعيل أيضا ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : اثنان ذوا عدل منكم من أهل الملة : أو آخران من غيركم قال : من غير أهل الملة.
ومن طريق إسماعيل ، حدثنا محمود بن خداش ، حدثنا هشيم ، حدثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز في قول الله تعالى : {أو آخران من غيركم} قال : من غير أهل الملة.
ومن طريق إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن الحجاج ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، حدثنا إسحاق بن سويد عن يحيى بن يعمر في قول الله تعالى : {أو آخران من غيركم} قال : من غير أهل الملة.
ومن طريق الطحاوي ، حدثنا محمد بن خزيمة ، حدثنا حجاج بن المنهال , وعثمان بن الهيثم قال الحجاج : ، حدثنا أبو هلال الراسبي , وقال عثمان : ، حدثنا عوف بن أبي جميلة , كلاهما عن محمد بن سيرين في قوله تعالى : {أو آخران من غيركم} قال : من غير المسلمين. فهؤلاء : أم المؤمنين , وأبو موسى الأشعري , وابن عباس
وروي أيضا نحو ذلك عن علي ، رضي الله عنهم ، ولا مخالف لهم من الصحابة ، رضي الله عنهم ،. ومن التابعين عمرو بن شرحبيل , وشريح , وعبيدة السلماني , ، وإبراهيم النخعي , والشعبي , وسعيد بن جبير , وسعيد بن المسيب , ومجاهد , وأبو مجلز , وابن سيرين , ويحيى بن يعمر , وغيرهم , كابن أبي ليلى , وسفيان الثوري , ويحيى بن حمزة , والأوزاعي , وأبي عبيد , وأحمد بن حنبل , وجمهور أصحاب الحديث.
وبه يقول أبو سليمان وجميع أصحابنا , وخالفهم آخرون فروينا عن الحسن ، أنه قال , أو آخران من غيركم من غير قبيلتكم.
وروي عن الزهري نحو هذا ، أنه قال : من أهل الميراث , وأنه توقف في ذلك
وروي أيضا : عن عكرمة.
وروينا عن زيد بن أسلم أنها منسوخة وعن إبراهيم أيضا مثل ذلك.
قال أبو محمد : أما دعوى النسخ فباطل , لا يحل أن يقال في آية إنها منسوخة لا تحل طاعتها والعمل بها إلا بنص صحيح , أو ضرورة مانعة , وليس هاهنا شيء من ذلك ,
ولو جاز مثل هذا لما عجز أحد عن أن يدعي فيما شاء من القرآن أنه منسوخ , وهذا لا يحل.
وأما من قال : من غير قبيلتكم فقول ظاهر الفساد , والبطلان , لأنه ليس في أول الآية خطاب لقبيلة دون قبيلة إنما
أولها : يا أيها الذين آمنوا ، ولا يشك منصف في أن غير الذين آمنوا هم الذين لم يؤمنوا , ولكنها من الحسن زلة عالم لم يتدبرها. وقال المخالفون : نحن نهينا عن قبول شهادة الفاسق , والكافر أفسق الفساق .
فقلنا : الذي نهانا عن قبول شهادة الفاسق هو الذي أمرنا بقبول شهادة الكافر في الوصية في السفر فنقف عند أمريه جميعا , وليس أحدهما بأولى بالطاعة من الآخر.
ومن عجائب الدنيا التي لا نظير لها : أن المحتجين بهذا هم الحنفيون , والمالكيون , والشافعيون.
فأما الحنفيون : فأجازوا شهادة الكفار في كل شيء بعضهم على بعض بغير أمر من الله تعالى بذلك , بل خالفوا القرآن في نهيه عن قبول نبأ الفاسق ثم خالفوه في قبول الكفار في السفر فاعجبوا لهذه الفضائح , والمضادة لله تعالى.
وأما المالكيون : فأجازوا شهادة طبيبين كافرين حيث لا يوجد طبيب مسلم بغير أمر من الله تعالى بذلك , بل خالفوا القرآن في كلا الوجهين , كما ذكرنا.
وقال بعضهم : الوصية يكون فيها إقرار بدين فلما نسخ ذلك من الآية دل على نسخ سائر ذلك .
فقلنا : كذبتم ما سمى الله تعالى قط الإقرار بالدين وصية ; لأن الوصية من الثلث , والإقرار بالدين من رأس المال , وما دخل قط الإقرار بالدين في الوصية , ولا نسخ من الآية شيء ثم لهم بعد هذا أهذار يشبه تخليط المبرسمين لا معنى لها , وهذا مما خالفوا فيه جمهور العلماء والصحابة , ولا مخالف لهم من الصحابة , وهم يعظمون ذلك إذا وافق أهواءهم. وذكروا خبرا : رويناه من طريق عمر بن راشد اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة " أن النبي ﷺ قال : (لا تجوز شهادة ملة على ملة إلا ملة محمد فإنها تجوز على غيرهم).
قال أبو محمد : عمر بن راشد ساقط , وهذا خبر أول من خالفه أبو حنيفة لأنه يجيز شهادة اليهودي على النصراني ومالك , فإنه يجيز شهادة الكفار الأطباء على المسلمين ، ولا ندري من أين وقع لهم هذا التخصيص للأطباء دون سائر من يضطر إليه من الشهادات من النكاح , والطلاق , والدماء [ والحدود ] والأموال , والعتق وما نعلم هذا التفريق عن أحد قبله.
وأما شهادة الكفار في غير ذلك , فطائفة : منعت من ذلك جملة
وهو قولنا. وطائفة أجازتها على الكفار , ولم يراعوا اختلاف مللهم. وطائفة أجازت شهادة كل ملة على مثلها ولم تجزها على غير مثلها.
فأما قولنا فقد ذكرناه عن جماعة من السلف.
وأما القول الثاني : فصح من طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن عمرو بن ميمون بن مهران عن عمر بن عبد العزيز : أنه أجاز شهادة نصراني على مجوسي , أو مجوسي على نصراني. وصح من طريق شعبة عن حماد بن أبي سليمان ، أنه قال : تجوز شهادة النصراني على اليهودي , واليهودي على النصراني هم كلهم أهل الشرك. وصح أيضا هذا عن الشعبي , وشريح , وإبراهيم النخعي.
ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا زيد بن الحباب عن عون بن معمر عن إبراهيم الصائغ قال : سألت نافعا هو مولى بن عمر عن شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض فقال : تجوز.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر قال : سألت الزهري عن شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض فقال : تجوز ,
وهو قول سفيان الثوري , ووكيع , وأبي حنيفة , وأصحابه , وعثمان البتي. والثالث :
كما روينا من طريق أبي عبيد عن أبي الأسود ، عن ابن لهيعة عن عمرو بن الحارث عن قتادة : أن علي بن أبي طالب قال : تجوز شهادة النصراني على النصراني.
ومن طريق أبي عبيد عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب الزهري قال : تجوز شهادة النصراني على النصراني , واليهودي على اليهودي , ولا تجوز شهادة أحدهما على الآخر.
ومن طريق ابن وهب عن معاوية بن صالح : أنه سمع يحيى بن سعيد الأنصاري يقول : لا تجوز شهادة النصراني على اليهودي , ولا شهادة اليهودي على النصراني.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة , وربيعة بن أبي عبد الرحمن كلاهما قال : تجوز شهادة اليهودي على اليهودي , ولا تجوز على النصراني , ولا تجوز شهادة النصراني على اليهودي.
ومن طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة : لا تجوز شهادة اليهودي على النصراني , ولا النصراني على اليهودي.
ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا ابن علية عن يونس عن الحسن قال : إذا اختلفت الملل لم تجز شهادة بعضهم على بعض.
ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا ابن إدريس عن الليث عن عطاء قال : لا تجوز شهادة اليهودي على النصراني , ولا النصراني على المجوسي , ولا ملة على غير ملتها إلا المسلمين.
ومن طريق وكيع عن سفيان عن داود عن الشعبي لا تجوز شهادة ملة على ملة إلا المسلمين.
ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا ابن علية عن معمر عن الزهري قال : لا تجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض.
ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا حفص عن أشعث ، حدثنا حماد عن إبراهيم النخعي قال : لا تجوز شهادة أهل ملة إلا على أهل ملتها : اليهودي على اليهودي , والنصراني على النصراني.
ومن طريق وكيع عن عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف : لا تجوز شهادة ملة على ملة إلا المسلمين قال وكيع :
وهو قول ابن أبي ليلى.
قال أبو محمد : وهو قول الأوزاعي , والليث , والحسن بن حي.
قال علي : فروي كلا القولين كما أوردنا عن حماد بن أبي سليمان , والزهري , والشعبي , والنخعي
وروي القول الأول : عن نافع.
وروي الثاني : عن يحيى بن سعيد الأنصاري , وأبي سلمة بن عبد الرحمن وربيعة الرأي , وقتادة , والحسن , وعطاء.
قال أبو محمد : ولا يصح عن علي أصلا ; لأنه ، عن ابن لهيعة , ثم هو أيضا منقطع
قال علي : أما قول أبي حنيفة : فلم يرو لا صحيحا ، ولا سقيما عن أحد من الصحابة , فهو خلاف لكل ما جاء في هذه المسألة عن الصحابة.
وأما مالك : فخالف شيوخه المدنيين : أبا سلمة بن عبد الرحمن , ونافعا , والزهري ; وربيعة , ويحيى بن سعيد الأنصاري وهم يعظمون هذا إذا وافق رأي صاحبهم.
واحتج من أجاز قبول شهادة بعضهم على بعض بما رويناه من طريق الطحاوي : ، حدثنا روح بن الفرج ، حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان الرازي ، حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر قال في حديث اليهوديين اللذين زنيا لليهود : ائتوني بالشهود فشهد أربعة منهم على ذلك , فرجمهما النبي ﷺ .
قال أبو محمد : مجالد هالك ;
روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان ، أنه قال : لو شئت أن يجعلها لي مجالد كلها عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله لفعل. وعن شعبة : أستخير الله وأدمر على مجالد. وعن أحمد بن حنبل : إن مجالدا يزيد في الإسناد. وعن ابن معين : مجالد لا يحتج بحديثه. والعجب كله من احتجاجهم بقول الله تعالى : {إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية} وهم أول مخالف لهذه الآية وقالوا ظاهرها جوازها على المسلمين والكفار في كل شيء , ثم نسخت عن المسلمين , فبقيت على الكفار.
قال أبو محمد : وهذا تجليح منهم بالكذب على الله تعالى جهارا مرارا. إحداها دعوى النسخ بلا
برهان. والثانية قولهم : إن ظاهرها جواز شهادتهم في كل شيء , وليس في الآية إلا عند حضور الموت حين الوصية فقط , ثم تحليفهما , ثم تحليف المسلمين الشاهدين بخلاف شهادتهما , فما رأيت أقل حياء ممن قال ما ذكرنا ونعوذ بالله من الخذلان والأستخفاف بالكذب على القرآن. والثالثة قولهم : نسخت عن المسلمين وبقيت على الكفار وهذا باطل لأن الدين كله واحد علينا وعلى الكفار , ولا يحل لأحد أن يحكم عليهم ، ولا لهم , إلا بحكم الإسلام لنا وعلينا , إلا حيث جاء النص بالفرق بيننا وبينهم وبالله تعالى التوفيق.
1792 - مسألة: وشهادة العبد والأمة مقبولة في كل شيء لسيدهما ولغيره كشهادة الحر والحرة ، ولا فرق. وقد اختلف الناس في هذا : فصح
ما روينا من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب : أن عثمان بن عفان قضى في الصغير يشهد بعد كبره , والنصراني بعد إسلامه , والعبد بعد عتقه : أنها جائزة إن لم تكن ردت عليهم.
وروينا من طريق عمرو بن شعيب , وعطاء عن عمر بن الخطاب مثل ذلك.
وروينا ذلك في شهادة العبد من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر عن عمرو بن سليم ، عن ابن المسيب عن عمر.
ومن طريق الحجاج بن أرطاة عن عطاء ، عن ابن عباس : لا تجوز شهادة العبد.
ومن طريق أبي عبيد عن حسان بن إبراهيم الكرماني عن إبراهيم الصائغ عن نافع ، عن ابن عمر : لا تجوز شهادة المكاتب ما بقي عليه درهم.
وروينا من طريق ابن أبي شيبة ، عن ابن المبارك , ووكيع قال ابن المبارك : عن ابن جريج عن عطاء , وقال وكيع : عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي قالا جميعا : لا تجوز شهادة العبد.
ومن طريق ابن أبي شيبة ، عن ابن المبارك عن محمد بن راشد عن مكحول لا تجوز شهادة العبد.
ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : شهيدين من رجالكم قال : من الأحرار قال وكيع : ولا يجيز سفيان شهادة عبد
وهو قول وكيع.
ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا عيسى بن يونس , ، ووكيع , وعبد الرحمن بن مهدي , ومعاذ بن معاذ , قال عيسى : عن الأوزاعي عن الزهري , وقال وكيع : عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم النخعي , وقال عبد الرحمن بن مهدي : عن حماد بن سلمة , وأبي عوانة , قال أبو عوانة : عن عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه , وقال حماد بن سلمة : عن قتادة عن شريح , وقال معاذ بن معاذ : عن أشعث ، هو ابن عبد الملك الحمراني عن الحسن البصري , وقالوا كلهم : في العبد يؤدي الشهادة فترد ثم يعتق فيشهد بها : أنها لا تجوز , إلا الحسن , والحكم فإنهما قالا : إنها تجوز.
ومن طريق أبي عبيد عن عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل بن يونس عن منصور عن مجاهد قال : أهل مكة , وأهل المدينة : لا يجيزون شهادة العبد.
ومن طريق شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال : لا تجوز شهادة المكاتب , ولا يرث
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : إذا شهد العبد فردت شهادته , ثم أعتق فشهد بها لم تقبل
وروي ذلك عن فقهاء المدينة السبعة
وهو قول أبي الزناد.
وبه يقول أبو حنيفة ومالك , والشافعي , وابن أبي ليلى , والحسن بن حي , وأبو عبيد , وأحد قولي ابن شبرمة. وأجازت طائفة شهادة العبد في بعض الأحوال , وردتها في بعض :
كما روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي ، حدثنا علي بن المديني , وسليمان بن حرب , ، وإبراهيم الهروي ,
قال علي عن جرير عن منصور عن إبراهيم عن شريح , وقال سليمان : عن أبي عوانة عن مطرف بن طريف عن الشعبي وقال الهروي : عن هشام أنا مغيرة عن إبراهيم : إنهم ثلاثتهم كانوا يجيزون شهادة العبد في الشيء اليسير.
ومن طريق عبد الرزاق ، حدثنا محمد بن يحيى المازني عن سفيان الثوري عن إبراهيم النخعي قال : لا تجوز شهادة العبد لسيده , وتجوز لغيره.
ومن طريق جابر الجعفي عن الشعبي في العبد يعتق بعضه أن شهادته جائزة. وأجازت طائفة شهادته في كل شيء كالحر :
كما روينا من طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا حفص بن غياث النخعي عن أشعث عن الشعبي قال : قال شريح : لا تجوز شهادة العبد ;
فقال علي : لكنا نجيزها , فكان شريح بعد ذلك يجيزها إلا لسيده.
وبه إلى ابن أبي شيبة ، حدثنا حفص بن غياث عن المختار بن فلفل قال : سألت أنس بن مالك عن شهادة العبد فقال : جائزة.
ومن طريق وكيع ، حدثنا سفيان الثوري عن عمار الدهني قال : شهدت شريحا شهد عنده عبد على دار فأجاز شهادته فقيل : إنه عبد فقال شريح : كلنا عبيد وإماء.
ومن طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين : أنه كان لا يرى بشهادة المملوك بأسا إذا كان عدلا
ومن طريق ابن الجهم عن إسماعيل بن إسحاق القاضي ، حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن يعقوب عن عطاء بن أبي رباح قال : شهادة العبد , والمرأة جائزة في النكاح , والطلاق. كتب إلي عبد الله بن عبد الواحد عن الحسن بن عبد الواحد قال : ، حدثنا أبو مسلم الكاتب ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن المغلس ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا عفان بن مسلم قال : ، حدثنا حماد بن سلمة قال : سئل إياس بن معاوية عن شهادة العبد قال : أنا أرد شهادة عبد العزيز بن صهيب على الإنكار لردها.
قال أبو محمد :
وهو قول زرارة بن أوفى , وعثمان البتي , وأبي ثور , وأحمد بن حنبل , وإسحاق بن راهويه , وأبي سليمان , وأصحابهم , وأحد قولي ابن شبرمة.
قال علي : أما قول عمر , وعثمان الذي صدرنا به فهو على الحنفيين , والمالكيين , والشافعيين لا لهم ; لأنهم خالفوهما في الصبي يشهد فيرد , ثم يبلغ فيشهد. فقالوا : يقبل. ومن الباطل أن يكون بعض قول عمر وعثمان حجة , وبعضه غير حجة , وهذا تلاعب بالدين ممن سلك هذا الطريق وهو ، عن ابن عباس لا يصح ; لأنه عن الحجاج بن أرطاة , فلم يبق لهم إلا ابن عمر , وقد صح خلافه عن أنس فبطل تعلقهم بالآثار , وبقي الأحتجاج بالقرآن والسنة.
قال أبو محمد : أما قول مجاهد ومن اتبعه : شهيدين من رجالكم من الأحرار , فباطل وزلة عالم , وتخصيص لكلام الله تعالى بلا
برهان , وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم : أن العبيد رجال من رجالنا , وأن الإماء نساء من نسائنا , قال تعالى : {نساؤكم حرث لكم} فدخل في ذلك بلا خلاف الحرائر والإماء فظهر فساد هذا القول , وإنما خاطب الله تعالى في أول الآية الذين آمنوا : والعبيد , بلا خلاف منهم , فهم في جملة المخاطبين بالمداينة , والإشهاد والشهادة.
واحتج بعضهم بقول الله تعالى : {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء}
قال أبو محمد : تحريف كلام الله تعالى عن مواضعه مهلك في الدنيا والآخرة , ولم يقل تعالى : إن كل عبد فهو لا يقدر على شيء , إنما ضرب الله تعالى المثل بعبد من عباده هذه صفته , وقد توجد هذه الصفة في كثير من الأحرار , ومن نسب غير هذا إلى الله تعالى فقد كذب عليه جهارا , وأتى بأكبر الكبائر ; لأن الله تعالى لا يقول إلا حقا , وبالمشاهدة نعرف كثيرا من العبيد أقدر على الأشياء من كثير من الأحرار. ونقول لهم : هل يلزم العبيد الصلاة , والصيام , والطهارة , ويحرم عليهم من المآكل , والمشارب , والفروج , كل ما يحرم على الأحرار , فمن قولهم : نعم , فقد أكذبوا أنفسهم , وشهدوا بأنهم يقدرون على أشياء كثيرة فبطل تعلقهم وتمويههم بهذه الآية. وقالوا : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا. قالوا : والعبد لا يقدر على أداء الشهادة ; لأنه مكلف خدمة سيده. .
فقلنا : كذب من قال هذا , بل هو قادر على أداء الشهادة كما يقدر على الصلاة , وعلى النهوض إلى من يتعلم منه ما يلزمه من الدين. ولو سقط عن العبد القيام بالشهادة لشغله بخدمة سيده لسقط أيضا عن الحرة ذات الزوج لشغلها بملازمة زوجها.
وقال بعضهم : العبد سلعة وكيف تشهد سلعة .
فقلنا : فكان ماذا تشهد السلعة , كما يلزم السلعة الصلاة , والصيام , والقول بالحق وما نعلم لهم في هذه المسألة متعلقا , لا بقرآن , ولا بسنة , ولا رواية صحيحة , ولا سقيمة , ولا نظر ، ولا معقول , ولا قياس , إلا بتخاليط في غاية الفساد , وأهذار باردة
وقد تقصينا هذا في " كتاب الإيصال " والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد : وكل نص في قرآن أو سنة في شيء من أحكام الشهادات فكلها شاهدة بصحة قولنا , إذ لو أراد الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام تخصيص عبد من حر في ذلك لكان مقدورا عليه : وما كان ربك نسيا قال تعالى : {ممن ترضون من الشهداء}.
وقال تعالى : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه}. فلم يختلف مسلمان قط في أن هذا خير يدخل فيه العبيد والإماء كدخول الأحرار والحرائر , وحرام على كل أحد أن لا يرضى عمن أخبر الله تعالى أنه قد رضي عنه , فإذ قد رضي الله عن العبد المؤمن العامل بالصالحات , ففرض علينا أن نرضى عنه , وإذ فرض علينا أن نرضى عنه , ففرض علينا قبول شهادته.
وأما من ردها لسيده فإنه قال : قد يجبره سيده على الشهادة له.
قلنا : لو كان هذا مانعا من قبول العبد لسيده لكان مانعا من قبول أحد من المسلمين للإمام إذا شهد له ; لأن الإمام أقدر على رعيته من السيد على عبده ; لأن العبد تعديه جميع الحكام على سيده إذا تظلم منه ويحولون بينه وبين أذاه , ولا يقدر أحد على أن يحول بين الإمام والرجل من رعيته , فظهر فساد قول مخالفينا والحمد لله رب العالمين.
**
1793 - مسألة: وكل عدل فهو مقبول لكل أحد وعليه , كالأب والأم لأبنيهما , ولأبيهما والأبن والأبنة للأبوين والأجداد , والجدات , والجد , والجدة لبني بنيهما , والزوج لأمرأته , والمرأة لزوجها ,
وكذلك سائر الأقارب بعضهم لبعض , كالأباعد ، ولا فرق.
وكذلك الصديق الملاطف لصديقه , والأجير لمستأجره , والمكفول لكافله , والمستأجر لأجيره , والكافل لمكفوله , والوصي ليتيمه. وفيما ذكرنا خلاف : فروينا من طريق لا تصح عن شريح أنه لا يقبل الأب لأبنه , ولا الأبن لأبيه , ولا أحد الزوجين للآخر. وصح هذا كله عن إبراهيم النخعي , وعن الحسن , والشعبي في أحد قوليهما في الأب , والأبن.
وروي عن الحسن , والشعبي : قول آخر , وهو أن الولد يقبل لأبيه , ولا يقبل الأب لأبنه ; لأنه يأخذ ماله متى شاء , وأن الزوج يقبل لأمرأته ، ولا تقبل هي له
وهو قول ابن أبي ليلى , وسفيان الثوري. ولم يجز الأوزاعي , والثوري , وأحمد بن حنبل , وأبو عبيد الأب للأبن , ولا الأبن للأب. وأجازوا الجد والجدة لأولاد بنيهما , وأولاد بنيهما لهما. ولم يجز أبو حنيفة , ومالك , والشافعي أحدا من هؤلاء , إلا أن الشافعي أجاز كل واحد من الزوجين للآخر.
وأما من روي عنه إجازة كل ذلك : فكما روينا من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر بن أبي سبرة عن أبي الزناد عن عبد الله بن عامر بن ربيعة , قال : قال عمر بن الخطاب : تجوز شهادة الوالد لولده , والولد لوالده , والأخ لأخيه. وعن عمرو بن سليم الزرقي عن سعيد بن المسيب مثل هذا.
وروي : أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه شهد لفاطمة رضي الله عنها عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومعه أم أيمن فقال له أبو بكر : لو شهد معك رجل أو امرأة أخرى لقضيت لها بذلك.
ومن طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد عن الزهري قال : لم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح شهادة الوالد لولده , ولا الولد لوالده , ولا الأخ لأخيه , ولا الزوج لأمرأته ثم دخل الناس بعد ذلك , فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم , فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من قرابة وصار ذلك من الولد , والوالد , والأخ , والزوج , والمرأة , لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان.
ومن طريق أبي عبيد ، حدثنا الحسن بن عازب عن جده شبيب بن غرقدة قال : كنت جالسا عند شريح , فأتاه علي بن كاهل , وامرأة وخصم لها , فشهد لها علي بن كاهل وهو زوجها وشهد لها أبوها , فأجاز شريح شهادتهما , فقال الخصم : هذا أبوها , وهذا زوجها. فقال له شريح : هل تعلم شيئا تجرح به شهادتهما كل مسلم شهادته جائزة.
ومن طريق عبد الرزاق ، حدثنا سفيان بن عيينة عن شبيب بن غرقدة قال : سمعت شريحا : أجاز لأمرأة شهادة أبيها وزوجها فقال الرجل : إنه أبوها وزوجها. فقال شريح : فمن يشهد للمرأة إلا أبوها وزوجها.
ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا شبابة ، عن ابن أبي ذئب عن سليمان بن أبي سليمان , قال : شهدت لأمي عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم , فقضى بشهادتي.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الرحمن بن عبد الله الأنصاري قال : أجاز عمر بن عبد العزيز شهادة الأبن لأبيه إذا كان عدلا. فهؤلاء : عمر بن الخطاب , وجميع الصحابة , وشريح , وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. وبهذا يقول إياس بن معاوية , وعثمان البتي , وإسحاق بن راهويه , وأبو ثور , والمزني , وأبو سليمان , وجميع أصحابنا. ورأى الشافعي : وأصحابه : قبول شهادة الزوجين : كل واحد منهما للآخر ورأى الأوزاعي : أن لا يقبل الأخ لأخيه. وذكر ذلك الزهري عن المتأخرين من الولاة الذين ردوا الأب لأبنه والأبن لأبيه , وأحد الزوجين لصاحبه. وأجاز أبو حنيفة , والشافعي : الأخ لأخيه. وأجاز مالك لأخيه إلا في النسب خاصة. ورد مالك شهادة الصديق الملاطف لصديقه
قال أبو محمد : احتج المخالفون لنا بما روينا من طريق أبي عبيد ، حدثنا مروان بن معاوية عن يزيد الجزري , قال : أحسبه يزيد بن سنان عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي ﷺ : لا تجوز شهادة خائن ، ولا خائنة , ولا ظنين في ولاء أو قرابة , ولا مجلود في حد.
قال أبو محمد : وهذا عليهم لا لهم لوجوه :
أولها أنه لا يصح لأنه عن يزيد وهو مجهول فإن كان يزيد بن سنان فهو معروف بالكذب , ثم لو صح لكانوا أول مخالف له في موضعين : أحدهما تفريقهم بين الأخ والأب , وبين العم وابن الأخ , وبين الأب والأبن وكلهم سواء إذ هم متقاربون في التهمة بالقرابة. وكلهم يجيز المولى لمولاه وهذا خلاف الخبر. وكلهم يجيز المجلود في الحد إذا تاب وهو خلاف هذا الخبر فمن أضل سبيلا , أو أفسد دليلا ممن يحتج بخبر هو حجة عليه , وهو مخالف له. وذكروا : ما رويناه عن وكيع عن عبد الله بن أبي حميد قال : كتب عمر إلى أبي موسى : المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد , أو مجربا عليه شهادة زور , أو ظنينا في ولاء , أو في قرابة , والقول في هذا كالذي قبله من أنه لم يصح قط عن عمر , ثم قد خالفوه كما ذكرنا سواء والأثبت عن عمر : قبول الأب لأبنه.
ومن عجائب الدنيا : احتجاجهم في هذا بالخبر الثابت من قول النبي ﷺ : أنت ومالك لأبيك. ومن أمره هندا بأخذ قوتها من مال زوجها. وهم أول مخالف لهذين الخبرين وهذا عجب جدا.
وأما نحن فنصححهما , ونقول : ليس فيهما منع من قبول شهادة الأبن لأبويه , ولا من قبول الأبوين له وإن كان هو وماله لهما فكان ماذا ونحن كلنا لله تعالى وأموالنا وقد أمرنا بأن نشهد له عز وجل , فقال عز وجل : {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} وكل ذي حق فهو مأمور بأخذ حقه ممن هو له عنده متى قدر على ذلك أجنبيا كان أو غير أجنبي ومن لم يفعل ذلك فقد عصى الله عز وجل وأعان على الإثم والعدوان وقدر على تغيير منكر فلم يفعل بل أقر المنكر والباطل والحرام ولم يغير شيئا من ذلك , ومن أغرب ما وقع : احتجاج بعضهم في هذا بقول الله تعالى : {أن اشكر لي ولوالديك}.
قال أبو محمد : وهذه أعظم حجة عليهم ; لأن من الشكر لهما بعد شكر الله تعالى : أن يشهد لهما بالحق , وليس من الشكر لهما أن يشهد لهما بالباطل. وقد
قال الله عز وجل : {وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} فقد سوى الله تعالى بين كل من ذكرنا في وجوب الإحسان إليهم , فيلزم من اتهمه لذلك في الوالدين , وفي بعض ذوي القربى والصاحب بالجنب , وما ملكت يمينه : أن يتهمه في سائرهم , فلا يقبل شهادة أحدهم لقريب جملة , ولا لجار , ولا لأبن سبيل , ولا ليتيم , ولا لمسكين , وإلا فقد تلوثوا في التخليط بالباطل ما شاءوا , فلم يبق في أيديهم إلا التهمة , والتهمة لا تحل. وبالضرورة ندري أن من حملته قرابة أبويه وبنيه وامرأته على أن يشهد لهم بالباطل فمضمون منعه قطعا أن يشهد لمن يرشوه من الأباعد لا فرق. وليس للتهمة في الإسلام مدخل ونحن نسألهم عن أبي ذر , وأم سلمة أم المؤمنين : لو ادعيا على يهودي بدرهم بحق , أتقضون لهما بدعواهما
فإن قالوا : نعم , خالفوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وإجماع الأمة المتيقن وتركوا قولهم.
وإن قالوا : لا ,
قلنا : سبحان الله , والله ما على أديم الأرض من يقول : إنه مسلم يتهم أبا ذر , وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما يدعيان الباطل في الدنيا بأسرها , فكيف في درهم على يهودي ثم نسألهم أتبرئون اليهودي الكذاب المشهور بالفسق بيمينه من دعواهما فمن قولهم : نعم ,
قلنا لهم : وهل مقر التهمة , والظنة , إلا في الكفار المتيقن كذبهم على الله تعالى وعلى رسوله عليه الصلاة والسلام. والعجب كله : من إعطاء مالك , والشافعي : المدعي المال العظيم بدعواه ويمينه , وإن كان أشهر في الكذب والمجون من حاتم في الجود , إذا أبى المدعى عليه من اليمين , وإعطاء أبي حنيفة إياه ذلك بدعواه المجردة بلا بينة ، ولا يمين , ولا يتهمونه برأيهم : لا بقرآن ، ولا بسنة , ثم يتهمون الناسك الفاضل البر التقي في شهادته لأبنه , أو لأمرأته أو لأبيه بدرهم نبرأ إلى الله تعالى من هذه المذاهب التي لا شيء أفسد منها.
قال أبو محمد : وهم يشنعون بخلاف الصاحب لا يعرف له مخالف , وقد خالفوه هاهنا , ولا يعرف له من الصحابة مخالف. ثم قد حكى الزهري : أنه لم يختلف الصدر الأول في قبول الأب لأبنه والزوجين أحدهما للآخر , والقرابة بعضهم لبعض حتى دخلت في الناس الداخلة وهذا إخبار عن إجماع الصحابة ، رضي الله عنهم ، فكيف استجازوا خلافهم لظن فاسد من المتأخرين. ثم ليت شعري : ما الذي حدث مما لم يكن , والله لقد كان على عهد رسول الله ﷺ المنافقون الذين هم شر خلق الله عز وجل والكفار , والزناة , والسراق , والكذابون , فما ندري ما الذي حدث , وحاش لله تعالى أن يحدث شيء بغير الشريعة. ونحن نشهد بشهادة الله عز وجل : أنه تعالى لو أراد أن لا يقبل أحد ممن ذكرنا لمن شهد له لبينه وما أغفله فظهر فساد قول مخالفينا بيقين لا مرية فيه.
وأعجب شيء أنهم أجازوا الأخ لأخيه والزهري يحكي عن المتأخرين اتهامهم له , فقد خالفوا من تقدم ومن تأخر , وكفى بهذا شنعة. وبالله تعالى التوفيق.
1794 - مسألة: ومن شهد على عدوه نظر , فإن كان تخرجه عداوته له إلى ما لا يحل فهي جرحة فيه ترد شهادته لكل أحد , وفي كل شيء وإن كان لا تخرجه عداوته إلى ما لا يحل فهو عدل يقبل عليه وهذا قول أبي سليمان , وأصحابنا.
وقال أبو حنيفة : لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره في شيء أصلا
وهو قول الأوزاعي.
وقال مالك كذلك , إلا أن يكون عدلا مبرزا في العدالة , إلا أن يكون في عياله فلا تجوز شهادته له.
وقال الشافعي : لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره فيما استأجره فيه خاصة , وتجوز له فيما عدا ذلك
وهو قول سفيان الثوري , وأبي ثور.
وكذلك قالوا : في الوكيل سواء سواء.
وقال مالك : إن كان منضافا إليه لم يقبل له , ولم تجز شهادة العدو على عدوه.
وقال أبو حنيفة , ومالك : لا تقبل شهادة الخصم , لا للذي وكله , ولا للذي وكل على أن يخاصمه.
وقال أبو حنيفة , والشافعي : تجوز شهادة الفقراء والسؤال
وقال مالك : لا تجوز إلا في الشيء اليسير. وقال ابن أبي ليلى : لا تقبل شهادة فقير وأشار شريك إلى ذلك.
قال أبو محمد : كل من ذكرنا في هؤلاء مقبولون لكل من ذكرنا , كالأجنبيين ، ولا فرق.
واحتج المخالف بما روينا عن النبي ﷺ من أنه لا تجوز شهادة ذي غمر على أخيه , ولا تجوز شهادة الظنة , ولا الإحنة ، ولا شهادة خصم , ولا ظنين , ولا القانع من أهل البيت لهم. وصح عن شريح : لا تجوز عليك شهادة الخصم , ولا الشريك , ولا الأجير لمن استأجره.
وروي عن الشعبي ولم يصح لا أجيز شهادة وصي , ولا ولي , لأنهما خصمان. وصح عن إبراهيم : لا تجوز شهادة الشريك لشريكه فيما بينهما , وتجوز له في غير ذلك. وعن شريح مضت السنة في الإسلام : أنه لا تجوز شهادة خصم.
ومن طريق ابن سمعان وهو كذاب لم يكن السلف يجيزون شهادة القانع
قال أبو محمد : القانع السائل , وصح عن ربيعة : ترد شهادة الخصم , والظنين في خلائقه , وشكله , ومخالفته العدول في سيرته وإن لم يوقف منه على غير ذلك وترد شهادة العدو على عدوه. وعن يحيى بن سعيد الأنصاري : ترد شهادة العدو على عدوه. هذا كل ما يذكر في ذلك عمن سلف.
قال أبو محمد : أما الآثار في ذلك فكلها باطل ; لأن بعضها مروي منقطع ,
ومن طريق إسحاق بن راشد وليس بالقوي. أو من طريق إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي وهو مذكور بالكذب وصفه بذلك مالك , وغيره. أو من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهي صحيفة. أو مرسل من طريق عبد الرحمن بن فروخ. أو مرسل من طريق إسحاق بن عبد الله عن يزيد بن طلحة ، ولا يدرى من هما في الناس. أو مرسلان : من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد.
ومن طريق ابن سمعان , وقد كذبهما مالك , وغيره. أو من طريق يزيد الجزري وهو مجهول فإن كان ابن سنان فهو مذكور بالكذب. أو مرسل من رواية عبد الله بن صالح وهو ضعيف. وكل هذا لا يحل الأحتجاج به. ثم لو صحت لكانت مخالفة لهم ; لأن فيها أن لا تجوز شهادة ذي الغمر على أخيه مطلقا عاما
وهو قولنا وهم يمنعونها من القبول على عدوه فقط , ويجيزونها على غيره وهذا خلاف لتلك الآثار.
وأما شهادة الخصم : فإن المدعي لنفسه المخاصم لا تقبل دعواه لنفسه بلا شك. فبطل تعلقهم بتلك الآثار لو صحت , فكيف وهي لا تصح. ثم وجدنا الله تعالى قد قال : {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} فأمرنا الله عز وجل بالعدل على أعدائنا.
فصح أن من حكم بالعدل على عدوه أو صديقه أو لهما , أو شهد وهو عدل على عدوه أو صديقه أو لهما , فشهادته مقبولة وحكمه نافذ وبالله تعالى التوفيق. وما نعلم أحدا سبق مالكا إلى القول برد شهادة الصديق الملاطف.
وأما من رد شهادة الفقير فعظيمة , قال الله تعالى : {للفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا} إلى قوله : {أولئك هم الصادقون} فمن رد شهادة هؤلاء لخاسر , وإن من خصهم دون سائر الفقراء لمتناقض وبالله تعالى التوفيق. وما نعلم لهم في هذه الأقوال سلفا من الصحابة ، رضي الله عنهم ، أصلا. وأطرف شيء قول ربيعة : ترد شهادة من خالف العدول في سيرته وإن لم يوقف منه على غير ذلك : فهذا عجب جدا , لا ندري من أين أطلقه في دين الله عز وجل.
1795 - مسألة: ولا تقبل شهادة من لم يبلغ من الصبيان , لا ذكورهم ، ولا إناثهم , ولا بعضهم على بعض , ولا على غيرهم , لا في نفس ، ولا جراحة , ولا في مال , ولا يحل الحكم بشيء من ذلك , لا قبل افتراقهم ، ولا بعد افتراقهم وفي هذا خلاف كثير : فصح ، عن ابن الزبير ، أنه قال : إذا جيء بهم عند المصيبة جازت شهادتهم. قال ابن أبي مليكة : فأخذ القضاة بقول ابن الزبير وأجاز بعضهم شهادتهم في خاص من الأمر , لا في كل شيء :
كما روينا عن قتادة عن الحسن , قال : قال علي بن أبي طالب : شهادة الصبي على الصبي جائزة , وشهادة العبد على العبد جائزة. قال الحسن : وقال معاوية : شهادة الصبيان على الصبيان جائزة , ما لم يدخلوا البيوت فيعلموا وعن علي مثل هذا أيضا.
ومن طريق ابن أبي شيبة عن وكيع ، حدثنا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت عن الشعبي عن مسروق : أن ستة غلمان ذهبوا يسبحون , فغرق أحدهم , فشهد ثلاثة على اثنين أنهما غرقاه , وشهد اثنان على ثلاثة أنهم غرقوه : فقضى علي بن أبي طالب على الثلاثة خمسي الدية , وعلى الاثنين ثلاثة أخماس الدية.
وروينا أيضا نحو هذا عن مسروق.
وروينا عن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا سفيان الثوري عن فراس عن الشعبي عن مسروق : أن ثلاثة غلمان شهدوا على أربعة , وشهد الأربعة على الثلاثة , فجعل مسروق على الأربعة ثلاثة أسباع الدية , وعلى الثلاثة أربعة أسباع الدية.
وروينا أيضا ، عن ابن المسيب , والزهري : جواز شهادة الصبيان بقولهم مع أيمان المدعي ما لم يتفرقوا , وأنه قضى بمثل ما قضى به علي بن أبي طالب في دية ضرس. وعن أبي الزناد : السنة أن يؤخذ في شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح مع أيمان المدعين. وعن عمر بن عبد العزيز : أنه أجاز شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح المتقاربة , فإذا بلغت النفوس قضى بشهادتهم مع أيمان الطالبين. وعن ربيعة : جواز شهادة بعض الصبيان على بعض ما لم يتفرقوا. وعن شريح : أن شهادة الصبيان تقبل إذا اتفقوا , ولا تقبل إذا اختلفوا , وأنه أجاز شهادة صبيان في مأمومة. وعن ابن قسيط , وأبي بكر بن حزم : قبول شهادة الصبيان فيما بينهم ما لم يتفرقوا. وعن عطاء , والحسن : تجوز شهادة الصبيان على الصبيان. وعن إبراهيم النخعي : تجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض , وقال : كانوا يجيزونها فيما بينهم. وقال ابن أبي ليلى : تجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض في كل شيء.
وقال مالك : تجوز شهادة الصبيان على الصبيان فقط , ولا تجوز شهادتهم على صغير أنه جرح كبيرا , ولا على كبير أنه جرح صغيرا , ولا تجوز إلا في الجراح خاصة , ولا تجوز شهادة الصبايا في شيء من ذلك أصلا , ولا تجوز في شيء من ذلك شهادة من كان منهم عبدا , فإن اختلفوا لم يلتفت شيء من قولهم وقضي على جميعهم بالدية سواء.
قال أبو محمد : ما نعلم عن أحد قبله فرقا بين صبي وصبية ، ولا بين عبد منهم من حر.
وقالت طائفة : لا تقبل شهادتهم في شيء أصلا , كما ذكرنا قبل عن عمر , وعثمان في الصغير يشهد فترد شهادته , ثم يبلغ فيشهد بتلك الشهادة أنها لا تقبل. وصح ، عن ابن عباس من طريق ابن أبي مليكة : لا تقبل شهادة الصبيان في شيء. وعن عطاء : لا تجوز شهادة الغلمان حتى يكبروا وعن قاسم بن محمد , وسالم , والنخعي مثل قول عطاء. وعن الحسن : لا تقبل شهادة الغلمان على الغلمان. وعن ابن سيرين : لا تقبل شهادتهم حتى يبلغوا. وعن الشعبي , وشريح : أنهما كانا يقبلانها إذا ثبتوا عليها حتى يبلغوا. وعن عبد الرزاق ، عن ابن جريج عن الزهري في غلمان شهد بعضهم على بعض بكسر يد صبي منهم فقال : لم تكن شهادة الغلمان فيما مضى من الزمان تقبل وأول من قضى بذلك مروان.
قال أبو محمد : وبمثل قولنا يقول مكحول , وسفيان الثوري , وابن شبرمة , وإسحاق بن راهويه , وأبو عبيدة , وأبو حنيفة , والشافعي , وأحمد بن حنبل , وأبو سليمان , وجميع أصحابنا.
قال علي : لم نجد لمن أجاز شهادة الصبيان حجة أصلا , لا من قرآن , ولا من سنة , ولا رواية سقيمة , ولا قياس , ولا نظر , ولا احتياط , بل هو قول متناقض , لأنهم فرقوا بين شهادتهم على كبير أو لكبير , وبين شهادتهم على صغير أو لصغير. وفرق مالك بين الجراح وغيرها , فلم يجزها في تخريق ثوب يساوي ربع درهم , وأجازها في النفس والجراح. وفرق بين الصبايا والصبيان وهذا كله تحكم بالباطل , وخطأ لا خفاء به , وأقوال لا يحل قبولها من غير رسول الله ﷺ . وقد اختلف الصحابة في ذلك , وحجة من قال بقولنا هو قول الله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وقال : {ممن ترضون من الشهداء} وليس الصبيان ذوي عدل ، ولا يرضاهم.
وقال رسول الله ﷺ : رفع القلم عن ثلاثة , فذكر الصبي حتى يبلغ. وليس في العجب أكثر من رد شهادة عبد فاضل , صالح عدل , رضي وتقبل شهادة صبيين لا عقل لهما , ولا دين , وفي هذا كفاية. وبالله تعالى التوفيق.
1796 - مسألة: وحكم القاضي لا يحل ما كان حراما قبل قضائه , ولا يحرم ما كان حلالا قبل قضائه , إنما القاضي منفذ على الممتنع فقط لا مزية له سوى هذا.
وقال أبو حنيفة : لو أن امرأ رشا شاهدين فشهدا له بزور أن فلانا طلق امرأته فلانة , وأعتق أمته فلانة وهما كاذبان متعمدان ، وأن المرأتين بعد العدة رضيتا بفلان زوجا , فقضى القاضي بهذه الشهادة , فإن وطء تينك المرأتين : حلال للفاسق الذي شهدوا له بالزور , وحرام على المشهود عليه بالباطل.
وكذلك من أقام شاهدي زور على فلان أنه أنكحه ابنته برضاها وهي في الحقيقة لم ترضه قط , ولا زوجها إياه أبوها فقضى القاضي بذلك , فوطؤه لها حلال.
قال أبو محمد : ما نعلم مسلما قبله أتى بهذه الطوام , ونبرأ إلى الله تعالى منها وليت شعري ما الفرق بين هذا وبين من شهد له شاهدا زور في أمه أنها أجنبية , وأنها قد رضيت به زوجا , أو على حر أنه عبده فقضى له القاضي بذلك وما علم مسلم قط قبل أبي حنيفة فرق بين شيء من ذلك. وقد صح عن رسول الله ﷺ ، أنه قال : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام.
ومن طريق أحمد بن شعيب ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها ، أنه قال عليه الصلاة والسلام : إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر فلعل أحدكم أن يكون أعلم بحجته من بعض فأقضي له بما أسمع وأظنه صادقا فمن قضيت له بشيء من حق صاحبه فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها فإذا كان حكمه عليه الصلاة والسلام وقضاؤه لا يحل لأحد ما كان عليه حراما فكيف القول في قضاء أحد بعده ونعوذ بالله تعالى من الخذلان.
1797 - مسألة: ولا يحل التأني في إنفاذ الحكم إذا ظهر وهو قول الشافعي , وأبي سليمان , وأصحابنا.
وقال أبو حنيفة : إذا طمع القاضي أن يصطلح الخصمان فلا بأس أن يردهما المرة والمرتين , فإن لم يطمع في ذلك فصل القضاء.
وقال مالك : لا بأس بترديد الخصوم , ثم رأى أن يجعل للمشهود عليه أو المدعي بينة غائبة : أجل ثمانية أيام , ثم ثمانية أيام , ثم ثمانية أيام , ثم تلزم ثلاثة أيام , فذلك ثلاثون يوما لا يعد في الثمانية يوم تأجيل الحاكم.
قال علي : أما قول أبي حنيفة ففاسد ; لأنه لا فرق بين ترديد مرتين وترديد ثلاث مرار أو أربع , وهكذا ما زاد إلى انقضاء العمر , وإلا ف هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
وأما قول مالك فما نعلم أحدا قاله قبله مع عظيم فساده , لأنه لا فرق بين تأجيل ثلاثين يوما , وبين تأجيل شهرين أو ثلاثة أو أربعة , أو عام , أو عامين , أو أربعة أعوام وما الفرق بين من ادعى بينة على نصف شهر وبين من ادعاها بخراسان , وهو بالأندلس أو ادعاها بالأندلس , وهو بخراسان , وهل هو إلا التحكم بالباطل
قال أبو محمد : واحتج بعضهم بالرواية عن عمر : رددوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث الضغائن.
قال علي : هذا لا يصح عن عمر ; لأن أحسن طرقه : محارب بن دثار أن عمر ومحارب لم يدرك عمر. ثم لو صح لما كان فيه حجة ; لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ ومعاذ الله أن يصح هذا عن عمر ; لأن فيه المنع جملة من إنفاذ الحق ; لأن علة توريث الضغائن موجودة في ذلك أبدا , فإن وجب أن يراعى وجب ذلك أبدا , وإن لم يجب أن يراعى فلا يجب ذلك طرفة عين , وعلى كل حال فقد خالفوه , لأنه لم يحد شهرا ، ولا شهرين. وفي الرسالة المكذوبة عن عمر : اجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بينته إلى ذلك الأمد : أخذت له بحقه , وإلا أوجبت عليه القضاء , فإنه أبلغ للعذر وأجلى للعمى.
قال أبو محمد : وهذا لا يصح عن عمر , وعلى كل حال فقد خالفه مالك ; لأن عمر لم يحد في ذلك شهرا ، ولا أقل ، ولا أكثر وهذا كله لم يأت قط عن رسول الله ﷺ أنه رد خصوما بعد ما ظهر الحق بل قضى بالبينة على الطالب , وألزم المنكر اليمين في الوقت وأمر المقر بالقضاء في الوقت.
وقال الله تعالى : {كونوا قوامين بالقسط}
وقال تعالى : {وتعاونوا على البر والتقوى}.
وقال تعالى : {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم}. فمن حكم بالحق حين يبدو إليه فقد قام بالقسط , وأعان على البر والتقوى وسارع إلى مغفرة من ربه , ومن تردد في ذلك , فلم يسارع إلى مغفرة من ربه ، ولا قام بالقسط , ولا أعان على البر والتقوى.
1798 - مسألة: وإذا تداعى الزوجان في متاع البيت بعد الطلاق , أو بغير طلاق , أو تداعى الورثة بعد موتهما أو موت أحدهما , فهو كله بينهما بنصفين مع الأيمان , سواء كان مما لا يصلح إلا للرجال كالسلاح ونحوه , أو مما لا يصلح إلا للنساء كالحلي ونحوه , أو كان مما يصلح للكل. وقد اختلف الناس في هذا كثيرا : فروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري : البيت للمرأة إلا ما عرف للرجل.
وبه إلى معمر عن أيوب السختياني عن أبي قلابة مثل قول الزهري.
ومن طريق عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن الحسن قال : إذا مات الزوج فللمرأة ما أغلق عليه بابها.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد عن الحسن قال : ليس للرجل إلا سلاحه وثياب جلده. وقال ابن أبي ليلى : كل ما في البيت فللرجل إلا ما كان على المرأة من الثياب , والدرع , والخمار. وقال إبراهيم النخعي : ما كان من متاع الرجال فللرجل , وما كان من متاع النساء فللمرأة , وما صلح لهما فهو للحي منهما في موت أحدهما ,
وأما في الفرقة فهو للرجل.
وهو قول أبي حنيفة مع الأيمان , فإن كان أحدهما حرا والآخر مملوكا , فالمال كله للحر مع يمينه. وقال محمد بن الحسن كذلك , إلا في الموت فإنه للرجل أو لورثته مع اليمين. وقال أبو يوسف : ما كان لا يصلح إلا للنساء فإنه يقضي منه للمرأة ما يجهز به مثلها , إلا زوجها والباقي منه ومن غيره للرجل مع يمينه الموت والطلاق سواء في ذلك. وقال عثمان البتي وعبد الله بن الحسن , والحسن بن حي , وزفر في أحد قوليه ما صلح للرجال فهو للرجل مع يمينه , وما صلح للنساء فللمرأة مع يمينها وما صلح لهما فبينهما بنصفين مع أيمانهما.
وقال مالك : ما صلح للرجال فهو للرجل مع يمينه , وما صلح للمرأة فهو للمرأة مع يمينها , وما صلح لهما فهو للرجل مع يمينه الموت والفرقة سواء.
وقال أبو محمد : كل هذه آراء يكفي من فسادها تخاذلها , وما نعلم لمالك أحدا تقدمه إلى قوله المذكور.
قال علي : إذا وجب عندهم القضاء بما لا يصلح إلا للرجال للرجل , وما لا يصلح إلا للنساء للمرأة , فأي معنى للأيمان في ذلك , إذ قد ثبت أنه لمن قضوا له به , وإن كان لم يثبت له بعد , فما أحدهما أولى به من الآخر.
قال علي : وقال سفيان الثوري , والقاسم بن معاذ بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود , وشريك , وزفر في أحد قوليه , والشافعي , وأبو سليمان وأصحابهما , كما قلنا نحن.
قال أبو محمد : البيت بأيديهما فصح أنهما فيه سواء , فلكل واحد منهما ما بيده , وله اليمين على الآخر فيما ادعى مما بيده وبالله تعالى التوفيق. ولم يختلفوا في أخ وأخت تنازعا في متاع البيت , أو أم وابنها : أن كل ذلك بينهما بأيمانهما , ولا اختلفوا في أخوين ساكنين في بيت واحد , أحدهما : دباغ , والآخر : عطار , فتداعيا فيما في البيت , والدار فإنه بينهما بأيمانهما , ولم يقضوا للدباغ بآلات الدباغ , ولا للعطار بمتاع العطر , وهذا تناقض لا خفاء فيه وبالله تعالى التوفيق.
**
كتاب الشهادات
1799 - مسألة: ويحكم على اليهود والنصارى والمجوس بحكم أهل الإسلام في كل شيء رضوا أم سخطوا , أتونا أو لم يأتونا ، ولا يحل ردهم إلى حكم دينهم , ولا إلى حكامهم أصلا.
روينا من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار قال : سمعت بجالة التميمي قال : أتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة , وفرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس , وانهوهم عن الزمزمة. قال ابن جريج : أهل الذمة إذا كانوا فينا فحدهم كحد المسلم.
ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي ، حدثنا نصر بن علي ، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن البصري في المواريث في أهل الذمة قال : يحكم عليهم بما في كتابنا
وهو قول قتادة , وأبي سليمان , وأصحابنا.
وروينا غير هذا : كما روينا من طريق سماك بن حرب عن قابوس بن مخارق بن سليم عن أبيه أن محمد بن أبي بكر كتب إلى علي بن أبي طالب في مسلم زنى بنصرانية فكتب إليه علي بن أبي طالب : أن يقام الحد على المسلم , وترد النصرانية إلى أهل دينها
وهو قول أبي حنيفة , ومالك.
قال أبو محمد : هذا لا يصح عن علي ; لأن فيه سماك بن حرب وهو يقبل التلقين وقابوس بن المخارق وأبوه مجهولان فبطل أن يصح عن الصحابة ، رضي الله عنهم ، في هذا الباب غير
ما روينا عن عمر.
وقال المخالفون : قال الله تعالى : {لا إكراه في الدين} فإذا حكم عليهم بغير حكم دينهم فقد أكرهوا على غير دينهم.
فقلنا : إن كانت هذه الآية توجب أن لا يحكم عليهم بغير حكم دينهم فأنتم أول من خالفها فأقررتم على أنفسكم بخلاف الحق , وهذا عظيم جدا ; لأنكم تقطعونهم في السرقة بحكم ديننا , لا بحكم دينهم , وتحدونهم في القذف بحكم ديننا لا بحكم دينهم , وتمنعونهم من إنفاذ حكم دينهم بعضهم على بعض في القتل والخطأ , وبيع الأحرار , فقد تناقضتم.
فإن قالوا : هذا ظلم لا يقرون عليه.
فقلنا لهم : وكل ما خالفوا فيه حكم الإسلام فهو ظلم لا يقرون عليه. وقالوا : قال الله تعالى : {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} .
فقلنا : هذه منسوخة نسخها قوله تعالى : {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} فقالوا : هاتوا برهانكم على ذلك.
قلنا : نعم ,
روينا من طريق سفيان بن حسين عن الحكم بن عتيبة عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : نسخت من هذه السورة آيتان : آية : القلائد
وقوله تعالى : {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} فكان رسول الله ﷺ مخيرا إن شاء حكم بينهم , وإن شاء أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم , فنزلت : وأن احكم بينهم بما أنزل الله فأمر رسول الله ﷺ أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
قال أبو محمد : وهذا مسند ; لأن ابن عباس أخبر بنزول الآية في ذلك
وهو قول مجاهد , وعكرمة.
وأيضا : فإن الله تعالى يقول : {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} والدين في القرآن واللغة يكون الشريعة , ويكون الحكم , ويكون الجزاء , فالجزاء في الآخرة إلى الله تعالى لا إلينا. والشريعة قد صح أن نقرهم على ما يعتقدون إذا كانوا أهل كتاب , فبقي الحكم , فوجب أن يكون كله حكم الله كما أمر.
فإن قالوا : فاحكموا عليهم بالصلاة , والصيام , والحج , والجهاد , والزكاة.
قلنا : قد صح أن رسول الله ﷺ لم يلزمهم شيئا من هذا فخرج بنصه وبقي سائر الحكم عليهم على حكم الإسلام ، ولا بد. وصح أنه عليه الصلاة والسلام قتل يهوديا قودا بصبية مسلمة ورجم يهوديين زنيا ولم يلتفت إلى حكم دينهم. فقال بعضهم بآبدة مهلكة , وهي أن قالوا : إنما أنفذ رسول الله ﷺ الرجم بحكم التوراة , كما قال تعالى : {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا}. .
فقلنا : هذا كفر ممن قاله , إذ جعله عليه الصلاة والسلام منفذا لحكم اليهود , تاركا لتنفيذ حكم الله تعالى , حاشا له من ذلك.
وأيضا فهبك أنه كما قلتم فارجموهم أنتم أيضا على ذلك الوجه نفسه , وإلا فقد جورتم رسول الله ﷺ .
وأما الآية : فإنما هي خبر عن النبيين السالفين فيهم , لأنهم ليسوا لنا نبيين , إنما لنا نبي واحد فصح أنه غير معني بهذه الآية.
ثم نقول لهم : أخبرونا عن أحكام دينهم أحق هي إلى اليوم محكم أم باطل منسوخ ، ولا بد من أحدهما :
فإن قالوا : حق محكم كفروا جهارا ,
وإن قالوا بل باطل منسوخ.
قلنا : صدقتم , وأقررتم على أنفسكم أنكم رددتموهم إلى الباطل المنسوخ الحرام , وفي هذا كفاية.
وقال تعالى : {كونوا قوامين بالقسط} وليس من القسط تركهم يحكمون بالكفر المبدل أو بحكم قد أبطله الله تعالى , أو حرم القول به والعمل به.
وقال تعالى : {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}. ومن ردهم إلى حكم الكفر المبدل والأمر المنسوخ المحرم , فلم يعن على البر والتقوى , بل أعان على الإثم والعدوان ونعوذ بالله من الخذلان.
وقال تعالى : {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} والصغار هو جري أحكامنا عليهم , فإذا ما تركوا يحكمون بكفرهم فما أصغرناهم بل هم أصغرونا ومعاذ الله من ذلك.
1800 - مسألة: وفرض على الحاكم أن يحكم بعلمه في الدماء , والقصاص , والأموال , والفروج , والحدود , وسواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته , وأقوى ما حكم بعلمه ; لأنه يقين الحق , ثم بالإقرار , ثم بالبينة. وقد اختلف الناس في هذا : فروي عن أبي بكر الصديق قال : لو رأيت رجلا على حد لم أدع له غيري حتى يكون معي شاهد غيري , وأن عمر قال لعبد الرحمن بن عوف : أرأيت لو رأيت رجلا قتل أو شرب أو زنى قال : شهادتك شهادة رجل من المسلمين فقال له عمر : صدقت وأنه روي نحو هذا عن معاوية , وابن عباس.
ومن طريق الضحاك : أن عمر اختصم إليه في شيء يعرفه فقال للطالب : إن شئت شهدت ولم أقض , وإن شئت قضيت ولم أشهد. وقد صح عن شريح أنه اختصم إليه اثنان فأتاه أحدهما بشاهد , فقال لشريح وأنت شاهدي أيضا , فقضى له شريح مع شاهده بيمينه.
وروي عن عمر بن عبد العزيز : لا يحكم الحاكم بعلمه في الزنى. وصح عن الشعبي : لا أكون شاهدا وقاضيا.
وقال مالك , وابن أبي ليلى في أحد قوليه وأحمد , وأبو عبيدة , ، ومحمد بن الحسن في أحد قوليه : لا يحكم الحاكم بعلمه في شيء أصلا. وقال حماد بن أبي سليمان : يحكم الحاكم بعلمه بالأعتراف في كل شيء إلا في الحدود خاصة. وبه قال ابن أبي ليلى في أحد قوليه. وقال أبو يوسف , ، ومحمد بن الحسن في أول قوليه : يحكم بعلمه في كل شيء من قصاص وغيره , إلا في الحدود , وسواء علمه قبل القضاء أو بعده.
وقال أبو حنيفة : لا يحكم بعلمه قبل ولايته القضاء أصلا
وأما ما علمه بعد ولايته القضاء فإنه يحكم به في كل شيء , إلا في الحدود خاصة. وقال الليث : لا يحكم بعلمه إلا أن يقيم الطالب شاهدا واحدا في حقوق الناس خاصة , فيحكم القاضي حينئذ بعلمه مع ذلك الشاهد. وقال الحسن بن حي : كل ما علم قبل ولايته لم يحكم فيه بعلمه , وما علم بعد ولايته حكم فيه بعلمه بعد أن يستحلفه , وذلك في حقوق الناس
وأما الزنا : فإن شهد به ثلاثة والقاضي يعرف صحة ذلك حكم فيه بتلك الشهادة مع علمه. وقال الأوزاعي : إن أقام المقذوف شاهدا واحدا عدلا وعلم القاضي بذلك حد القاذف.
وقال الشافعي , وأبو ثور , وأبو سليمان , وأصحابهم كما قلنا.
قال أبو محمد : فنظرنا فيمن فرق بين ما علم قبل القضاء وما علم بعد القضاء فوجدناه قولا لا يؤيده قرآن , ولا سنة , ولا رواية سقيمة , ولا قياس , ولا أحد قاله قبل أبي حنيفة , وما كان هكذا فهو باطل بلا شك. ثم نظرنا فيمن فرق بين ما اعترف به في مجلسه وبين غير ذلك مما علمه , فوجدناه أيضا كما
قلنا في قول أبي حنيفة , وما كان هكذا فهو باطل إلا أن بعضهم قال : إنما جلس ليحكم بين الناس بما صح عنده.
قلنا : صدقتم , وقد صح عنده كل ما علم قبل ولايته , وفي غير مجلسه وبعد ذلك. ثم نظرنا فيمن فرق بين ما شهد به عنده شاهد واحد وبين ما لم يشهد به عنده أحد : فوجدناه أيضا كالقولين المتقدمين , لأنه في كل ذلك إنما حكم بعلمه فقط
وهو قولنا.
وأما حاكم بشاهد واحد أو بثلاثة في الزنى , فهذا لا يجوز.
وأما شاهد حاكم معا , ولم يأت نص ، ولا إجماع بتصويب هذا الوجه خاصة. ثم نظرنا في قول من فرق بين الحدود وغيرها , فوجدناه قولا لا يعضده قرآن ، ولا سنة , وما كان هكذا فهو باطل.
فإن ذكروا ادرءوا الحدود بالشبهات.
قلنا : هذا باطل ما صح قط عن النبي ﷺ ولا فرق بين الحدود وغيرها في أن يحكم في كل ذلك بالحق , فلم يبق إلا قول من قال : لا يحكم الحاكم بعلمه في شيء وقول من قال : يحكم الحاكم بعلمه في كل شيء : فوجدنا من منع من أن يحكم الحاكم بعلمه يقول : هذا قول أبي بكر , وعمر , وعبد الرحمن , وابن عباس , ومعاوية , ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة. .
فقلنا : هم مخالفون لكم في هذه القصة ; لأنه إنما روي أن أبا بكر قال : إنه لا يثيره حتى يكون معه شاهد آخر.
وهو قول عمر , وعبد الرحمن : أن شهادته شهادة رجل من المسلمين , فهذا يوافق من رأى أن يحكم في الزنى بثلاثة هو رابعهم , وبواحد مع نفسه في سائر الحقوق.
وأيضا فلا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ .
وأيضا فقد خالفوا أبا بكر , وعمر , وعثمان , وخالد بن الوليد , وأبا موسى الأشعري , وابن الزبير في القصاص من اللطمة , ومن ضربة السوط , ومما دون الموضحة وهو عنهم أصح مما رويتم عنهم هاهنا. واحتجوا بقول النبي ﷺ : شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك.
قال أبو محمد : وهذا قد خالفه المالكيون المحتجون به , فجعلوا له الحكم باليمين مع الشاهد , واليمين مع نكول خصمه , وليس هذا مذكورا في الخبر. وجعل له الحنفيون الحكم بالنكول وليس ذلك في الخبر. وأمروه بالحكم بعلمه في الأموال التي فيها جاء هذا الخبر. فقد خالفوه جهارا وأقحموا فيه ما ليس فيه. فمن أضل ممن يحتج بخبر هو أول مخالف له برأيه.
وأما نحن فنقول : إنه قد صح عن النبي ﷺ ، أنه قال : بينتك أو يمينه ومن البينة التي لا بينة أبين منها صحة علم الحاكم بصحة حقه , فهو في جملة هذا الخبر. واحتجوا بالثابت عن رسول الله ﷺ : أن عيسى عليه السلام رأى رجلا يسرق فقال له عيسى : سرقت قال : كلا والله الذي لا إله إلا هو , فقال عيسى عليه السلام : آمنت بالله وكذبت نفسي فقالوا : فعيسى عليه السلام لم يحكم بعلمه.
قال أبو محمد : ليس يلزمنا شرع عيسى عليه السلام , وقد يخرج هذا الخبر على أنه رآه يسرق أي يأخذ الشيء مختفيا بأخذه , فلما قرره حلف , وقد يكون صادقا , لأنه أخذ ماله من ظالم له. وذكروا قول رسول الله ﷺ : لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها وهذا لا حجة لهم فيه ; لأن علم الحاكم أبين بينة وأعدلها
وقد تقصينا هذه المسألة في " كتاب الإيصال " ولله تعالى الحمد.
وبرهان صحة قولنا : قول الله تعالى : {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله}. وليس من القسط أن يترك الظالم على ظلمه لا يغيره. وأن يكون الفاسق يعلن الكفر بحضرة الحاكم , والإقرار بالظلم , والطلاق , ثم يكون الحاكم يقره مع المرأة , ويحكم لها بالزوجية والميراث , فيظلم أهل الميراث حقهم. وقد أجمعوا على أن الحاكم إن علم بجرحة الشهود ولم يعلم ذلك غيره , أو علم كذب المجرحين لهم فإنه يحكم في كل ذلك بعلمه فقد تناقضوا.
وقال رسول الله ﷺ : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه والحاكم إن لم يغير ما رأى من المنكر حتى تأتي البينة على ذلك فقد عصى رسول الله ﷺ .
فصح أن فرضا عليه أن يغير كل منكر علمه بيده , وأن يعطي كل ذي حق حقه , وإلا فهو ظالم وبالله تعالى التوفيق.
1801 - مسألة: وإذا رجع الشاهد عن شهادته بعد أن حكم بها , أو قبل أن يحكم بها فسخ ما حكم بها فيه , فلو مات , أو جن , أو تغير بعد أن شهد قبل أن يحكم بشهادته , أو بعد أن حكم بها نفذت على كل حال , ولم ترد.
قال علي : أما موته وجنونه وتغيره فقد تمت الشهادة صحيحة , ولم يوجب فسخها بعد ثبوتها ما حدث بعد ذلك.
وأما رجوعه عن شهادته : فلو أن عدلين شهدا بجرحته حين شهد لوجب رد ما شهد به , وإقراره على نفسه بالكذب أو الغفلة أثبت عليه من شهادة غيره عليه بذلك. وقولنا هو قول حماد بن أبي سليمان , والحسن البصري.
1802 - مسألة: وأداء الشهادة فرض على كل من علمها , إلا أن يكون عليه حرج في ذلك لبعد مشقة , أو لتضييع مال , أو لضعف في جسمه , فليعلنها فقط. قال تعالى : {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} فهذا على عمومه إذا دعوا للشهادة , أو دعوا لأدائها. ولا يجوز تخصيص شيء من ذلك بغير نص , فيكون من فعل ذلك قائلا على الله تعالى ما لا علم له به.
1803 - مسألة: فإن لم يعرف الحاكم الشهود سأل عنهم , وأخبر المشهود بمن شهد عليه , وكلف المشهود له أن يعرفه بعدالتهم. وقال للمشهود عليه : اطلب ما ترد به شهادتهم عن نفسك , فإن ثبت عنده عدالتهم قضى بهم ولم يتردد لما ذكرنا قبل وإن جرحوا قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم , وإن جرحوا عنده بعد الحكم بشهادتهم فسخ ما حكم به بشهادتهم ; لأنه مفترض عليه رد خبر الفاسق , وإنفاذ شهادة العدل والتبين فيما لا يدرى حتى يدرى وبالله تعالى التوفيق.
1804 - مسألة: وجائز أن تلي المرأة الحكم وهو قول أبي حنيفة وقد روي عن عمر بن الخطاب : أنه ولى الشفاء امرأة من قومه السوق.
فإن قيل : قد قال رسول الله ﷺ : لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة.
قلنا : إنما قال ذلك رسول الله ﷺ في الأمر العام الذي هو الخلافة.
برهان ذلك : قوله عليه الصلاة والسلام : المرأة راعية على مال زوجها وهي مسئولة عن رعيتها. وقد أجاز المالكيون أن تكون وصية ووكيلة ولم يأت نص من منعها أن تلي بعض الأمور وبالله تعالى التوفيق.
1805 - مسألة: وجائز أن يلي العبد القضاء ; لأنه مخاطب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبقول الله تعالى : {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}. وهذا متوجه بعمومه إلى الرجل , والمرأة , والحر , والعبد , والدين كله واحد , إلا حيث جاء النص بالفرق بين المرأة , والرجل , وبين الحر , والعبد فيستثنى حينئذ من عموم إجمال الدين.
وقال مالك , وأبو حنيفة : لا يجوز تولية العبد القضاء , وما نعلم لأهل هذا القول حجة أصلا وقد صح عن رسول الله ﷺ من طريق شعبة ، حدثنا أبو عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أنه انتهى إلى الربذة وقد أقيمت الصلاة فإذا عبد يؤمهم , فقيل له : هذا أبو ذر , فذهب يتأخر , فقال أبو ذر : أوصاني خليلي يعني رسول الله ﷺ أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدع الأطراف. فهذا نص جلي على ولاية العبد , وهو فعل عثمان بحضرة الصحابة لا ينكر ذلك منهم أحد.
ومن طريق سفيان الثوري عن إبراهيم بن العلاء عن سويد بن غفلة قال : قال لي عمر بن الخطاب : أطع الإمام وإن كان عبدا مجدعا. فهذا عمر لا يعرف له من الصحابة مخالف.
1806 - مسألة: وشهادة ولد الزنى جائزة في الزنى وغيره , ويلي القضاء , وهو كغيره من المسلمين. ولا يخلو أن يكون عدلا فيقبل , فيكون كسائر العدول , أو غير عدل فلا يقبل في شيء أصلا. ولا نص في التفريق بينه وبين غيره
وهو قول أبي حنيفة , والشافعي , وأحمد , وإسحاق , وأبي سليمان
وهو قول الحسن , والشعبي , وعطاء بن أبي رباح , والزهري
وروي ، عن ابن عباس.
وروي عن نافع : لا تجوز شهادته ,
وقال مالك , والليث : يقبل في كل شيء إلا في الزنى وهذا فرق لا نعرفه عن أحد قبلهما
قال الله عز وجل : {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} وإذا كانوا إخواننا في الدين فلهم ما لنا وعليهم ما علينا.
فإن قيل : قد جاء " ولد الزنا شر الثلاثة ". .
فقلنا : هذا عليكم لأنكم تقبلونه فيما عدا الزنى ,
ومعنى هذا الخبر عندنا : أنه في إنسان بعينه للآية التي ذكرنا , ولأنه قد كان فيمن لا يعرف أبوه , ومن لا يعدله جميع أهل الأرض , من حين انقراض عصر الصحابة ، رضي الله عنهم ، إلى يوم القيامة وبالله تعالى التوفيق.
1807 - مسألة: ومن حد في زنى , أو قذف , أو خمر , أو سرقة , ثم تاب وصلحت حاله , فشهادته جائزة في كل شيء , وفي مثل ما حد فيه لما ذكرنا من أنه لا يخلو هذا من أن يكون عدلا , فلا يجوز رد شهادته لغيره , وفي كل شيء إلا حيث جاء النص ، ولا نعلمه إلا في البدوي على صاحب القرية فقط , أو لا يكون عدلا فلا يقبل في شيء , وما عدا هذا فباطل وتحكم بالظن الكاذب بلا قرآن ، ولا سنة ، ولا معقول.
وقالت طائفة في المحدود في القذف خاصة : لا تقبل شهادته أبدا وإن تاب في شيء أصلا. وقال آخرون : لا تقبل شهادة من حد في خمر أو غير ذلك أصلا. فهذا القول قد جاء عن عمر في تلك الرسالة المكذوبة " المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا حدا أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة "
وهو قول الحسن بن حي. وقد
قلنا : لا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ ولا نص في رد شهادة من ذكرنا.
فأما القول الثاني : في تخصيص من حد في القذف , فإننا
روينا من طريق ابن جريج عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : شهادة القاذف لا تجوز وإن تاب.
ومن طريق إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا أبو الوليد هو الطيالسي ، حدثنا قيس عن سالم هو الأفطس عن قيس بن عاصم : كان أبو بكرة إذا أتاه رجل يشهده قال له : أشهد غيري فإن المسلمين قد فسقوني. وصح عن الشعبي في أحد قوليه , والنخعي , وابن المسيب في أحد قوليه والحسن البصري , ومجاهد في أحد قوليه ومسروق في أحد قوليه وعكرمة في أحد قوليه : أن القاذف لا تقبل شهادته أبدا وإن تاب. وعن شريح : المحدود في القذف لا تقبل له شهادة أبدا.
وهو قول أبي حنيفة , وأصحابه , وسفيان. وقال آخرون : إن تاب المحدود في القذف قبلت شهادته :
روينا ذلك عن عمر بن الخطاب من طريق أبي عبيد ، حدثنا سعيد بن أبي مريم عن محمد بن سالم عن إبراهيم بن ميسرة عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب استتابهم يعني أبا بكرة والذين شهدوا معه فتاب اثنان وأبى أبو بكرة أن يتوب , وكانت شهادتهما تقبل وكان أبو بكرة لا تقبل شهادته.
ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي ، حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سليمان بن كثير عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب جلد أبا بكرة , وشبل بن معبد , ونافعا أبا عبد الله , على قذفهم المغيرة بن شعبة , وقال لهم : من تاب منكم قبلت شهادته
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب , قال : شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنى فجلدهم عمر وقال لهم : توبوا تقبل شهادتكم.
ومن طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : القاذف إذا تاب فشهادته عند الله عز وجل في كتابه تقبل. وصح أيضا : عن عمر بن عبد العزيز , وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود , وعطاء , وطاووس , ومجاهد , وابن أبي نجيح , والشعبي , والزهري , وحبيب بن أبي ثابت , وعمر بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري , وسعيد بن المسيب , وعكرمة , وسعيد بن جبير , والقاسم بن محمد : وسالم بن عبد الله , وسليمان بن يسار , وابن قسيط , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وربيعة , وشريح.
وهو قول عثمان البتي. وابن أبي ليلى , ومالك , والشافعي , وأبي ثور , وأبي عبيد , وأحمد , وإسحاق , وبعض أصحابنا , إلا أن مالكا قال : لا تقبل شهادته في مثل ما حد فيه , ولا نعلم هذا الفرق عن أحد قبله.
وأما أبو حنيفة فلا نعلم له سلفا في قول إلا شريحا وحده , وخالف سائر من روي عنه في ذلك شيء ; لأنهم لم يخصوا محدودا من غير محدود , فقد خالف جمهور العلماء في ذلك.
قال أبو محمد : احتج من منع من قبول شهادة القاذف وإن تاب : بخبر رويناه , فيه أن هلال بن أمية إذ قذف امرأته , قالت الأنصار : الآن يضرب رسول الله ﷺ هلال بن أمية , ويبطل شهادته في المسلمين. وهذا خبر لا يصح ; لأنه انفرد به عباد بن منصور , وقد شهد عليه يحيى القطان : بأنه كان لا يحفظ ولم يرضه وقال ابن معين : ليس بذلك. ثم لو صح لما كان لهم فيه متعلق ; لأنه ليس فيه : أنه إن تاب لم تقبل شهادته , ونحن لا نخالفهم في أن القاذف لا تقبل شهادته.
وأيضا : فليس من كلام النبي ﷺ ولا حجة إلا في كلامه عليه الصلاة والسلام.
وأيضا فإن ذلك القول منهم ظن لم يصح , فما ضرب هلال , ولا سقطت شهادته وفي هذا كفاية. وذكروا خبرا فاسدا : رويناه من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبي ﷺ قال : المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف.
قال أبو محمد : هذه صحيفة وحجاج هالك ثم هم أول مخالفين له ; لأنهم لا يقبلون الأبوين لأبنيهما , ولا الأبن لأبويه , ولا أحد الزوجين للآخر ، ولا العبد وهذا خلاف مجرد لهذا الخبر.
وأيضا فقد يضاف إلى هذا الخبر " إلا إن تاب " بنصوص أخر. وذكروا قول الله تعالى : {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا} قالوا : فإنما استثنى تعالى بالتوبة من الفسق فقط.
قال أبو محمد : هذا تخصيص للآية بلا دليل بل الأستثناء راجع إلى المنع من قبول شهادتهم من أجل فسقهم , وإلى الفسق , وهذا لا يجوز تعديه بغير نص.
قال علي : كل من روي عنه أن لا تقبل شهادته وإن تاب فقد روي عنه قبولها , إلا الحسن , والنخعي فقط.
وأما الرواية ، عن ابن عباس فضعيفة , والأظهر عنه خلاف ذلك.
وأما الرواية عن أبي بكرة " إن المسلمين فسقوني " فمعاذ الله أن يصح , ما سمعنا أن مسلما فسق أبا بكرة , ولا امتنع من قبول شهادته على النبي ﷺ في أحكام الدين وبالله تعالى التوفيق.
** 1818-1808.
1808 - مسألة: وشهادة الأعمى مقبولة كالصحيح. وقد اختلف الناس في هذا , فقالت طائفة كما قلنا.
وروي ذلك ، عن ابن عباس , وصح ذلك عن الزهري , وعطاء , والقاسم بن محمد , والشعبي , وشريح , وابن سيرين , والحكم بن عتيبة , وربيعة , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وابن جريج , وأحد قولي الحسن , وأحد قولي إياس بن معاوية , وأحد قولي ابن أبي ليلى
وهو قول مالك , والليث , وأحمد , وإسحاق , وأبي سليمان , وأصحابنا.
وقالت طائفة : تجوز شهادته فيما عرف قبل العمى , ولا تجوز فيما عرف بعد العمى
وهو قول الحسن البصري , وأحد قولي ابن أبي ليلى.
وهو قول أبي يوسف , والشافعي , وأصحابه.
وقالت طائفة : تجوز شهادته في الشيء اليسير :
روينا ذلك من طريق إبراهيم النخعي , قال : كانوا يجيزون شهادة الأعمى في الشيء الخفيف.
وقالت طائفة : لا تقبل في شيء أصلا , إلا في الأنساب
وهو قول زفر , رويناه من طريق عبد الرزاق عن وكيع عن أبي حنيفة , ولا يعرف أصحابه هذه الرواية.
وقالت طائفة : لا تقبل جملة
روينا ذلك عن علي بن أبي طالب , وعن إياس بن معاوية , وعن الحسن , والنخعي : أنهما كرها شهادة الأعمى.
وقال أبو حنيفة : لا تقبل في شيء أصلا , لا فيما عرف قبل العمى , ولا فيما عرف بعده.
قال أبو محمد : أما من أجازه في الشيء اليسير دون الكثير , فقول في غاية الفساد , لأنه لا
برهان على صحته , وما حرم الله تعالى من الكثير إلا ما حرم من القليل. وقد صح عن النبي ﷺ : من اقتطع بيمينه مال مسلم ولو قضيبا من أراك أوجب الله له النار.
وأيضا فإنه ليس في العالم كثير إلا بالإضافة إلى ما هو أقل منه , وهو قليل بالإضافة إلى ما هو أكثر منه فهو قول لا يعقل فسقط.
وأما من قبله في الأنساب فقط فقسمة فاسدة , فإنه لا يعرف الأنساب إلا من حيث يعرف المخبرين بغير ذلك والمشهدين له منهم فقط فبطل هذا القول أيضا.
وأما من لم يقبله لا فيما عرف قبل العمى ، ولا بعده , فقول فاسد لا برهان على صحته أصلا , ولا فرق بين ما عرفه في حال صحته , وبين ما عرفه الصحيح وتمادت صحته وبصره.
فإن قيل : هو قول روي عن علي بن أبي طالب.
قلنا : هذا كذب , ما جاء قط عن علي ، أنه قال : لا يقبل فيما عرف قبل العمى وما عرف هذا عن أحد قبل أبي حنيفة.
وأيضا فإنه لا يصح عن علي ; لأنه من طريق الأسود بن قيس عن أشياخ من قومه أو عن الحجاج بن أرطاة وقد روي ، عن ابن عباس خلاف ذلك فسقط هذا القول.
وأما من أجازه فيما علم قبل العمى , ولم يجزه فيما علم بعد العمى , فإنهم احتجوا بما روي عن النبي ﷺ : أنه سئل عن الشهادة فقال : ألا ترى الشمس على مثلها فاشهد أو دع.
قال أبو محمد : وهذا خبر لا يصح سنده ; لأنه من طريق محمد بن سليمان بن مسمول وهو هالك عن عبيد الله بن سلمة بن وهرام وهو ضعيف لكن معناه صحيح , وقالوا : الأصوات قد تشتبه , والأعمى كمن أشهد في ظلمة أو خلف حائط ما نعلم لهم غير هذا.
قال أبو محمد : إن كانت الأصوات تشتبه فالصور أيضا قد تشتبه , وما يجوز لمبصر ، ولا أعمى أن يشهد إلا بما يوقن ، ولا يشك فيه. ومن أشهد خلف حائط أو في ظلمة فأيقن بلا شك بمن أشهده فشهادته مقبولة في ذلك. ولو لم يقطع الأعمى بصحة اليقين على من يكلمه لما حل له أن يطأ امرأته , إذ لعلها أجنبية , ولا يعطي أحدا دينا عليه , إذ لعله غيره , ولا أن يبيع من أحد ، ولا أن يشتري. وقد قبل الناس كلام أمهات المؤمنين من خلف الحجاب.
فإن قالوا : إنما حل له وطء امرأته بغلبة الظن , كما يحل له ذلك في دخولها عليه أول مرة ولعلها غيرها.
قلنا : هذا باطل ، ولا يجوز له وطؤها حتى يوقن أنها التي تزوج. وقد أمر الله تعالى بقبول البينة , ولم يشترط أعمى من مبصر وما كان ربك نسيا. وما نعلم في الضلالة بعد الشرك والكبائر أكبر ممن دان الله برد شهادة جابر بن عبد الله , وابن أم كلثوم , وابن عباس , وابن عمر. ونعوذ بالله من الخذلان.
1809 - مسألة: وكل من سمع إنسانا يخبر بحق لزيد عليه إخبارا صحيحا تاما لم يصله بما يبطله , أو بأنه قد وهب أمرا كذا لفلان , أو أنه أنكح زيدا , أو أي شيء كان , فسواء قال له : اشهد بهذا علي أو أنا أشهدك أو لم يقل له شيئا من ذلك , أو لم يخاطبه أصلا , لكن خاطب غيره , أو قال له : لا تشهد علي فلست أشهدك كل ذلك سواء وفرض عليه أن يشهد بكل ذلك. وفرض على الحاكم قبول تلك الشهادة والحكم بها ; لأنه لم يأت قرآن ، ولا سنة , ولا قول أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، ولا قياس بالفرق بين شيء من ذلك.
وقال أبو حنيفة لا يشهد حتى يقال له : اشهد علينا.
قال أبو محمد : وكذلك إن قال الشاهد للقاضي : أنا أخبرك , أو أنا أقول لك , أو أنا أعلمك , أو لم يقل : أنا أشهد فكل ذلك سواء وكل ذلك شهادة تامة فرض على الحاكم الحكم بها ; لأنه لم يأت قرآن , ولا سنة , ولا قول صاحب , ولا قياس , ولا معقول : بالفرق بين شيء من ذلك. وبالله تعالى التوفيق.
فإن قيل : إن القرآن , والسنة وردا بتسمية ذلك شهادة.
قلنا : نعم , وليس في ذلك أنه لا يقبل حتى يقول : أنا أشهد فقد جعلنا معتمدنا وجعلتم معتمدكم في رد شهادة الفاسق قول الله تعالى : {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا}.
فصح أن كل شهادة نبأ , وكل نبأ شهادة وكلاهما خبر , وكلاها قول , وكل ذلك حكاية وبالله تعالى التوفيق.
1810 - مسألة: والحكم بالقافة في لحاق الولد واجب في الحرائر والإماء وهو قول الشافعي , وأبي سليمان.
وقال مالك : يحكم بشهادتهم في ولد الأمة , ولا يحكم به في ولد الحرة وهذا تقسيم بلا برهان.
وقال أبو حنيفة : لا يحكم بهم في شيء.
برهان صحة قولنا : أن رسول الله ﷺ سر بقول مجزز المدلجي إذ رأى أقدام زيد بن حارثة , وابنه أسامة فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض وهو عليه الصلاة والسلام لا يسر بباطل , ولا يسر إلا بحق مقطوع به. فمن العجب أن أبا حنيفة يخالف حكم رسول الله ﷺ الثابت عنه وينكر علما صحيحا معروف الوجه , ثم يرى أن يلحق الولد بأبوين كل واحد منهما أبوه , وبامرأتين كل واحدة منهما أمه فيأتي من ذلك بما لا يعقل , ولا جاء به قط قرآن , ولا سنة. والعجب من مالك إذ يحتج بخبر مجزز المذكور , ثم يخالفه , لأن مجززا إنما قال ذلك في ابن حرة لا في ابن أمة وبالله تعالى التوفيق.
1811 - مسألة: ولا يجوز الحكم إلا ممن ولاه الإمام القرشي الواجبة طاعته , فإن لم يقدر على ذلك فكل من أنفذ حقا فهو نافذ , ومن أنفذ باطلا فهو مردود.
برهان ذلك : ما ذكرنا من وجوب طاعة الإمام قبل فإذا لم يقدر على ذلك فالله تعالى يقول: {كونوا قوامين بالقسط}
وقال تعالى : {اعدلوا هو أقرب للتقوى} وهذا عموم لكل مسلم.
وقد وافقنا المخالفون على أنه ليس كل من حكم فهو نافذ حكمه , فوجب عليهم أن لا ينفذوا حكم أحد إلا من أوجب القرآن ورسول الله ﷺ نفاذ حكمه وبالله تعالى التوفيق.
1812 - مسألة: والارتزاق على القضاء جائز للثابت من قوله عليه الصلاة والسلام من أتاه مال في غير مسألة أو إشراف نفس فليأخذه وبالله تعالى التوفيق.
1813 - مسألة: وجائز للإمام أن يعزل القاضي متى شاء عن غير خربة , قد بعث رسول الله ﷺ عليا إلى اليمن قاضيا , ثم صرفه حين حجة الوداع ولم يرجع إلى اليمن بعدها.
1814 - مسألة: ومن قال له قاض : قد ثبت على هذا : الصلب , أو القتل , أو القطع , أو الجلد , أو أخذ مال مقداره كذا منه , فأنفذ ذلك عليه : فإن كان المأمور من أهل العلم بالقرآن والسنن لم يحل له إنفاذ شيء من ذلك إن كان الآمر له جاهلا , أو غير عدل إلا حتى يوقن أنه قد وجب عليه ما ذكر له فيلزمه إنفاذه حينئذ وإلا فلا. وإن كان الآمر له عالما فاضلا لم يحل له أيضا إنفاذ أمره إلا حتى يسأله من أي وجه وجب ذلك عليه فإذا أخبره , فإن كان ذلك موجبا عليه ما ذكر لزمه إنفاذ ذلك , وعليه أن يكتفي بخبر الحاكم العدل في ذلك , ولا يجوز له تقليده فيما رأى أنه فيه مخطئ.
وأما الجاهل فلا يحل له إنفاذ أمر من ليس عالما فاضلا. فإن كان الآمر له عالما فاضلا سأله : أوجب ذلك بالقرآن والسنة. فإن قال : نعم لزمه إنفاذ ذلك , وإلا فلا , لقول رسول الله ﷺ : إنما الطاعة في المعروف ، ولا يحل أخذ قول أحد بلا برهان. وبالله تعالى التوفيق.
1815 - مسألة: ومن ادعى شيئا في يد غيره فإن أقام فيه البينة , أو أقام كلاهما البينة قضي به للذي ليس الشيء في يده , إلا أن يكون في بينة من الشيء في يده بيان زائد بانتقال ذلك الشيء إليه , أو يلوح بتكذيب بينة الآخر
وهو قول سفيان , وأبي حنيفة , وأحمد بن حنبل , وأبي سليمان.
وقال مالك , والشافعي : يقضى به للذي هو في يده , وحجتهم أنه قد تكاذبت البينتان , فوجب سقوطهما.
قال أبو محمد : وليس كما قالوا , بل بينة من الشيء في يده غير مسموعة ; لأن الله تعالى لم يكلفهم ببينة , إنما حكم الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام بأن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. قال عليه الصلاة والسلام : بينتك أو يمينه ليس لك غير ذلك. فصح أنه لا يلتفت إلى بينة المدعى عليه وبالله تعالى التوفيق.
1816 - مسألة: فلو لم يكن الشيء في يد أحدهما فأقام كلاهما البينة قضي به بينهما , فلو كان في أيديهما معا , فأقاما فيه بينة أو لم يقيما قضي به بينهما. أما إذا لم يكن في أيديهما فإنه قد ثبتت البينتان أنه لهما فهو لهما.
وأما إذا كان في أيديهما فإن لم تقم لهما بينة فهو لهما ; لأنه بأيديهما مع أيمانهما.
وأما إذا أقام كل واحد منهما بينة فإن بينته لا تسمع فيما في يده كما قدمنا وقد شهدت له بينته بما في يد الآخر فيقضى له بذلك. وبالله تعالى التوفيق.
1817 - مسألة: فإن تداعياه , وليس في أيديهما , ولا بينة لهما : أقرع بينهما على اليمين , فأيهما خرج سهمه حلف وقضي له به وهكذا كل ما تداعيا فيه مما يوقن بلا شك أنه ليس لهما جميعا , كدابة يوقن أنها نتاج إحدى دابتيهما :
روينا من طريق أبي داود ، حدثنا محمد بن منهال ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن جده أبي موسى : أن رجلين ادعيا بعيرا أو دابة فأتيا به النبي ﷺ ليس لواحد منهما بينة فجعله رسول الله ﷺ بينها.
وبه إلى قتادة عن خلاس بن عمرو عن أبي رافع عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ اختصم إليه رجلان في متاع ليس لواحد منهما بينة , فقال رسول الله ﷺ : استهما على اليمين ما كان أحبا ذلك أم كرها
ومن طريق أحمد بن شعيب أنا عمرو بن علي ، حدثنا خالد بن الحارث ، حدثنا سعيد ، هو ابن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس بن عمرو عن أبي رافع عن أبي هريرة أن رجلين ادعيا دابة ولم تكن لهما بينة , فأمرهما رسول الله ﷺ أن يستهما على اليمين.
قال أبو محمد : فالقسمة بينهما حيث هو في أيديهما ; لأنه لهما بظاهر اليد , والقرعة حيث لا حق لهما , ولا لأحدهما , ولا لغيرهما فيه.
ومن طريق أبي داود ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، حدثنا همام بن يحيى عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري : أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله ﷺ فبعث كل واحد منهما شاهدين فقسمه رسول الله ﷺ بينهما بنصفين.
ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرني علي بن محمد بن علي بن أبي المضاء قاضي المصيصة قال : ، حدثنا محمد بن كثير عن حماد بن سلمة عن قتادة عن النضر بن أنس بن مالك عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه أن رجلين ادعيا دابة وجداها عند رجل , فأقام كل واحد منهما شاهدين أنها دابته فقضى بها النبي ﷺ بينهما بنصفين. فهذا نص على إقامة البينة من كل واحد منهما وليس في أيديهما أو وهو في أيديهما لأنه إذا كان في أيديهما معا فهو بلا شك لهم بظاهر الأمر , وإذا لم يكن في أيديهما أقام كل واحد منهما فيه البينة فقد شهد به لهما , وليست إحدى البينتين أولى من الأخرى , فالواجب قسمته في كل ذلك بينهما.
وأما إذا لم يكن في أيديهما ولم يقم واحد منهما فيه البينة , ولا كلاهما , فهما مدعيان وليس لهما أصلا ، ولا لمدعى عليه سواهما.
وكذلك إذا كان لا تجوز البينة أن تكون لهما جميعا لكن لأحدهما أو لغيرهما إلا أنه ليس في يد أحد غيرهما , ولا في أيديهما , أو كان في أيديهما جميعا , ففي هذه المواضع يقرع على اليمين , ولا تجوز قسمته بينهما فيكون ذلك ظلما مقطوعا به , وقضية جور بلا شك فيها , وهذا لا يحل أصلا , قال تعالى : {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} والجور المتيقن إثم وعدوان لا شك فيه وبالله تعالى التوفيق. وقد اختلف الناس في هذا : فقال أبو حنيفة : إذا أقام كل واحد منهما البينة فسواء كان الشيء في أيديهما معا , أو لم يكن في يد واحد منهما : هو بينهما بنصفين مع أيمانهما.
وكذلك إذا لم يقيما بينة والشيء في أيديهما معا وليس في أيديهما ، ولا مدعي له سواهما , فأيهما نكل قضي به للذي حلف. فإن وقتت كلتا البينتين قضي به لصاحب الوقت الأول. فإن وقتت إحدى البينتين ولم توقت الأخرى قضي به بينهما. وقال أبو يوسف : قضي به للذي وقتت بينته. وقال محمد بن الحسن : بل للذي لم توقت بينته.
قال أبو محمد : كل ما خالف مما ذكرنا حكم رسول الله ﷺ الذي أوردنا فهو باطل ; لأنه قول بلا برهان
وقال مالك : يقضى بأعدل البينتين.
قال علي : وهذا قول فاسد ; لأنه لم يأت به
برهان قرآن ، ولا سنة , ولا رواية سقيمة , ولا عن أحد من الصحابة ، ولا يؤيده قياس , وإنما كلفنا عدالة الشهود فقط , ولا فضل في ذلك لأعدل البرية على عدل , وهم مقرون بأنه لو شهد الصديق رضي الله عنه بطلاق , فإنه لا يقضى بذلك , فلو شهد به عدلان من عرض الناس قضي به. وأين ترجيح أعدل البينتين من هذا العمل
وهذا قول خالف فيه كل من روي عنه في هذه المسألة لفظة من الصحابة إنما روي القول بأعدل البينتين عن الزهري وقال : فإن تكافأت في العدالة أقرع بينهما وهم لا يقولون بهذا. وجاء عن عطاء , والحسن
وروي أيضا عن علي بن أبي طالب تغليب أكثر البينتين عددا وقال به الأوزاعي إذا تكافأ عددهما. واضطرب قول الشافعي في ذلك : فمرة قال : يوقف الشيء. ومرة قال : يقسم بينهما. ومرة قال : يقرع بينهما.
وقال أحمد بن حنبل , وإسحاق بن راهويه , وأبو عبيد : إذا ادعى اثنان شيئا ليس في أيديهما , وأقام كل واحد منهما البينة العدلة : أقرع بينهما , وقضي بذلك الشيء لمن خرجت قرعته , ولا معنى لأكثر البينتين , ولا لأعدلهما.
قال أبو محمد : فإن ذكر ذاكر
ما روينا من طريق عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن عبد الرحمن بن الحارث عن سعيد بن المسيب " أن رسول الله ﷺ قال : (إذا استوى الشهود أقرع بين الخصمين) فهو عليهم , لأن فيه الإقراع , ولا يقولون به.
1818 - مسألة: وتقبل الشهادة على الشهادة في كل شيء , ويقبل في ذلك واحد على واحد. واختلف الناس في هذا : فقال أبو يوسف , ، ومحمد بن الحسن : تقبل الشهادة على شهادة الحاضر في المصر , وإن كان صحيحا.
وقال مالك : لا تقبل على شهادة الحاضر إلا أن يكون مريضا , ولم يحد عنه مقدار المسافة التي إذا كان الشاهد بعيدا على قدرها قبلت الشهادة على شهادته.
وقال أبو حنيفة , والحسن بن حي , وسفيان الثوري : لا تقبل شهادة على شهادة إلا إذا كان على مقدار تقصر إليه الصلاة.
قال علي : لم نجد لمن منع من قبول الشهادة على شهادة الحاضر : حجة أصلا , لا من قرآن , ولا من سنة , ولا قول أحد سلف , ولا قياس , ولا معقول , لا سيما هذه الحدود الفاسدة. وقد أمرنا الله تعالى , بقبول شهادة العدول , والشهادة على الشهادة شهادة عدول , فقبولها واجب ,
وكذلك لو بعدت جدا ، ولا فرق. واختلفوا أيضا في كم تقبل على شهادة العدول فروينا عن علي من طريق ابن ضميرة وهو مطرح أنه لا يقبل على شهادة واحد إلا اثنان , وعن ربيعة مثله
وهو قول أبي حنيفة , ومالك , إلا أنهما أجازا شهادة ذينك الاثنين أيضا على شهادة العدل الآخر.
وقال الشافعي : لا بد من أخرى على شهادة الآخر , فلا يقبل على شهادة اثنين إلا أربعة , ولا يقبل على شهادة أربعة في الزنى إلا ستة عشر عدلا.
وقالت طائفة مثل قولنا :
روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن حكيم بن رزيق قال قرأت في كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي : أن أجز شهادة رجل على شهادة رجل آخر وذلك في كسر سن.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان , ومعمر , قال سفيان : عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي : إنه كان يجيز شهادة رجل على شهادة رجل وقال معمر عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن شريح : إنه كان يجيز شهادة رجل على شهادة رجل , ويقول له : أشهدني ذوي عدل. ورويناه عن الزهري , والقضاة قبله , ويزيد بن أبي حبيب
وهو قول الحسن البصري , وابن أبي ليلى , وسفيان الثوري , والليث بن سعد , وعثمان البتي , وأحمد بن حنبل , وإسحاق بن راهويه.
قال أبو محمد : قال رسول الله ﷺ : بينتك أو يمينه ، ولا فرق بين واحد وبين اثنين في تبيين الحق بذلك , كلاهما يجوز عليه ما يجوز على الواحد , فكلما قال قائل من العلماء : إنه بينة فهو بينة , إلا أن يمنع من ذلك نص وإنما هو خبر , والخبر يؤخذ من الواحد الثقة. واختلفوا أيضا فيما يقبل فيه شهادة شاهد على شهادة شاهد. فروينا من طريق فيها الحارث بن نبهان وهو هالك عن الحسن بن عمارة وهو تالف عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب لم يسمع منه غير نعيه النعمان , قال : لا تجوز شهادة على شهادة في حد , ولا في دم ، ولا في طلاق , ولا نكاح , ولا عتق , إلا في المال وحده.
وروينا ذلك عن إبراهيم النخعي. وصح عن الشعبي , وقتادة , والنخعي : لا تجوز شهادة على شهادة في حد
وهو قول الأوزاعي. ورويناه أيضا عن شريح , ومسروق , والحسن , وابن سيرين.
وقال أبو حنيفة : تجوز في كل شيء إلا الحدود والقصاص.
وقال مالك , والليث , والشافعي : يجوز في كل شيء الحدود وغيرها.
قال أبو محمد : تخصيص حد أو غيره لا يجوز إلا بنص , ولا نص في ذلك هذا مما خالفوا فيه الرواية عن عمر لا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة , وهذا مما خالف فيه مالك جمهور العلماء وبالله تعالى التوفيق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق