اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تََشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

الثلاثاء، 22 مارس 2022

1.محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب البيوع كتاب البيوع (مسأله 1411 - 1422 - مسألة}



فهارس كتاب البيوع مجملة
محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب البيوع
كتاب البيوع (مسأله 1411 - 1414) | كتاب البيوع (مسأله 1415 - 1416) | كتاب البيوع (مسأله 1417) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1417) | كتاب البيوع (مسأله 1418 - 1420) | كتاب البيوع (مسأله 1421) |   كتاب البيوع (مسأله 1422) |
 
  كتاب البيوع (مسأله 1423 - 1426) | كتاب البيوع (مسأله 1427 - 1428) | كتاب البيوع (مسأله 1429 - 1446) | كتاب البيوع (مسأله 1447) | كتاب البيوع (مسأله 1448 - 1460) | كتاب البيوع (مسأله 1461 - 1464) | كتاب البيوع (مسأله 1465 - 1466) | كتاب البيوع (مسأله 1467 - 1470) | كتاب البيوع (مسأله 1471 - 1474) | كتاب البيوع (مسأله 1475 - 1479) | كتاب البيوع (مسأله 1480) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1480) | كتاب البيوع (مسأله 1481 - 1484) | كتاب البيوع (مسأله 1485 - 1491) | كتاب البيوع (مسأله 1492 - 1500) | كتاب البيوع (مسأله 1501 - 1507) | كتاب البيوع (مسأله 1508 - 1511) | كتاب البيوع (مسأله 1512 - 1516) | كتاب البيوع (مسأله 1517 - 1538) | كتاب البيوع (مسأله 1539 - 1551) | كتاب البيوع (مسأله 1552 - 1556) | كتاب البيوع (مسأله 1557 - 1559) | كتاب البيوع (مسأله 1560 - 1565) | كتاب البيوع (مسأله 1566 - 1567) | كتاب البيوع (مسأله 1568 - 1582) | كتاب البيوع (مسأله 1583 - 1594)


فهارس كتاب البيوع مفصلة
1411 - مسألة: أنواع البيع
1412 - مسألة: بيع السلعة الغائبة
1413 - مسألة: بيع السلعة الغائبة من غير وصف
1414 - مسألة: بيع الثوب الواحد المطوي
1415 - مسألة: الإشهاد في البيع
1416 - مسألة: لا يجوز البيع إلا بلفظ البيع، أو بلفظ الشراء
1417 - مسألة: كل متبايعين صرفا أو غيره فلا يصح البيع بينهما
1418 - مسألة: البيعان بالخيار
1419 - مسألة: إن تبايعا في بيت فخرج أحدهما عن البيت
1420 - مسألة: لو تنازع المتبايعان فقال أحدهما: تفرقنا وتم البيع، أو قال: خيرتني
1421 - مسألة: البيع بشرط الخيار
1422 - مسألة: هلاك المبيع قبل القبض
1423 - مسألة: بيع العبد الآبق
1424 - مسألة: بيع المسك في نافجته مع النافجة
1425 - مسألة: بيع الحامل بحملها
1426 - مسألة: من باع شيئا لم يلزمه بيع شيء آخر غيره، وإن كان مقرونا معه
1427 - مسألة: بيع شيء من المغيبات
1428 - مسألة: بيع الظاهر دون المغيب
1429 - مسألة: يجب تسليم المبيع لمن باع الظاهر دون المغيب
1430 - مسألة: بيع الصوف على الحيوان
1431 - مسألة: بيع تراب الصاغة
1432 - مسألة: وكل ما نخله الغبارون من التراب فهو لقطة
1433 - مسألة: تراب المعادن ما كان منه معدن ذهب لا يحل بيعه
1434- مسألة: بيع القصيل قبل أن يسنبل
1435 - مسألة: بيع القصيل قبل أن يسنبل على القطع
1436 - مسألة: بيع ما ظهر من المقاثي
1437 - مسألة: بيع المقثأة بأصولها
1438 - مسألة: بيع الأمة، وبيان أنها حامل من غير سيدها
1439 - مسألة: بيع السيف دون غمده
1440 - مسألة: بيع حلقة الخاتم دون الفص
1441 - مسألة: فيما لو قال المشتري: لا أدفع الثمن حتى أقبض وقال البائع: لا أدفع حتى أقبض
1442- مسألة: إن أبى المشتري دفع الثمن إلا بالقبض
1443 - مسألة: من قال لا خلابة وقت البيع
1444 - مسألة: من لم يستطع قول لا خلابة لأفة بلسانه أو لعجمة
1445 - مسألة: في من رضي بالمبيع أو أسقط الخيار
1446 - مسألة: من قال لا غش ولا خديعة
1447 - مسألة: في الشروط في البيع
1448 - مسألة: حكم المبيع في البيع الفاسد
1449 - مسألة: بيع العبد له مال
1450 - مسألة: اشتراط المبتاع من مال عبده
1451 - مسألة: في دخول الأمة في لفظة العبد
1452 - مسألة: بيع نخل قد أبر
1453 - مسألة: بيع النخل وقد طابت ثمارها
1454 - مسألة: للمشتري أن يشترط ثمر النخل قد أبرت
1455 - مسألة: لايجوز للمبتاع اشتراط ثمار نخلة أو نخلتين
1456 - مسألة: لا يحل بيع سلعة على أن يوفيه الثمن في مكان مسمى
1457 - مسألة: لا يحل بيع جارية بشرط أن توضع على يدي عدل حتى تحيض
1458 - مسألة: لا يحل بيع عبد أو أمة على أن يعطيهما البائع كسوة
1459 - مسألة: لا يحل بيع سلعة لأخر بثمن يحده له صاحبها
1460 - مسألة: لا يحل بيع شيء غير معين من جملة مجتمعة
1461 - مسألة: لا يحل بيع المرء جملة مجموعة إلا كيلا مسمى منها
1462 - مسألة: لا يحل لأحد أن يبيع مال غيره بغير إذن صاحب المال
1463 - مسألة: لا يجوز بيع شيء لا يدري بائعه ما هو
1464 - مسألة: لا يحل بيع شيء بأكثر مما يساوي، ولا بأقل مما يساوي
1465 - مسألة: من غبن في بيع اشترط فيه السلامة
1466 - مسألة: لا يجوز البيع بثمن مجهول
1467 - مسألة: لا يحل لأحد أن يسوم على سوم آخر
1468 - مسألة: لا يحل النجش
1469 - مسألة: لا يحل لأحد تلقي الجلب
1470 - مسألة: لا يجوز أن يتولى البيع ساكن مصر
1471 - مسألة: بيع صنف في حائط فيه أنواع من الثمار
1472 - مسألة: لا يحل بيع فراخ الحمام في البرج مدة مسماة كسنة
1473 - مسألة: بيع الصغار من جميع الحيوان حين تولد
1474 - مسألة: بيع شيء من ثمر النخل بعضه ببعض من صنفه
1475 - مسألة: من ابتاع رطبا للأكل ثم مات
1476 - مسألة: في دخول سائر الثمار في حكم العرايا
1477 - مسألة: في جواز بيع الثمار ما عدا ثمار النخل بيابس ورطب من صنفه
1478 - مسألة: الرد على من اعترض على حكم المسألة السابقة
1479 - مسألة: في الربا
1480 - مسألة: في أصول الربا
1481 - مسألة: في علة الربا
1482 - مسألة: في مناقشة المخالفين في علة الربا
1483 - مسألة: لا يحل أن يباع قمح بقمح إلا مثلا بمثل كيلا بكيل يدا بيد، عينا بعين
1484 - مسألة : وجاز بيع كل صنف مما ذكرنا بالأصناف الأخر منها ، متفاضلا ومتماثلا وجزافا
1485 - مسألة: بيع الذهب بالفضة
1486 - مسألة: بيع القمح والشعير
1487 - مسألة: القرض في الأصناف الربوية
1488- مسألة: بيع الذهب المضاف فيه شيء آخر بذهب
1489 - مسألة: بيع ذهب فيه شيء آخر غير الفضة بدراهم
1490 - مسألة: بيع الدراهم المغشوشة بالدراهم المغشوشة
1491- مسألة: بيع القمح بدقيق القمح
1492- مسألة: صاحب الدنانير لا يأخذ غير ماله
1493- مسألة: مناقشة من منع بيع القمح بدقيقه
1494- مسألة: بيع الذهب بالذهب فيجد في أحدهما عيبا
1495- مسألة: حكم العيب بعد التفرق بالأبدان
1496- مسألة: فيما لو استحق بعض ما اشترى أقله أو أكثره
1497 - مسألة: ظهور العيب في السلعة
1498 - مسألة: بيع الرديء بالجيد
1499 - مسألة: فيمن صارف غير ثم استقرض منه للوفاء بالثمن
1500 - مسألة: اشترى دنانير بدراهم ثم أراد أن يشتري منه هذه الدنانير بأكثر أو أقل مما باعه
1501 - مسألة: التواعد في بيع الذهب بالذهب
1502 - مسألة: و لا يجوز بدل دراهم بأوزان منها لا بالمعروف
1503 - مسألة: بيع آنية الذهب والفضة
1504 - مسألة: بيع نصف دينار بعينه
1505 - مسألة: لا يجوز بيع دينار إلا درهما
1506 - مسألة: وقوع الربا بين العبد وسيده
1507 - مسألة: بيع اللحم بالحيوان
1508 - مسألة: بيع مالم يقبض
1509 - مسألة: في الشركة، والإقالة، والتولية
1510 - مسألة: في الإقالة
1511 - مسألة: لا يحل بيع دين يكون لإنسان على غيره
1512 - مسألة: بيع الماء
1513 - مسألة: بيع الخمر
1514 - مسألة: بيع الكلب
1515 - مسألة: بيع الهر
1516 - مسألة: لا يحل البيع على أن تربحني للدينار درهما
1517 - مسألة: البيع على الرقم
1518 - مسألة: لا يحل بيعتان في بيعة
1519 - مسألة: الجمع بين الحلال والحرام في صفقة واحدة
1520 - مسألة: بيع الحر
1521 - مسألة: بيع الأمة الحامل من سيدها
1522 - مسألة: بيع الهواء
1523 - مسألة: لايجوز بيع من لا يعقل لسكر أو جنون
1524- مسألة: بيع من لم يبلغ
1525 - مسألة: ولا يجوز بيع نصف هذه الدار بدون تحديد لها
1526 - مسألة: لا يجوز بيع دار لا طريق له
1527 - مسألة: لا يجوز بيع جملة مجهولة القدر على أن كل صاع بدرهم
1528 - مسألة: لايجوز بيع الولاء ولا هبته
1529 - مسألة: لا يجوز بيع من أكره على البيع
1530 - مسألة: بيع المضطر
1531 - مسألة: لا يحل بيع الحيوان إلا لمنفعة
1532 - مسألة: لا يجوز البيع بغير ثمن مسمى
1533 - مسألة: لايجوز بيع النرد
1534 - مسألة: لا يحل بيع اثنان سلعتين متميزتين لهما من إنسان واحد بثمن واحد
1535 - مسألة: في تحديد النقد في بلد تكثر فيه سكك شتى
1536 - مسألة: لا يجوز بيع كتابة المكاتب
1537 - مسألة: لا يجوز بيع السمن المائع تقع فيه الفأرة
1538 - مسألة: بيع الصور
1539 - مسألة: البيع وقت الجمعة
1540 - مسألة: في بيع من يدرك في صلاة الجمعة مقدار التكبير
1541 - مسألة: لا يجبر الشريك من بيع نصيبه مع شريكه الذي باع
1542 - مسألة: بيع ما غنمه المسلمون من دار الحرب لأهل الذمة
1543- مسألة: في بيع شيء يوقن أنه يعصى الله به
1544 - مسألة: بيع الجزاف
1545 - مسألة: بيع الحيتان
1546 - مسألة: بيع ألبان النساء
1547 - مسألة: بيع النحل ودود القز
1548 - مسألة: بيع الحرير
1549 - مسألة: ابتياع ولد الزنا
1550 - مسألة: بيع جلود الميتة
1551 - مسألة: بيع المكاتب قبل أداء شيء من كتابته
1552 - مسألة: بيع المدبر والمدبرة
1553- مسألة: بيع ولد المدبر
1554 - مسألة: بيع المعتق إلى أجل
1555 - مسألة: بيع السلعة بأقل من ثمنها
1556 - مسألة: من ابتاع سلعة لا يحل لغيره أن يحكم عليه بأن يشركه فيها
1557 - مسألة: البيع بالبراءة من كل عيب
1558 - مسألة: بيع المصاحف
1559 - مسألة: من باع سلعة بثمن حال يجوز له أن يستريها بمثل ثمنها أو أكثر أو أقل
1560 - مسألة: بيع دور مكة
1561 - مسألة: بيع الأعمى
1562- مسألة: بيع العبد وابتياعه
1563 - مسألة: بيع المرأة
1564 - مسألة: من ملك معدنا له جاز بيعه
1565 - مسألة: بيع الكلأ
1566 - مسألة: بيع الشطرنج والمزامير
1567 - مسألة: البيع في المساجد
1568 - مسألة: حكم الاحتكار
1569 - مسألة: التجارة في أرض الحرب
1570 - مسألة: في شراء السلعة على السلامة من العيوب فوجدها معيبة
1571 - مسألة: فإن لم يشترط السلامة فوجد بها عيبا
1572- مسألة: حكم المصراة
1573 - مسألة: فوات المعيب بموت
1574 - مسألة: رجوع المشتري بقيمة العيب عند هلاك السلعة المعيبة
1575 - مسألة: موت من له الرد قبل أن يرد
1576 - مسألة: من مات قبل الرد كان لواجد العيب أن يرد المعيب
1577 - مسألة: العيب الذي يجب به الرد
1578 - مسألة: في عيب كان يحط من الثمن ثم أصبح هذا العيب لا يحط من الثمن
1579 - مسألة: وجود العيب في السلم
1580 - مسألة: شراء الوكيل بغبن فاحش
1581 - مسألة: إذا لم يعرف وقت حدوث العيب
1582 - مسألة: من اشترى من اثنين سلعة واحدة فوجد بها عيبا
1583 - مسألة: لو اشترى اثنان سلعة من واحد فوجدا بها عيبا
1584 - مسألة: من اشترى سلعة معيبة ثم حدث عنده عيب
1585 - مسألة: من اشترى شيئا ثم استعمله ثم وجد به عيبا
1586 - مسألة: من اطلع فيما اشترى على عيب يجب به الرد
1587 - مسألة: من اشترى شيئا فوجد في عمقه عيبا
1588 - مسألة: من اشترى شيئا معيبا قد بين له قبل الشراء
1589 - مسألة: من اشترى شيئا مما يعد أو يكال فوجده أقل أو أكثر مما اشترى
1590- مسألة: في انكار البائع العيب
1591 - مسألة: في العبد المعيب الذي يعمل ويكسب المال
1592 - مسألة: مؤنة الكيل والوزن على الذي عليه الحق
1593 - مسألة: من اشترى أرضا فهي له بكل ما فيها
1594 - مسألة: يجب على التجار أن يتصدقوا في خلال بيعهم بما طابت به نفوسهم


===============
بسم الله الرحمن الرحيم
اول كتاب البيوع
كتاب البيوع

1411 - مسألة: البيع قسمان: إما بيع سلعة حاضرة مرئية مقلبة بسلعة كذلك، أو بسلعة بعينها غائبة معروفة موصوفة، أو بدنانير، أو بدراهم: كل ذلك حاضر مقبوض، أو إلى أجل مسمى، أو حالة في الذمة وإن لم يقبض. والقسم الثاني: بيع سلعة بعينها غائبة معروفة أو موصوفة بمثلها، أو بدنانير، أو بدراهم: كل ذلك حاضر مقبوض، أو إلى أجل مسمى، أو حالة في الذمة وإن لم يقبض. أما بيع الحاضر المرئي المقلب بمثله أو بدنانير أو دراهم حاضرة مقبوضة أو إلى أجل مسمى، أو حالة في الذمة: فمتفق على جوازه.

وأما بيع سلعة غائبة بعينها مرئية موصوفة معينة، ففيه خلاف فأحد قولي الشافعي: المنع من بيع الغائب جملة وقال مرة: هو جائز وله خيار الرؤية، وقال مرة: مثل قولنا في جواز بيع الغائب وجواز النقد فيه ولزوم البيع إذا وجد على الصفة التي وقع البيع عليها بلا خيار في ذلك. وأجاز مالك بيع الغائبات إلا أنه لم يجز النقد فيها جملة في أحد قوليه: رواه ابن وهب عنه وأجاز ابن القاسم عنه النقد في الضياع والدور قربت أم بعدت

وأما العروض فإنه أجاز النقد فيه إن كان قريبا، ولا يجوز إن كان بعيدا.

وقال أبو حنيفة: بيع الغائبات جائز موصوفة وغير موصوفة، والنقد في ذلك جائز إلا أن الخيار للمشتري إذا رأى ما اشترى، فله حينئذ أن يرد البيع، وأن يمضيه سواء وجده كما وصف له، أو وجده بخلاف ما وصف له. وله الخيار أيضا في فسخ البيع أو إمضائه قبل أن يرى ما اشترى. ولو أشهد على نفسه أنه قد أسقط ماله من الخيار، وأنه قد أمضى البيع والتزمه: لم يلزمه شيء من ذلك وهو بالخيار كما كان فإذا رأى وجه الجارية التي اشترى وهي غائبة ولم يقلب سائرها فقد لزمته وسقط خياره، ولا يردها إلا من عيب

وكذلك القول في العبد سواء سواء. قال: فإن اشترى دابة غائبة فرأى عجزها لزمته وإن لم ير سائرها، ولا يردها إلا من عيب، وكذلك سائر الحيوان حاشا بني آدم. قال: فإن اشترى ثيابا غائبة أو حاضرة مطوية فرأى ظهورها ومواضع طيها ولم ينشرها فقد لزمته وسقط خياره، ولا يردها إلا من عيب. قال: فإن اشترى ثيابا هروية في جراب أو ثيابا زطية في عدل، أو سمنا، في زقاق، أو زيتا كذلك، أو حنطة في غرارة، أو عروضا مما لا يكال، ولا يوزن، أو حيوانا ولم ير شيئا من ذلك: فإن له خيار الرؤية حتى يرى كل ما اشترى من ذلك. ولو رأى جميع الثياب إلا واحدا منها أو جميع الدواب إلا واحدا منها فله فسخ البيع إن شاء، وسواء وجد كل ما رأى كما وصف له بخلاف ما وصف له، إلا السمن والزيت، والحنطة، فإنه إن رأى بعض ذلك فكان ما لم ير منه مثل الذي رأى: فقد لزمه البيع وسقط خياره. قال: فإن ابتاع دارا فرآها من خارجها ولم يرها من داخل: فقد لزمته وسقط خيار الرؤية، ولا يردها إلا من عيب

وروي عن زفر: أنه لا يسقط خياره إلا حتى يرى مع ذلك شيئا من أرضها. وقال أبو يوسف: لمس الأعمى لباب الدار ولحائطها: يسقط خياره ويلزمه البيع، ولا يردها إلا من عيب. قال أبو حنيفة، وأصحابه: وليس له أن يرد البيع إذا رأى ما ابتاع إلا بمحضر البائع، فلو اشترى اثنان شراء واحد غائبا فرأياه فرد أحدهما البيع وأجازه الآخر فلا يجوز الرد إلا أن يرداه معا. قالوا: فإن أرسل رسولا ليقبض له ما اشترى فرأى الرسول الشيء المبيع وقبضه فالمشتري باق على خياره، فلو وكل وكيلا فرأى الوكيل الشيء المبيع وقبضه فقد سقط خيار المشتري في قول أبي حنيفة، ولم يسقط عند أبي يوسف، ومحمد، وقال أبو حنيفة مرة: الخيار أيضا للبائع إذا باع ما لم ير كما للمشتري، ثم رجع عن ذلك.

قال أبو محمد: وروي في ذلك عن السلف وفي ذلك أثر، وهو أن عثمان باع من طلحة رضي الله عنهما أرضا بالكوفة، فقيل لعثمان: إنك قد غبنت، فقال عثمان: لي الخيار لأني بعت ما لم أر، وقال طلحة: بل لي الخيار لأني اشتريت ما لم أر: فحكم بينهما جبير بن مطعم، فقضى: أن الخيار لطلحة لا لعثمان وقال ابن شبرمة: بخيار الرؤية للبائع وللمشتري معا كما روي عن عثمان.

ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا هشيم عن إسماعيل بن سالم، ويونس بن عبيد والمغيرة، قال إسماعيل: عن الشعبي، وقال يونس: عن الحسن، وقال المغيرة: عن إبراهيم، ثم اتفقوا كلهم فيمن اشترى شيئا لم ينظر إليه كائنا ما كان، قالوا: هو بالخيار إن شاء أخذ وإن شاء ترك، وقال إبراهيم: هو بالخيار وإن وجده كما شرط له، وروي أيضا عن مكحول، وهو قول الأوزاعي، وسفيان الثوري والنقد عندهم في كل ذلك جائز. وخالفهم غيرهم، كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال: إذا ابتاع الرجل البيع ولم يره ونعت له فوافق النعت وجب في عتقه. قال الحجاج: وحدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن ابن سيرين: إذا ابتاع البيع ولم يره فوصفه له البائع فجاء على الوصف فهو له. وقال الحسن: هو بالخيار إذا رآه. قال أيوب: ولا أعلم رجلا اشترى بيعا لم يره فوصفه له البائع فوجده على ما وصفه له فرده عليه إلا هو من الظالمين.

ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا جرير عن المغيرة عن الحارث العكلي فيمن اشترى العدل من البر فنظر بعض التجار إلى بعضه فقد وجب عليه إذا لم ير عوارا فيما لم ينظر إليه.

ومن طريق شعبة عن الحكم، وحماد فيمن اشترى عبدا قد رآه بالأمس ولم يره يوم اشتراه، قالا جميعا: لا يجوز حتى يراه يوم اشتراه.

قال أبو محمد: هذا كله ما نعلمه عن المتقدمين.

فأما أقوال أبي حنيفة التي ذكرنا فأقوال في غاية الفساد لا تؤثر عن أحد من أهل الإسلام قبله نعني الفرق بين ما يسقط الخيار مما يرى من الرقيق، ومما يرى من الدواب، ومما يرى من الثياب الزطية في الوعاء، وما يرى من الثياب التي ليست في عدل، وما يرى من السمن، والزيت، والحنطة، والدور، وكل ذلك وساوس لا حظ لها في شيء من العقل، ولا لها مجاز على القرآن، ولا السنن، ولا الروايات الفاسدة، ولا قول أحد من السلف، ولا من قياس لا جلي، ولا خفي، ولا من رأي له حظ من السداد، وما كان هكذا فلا يحل لأحد القول به.

وأما قولا مالك جميعا فكذلك أيضا سواء سواء، ولا نعلمهما عن أحد قبله، وما لهم شبهة أصلا، إلا أن بعضهم ادعى العمل في ذلك، وهذا باطل؛ لأنهما عنه قولان كما ذكرنا كلاهما مخالف لصاحبه فإن كان العمل على أحدهما فقد خالف العمل في قوله الآخر، وخلاف المرء لما يراه حجة قاطعة في الدين عظيم جدا، وليس في الممكن أن يكون العمل على كليهما.

وأيضا: فإن تحديده جواز النقد إن كان المبيع قريبا ومنعه من النقد إن كان المبيع بعيدا وهو لم يحد مقدار البعد الذي يحرم فيه النقد من القرب الذي يجوز فيه النقد عجب جدا وأي عجب أعجب ممن يحرم ويحلل ثم لا يبين لمن يتبعه العمل المحرم ليجتنبه من المحلل ليأتيه.

واحتج بعض مقلديه في المنع من النقد في ذلك، وهو قول الليث بأن قال: إن نقد في ذلك ثم وجده على خلاف ما وصف له فرد البيع كان البائع قد انتفع بالثمن مدة فصار ذلك سلفا جر منفعة.

قال أبو محمد: وهذا الأحتجاج أفسد من القول الذي احتج له. ونقول لهم: نعم فكان ماذا وما صار قط سلفا جر منفعة بل هو بيع كسائر البيوع، ولا فرق. ثم أين وجدتم المنع من سلف جر منفعة في أي كتاب الله عز وجل وجدتم ذلك أم في أي سنة لرسول الله ﷺ أم في أي قول صاحب ثم العجب كله أنه ليس على ظهر الأرض سلف إلا وهو يجر منفعة للمستسلف، ولولا أنه ينتفع به ما استسلفه، فما سمعنا بأبرد، ولا بأغث من هذا القول ثم لو كان ما ذكروا لوجب بذلك إبطال جميع البيوع كلها؛ لأنه لا بيع في العالم إلا وهذه العلة موجودة فيه؛ لأنه لا بيع إلا وممكن أن يستحق فيرد، أو يوجد فيه عيب فيرد به، فهلا منعوا النقد في كل بيع من أجل ذلك لأنه إذا رد صار البائع قد رد إلى المشتري الثمن بعد أن انتفع به فيصير سلفا جر منفعة وما ندري كيف يستجيز ذو ورع أن يغر قوما من المسلمين بمثل هذا الأحتجاج الفاسد ونسأل الله العافية فسقط هذا القول جملة.

وأما قول الشافعي في المنع من بيع الغائب فإن أصحابه احتجوا له بنهي رسول الله ﷺ عن بيع الغرر، وعن الملامسة، والمنابذة، لا نعلم لهم حجة غير هذا أصلا، ولا حجة لهم فيه؛ لأن بيع الغائب إذا وصف عن رؤية، وخبرة، ومعرفة، وقد صح ملكه لما اشترى، فأين الغرر. فإن قالوا: قد تهلك السلعة قبل حين البيع فيقع البيع فاسدا

قلنا: وقد تستحق السلعة فيقع البيع فاسدا، ولا فرق فأبطلوا بهذا النوع من الغرر كل بيع في الأرض، فلا غرر ههنا أصلا، إلا كالغرر في سائر البيوع كلها، ولا فرق.

وأما المنابذة، والملامسة فروينا من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت عبيد الله، هو ابن عمر عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ: أنه نهى عن بيعتين: المنابذة والملامسة، وزعم أن الملامسة أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك، ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب الآخر ولكن يلمسه لمسا والمنابذة أن يقول: أنبذ ما معي وتنبذ ما معك ليشتري أحدهما من الآخر، ولا يدري كل واحد منهما كم مع الآخر، ونحو من ذا ".

ومن طريق أحمد بن شعيب أنا أبو داود الطيالسي، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، حدثنا أبي عن صالح، هو ابن كيسان، عن ابن شهاب أن عامر بن سعد بن أبي وقاص أخبره أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: نهى رسول الله ﷺ عن الملامسة، والملامسة لبس الثوب لا ينظر إليه وعن المنابذة، والمنابذة طرح الرجل ثوبه إلى الرجل قبل أن يقلبه.

قال أبو محمد: وهذا حرام بلا شك، وهذا تفسير أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنهما، وهما الحجة في الشريعة، واللغة، ولا مخالف لهما في هذا التفسير، وليس هذا بيع غائب ألبتة، بل هو بيع حاضر فظهر تمويه من احتج منهم بهذين الخبرين.

قال علي: إلا أن هذين الخبرين هما حجة على أبي حنيفة في إجازته بيع الغائب والحاضر غير موصوفين، ولا مرئيين.

قال علي: ومما يبطل قول الشافعي أنه لم يزل المسلمون يتبايعون الضياع بالصفة؛ وهي في البلاد البعيدة، قد بايع عثمان ابن عمر، رضي الله عنهم، مالا لعثمان بخيبر بمال لأبن عمر بوادي القرى، وهذا أمر مشهور. فإن احتجوا بنهي النبي ﷺ عن بيع ما ليس عندك.

قلنا: نعم، والغائب هو عند بائعه لا مما ليس عنده؛ لأنه لا خلاف في لغة العرب في صدق القائل: عندي ضياع، وعندي دور، وعندي رقيق ومتاع غائب وحاضر إذا كان كل ذلك في ملكه، وإنما ليس عند المرء ما ليس في ملكه فقط، وإن كان في يده. والبرهان على فساد قول الشافعي هذا هو قول الله تعالى: {وأحل الله البيع}.

وقوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. فبيع الغائب بيع داخل فيما أحله الله تعالى، وفي التجارة التي يتراضى بها المتبايعان، فكل ذلك حلال إلا بيعا حرمه الله تعالى على لسان رسوله ﷺ في القرآن، والسنة الثابتة. ومن الباطل المتيقن أن يكون الله تعالى يحرم علينا بيعا من البيوع فيجمل لنا إباحة البيع جملة، ولا يبينه لنا على لسان نبيه ﷺ المأمور بالبيان، هذا أمر قدمناه ولله تعالى الحمد لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. وليس في وسعنا أن نعرف ما حرم الله علينا، وما أحله لنا، وما أوجبه علينا، إلا بورود النص بذلك، وما نعلم للشافعي في المنع من بيع الغائبات الموصوفات سلفا.

فإن قيل: فأين قول الحكم، وحماد، الذي رويتموه آنفا. قلنا: إنهما لم يمنعا من بيع الغائب، وإنما منعا من بيع ما لم يره المشتري يوم الشراء وقد يراه في أول النهار ويغيب بعد ذلك فلم يشترطا حضوره في حين عقد البيع، ولا يحل أن يقول أحد ما لم يقل بالظن الكاذب وبالله التوفيق.

قال علي: فسقطت هذه الأقوال كلها، وبقي قول من أوجب خيار الرؤية جملة على ما روينا عن إبراهيم، والحسن، والشعبي، ومكحول، وأحد قولي الشافعي، فوجدناهم يذكرون أثرا رويناه من طريق وكيع عن الحسن بن حي عن الحسن البصري " أن رسول الله ﷺ قال: من اشترى بيعا فهو بالخيار حتى ينظر إليه.

قال أبو محمد: وهذا مرسل، ولا حجة في مرسل، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة؛ لأنه ليس فيه: أن له الخيار إذا وجده كما وصف له، وظاهره قطع الخيار بالنظر، فهو مخالف لقول أبي حنيفة جملة وبالله تعالى التوفيق. وهذا مما تركه المالكيون، وهم يقولون بالمرسل؛ لأنهم لا يجعلون لهم خيارا قبل أن يراه أصلا. وذكروا ما روينا من طريق سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم عن مكحول " أن رسول الله ﷺ قال: من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه، إن شاء أخذه، وإن شاء رده. وإسماعيل ضعيف، وأبو بكر بن مريم مذكور بالكذب، ومرسل مع ذلك، ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة؛ لأنه يحتمل أن يريد له رده إن وجده بخلاف ما وصف له.

1412 - مسألة: فإن وجد مشتري السلعة الغائبة ما اشترى كما وصف له فالبيع له لازم، وإن وجده بخلاف ذلك فلا بيع بينهما إلا بتجديد صفة أخرى برضاهما جميعا.

برهان ذلك: أنه اشترى شراء صحيحا إذا وجد الصفة كما اشترى كما ذكرنا آنفا، فإن وجد الصفة بخلاف ما عقد الأبتياع عليه فبيقين ندري أنه لم يشتر تلك السلعة التي وجد؛ لأنه اشترى سلعة بصفة كذا، لا سلعة بالصفة التي وجد، فالتي وجد غير التي اشترى بلا شك من أحد فإن لم يشترها فليست له.

فإن قيل: فألزموا البائع إحضار سلعة بالصفة التي باع

قلنا: لا يحل هذا؛ لأنه إنما باع عينا معينة لا صفة مضمونة، فلا يجوز إلزامه إحضار ما لم يبع فصح أن عقده فاسد؛ لأنه لم يقع على شيء أصلا وبالله تعالى التوفيق وهذا قول أبي سليمان وغيره.


1413 - مسألة: فإن بيع شيء من الغائبات بغير صفة ولم يكن مما عرفه البائع لا برؤية، ولا بصفة من يصدق ممن رأى ما باعه، ولا مما عرفه للمشتري برؤية، أو بصفة من يصدق، فالبيع فاسد مفسوخ أبدا، لا خيار في جوازه أصلا. ويجوز ابتياع المرء ما وصفه له البائع صدقه أو لم يصدقه. ويجوز بيع المرء ما وصفه له المشتري صدقه أو لم يصدقه فإن وجد المبيع بتلك الصفة، فالمبيع لازم، وإن وجد بخلافها، فالمبيع باطل، ولا بد. وأجاز الحنفيون بيع العين المجهولة غير الموصوفة، وجعلوا فيها خيار الرؤية، كما ذكرنا وقولنا في أنه لا يجوز إلا بمعرفة وصفه: هو قول مالك في بعض ذلك، أو قول أبي سليمان، وغيرهما.

قال أبو محمد: واحتج الحنفيون لقولهم بالخبر الثابت عن رسول الله ﷺ أنه نهى عن بيع الحب قبل أن يشتد، قالوا: ففي هذا إباحة بيعه بعد اشتداده وهو في أكمامه بعد لم يره أحد، ولا تدرى صفته.

قال علي: وهذا مما موهوا به وأوهموا أنه حجة لهم، وليس كذلك؛ لأنه ليس في هذا الخبر إلا النهي عن بيعه قبل اشتداده فقط، وليس فيه إباحة بيعه بعد اشتداده، ولا المنع من ذلك فاعجبوا لجرأة هؤلاء القوم على الله تعالى بالباطل؛ إذ احتجوا بهذا الخبر ما ليس فيه منه شيء، وخالفوه فيما جاء فيه نص، فهم يجيزون بيع الحب قبل أن يشتد على شرط القطع، فيا لضلال هذه الطريقة

قال أبو محمد: وعجب آخر: أنهم كذبوا في هذا الخبر فأقحموا فيه ما ليس فيه منه نص، ولا أثر من إباحة بيع الحب بعد أن يشتد، ثم لم يقنعوا بهذه الطامة حتى أوجبوا بهذا الخبر ما ليس فيه له ذكر، ولا إشارة إليه بوجه من الوجوه: من بيع الغائبات التي لا تعرف صفاتها، ولا عرفها البائع، ولا المشتري، ولا وصفها لهما أحد، ثم لم يلبثوا أن نقضوا ذلك ككرة الطرف فحرموا بيع لحم الكبش قبل ذبحه، والنوى دون التمر قبل أكله، وبيع الزيت في الزيتون قبل عصره، وبيع الألبان في الضروع واحتجوا في ذلك بأنه كله مجهول لا تدرى صفته، وهذا موق وتلاعب بالدين ونعوذ بالله من مثله.

قال علي: ونحن نجيز بيع الحب بعد اشتداده كما هو في أكمامه بأكمامه، وبيع الكبش حيا ومذبوحا كله لحمه مع جلده، وبيع الشاة بما في ضرعها من اللبن، وبيع النوى مع التمر؛ لأنه كله ظاهر مرئي، ولا يحل بيعه دون أكمامه؛ لأنه مجهول لا يدري أحد صفته، ولا بيع اللحم دون الجلد، ولا النوى دون التمر، ولا اللبن دون الشاة كذلك.

قال أبو محمد: ولا يخلو بيع كل ذلك قبل ظهوره من أن يكون إخراجه مشترطا على البائع، أو على المشتري، أو عليهما، أو على غيرهما، أو لا على أحد، فإن كان مشترطا على البائع، أو على المشتري: فهو بيع بثمن مجهول وإجارة بثمن مجهول وهذا باطل؛ لأن البيع لا يحل بنص القرآن إلا بالتراضي، والتراضي بضرورة الحس لا يمكن أن يكون إلا بمعلوم لا بمجهول، فكذلك إن كان مشترطا عليهما، أو على غيرهما.

وأيضا: فإن كل ذلك شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، فإن لم يشترط على أحد فهو أكل مال بالباطل حقا؛ لأنه لا يصل إلى أخذ ما اشتراه

قال علي: والبرهان على بطلان بيع ما لم يعرف برؤية، ولا بصفة: صحة نهي النبي ﷺ عن بيع الغرر وهذا عين الغرر؛ لأنه لا يدري ما اشترى أو باع. وقول الله؛ تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. ولا يمكن أصلا وقوع التراضي على ما لا يدرى قدره، ولا صفاته، وإنما فرقنا بين صفة البائع للمشتري، أو المشتري للبائع صدق أحدهما الآخر أو لم يصدقه فأجزنا البيع بذلك وبين صفة غيرهما، فلم يجزه إلا ممن يصدقه الموصوف له، فلأن صفة البائع للمشتري، أو صفة المشتري للبائع عليها وقع البيع، وبها تراضيا، فإن وجد المبيع كذلك علمنا أن البيع وقع صحيحا على حق وعلى ما يصح به التراضي وإلا فلا.

وأما إذا وصفه لهما غيرهما ممن لا يصدقه الموصوف له فإن البيع ههنا لم يقع على صفة أصلا، فوقع العقد على مجهول من أحدهما أو من كليهما وهذا حرام لا يحل. فإن وصفه من صدقه الموصوف له، فالتصديق يوجب العلم، فإنما اشترى ما علم، أو باع البائع ما علم، فالعقد صحيح، والتراضي صحيح. فإن وجد المبيع كذلك علم أن البيع انعقد على صحة، وإن وجد بخلاف ذلك علم أن البيع لم ينعقد على صحة، كما لو وجده قد استحال عما عرفه عليه، ولا فرق وبالله تعالى التوفيق.

1414 - مسألة: وجائز بيع الثوب الواحد المطوي، أو في جرابه، أو الثياب الكبيرة كذلك، إذا وصف كل ذلك، فإن وجد كل ذلك كما وصف فالبيع لازم، وإلا فالبيع باطل.

قال علي: التفريق بين الواحد، والكثير، خطأ، وليس إلا حرام، فقليله وكثيره حرام، أو حلال، فقليله وكثيره حلال وهذا بعينه هولوا وشنعوا على الحنفيين في إباحتهم قليل المسكر وتحريمهم كثيره، ولا يقبل مثل هذا إلا من رسول الله ﷺ فقط، وما نعلم لهم شيئا شغبوا به إلا أنهم قالوا: أمر الثوب الواحد يسهل نشره وتقليبه وطيه، وهذا يصعب في الكثير. فقلنا لهم: وأين وجدتم هذه الشريعة أن تكون صعوبة العمل تبيح المحرمات، والبيوع المحرمة

ثم نقول لهم: ما تقولون في ثوبين مدرجين في جراب أو جرابين فإن أباحوا ذلك، سألناهم عن الثلاثة، ثم عن الأربعة، ثم نزيدهم هكذا، واحدا فواحدا فإن حرموا سألناهم عن الدليل على تحليل ما أحلوا من ذلك وتحريم ما حرموا، وعن الدليل على صعوبة ما جعلوه لصعوبته حلالا، وعلى سهولة ما جعلوه لسهولته حراما وهذا ما لا سبيل إليه.

وأيضا: فرب ثياب يكون نشرها وطيها أسهل من نشر ثوب واحد وطيه، هذا أمر يعرف ضرورة، كالمروي المجلوب من بغداد الذي لا يقدر على إعادة طيه بعد نشره إلا واحد بين ألوف، وإنما الحكم في ذلك كوجوه صحة التراضي بعلمها بالصفة، وارتفاع الغرر في عقد البيع عن الجهالة فقط وبالله تعالى التوفيق.



1415 - مسألة : وفرض على كل متبايعين - لما قل أو كثر - أن يشهدا على تبايعهما رجلين ، أو رجلا وامرأتين من العدول ، فإن لم يجدا عدولا سقط فرض الإشهاد كما ذكرنا ، فإن لم يشهدا - وهما يقدران على الإشهاد - فقد عصيا الله عز وجل ، والبيع تام . فإن كان البيع بثمن - إلى أجل مسمى - ففرض عليهما مع الإشهاد المذكور أن يكتباه ، فإن لم يكتباه ، فقد عصيا الله عز وجل والبيع تام . فإن لم يقدرا على كاتب فقد سقط عنهما فرض الكتاب . برهان ذلك - : قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة } . قال أبو محمد : فهذه أوامر مغلظة مؤكدة لا تحتمل تأويلا أمر بالكتاب ، في المداينة إلى أجل مسمى ، وبالإشهاد في ذلك في التجارة المدارة ، كما أمر الشهداء أن لا يأبوا أمرا مستويا ، فمن أين صار عند هؤلاء القوم أحد الأوامر فرضا والآخر هملا ؟ وأخبر تعالى أن الكاتب إن ضار - ولا شك في أن امتناعه من الكتاب مضارة ، وأن امتناع الشاهد من الشهادة إذ دعي - فسوق ثم أكد تعالى أشد تأكيد ونهانا أن نسأم كتاب ما أمرنا بكتابه صغيرا كان أو كبيرا . وأخبر تعالى أن ذلك أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى من أن لا نرتاب ، وأسقط الجناح في ترك الكتاب خاصة دون الإشهاد في التجارة المدارة ، ولم يسقط الجناح في ترك الكتاب فيما كان دينا إلى أجل مسمى . وبهذا جاءت السنة - : كما روينا من طريق غندر عن شعبة عن فراس الخارفي عن الشعبي عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال : ثلاثة يدعون الله تعالى فلا يستجاب لهم - وذكر فيهم : ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه - وقد أسنده معاذ بن المثنى عن أبيه عن شعبة عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبيه عن النبي ﷺ . ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا علي بن عبد الله - هو ابن المديني - أخبرنا المؤمل بن إسماعيل نا سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قول الله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } قال مجاهد : كان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد ، وإذا باع بنسيئة كتب وأشهد . ومن طريق إسماعيل نا علي بن عبد الله نا حسان بن إبراهيم الكرماني نا إبراهيم - هو ابن ميمون الصائغ - عن عطاء بن أبي رباح قال : تشهد على كل شيء تشتريه وتبيعه ولو كان بدرهم أو بنصف درهم أو بربع درهم أو أقل فإن الله تعالى يقول : { وأشهدوا إذا تبايعتم } . نا أبو سعيد الفتى نا محمد بن علي الإدفوي نا أحمد بن محمد بن إسماعيل بن النحاس النحوي نا جعفر بن مجاشع نا إبراهيم بن إسحاق نا شجاع نا هشيم عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال " أشهد إذا بعت وإذا اشتريت - ولو على دستجة بقل - قال ابن النحاس : وقال محمد بن جرير الطبري : لا يحل لمسلم إذا باع واشترى إلا أن يشهد ، وإلا كان مخالفا لكتاب الله عز وجل - وهكذا إن كان إلى أجل فعليه أن يكتب ويشهد إذا وجد كاتبا - وهو قول جابر بن زيد ، وغيره . ومن طريق إسماعيل بن إسحاق نا يحيى بن خلف نا أبو عاصم - هو الضحاك بن خلف - عن عيسى نا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى : { ولا يأب كاتب } قال : وأوجب على الكاتب أن يكتب - وكل هذا قول أبي سليمان ، وأصحابنا . وذهب الحنفيون ، والمالكيون ، والشافعيون إلى أنه ليس الإشهاد المذكور ، ولا الكتاب المذكور ، المأمور به : واجبا - ولا يلزم الكاتب أن يكتب - : روينا عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية فلما بلغ إلى قول الله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته } قال : نسخت هذه الآية ما قبلها ؟ قال أبو محمد : الظاهر من قول أبي سعيد رضي الله عنه أنها [ إنما ] نسخت ، الأمر بالرهن ؛ لأنه هو الذي قبلها متصلا بها ، ولا يجوز أن يظن بأبي سعيد أنه يقول : إنها نسخت كل ما كتب قبلها من القرآن ، ولا كل ما نزل قبلها من القرآن ، فإذ لا شك من هذا : فلا يجوز أن يدخل في قول أبي سعيد أنها نسخت الأمر بالإشهاد والكتاب بالدعوى البعيدة الفاسدة بلا برهان ، إلا أنه قد روي هذا عن الحسن ، والحكم . وروي عن الشعبي أن الأمر بكل ذلك : ندب - وهو قول أبي قلابة ، وصفوان بن محرز ، وابن سيرين . قال أبو محمد : دعوى النسخ جملة لا يجوز إلا ببرهان متيقن ، لأن كلام الله تعالى إنما ورد ليؤتمر له ويطاع بالعمل به ، لا لتركه ، والنسخ يوجب الترك ، فلا يجوز لأحد أن يقول في شيء أمره الله تعالى به : هذا لا تلزمني طاعته إلا بنص آخر عن الله عز وجل ، أو عن رسوله عليه السلام بأنه قد نسخ ، وإلا فالقول بذلك لا يجوز . وكذلك دعوى الندب باطل أيضا إلا ببرهان آخر من النص كذلك ؛ لأن معنى الندب إن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل ، ولا يفهم في اللغة العربية في لفظة افعل لا تفعل إن شئت إلا ببرهان يوجب ذلك ، فبطلت الدعوتان معا بيقين لا إشكال فيه . وليت شعري ما الفرق بين قول الله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } وبين قوله تعالى : { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله } وقد قال المالكيون في ذلك : هو فرض ، وقالوا ههنا : هو ندب تحكما بلا برهان . وكذلك قوله تعالى : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } وقد قال الشافعيون : إنه فرض ، وقالوا ههنا : هو ندب تحكما بلا دليل . وكذلك قوله تعالى : { مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } فقال الحنفيون : هذا فرض ولا يقام بمكة حد ، وقالوا ههنا : هو ندب تحكما بلا حجة . وأي فرق بين أمره تعالى بالإشهاد ، والكتاب ، وبين أمره تعالى بما أمر في كفارة الأيمان ، وكفارة الظهار ، وحكم الإيلاء ، وحكم اللعان ، وسائر أوامر القرآن ؟ ونعوذ بالله من أن نجعل { القرآن عضين } فنوجب بعضا ونلغي بعضا . فإن ذكروا قول الله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته } ؟ قلنا : هذا مردود على ما يتصل به من الرهن ، ولا يجوز أن يحمل على إسقاط وجوب الأمر بالإشهاد ، والكتاب ، بالدعوى بلا برهان . وكذلك من قال : هو فرض على الكفاية ؛ لأن كل ذلك دعوى عارية من البرهان ، وما كان بهذه الصفة فهو باطل مطرح قال تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } . ومن أطرف شيء مبادرتهم إذا ادعوا في شيء من أوامر القرآن أنه ندب ؟ فقلنا لهم : ما برهانكم على هذه الدعوى ؟ قالوا : قول الله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } . { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } . فقلنا لهم : إن هذا لعجب ليت شعري في أي دين وجدتم أم في أي عقل : أنه إذا صح في أمر من أوامر الله تعالى أنه منسوخ ، أو أنه ندب وجب أن تحمل سائر أوامره تعالى على أنها منسوخة ، وعلى أنها ندب ؟ فما سمع بأعجب من هذا الاحتجاج الفاسد إذ قصدوا به هدم القرآن بلا برهان . ولا فرق بين فعلهم هذا ههنا وبين من قصد إلى أي آية شاء من القرآن فقال : هي منسوخة ؟ فإذا قيل له : ما برهانك على ذلك ؟ قال : نسخ الله تعالى الاستقبال إلى بيت المقدس ، ونسخه لإعداد المتوفى عنها سنة . قال أبو محمد : ونحن لا ننكر وجود النسخ في بعض الأوامر ، أو كونه على الندب ، أو على الخصوص : إذا جاء نص آخر ببيان ذلك وأما بالدعوى فلا . فإذا صح في أمر من القرآن أو السنة أنه منسوخ ، أو مندوب ، أو مخصوص ، بنص آخر ؟ قلنا بذلك ولم نتعده بهذا الحكم إلى ما لم يأت فيه دليل يصرفه عن موضوعه ومقتضاه ؟ قال علي : واحتجوا بالخبر المأثور من طريق الزهري عن عمارة بن خزيمة بن ثابت : أن عمه أخبره { أن رسول الله ﷺ ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه النبي ﷺ ليعطيه الثمن ، فأسرع النبي وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يساومون الأعرابي بالفرس ، وزيد على السوم ، فنادى الأعرابي النبي ﷺ إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته ؟ فقال له النبي ﷺ أو ليس قد ابتعته منك ؟ قال الأعرابي : والله ما بعتكه هلم شهيدا يشهد أني بايعتك ؟ فقال خزيمة : أنا أشهد أنك بايعته ، فأقبل النبي ﷺ يقول : بم تشهد ؟ قال : بتصديقك ، فجعل النبي ﷺ شهادة خزيمة شهادة رجلين } . ومن طريق حماد بن سلمة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت نحوه وزاد فيه : { فردها رسول الله ﷺ وقال : اللهم إن كان كذب فلا تبارك له فيها فأصبحت شاصية برجلها } فقالوا : فهذا رسول الله ﷺ قد ابتاع ولم يشهد . قال أبو محمد : هذا لا حجة لهم فيه لوجوه - : أولها : أنه خبر لا يصح لأنه راجع إلى عمارة بن خزيمة - وهو مجهول . والثاني : أنه لو صح لما كانت لهم فيه حجة ؛ لأنه ليس فيه : أن الأمر تأخر مقدار مدة يمكن فيها الإشهاد ، فلم يشهد عليه السلام ، وإنما فيه : أن رسول الله ﷺ ابتاع منه الفرس ثم استتبعه ليوفيه الثمن فأسرع عليه السلام وأبطأ الأعرابي - والبيع لا يتم إلا بالتفرق بالأبدان - ففارقه النبي ﷺ ليتم البيع ، وإلا فلم يكن تم بعد ، وإنما يجب الإشهاد بعد تمام البيع وصحته ، لا قبل أن يتم . والثالث : أنه حتى لو صح لهم الخبر - وهو لا يصح - ثم صح فيه : أنه عليه السلام ترك الإشهاد وهو قادر عليه بعد تمام البيع ، وهذا لا يوجد أبدا ، فليس فيه : أنه كان بعد نزول الآية - ونحن نقر بأن الإشهاد إنما وجب بنزول الآية لا قبل نزولها - ولا يجوز ترك يقين حكم الله عز وجل بظن كاذب لا يحل القطع به - فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة . قال أبو محمد : وعهدنا بهم يقولون بخلاف هذا الخبر ، لأن جميعهم يقول : لا يحكم الحاكم لنفسه . وفي المسند من طريقي هذا الخبر أنه حكم عليه السلام لنفسه ، فمن عجائب الدنيا تركهم الحكم بخبر فيما ورد فيه واحتجاجهم به في ما ليس منه فيه أثر ، ولا نص ، ولا دليل . فإن قالوا : أخذنا بالمرسل في أنه عليه السلام ردها ؟ قلنا : وما الذي جعل المرسل من هذا الخبر أقوى من المسند ، ثم ليس في المرسل : أنه عليه السلام ردها لوجوب الحكم بردها ، بل قد يهبها عليه السلام له كما أخبر عن نفسه المقدسة أنه لا يسأله أحد ما لا تطيب به نفسه فيعطيه إياه إلا لم يبارك له فيه - فهذا حسن وإعطاء حلال ، والدعاء عليه بالعقوبة لكذبه ، ولا يجوز غير ذلك لو صح الخبر [ فكيف - وهو لا يصح ] أصلا لأنه لا يحل لمسلم أن يظن برسول الله ﷺ أنه أطلق يد الفاسق على حرام وهو يعلمه حراما إذ كان يكون معينا على الإثم والعدوان ، وعلى أخذ الحرام عمدا وظلما ، والله تعالى يقول : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ومن نسب هذا إلى رسول الله ﷺ فقد خرج عن الإسلام . وعهدنا بالحنفيين لا يستحيون من مخالفة الخبر الثابت في أن { رسول الله ﷺ حكم باليمين مع الشاهد } ؛ لأنه بزعمهم خلاف ما في القرآن ، وردوا الخبر الثابت في تغريب الزاني سنة ؛ لأنه زيادة على ما في القرآن ، وقالوا : لا نأخذ بخبر الواحد إذا كان زائدا على ما في القرآن ، وفعلوا هذا كلهم في جلد المحصن مع الرجم ، ثم لا يبالون ههنا بالأخذ بخبر ضعيف لا يصح ، مخالف - بزعمهم - لما في القرآن ، فكيف ولو صح لما كان فيه خلاف للقرآن على ما بيناه ؟ وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : وقد زاد بعضهم في الهذر والتخليط فأتوا بأخبار كثيرة صحاح ، كموته عليه السلام - ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعا من شعير - وكابتياعه البكر من عمر ، والجمل من جابر ، وابتياع بريرة ، وابتياع صفية بسبعة أرؤس ، والعبد بالعبدين ، والثوب بالثوبين إلى الميسرة . وكل خبر ذكر فيه أنه عليه السلام باع أو ابتاع ، قالوا : وليس فيها ذكر الإشهاد وكل ذلك لا متعلق لهم بشيء منه ؛ لأن جميعها ليس في شيء منها : أنه عليه السلام لم يشهد ، ولا أنه أشهد . ووجدنا أكثرها ليس فيها ذكر ثمن فيلزمهم على هذا أن يجيزوا البيع بغير ذكر ثمن ؛ لأنه مسكوت عنه كما سكت عن ذكر الإشهاد ، وليس ترك ذكر جميع الأحكام في كثير من الأخبار بمسقط لها ، كما أن قوله تعالى : { كلوا واشربوا } ليس فيه إباحة ما حرم من المآكل ، والمشارب ، بل النصوص كلها مضموم بعضها إلى بعض ، مأخوذ بما في كل واحد منها ، وإن لم تذكر في غير منها - وما عدا هذا ففساد في العقل ، وإفساد للدين ، ودعاوى في غاية البطلان . وأيضا : فإنهم مهما خالفونا في وجوب الإشهاد ، والكتاب ، فإنهم مجمعون معنا على أنهما فعل حسن مندوب إليه ، فإن كان السكوت عن ذكر الإشهاد في هذه الأخبار دليلا على سقوط وجوبه فهو دليل على سقوط اختياره ؛ لأنه عليه السلام لا يترك الأفضل في جميع أعماله للأدنى . ومن عجائبهم احتجاجهم بهذه الآية - يعني الحنفيين والمالكيين - في مخالفتهم السنة أن لا بيع بين المتبايعين إلا بعد التفرق فقالوا : قال الله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } ولم يذكر التفرق . ثم أبطلوا حكم هذه الآية بأخبار أخر ليس فيها ذكر الإشهاد ، وهذا باب يبطل به - لو صح - جميع الدين أوله عن آخره ؛ لأنهم لا يعدمون نصوصا أخر لم يذكر فيها ما في تلك الأحاديث فيبطلون لذلك أحكامها ، وهكذا أبدا كلما ورد نص لم يذكر فيه سائر الأحكام وجب بطلان ما لم يذكر فيه ، ثم يبطل حكم ذلك النص أيضا ؛ لأنه لم يذكر أيضا في نص آخر - وهذه طريق من سلكها فلم يزد على أن أثبت فساد دينه وقلة حيائه وضعف عقله ونعوذ بالله من الخذلان - فإن قالوا : هذا مما تعظم به البلوى فلو كان واجبا ما خفي على كثير من العلماء ؟ قلنا : هبكم موهتم بهذا في أخبار الآحاد أترون هذا يسوغ لكم في القرآن الذي لم يبق من لم يعلمه ؟ وهلا قلتم هذا لأنفسكم في قول من قال منكم : لا يتم البيع إلا بالتسليم للمبيع وهذا أمر تعظم به البلوى ولا يعرفه أكثر الناس - وفي قول من قال منكم : لا يتم البيع إلا بالتفرق ، وهذا أمر تعظم به البلوى ولا يعرفه كثير من الناس ، وفي قول من قال منكم بعهدة الرقيق في السنة والثلاث ، وبالجوائح في الثمار ، وهي أمور تكثر بها البلوى ولا يعرفها غير القائلين بذلك منكم فظهر التحكم بالباطل في أقوالهم واستدلالهم - وبالله تعالى التوفيق . وإنما قلنا : إنه إن ترك الإشهاد ، والكتاب فقد عصى الله تعالى والبيع تام فالمعصية لخلافه أمر الله تعالى بذلك ، وأما جواز البيع فلأن الإشهاد والكتاب عملان غير البيع وإنما أمر الله تعالى بهما بعد تمام البيع وصحته فإذا تم البيع لم تبطله معصية حدثت بعده ولكل عمل حكمه { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره }

1416 - مسألة : ولا يجوز البيع إلا بلفظ البيع ، أو بلفظ الشراء ، أو بلفظ التجارة ، أو بلفظ يعبر به في سائر اللغات عن البيع ، فإن كان الثمن ذهبا أو فضة غير مقبوضين لكن حالين ، أو إلى أجل مسمى : جاز أيضا بلفظ الدين أو المداينة ، ولا يجوز شيء من ذلك بلفظ الهبة ، ولا بلفظ الصدقة ، ولا بشيء غير ما ذكرنا أصلا . برهان ذلك - : قول الله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } . وقوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } . وقوله تعالى : { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } . فصح أن ما حرم الله تعالى فهو حرام ، وما أحل فهو حلال ، فمتى أخذ مال بغير الاسم الذي أباح الله تعالى به أخذه كان باطلا بنص القرآن . وصفة البيع والربا واحدة والعمل فيهما واحد ، وإنما فرق بينهما الاسم فقط ، وإنما هما معاوضة مال بمال : أحدهما حلال طيب ، والآخر حرام خبيث ، كبيرة من الكبائر ، قال تعالى { وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } . وقال تعالى : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } . فصح أن الأسماء كلها توقيف من الله تعالى ، لا سيما أسماء أحكام الشريعة التي لا يجوز فيها الإحداث ، ولا تعلم إلا بالنصوص ، ولا خلاف بين الحاضرين منا ومن خصومنا في أن امرءا لو قال للآخر : أقرضني هذا الدينار وأقضيك دينارا إلى شهر كذا ، ولم يحد وقتا فإنه حسن ، وأجر ، وبر . وعندنا إن قضاه دينارين أو نصف دينار فقط ورضي كلاهما فحسن . ولو قال له : بعني هذا الدينار بدينار إلى شهر ، ولم يسم أجلا ، فإنه ربا ، وإثم ، وحرام ، وكبيرة من الكبائر - والعمل واحد ، وإنما فرق بينهما الاسم فقط . وكذلك لو قال رجل لامرأة : أبيحي لي جماعك متى شئت ؟ ففعلت ، ورضي وليها ، لكان ذلك زنا - إن وقع - يبيح الدم في بعض المواضع . ولو قال لها : أنكحيني نفسك ؟ ففعلت ، ورضي وليها لكان حلالا ، وحسنا ، وبرا ، وهكذا - عندنا - في كل شيء . وأما لفظ الشرى ، فلما روينا من طريق البخاري نا علي بن عياش نا أبو غسان محمد بن مطرف حدثني ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله [ رضي الله عنهما ] " أن رسول الله ﷺ قال : { رحم الله امرءا سمحا إذا باع ، وإذا اشترى ، وإذا اقتضى } .



1417 - مسألة : وكل متبايعين صرفا أو غيره فلا يصح البيع بينهما أبدا وإن تقابضا السلعة والثمن ، ما لم يتفرقا بأبدانهما من المكان الذي تعاقدا فيه البيع ، ولكل واحد منهما إبطال ذلك العقد أحب الآخر أم كره - ولو بقيا كذلك دهرهما - إلا أن يقول أحدهما للآخر - لا تبال أيهما كان القائل بعد تمام التعاقد - : اختر أن تمضي البيع ، أو أن تبطله ؟ فإن قال : قد أمضيته فقد تم البيع بينهما - تفرقا أو لم يتفرقا - وليس لهما ولا لأحدهما فسخه إلا بعيب ، ومتى ما لم يتفرقا بأبدانهما ولا خير أحدهما الآخر ، فالمبيع باق على ملك البائع كما كان ، والثمن باق على ملك المشتري كما كان ، ينفذ في كل واحد منهما حكم الذي هو على ملكه لا حكم الآخر . برهان ذلك - : قول النبي ﷺ الذي رويناه من طريق البخاري نا أبو النعمان - هو محمد بن الفضل عارم - نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر وربما قال : أو يكون بيع خيار } . ومن طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن علي بن حرب نا محرز بن الوضاح عن إسماعيل - هو ابن جعفر - عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : { المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع كان عن خيار ، فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع } . قال أبو محمد : هذا يبين أن الخيار المذكور إنما هو قول أحدهما للآخر : اختر ، لا عقد البيع على خيار مدة مسماة ، لأنه قال عليه السلام : إن كان البيع عن خيار ، فقد وجب البيع - وهذا خلاف حكم البيع المعقود على خيار مدة عند القائلين به . ومن طريق يحيى بن سعيد القطان نا عبيد بن عمر أخبرني نافع عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ قال : { كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا أو يكون خيارا } . وهكذا رواه هشيم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه لا بيع بينهما . وهكذا رويناه عن إسماعيل بن جعفر ، وسفيان الثوري ، وشعبة ، كلهم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ : { لا بيع بينهما حتى يتفرقا } . ومن طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد حدثه عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ قال : { إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر ، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع } . قال أبو محمد : هذا الحديث يرفع كل إشكال ، ويبين كل إجمال ، ويبطل التأويلات المكذوبة التي شغب بها المخالفون . ومن طريق محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا الحميدي نا سفيان بن عيينة نا ابن جريج قال : أملى علي نافع في ألواحي قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله ﷺ : { إذا تبايع المتبايعان البيع فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكن بيعهما عن خيار } . قال نافع : فكان ابن عمر إذا ابتاع البيع فأراد أن يجب له : - مشى قليلا ثم رجع . ومن طريق مسلم نا محمد بن المثنى ، وعمرو بن علي قال ابن المثنى : نا يحيى بن سعيد القطان ، وقال عمرو بن علي : نا عبد الرحمن بن مهدي ، ثم اتفق يحيى ، وعبد الرحمن ، كلاهما عن شعبة عن قتادة عن أبي الخليل - هو صالح بن أبي مريم - عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب عن حكيم بن حزام عن النبي ﷺ : قال { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا ، وكتما محق بركة بيعهما } . ورويناه أيضا من طريق همام بن يحيى - وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة بإسناده . ومن طريق أبي التياح عن عبد الله بن الحارث بإسناده . وهذه أسانيد متواترة متظاهرة منتشرة توجب العلم الضروري . ومن طريق أبي داود السجستاني نا مسدد نا حماد بن زيد عن جميل بن مرة عن أبي الوضيء قال : غزونا غزوة لنا فنزلنا منزلا فباع صاحب لنا فرسا لغلام ، ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما ، فلما أصبحا من الغد حضر الرحيل قام إلى فرسه ليسرجه فندم فأتى الرجل ليأخذه بالبيع فأبى أن يدفعه إليه ، فقال له : بيني وبينك أبو برزة صاحب رسول الله ﷺ قال : فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر فقالا له : هذه القصة فقال : أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله ﷺ قال رسول الله ﷺ : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا } . قال هشام بن حسان : قال جميل بن مرة : قال أبو برزة : ما أراكما افترقتما . قال أبو محمد : /126 L476 أبو الوضيء - هو عباد بن نسيب /126 تابعي ثقة - سمع علي بن أبي طالب ، وأبا هريرة ، وأبا برزة ، فهؤلاء عن رسول الله ﷺ ثلاثة من الصحابة ، وعنهم الأئمة من التابعين ومن بعدهم . نا محمد بن سعيد بن عمر بن نبات قال : نا عبد الله بن محمد بن قاسم القلعي نا محمد بن أحمد الصواف ببغداد نا بشر بن موسى بن صالح بن شيخ بن عمير الأسدي نا عبد الله بن الزبير الحميدي نا سفيان - هو ابن عيينة - نا بشر بن عاصم الثقفي قال : سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن أبي بن كعب قال : إن عمر بن الخطاب ، والعباس بن عبد المطلب تحاكما إليه في دار للعباس إلى جانب المسجد أراد عمر أخذها ليزيدها في المسجد فأبى العباس ، فقال لهما أبي : لما أمر سليمان ببناء بيت المقدس كانت أرضه لرجل فاشتراها منه سليمان فلما اشتراها قال له الرجل : الذي أخذت مني خير أم الذي أعطيتني ؟ قال سليمان : بل الذي أخذت منك ، قال : فإني لا أجيز البيع ، فرده ، فزاده ، ثم سأله فأخبره ، فأبى أن يجيزه ، فلم يزل يزيده ويشتري منه ، فيسأله فيخيره ، فلا يجيز البيع ، حتى اشتراها منه بحكمه على أن لا يسأله ، فاحتكم شيئا كثيرا ، فتعاظمه سليمان ، فأوحى الله إليه : إن كنت إنما تعطيه من عندك فلا تعطه ، وإن كنت إنما تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى بها ، فقضى بها للعباس . وروينا من طريق البخاري قال الليث هو ابن سعد - : حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : بعت من أمير المؤمنين عثمان مالا بالوادي بمال له بخيبر ، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا . ومن طريق الليث أيضا : عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر قال : قال عبد الله بن عمر : كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يتفرق المتبايعان فتبايعت أنا وعثمان بن عفان فبعته مالا لي بالوادي بمال له بخيبر ، فلما بايعته طفقت أنكص على عقبي القهقرى خشية أن يرادني عثمان البيع قبل أن أفارقه . فهذا ابن عمر يخبر بأن هذا مذهب الصحابة وعملهم ، ومذهب عثمان بن عفان ؛ لأنه خشي أن يراده البيع قبل التفرق بالأبدان ، فلو لم يكن ذلك مذهب عثمان ما خاف ابن عمر ذلك منه ويخبر بأن ذلك هو السنة . وروينا ذلك أيضا : عن أبي هريرة ، وأبي زرعة بن عمرو بن جرير ، وطاوس - كما روينا عن عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن أبي عتاب عن أبي زرعة ، أن رجلا ساومه بفرس له فلما بايعه خيره ثلاثا ، ثم قال : اختر ؟ فخير كل واحد منهما صاحبه ثلاثا ، ثم قال أبو زرعة : سمعت أبا هريرة ، يقول : هذا البيع عن تراض - : فهذا عمر ، والعباس ، يسمعان أبيا يقضي بتصويب رد البيع بعد عقده فلا ينكران ذلك - فصح أنهم كلهم قائلون بذلك ومعهم عثمان ، وأبو هريرة وأبو برزة ، وابن عمر ، والصحابة جملة رضي الله عنهم . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن سليمان الأحول سمعت : طاوسا يحلف بالله : ما التخيير إلا بعد البيع . ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا محمد بن علي السلمي سمعت أبا الضحى يحدث أنه شهد شريحا اختصم إليه رجلان اشترى أحدهما دارا من الآخر بأربعة آلاف ، فأوجبها له ، ثم بدا له في بيعها قبل أن يفارق صاحبه فقال : لا حاجة لي فيها ، فقال البائع : قد بعتك وأوجبت لك ، فاختصمنا إلى شريح ، فقال شريح : هو بالخيار ما لم يتفرقا قال محمد بن علي : وشهدت الشعبي يقضي بهذا . ومن طريق ابن أبي شيبة نا جرير عن مغيرة عن الشعبي أن رجلا اشترى برذونا فأراد أن يرده قبل أن يتفرقا ، فقضى الشعبي : أنه قد وجب عليه ، فشهد عنده أبو الضحى : أن شريحا أتي في مثل ذلك فرده على البائع فرجع الشعبي إلى قول شريح . وروينا أيضا : من طريق معمر عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين أنه شهد شريحا يقضي بين المختصمين اشترى أحدهما من الآخر بيعا فقال : إني لم أرضه ، وقال الآخر : بل قد رضيته فقال شريح : بينتكما أنكما تصادرتما عن رضا بعد البيع أو خيار أو يمينه بالله ما تصادرتما عن رضا بعد البيع ولا خيار - : وهو قول هشام بن يوسف ، وابنه عبد الرحمن . وقال البخاري : هو قول عطاء بن أبي رباح ، وابن أبي مليكة . وهو قول الحسن ، وسعيد بن المسيب ، والزهري ، وابن أبي ذئب ، وسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، والأوزاعي ، والليث ، وعبيد الله بن الحسن القاضي ، والشافعي ، وأبي ثور ، وجميع أصحابه ، وإسحاق بن راهويه ، وأحمد بن حنبل ، وأبي عبيد وأبي سليمان ، ومحمد بن نصر المروزي ، ومحمد بن جرير الطبري ، وأهل الحديث ، وأهل المدينة . كما روينا من طريق ابن أيمن نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : قال لي أبي : بلغني عن ابن أبي ذئب أنه بلغه قول مالك بن أنس : ليس البيعان بالخيار ؟ فقال ابن أبي ذئب : هذا حديث موطوء بالمدينة - يعني مشهورا - . قال أبو محمد : إلا أن الأوزاعي قال : كل بيع فالمتبايعان فيه بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما ، إلا بيوعا ثلاثة : المغنم ، والشركاء في الميراث يتقاومونه ، والشركاء في التجارة يتقاومونها . قال الأوزاعي : وحد التفرق أن يغيب كل واحد منهما عن صاحبه حتى لا يراه - وقال أحمد : كما قلنا ، إلا أنه لا يعرف التخيير ، ولا يعرف إلا التفرق بالأبدان فقط . وهذا الشعبي قد فسخ قضاءه بعد ذلك ورجع إلى الحق ، فشذ عن هذا كله أبو حنيفة ، ومالك ، ومن قلدهما ، وقالا : البيع يتم بالكلام وإن لم يتفرقا بأبدانهما ، ولا خير أحدهما الآخر ، وخالفوا السنن الثابتة ، والصحابة ، ولا يعرف لمن ذكرنا منهم مخالف أصلا ، وما نعلم لهم من التابعين سلفا إلا إبراهيم وحده - : كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم قال : إذا وجبت الصفقة فلا خيار . ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال : البيع جائز وإن لم يتفرقا - ورواية مكذوبة موضوعة عن الحجاج بن أرطاة وكفى به سقوطا عن الحكم عن شريح قال : " إذا كلم الرجل بالبيع وجب عليه البيع ، والصحيح عن شريح هو موافقة الحق - : كما أوردنا قبل من رواية أبي الضحى ، وابن سيرين عنه . ولعمري ؛ إن قول إبراهيم ليخرج على أنه عنى كل صفقة غير البيع ، لكن الإجارة ، والنكاح ، والهبات ، فهذا ممكن ؛ لأنه لم يذكر البيع أصلا فحصلوا بلا سلف . وقوله : البيع جائز وإن لم يتفرقا : صحيح - وما قلنا : إنه غير جائز ، ولا قال هو : إنه لازم ، وإنما قال : إنه جائز . قال أبو محمد : وموهوا بتمويهات في غاية الفساد - : منها : أنهم قالوا : معنى التفرق أي بالكلام ؟ فقلنا : لو كان كما يقولون لكان موافقا لقولنا ومخالفا لقولكم ؛ لأن قول [ أحد ] المتبايعين آخذه بعشرة ، فيقول الآخر : لا ، ولكن بعشرين لا شك عند كل ذي حس سليم أنهما متفرقان بالكلام ، فإذا قال أحدهما بخمسة عشر ، وقال الآخر : نعم قد بعتكه بخمسة عشر ، فالآن اتفقا ولم يتفرقا فالآن وجب الخيار لهما إذ لم يتفرقا بنص الحديث ؟ فاذهبوا كيف شئتم من عارض الحق بلح وافتضح . وأيضا : فنقول لهم : قولكم : التفرق بالكلام كذب ، دعوى بلا برهان ، لا يحل القول بهما في الدين . وأيضا : فرواية الليث . عن نافع عن ابن عمر التي أوردنا رافعة لكل شغب ، ومبينة أنه التفرق عن المكان بالأبدان ولا بد . وقال بعضهم : معنى المتبايعين ههنا : إنما هما المتساومان ، كما سمي الذبيح ولم يذبح - وقال : كما قال تعالى : { فبلغن أجلهن } : إنما أراد تقاربن بلوغ أجلهن . وقال آخرون منهم : إنما أراد بقوله عليه السلام { ما لم يتفرقا } إنما هو ما بين قول أحدهما : قد بعتك سلعتي هذه بدينار ؟ فهو بالخيار ما لم يقل له الآخر : قد قبلت ذلك ، وبين قوله لصاحبه : قد ابتعت سلعتك هذه بدينار فهو بالخيار ما لم يقل له الآخر : قد بعتكها بما قلت . وقال آخرون : إنما هو ما بين قول القائل : بعني سلعتك بدينار ؟ فهو بالخيار ما لم يقل له الآخر : قد فعلت ، وبين قول القائل : اشتر مني سلعتي هذه بدينار ، فله الخيار ما لم يقل له الآخر : قد فعلت ؟ فجواب هذه الأقوال كلها واضح مختصر ، وهو أن يقال : كذب قائل هذا وأفك وأثم ؛ لأنه حرف كلام رسول الله ﷺ عن مواضعه بلا برهان أصلا ، لكن مطارفة ومجاهرة بالدعوى الباطل ، فمن أين لكم هذه الأقوال ؟ ومن أخبركم بأن هذا هو مراده عليه السلام ؟ وأما قولكم : كما سمي الذبيح ولم يذبح ؟ فما سماه الله تعالى قط ذبيحا ، ولا صح ذلك أيضا قط عن رسول الله ﷺ وإذا كان هكذا فإنما هو قول مطلق عامي لا حجة فيه ، وإنما أطلق ذلك من أطلق مسامحة ، أو لأنه حمل الخليل عليه السلام السكين على حلقه ، وهذا فعل يسمى من فاعله ذبحا ، وما نبالي عن هذه التسمية ؛ لأنها لم يأت بها قط قرآن ، ولا سنة ، فلا يقوم بها حجة في شيء أصلا . وأما قوله تعالى : { فبلغن أجلهن } فصدق الله تعالى وكذب من قال : إنه تعالى أراد المقاربة ، حاش لله من هذا - ولو كان ما ظنوه لكان الإمساك والرجعة لا يجوز إلا في قرب بلوغ الأجل ، لا قبل ذلك ، وهذا باطل بلا خلاف - وتأويل الآية موافق لظاهرها بلا كذب ولا تزيد ، وإنما أراد تعالى - بلا شك - بلوغ المطلقات أجل العدة بكونهن فيها من دخولهن إياها إلى إثر الطلاق إلى خروجهن عنها ، وهذه المدة كلها للزوج فيها الرجعة والإمساك بلا خلاف ، أو التمادي على حكم الطلاق . وحتى لو صح لهم ما أطلقوا فيه الباطل لكان لا متعلق لهم به ؛ لأنه ليس إذا وجد كلام قد صرف عن ظاهره بدليل وجب أن يصرف كل كلام عن ظاهره بلا دليل ، وفي هذا إفساد التفاهم ، والمعقول ، والشريعة كلها ، فكيف ورواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي عليه السلام قال : { كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا } فاضح لهذا الكذب كله ، ومبطل لتخصيص بعض من يقع عليه اسم بيع من سائر من يقع عليه هذا الاسم . وقالوا : هذا التفريق المذكور في الحديث : هو مثل التفريق المذكور في قوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } . فقلنا : نعم ، بلا شك ، وذلك التفرق المذكور في الآية تفرق بالقول يقتضي التفرق بالأبدان ولا بد ، والتفرق المذكور في الحديث كذلك أيضا تفرق بالقول يقتضي التفرق بالأبدان ولا بد ، وأنتم تقولون : إن التفرق المراعى فيما يحرم به الصرف أو يصح إنما هو تفرق الأبدان ، فهلا قلتم على هذا ههنا : إن التفرق المذكور في هذا الخبر هو أيضا تفرق الأبدان ، لولا التحكم البارد حيث تهوون . وموهوا بقول الله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } . فأباح تعالى الأكل بعد التراضي ، قالوا : وهذا دليل على صحة الملك بالعقد . قال أبو محمد : الذي أتانا بهذه الآية هو الذي من عنده ندري : ما هي التجارة المباحة لنا مما حرم علينا ، وما هو التراضي الناقل للملك من التراضي الذي لا ينقل الملك ؟ ولولاه لم نعرف شيئا من ذلك . وهو الذي أخبرنا : أن العقد ليس بيعا ، ولا هو تجارة ، ولا هو تراضيا ولا ينقل ملكا إلا حتى يستضيف إليه التفرق عن موضعهما ، أو التخيير ، فهذا هو البيع ، والتجارة ، والتراضي ، لا ما ظنه أهل الجهل بآرائهم بلا برهان ، لكن بالدعوى الفاسدة . واحتجوا بقول الله تعالى : { أوفوا بالعقود } وهذا حق إلا أن الذي أمرنا بهذا على لسان نبيه هو تعالى الآمر لرسوله عليه السلام أن يخبرنا أنه لا يصح هذا التعاقد ولا يتم ، ولا يكون عقدا إلا بالتفرق عن موضعهما أو بأن يخير أحدهما الآخر بعد التعاقد ، وإلا فلا يلزم الوفاء بذلك العقد ، وهم مجمعون معنا على أنه لا يلزم أحدا الوفاء بكل عقد عقده ، بل أكثر العقود حرام الوفاء بها ، كمن عقد على نفسه أن يزني ، أو أن يشرب الخمر . نعم ، وأكثر العقود لا يلزم الوفاء به عندهم وعندنا ، كمن عقد أن يشتري ، أو أن يبيع ، أو أن يغني ، أو أن يزفن أو أن ينشد شعرا . فصح يقينا أنه لا يلزم الوفاء بعقد أصلا ، إلا عقدا أتى النص بالوفاء به باسمه وعينه ، وهم يقولون - يعني الحنفيين - أن من بايع آخر شيئا غائبا وتعاقدا إسقاط خيار الرؤية أنه عقد لا يلزم . والمالكيون يقولون : من ابتاع ثمرة واشترط أن لا يقوم بجائحة ، وعقد ذلك على نفسه ، فإنه عقد لا يلزمه ، فأين احتجاجهم بقول الله تعالى { أوفوا بالعقود } . فإن قالوا : هذه عقود قامت الأدلة على أنه لا يلزم الوفاء بها ؟ قلنا : وعقد البيع عقد قد قام البرهان حقا على أنه لا يلزم الوفاء به إلا بعد التفرق بالأبدان ، أو بعد التخيير ، بخلاف الأدلة الفاسدة التي خصصتم بها ما خصصتم من العقود المذكورة . وموهوا أيضا بقول الله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } وإن الحياء لقليل في وجه من احتج بهذه الآية في هذا المكان لوجوه - : أولها - أنهم أول مخالف لهذه الآية فيما وردت فيه من وجوب الإشهاد فكيف يستحلون الاحتجاج بأنهم قد عصوا الله تعالى فيها وخالفوها ، ولم يروها حجة في وجوب الإشهاد في البيع ؟ والثاني - أنه ليس في الآية نص ولا دليل على بطلان التفرق المذكور في الخبر ولا ذكر منه أصلا . والثالث : أن نص الآية إنما هو إيجاب الإشهاد إذا تبايعنا ، والذي جاءنا بهذه الآية - ولولاه لم ندر ما المبيع المباح من المحرم ألبتة - هو الذي أخبرنا أنه لا بيع أصلا إلا بعد التفرق عن موضعهما أو التخيير . فصح يقينا أن قول الله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } إنما هو أمر بالإشهاد بعد التفرق ، أو التخيير الذي لا بيع بينهما أصلا إلا بعد أحدهما وإن رغمت أنوف المخالفين ؟ ثم موهوا بإيراد أخبار ثابتة وغير ثابتة ، مثل قوله عليه السلام : { إذا ابتعت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه } والقول فيه كالقول في الآية سواء سواء ؛ لأنه لا بيع بينهما إلا بعد التفرق أو التخيير ، وإلا فلم يبتع المبتاع أصلا ولا باع البائع ألبتة .

ومثل من باع عبدا وله مال فماله للبائع . ومثل من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع . ومثل النهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان . وإذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع . وأخبار كثيرة جاء فيها ذكر البيع ، والقول فيها كلها - كما قلنا آنفا : أن كل هذه الأحكام إنما وردت في البيع والذي أمر بما صح منها هو الذي أخبر وحكم وقال : إنه لا بيع بين المتبايعين ما كانا معا ولم يتفرقا ، أو خير أحدهما الآخر ، فتبا لمن عصاه . والعجب أن أكثر هذه الأخبار هم مخالفون لما في نصوصها ، فلم يقنعوا بذلك حتى أضافوا إلى ذلك غرور من أحسن الظن في أن أوهموهم ما ليس فيها منه شيء أصلا . ولا فرق بينهم في احتجاجهم بكل ما ذكرنا في إبطال السنة الثابتة من أن لا بيع بين المتبايعين إلا بعد التفرق بالأبدان أو التخيير ، وبين من احتج بها في إباحة كل بيع لم يذكر فيها من الربا ، والغرر ، والحصاة ، والملامسة ، والمنابذة ، وغير ذلك ، بل هو كله عمل واحد ، نعوذ بالله منه . ومن عجائبهم احتجاجهم في هذا بالخبر الثابت من أنه { لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه } . قال أبو محمد : ولولا أن القوم مستكثرون من الباطل ، والخديعة في الإسلام لمن اغتر بهم لم يخف عليهم هذا التطويل بلا معنى . ونعم ، الخبر صحيح وما اشترى قط أباه من لم يفارق بائعه ببدنه ولا خيره بعد العقد ولا ملكه قط ، بل هو في ملك بائعه كما كان حتى يخيره المبتاع أو يفارقه ببدنه ، فحينئذ يعتق عليه ، وإلا فلا بنص حكم الله تعالى على لسان رسول الله ﷺ . وذكروا أيضا { : المسلمون عند شروطهم } وهذا خبر مكذوب ؛ لأنه إنما رواه كثير بن زيد - وهو ساقط - ومن هو دونه ، أو مرسل عن عطاء . ثم لو صح لكان حجة لنا عليهم ؛ لأن شروط المسلمين ليست كل شرط بلا خلاف ، بل إنما هي الشروط المأمور بها ، أو المباحة بأسمائها في القرآن وصحيح السنن . ولو كان ما أوهموا به لكان شرط الزنى ، والقيادة ، وشرب الخمر ، والربا : شروطا لوازم ، وحاش لله من هذا الضلال . وقد صح عن رسول الله : { كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } فشرط الله تعالى هو التفرق بالأبدان بعد العقد للبيع أو التخيير ، وإلا فلا شرط هنالك يلزم أصلا - وأعجب شيء احتجاج بعضهم بأن من باع بيعا على أنه ثابت بلا خيار أن الخيار ساقط . قال أبو محمد : ليت شعري من وافقهم على هذا الجنون ؟ لا ، ولا كرامة بل لو أن متبايعين عقدا بيعهما على إسقاط الخيار الواجب لهما قبل التفرق بأبدانهما ، وقبل التخيير لكان شرطا ملعونا ، وعقدا فاسدا ، وحكم ضلال لأنهما اشترطا إبطال ما أثبته الله تعالى ورسوله ﷺ . وموهوا أيضا بأن قالوا : لما كان عقد النكاح ، وعقد الطلاق ، وعقد الإجارة ، والخلع ، والعتق ، والكتابة تصح ، ولا يراعى فيها التفرق بالأبدان وجب مثل ذلك في البيع . قال أبو محمد : وهذا قياس والقياس كله باطل ، ثم لو صح القياس لكان هذا منه عين الباطل ، لإجماعهم معنا على أن كل حكم من هذه التي ذكروا له أحكام وأعمال مخالفة لسائرها ، لا يجوز أن يجمع بينهما فيه ، فالبيع ينتقل فيه ملك رقبة المبيع وثمنه ، وليس ذلك في شيء من الأحكام التي ذكروا ، والنكاح فيه إباحة فرج كان محرما بغير ملك رقبته ولا يجوز فيه اشتراط خيار أصلا ولا تأجيل . وهم يجيزون الخيار المشترط في البيع والتأجيل ، ولا يرون قياس أحدهما على الآخر في ذلك جائزا ، والطلاق تحريم فرج محلل إما في وقته وإما إلى مدة بغير نقل ملك ، ولا يجوز فيه اشتراط بعد إيقاعه أصلا ، بخلاف البيع - والإجارة إباحة منافع بعوض لا تملك به الرقبة ، بخلاف البيع ، ويجوز في الحر بخلاف البيع ، وهي إلى أجل ولا بد ، إما معلوم وإما مجهول إن كان في عمل محدود ، بخلاف البيع . والخلع طلاق بمال لا يجوز فيه عندهم خيار مشترط ، بخلاف البيع ، والعتق كذلك ، والكتابة - فظهر سخف قياسهم هذا وأنه هوس وتخليط . وكم قصة لهم في التخيير في الطلاق أوجبوا فيه الخيار ما داما في مجلسهما وقطعوه بالتفرق بأبدانهما حيث لم يوجبه قط رب العالمين ، ولا رسوله عليه السلام ، ولا قول صاحب ، ولا معقول ، ولا قياس شبه به ، لكن بالآراء الفاسدة ؟ ثم أبطلوه حيث أوجبه الله تعالى على لسان رسول الله ﷺ فنحمد الله تعالى على السلامة مما ابتلاهم به .



وقال بعضهم : التفرق بالأبدان في الصرف قبل القبض يبطل العقد - فمن المحال أن يكون ما يبطل العقد هو الذي يثبته . قال علي : وهذا كلام في غاية الفساد ، ولا ننكر هذا إذا جاء به النص فقد وجدنا النقد وترك ، الأجل يفسد السلم عندهم ، ويصحح البيوع التي يقع فيها الربا حتى لا تصح إلا به . فكيف والمعنى فيما راموا الفرق بينه واحد ؟ وهو أن المتصارفين لم يملكا شيئا ولا تبايعا أصلا قبل التقابض ، وكل متبايعين فلم يتم بينهما بيع أصلا قبل التفرق أو التخيير - متصارفين كانا أو غير متصارفين - فإن تفرق كل من ذكرنا بأبدانهم قبل ما يتم به البيع ، فمن كان قد عقد عقدا أبيح له تم له بالتفرق ، ومن كان لم يعقد عقدا أبيح له فليس ههنا شيء يتم له بالتفرق . وقالوا أيضا : متعقبين لكلام رسول الله ﷺ رادين عليه : المتبايعان إنما يكونان متبايعين ما داما في حال العقد لا بعد ذلك ، كالمتضاربين والمتقاتلين فمن المحال أن يكونا متبايعين متفاسخين معا ؟ قال أبو محمد : وهذا كلام من لا عقل له ، ولا علم ، ولا دين ، ولا حياء ؛ لأنه سفسطة باردة ، ونعم ، فإن المتبايعين لا يكونان متبايعين إلا في حين تعاقدهما لكن عقدهما بذلك ليس بشيء ولا يتم إلا بالتفرق أو التخيير بعد العقد ، كما أمر من لا يحرم دم أحد إلا باتباعه ، أو بجزية يغرمها - إن كان كتابيا - وهو صاغر . ومن طريف نوادرهم احتجاجهم في معارضة هذا الخبر بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن النبي ﷺ قال : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله } . قالوا : فالاستقالة لا تكون إلا بعد تمام البيع وصحة انتقال الملك . قال علي : قبل كل شيء فهذا حديث لا يصح ولسنا ممن يحتج لنفسه بما لا يصح ، وقد أعاذنا الله تعالى من ذلك ، ولو صح لكان موافقا لقولنا ، إلا في المنع من المفارقة خوف الاستقالة فقط فلسنا نقول به ؛ لأن الخبر المذكور لا يصح ، ولو صح لقلنا بما فيه من تحريم المفارقة على هذه النية ، وليست الاستقالة المذكورة في هذا الخبر ما ظن هؤلاء الجهال ، وإنما هي فسخ النادم منهما للبيع - رضي الآخر أم كره - لأن العرب تقول استقلت من علتي ، واستقلت ما فات عني : إذا استدركه . والبرهان على صحة قولنا هذا وعلى فساد تأويلهم وكذبه هو أن المفارقة بالأبدان لا تمنع من الاستقالة التي حملوا الخبر عليها ، بل هي ممكنة أبدا ، ولو بعد عشرات أعوام ، فكان الخبر على هذا لا معنى له ولا حقيقة ، ولا فائدة . فصح أنها الاستقالة التي تمنع منها المفارقة بلا شك ، وهي التفرق بالأبدان الموجب للبيع ، المانع من فسخه ولا بد ، ولا يمكن غير هذا ، ولا يحتمل لفظ الخبر معنى سواه ألبتة . فصار هذا الخبر ثقلا عليهم على ثقل ، لأنهم صححوه وخالفوا ما فيه ، وأباحوا له مفارقته - خشي أن يستقيله أو لم يخش . قال علي : هذا كل ما موهوا به وكله عائد عليهم ومبدي تخاذل علمهم وقلة فهمهم ونحن - إن شاء الله تعالى - نذكر ما هو أقوى شبهة لهم ، ونبين حسم التعلق به لمن عسى أن يفعل ذلك - وبالله تعالى التوفيق . روينا من طريق البخاري قال : وقال الحميدي عن سفيان بن عيينة نا عمرو { عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنا مع النبي ﷺ في سفر فكنت على بكر صعب لعمر فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم فيزجره عمر ويرده ثم يتقدم فيزجره عمر ويرده فقال النبي ﷺ لعمر : بعنيه ؟ قال : هو لك يا رسول الله ، قال : بعنيه ؟ فباعه من رسول الله ﷺ فقال النبي ﷺ هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت } قالوا فهذا بيع صحيح لا تفرق فيه وهبة لما ابتاع عليه السلام قبل التفرق بلا شك . قال أبو محمد : هذا خبر لا حجة لهم فيه لوجوه - : أولها - أنه وإن لم يكن فيه تفرق فيه التخيير بعد العقد ، وليس السكوت عنه بمانع من كونه ؛ لأن صحة البيع تقتضيه ولا بد - ولم يذكر في هذا الخبر ثمن أيضا ، فينبغي لهم أن يجيزوا البيع بغير ذكر ثمن أصلا ؛ لأنه لم يذكر فيه ثمن . فإن قالوا : لا بد من الثمن بلا شك ؛ لأن البيع لا يصح إلا به ؟ قلنا : ولا بد من التفرق أو التخيير ؛ لأن البيع لا يكون بيعا ، ولا يصح أصلا إلا بأحدهما ، ولا فرق بينهم في احتجاجهم بهذا الخبر في إسقاط حكم ما لم يذكر فيه من التخيير بعد العقد ، وبين من احتج به في البيع بالمحرمات ؛ لأنه لم يذكر فيه ثمن أصلا ، وهذه هبة لما ابتيع قبل القبض بخلاف رأي الحنفيين فهو حجة عليهم ، وكذلك القول في الإشهاد سواء سواء . والوجه الثاني - أنه حتى لو صح لهم أنه لم يكن في هذا البيع تخيير ولا إشهاد أصلا وهو لا يصح أبدا - فمن لهم أن هذه القصة كانت بعد قول رسول الله ﷺ : { كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا أو يخير أحدهما الآخر } ؟ وبعد أمر الله تعالى بالإشهاد ، ومن ادعى علم ذلك فهو كذاب أفك يتبوأ - إن شاء الله تعالى - مقعده من النار لكذبه على رسول الله ﷺ . فإن كان هذا الخبر قبل ذلك كله ؟ فنحن نقول : إن البيع حينئذ كان يتم بالعقد وإن لم يتفرقا ولا خير أحدهما الآخر ، وإن الإشهاد لم يكن لازما وإنما وجب كل ما ذكرنا حين الأمر به لا قبل ذلك ، وأما نحن فنقطع بأن رسول الله ﷺ لا يخالف أمر ربه تعالى ، ولا يفعل ما نهى عنه أمته ، هذا ما لا شك فيه عندنا ، ومن شك في هذا أو أجاز كونه فهو كافر ، نتقرب إلى الله تعالى بالبراءة منه . وكذلك نقطع بأنه عليه السلام لو نسخ ما أمرنا به لبينه حتى لا يشك عالم بسنته في أنه قد نسخ ما نسخ وأثبت ما أثبت . ولو جاز غير هذا - وأعوذ بالله - لكان دين الإسلام فاسدا لا يدري أحد ما يحرم عليه مما يحل له مما أوجب ربه تعالى عليه حاش لله من هذا ، إن هذا لهو الضلال المبين الذي يكذبه الله تعالى إذ يقول : { تبيانا لكل شيء } و { لتبين للناس ما نزل إليهم } . وقد تبين الرشد من الغي ، والدين كله رشد وخلاف كل شيء منه غي ، فلو لم يتبين كل ذلك لكان الله تعالى كذبا ، والرسول عليه السلام لم يبين ، ولم يبلغ والدين ذاهبا فاسدا - وهذا هو الكفر المحض ممن أجاز كونه . والوجه الثالث - أنهم يقولون : إن الراوي من الصحابة أعلم بما روى وابن عمر هو راوي هذا الخبر ، وهو الذي كان لا يرى البيع يتم إلا بالتفرق بالأبدان ، فهو على أصلهم أعلم بما روي . وسقط على أصلهم هذا تعلقهم بهذا الخبر جملة - والحمد لله رب العالمين . وقال بعضهم : { نهى رسول الله ﷺ عن بيع الغرر } ، ومن الغرر أن يكون لهما خيار لا يدريان متى ينقطع . قال أبو محمد : وهذا كلام فاسد من وجوه - : أحدها - أن العقد قبل التفرق بالأبدان ، أو التخيير : ليس بيعا أصلا لا بيع غرر ولا بيع سلامة ، كما قال عليه السلام : { إنه لا بيع بينهما ما كانا معا } فهو غير داخل في بيع الغرر المنهي عنه . والوجه الثاني - أنه ليس كما قالوا : من أن لهما خيارا لا يدريان متى ينقطع ، بل أيهما شاء قطعه قطعه في الوقت ، بأن يخير صاحبه فإما يمضيه فيتم البيع وينقطع الخيار ، وإما يفسخه فيبطل حكم العقد وتماديه ، أو بأن يقوم فيفارق صاحبه كما كان يفعل ابن عمر فظهر برد هذا الاعتراض على رسول الله ﷺ بالرأي السخيف ، والعقل الهجين . والوجه الثالث - أنه لا يكون غررا شيء أمر به رسول الله ﷺ لأنه لا يأمر بما نهى عنه معا حاش له من ذلك ، وإنما الغرر ما أجازه هؤلاء بآرائهم الفاسدة من بيعهم اللبن الذي لم يخلق في ضروع الغنم شهرا أو شهرين . وبيع الجزر المغيب في الأرض الذي لم يره إنسي ولا عرف صفته ، ولا أهو جزر أم هو معفون مسوس لا خير فيه ؟ وبيع أحد ثوبين لا يدري أيهما هو المشترى . والمقاثي التي لم تخلق ، والغائب الذي لم يوصف ولا عرف - فهذا هو الغرر المحرم المفسوخ الباطل حقا . فإن ذكروا ما رويناه من طريق ابن أبي شيبة عن هاشم بن القاسم عن أيوب بن عتبة اليمامي عن أبي كثير السحيمي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا من بيعهما أو يكون بيعهما بخيار } . قال أبو محمد : وهذا عجب جدا ؛ لأنه عليهم لو صح ، والتفرق من البيع لا يكون إلا بأحد أمرين لا ثالث لهما : إما بتفرق الأبدان فيتم البيع حينئذ ويتفرقان منه حينئذ ، لا قبل ذلك ، وإما أن يتفرقا منه بفسخه وإبطاله - : لا يمكن غير هذا ؟ فكيف وأيوب بن عتبة ضعيف لا نرضى الاحتجاج بروايته أصلا وإن كانت لنا . وأتى بعضهم بطامة تدل على رقة دينه وضعف عقله ، فقال : معنى ما لم يفترقا : إنما أراد ما لم يتفقا ، كما يقال للقوم : على ماذا افترقتم ؟ أي على ماذا اتفقتم - فأراد على ماذا افترقتما عن كلامكما . قال أبو محمد : وهذا باطل من وجوه - : أولها : أن هذه دعوى كاذبة بلا دليل ، ومن لكم بصرف هذا اللفظ إلى هذا التأويل ؟ وما كان هكذا فهو باطل . والثاني : أن يقول : هذا هو السفسطة بعينه ، ورد الكلام إلى ضده أبدا ، ولا يصح مع هذا حقيقة ، ولا يعجز أحد عن أن يقول كذلك في كل ما جاء عن القرآن ، والسنن . وهذه سبيل الروافض ، إذ يقولون : إن الجبت والطاغوت إنما هما إنسانان بعينهما ، وأن تذبحوا بقرة إنما هي فلانة بعينها . والثالث : أن نقول لهم : فكيف ، ولو جاز هذا التأويل لكان ما رواه الليث عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ { إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا ، أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك وجب البيع وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع ، فقد وجب البيع } مكذبا لهذا التأويل الكاذب المدعى بلا دليل ، ومبينا أن التفرق الذي به يصح البيع لا يكون ألبتة على رغم أنوفهم ، إلا بعد التبايع ، كما قال رسول الله ﷺ لا كما ظن أهل الجهل من أنه في حال التبايع ومع آخر كلامهما . قال أبو محمد : وهذا مما خالفوا فيه طائفة من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف ، وهم يعظمون هذا - وهذا مما خالفوا فيه جمهور العلماء إلا رواية عن إبراهيم ، ثم جاء بعضهم بعجب وهو أنهم زادوا في الكذب ، فأتوا برواية رويناها من طريق عطاء : أن عمر قال : البيع صفقة أو خيار - وروي أيضا من طريق الشعبي أن عمر - وعن الحجاج بن أرطاة أن عمر قال : إنما البيع عن صفقة أو خيار ، والمسلم عند شرطه . ومن طريق الحجاج بن أرطاة عن محمد بن خالد بن الزبير عن شيخ من بني كنانة أن عمر قال : البيع عن صفقة أو خيار ، ولكل مسلم شرطه . قال أبو محمد : من عجائب الدنيا ، ومن البرهان على البراءة من الحياء : الاحتجاج بهذه الروايات في معارضة السنن ، وكلها عليهم لوجوه - : أولها - أنه ليس شيء منها يصح ؛ لأنها مرسلات ، أو من طريق الحجاج بن أرطاة - وهو مالك - عن شيخ من بني كنانة وما أدراك ما شيخ من بني كنانة ؟ ليت شعري أبهذا يحتجون إذا وقفوا في عرصة القضاء يوم القيامة ؟ عياذك اللهم من التلاعب بالدين . ثم لو صحت لما كان لهم فيها متعلق ، لأنه ليس في شيء منها إبطال ما حكم به الله تعالى على لسان رسوله ﷺ من أنه { لا بيع إلا بعد التفرق أو التخيير } . وكلام عمر هذا لو سمعناه من عمر لما كان خلافا لقولنا ؛ لأن الصفقة ما صح من البيع بالتفرق ، والخيار ما صح من البيع بالتخيير ، كما قال عليه السلام ، وحكم أن { لا بيع بين البيعين إلا بأن يتفرقا أو يخير أحدهما الآخر } فكيف ، وقد صح عن عمر مثل قولنا نصا ؟ كما روينا من طريق مسلم نا قتيبة نا ليث - هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : أقبلت أقول : من يصطرف الدراهم ؟ فقال طلحة بن عبيد الله وهو عند عمر بن الخطاب أرنا ذهبك ؟ ثم جئنا إذا جاء خادمنا نعطيك ورقك ؟ فقال له عمر : كلا والله لتعطينه ورقه أو لتردن إليه درهمه . فهذا عمر يبيح له رد الذهب بعد تمام العقد وترك الصفقة . فإن قيل : لم يكن تم البيع بينهما ؟ قلنا : هذا خطأ ؛ لأن هذا خبر رويناه من طريق مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري أنه أخبره أنه التمس ، صرفا بمائة دينار ؟ قال : فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني وأخذ ذهبه فقلبها في يده ثم قال : حتى يأتيني خازني من الغابة وعمر يسمع ؟ فقال عمر : والله لا تفارقه حتى تأخذه . فهذا بيان أن الصرف قد كان قد انعقد بينهما - فصح أن عمر وبحضرته طلحة وسائر الصحابة يرون فسخ البيع قبل التفرق بالأبدان . ثم لو صح عن عمر ما ادعوه ما كان في قوله حجة مع رسول الله ﷺ ولا عليه ، وكم قصة خالفوا فيها عمر ومعه السنة أو ليس معه ؟ أول ذلك هذا الخبر نفسه ، فإنهم رووا عن عمر كما ترى " والمسلم عند شرطه " وهم يبطلون شروطا كثيرة جدا . ونسوا خلافهم لعمر في قوله : الماء لا ينجسه شيء . وأخذه الصدقة من الرقيق من كل رأس عشرة دراهم أو دينارا . وإيجابه الزكاة في ناض اليتيم . وتركه في الخرص في النخل ما يأكل أهله - والمسح على العمامة ، وأزيد من مائة قضية - فصار ههنا الظن الكاذب في الرواية الكاذبة عن عمر : حجة في رد السنن . فكيف وقد روينا هذه الرواية نفسها من طريق حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن خالد بن محمد بن خالد بن الزبير أن عمر بن الخطاب قال : إنه ليس بيع إلا عن صفقة وتخاير - هكذا بواو العطف - وهذا مخالف لقولهم ، وموافق لقولنا ، وموجب أن عمر لم ير البيع إلا ما جمع العقد ، والتخيير سوى العقد ، وقد ذكرناه عن عمر أيضا قبل من طريق صحيحة ، فظهر فساد تعلقهم من كل جهة . وذكر بعضهم قول ابن عمر الثابت عنه : ما أدركت الصفقة حيا مجموعا فهو من المبتاع - : رويناه من طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه . قال أبو محمد : وهذا من عجائبهم ؛ لأنهم أول مخالف لهذا الخبر - : فالحنفيون يقولون : بل هو من البائع ما لم يره المبتاع أو يسلمه إليه البائع - والمالكيون يقولون : بل إن كان غائبا غيبة بعيدة فهو من البائع . فمن أعجب ممن يحتج بخبر هو عليه لا له ، ويجاهر هذه المجاهرة ؟ وما في كلام ابن عمر هذا شيء يخالف ما صح عنه من أن البيع لا يصح إلا بالتفرق بالأبدان . فقوله : ما أدركت الصفقة ، إنما أراد البيع التام بلا شك . ومن قوله المشهور عنه : إنه لا بيع يتم ألبتة إلا بالتفرق بالأبدان ، أو بالتخيير بعد العقد . قال علي : فظهر عظيم فحشهم في هذه المسألة ، وعظيم تناقضهم فيها ، وهم يقولون : إن المرسل كالمسند ، وبعضهم يقول : بل أقوى منه ، ويحتجون به إذا وافقهم . وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه { أن رسول الله ﷺ جعل الخيار بعد البيع } . قال أبو محمد : وقد ذكرنا عن طاوس أن التخيير ليس إلا بعد البيع ، وهم يقولون : الراوي أعلم بما روى . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا وكيع نا قاسم الجعفي عن أبيه عن ميمون بن مهران قال رسول الله ﷺ : { البيع عن تراض والتخيير بعد الصفقة ، ولا يحل لمسلم أن يغبن مسلما } . فهذان مرسلان من أحسن المراسيل ، مبطلان لقولهم الخبيث المعارض للسنن ، فأين هم عنه ؟ لكنهم يقولون ما لا يفعلون كبر مقتا عند الله أن يقولوا ما لا يفعلون - نعوذ بالله من مقته قال علي : وقد ذكرنا أن بعض أهل الجهل والسخف قال : هذا خبر جاء بألفاظ شتى فهو مضطرب . قال علي : وقد كذب بل ألفاظه كلها ثابتة منقولة نقل التواتر إلى رسول الله ﷺ ليس شيء منها مختلفا أصلا ، لكنها ألفاظ يبين بعضها بعضا ، كما أمر عليه السلام ببيان وحي ربه تعالى .



1418 - مسألة : فإن قيل : فهلا أوجبتم التخيير في البيع ثلاث مرات ؟ لما رويتموه من طريق هشام الدستوائي عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن رسول الله ﷺ قال : { البيعان بالخيار حتى يتفرقا ويأخذ كل واحد منهما من البيع ما هوي أو يتخايران ثلاث مرار } . ومن طريق البخاري نا إسحاق أنا حيان نا همام نا قتادة عن أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن حكيم بن حزام " أن رسول الله ﷺ قال : { البيعان بالخيار حتى يتفرقا } قال همام : وجدت في كتابي { يختار ثلاث مرار ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحا ربحا ويمحقا بركة بيعهما } وهكذا رويناه من طريق عفان عن همام أيضا ؟ قلنا : رواية الحسن عن سمرة مرسلة لم يسمع منه إلا حديث العقيقة وحده . وأما رواية همام فإنه لم يحدث بهذه اللفظة ، وإنما أخبر أنه وجدها في كتابه ، ولم يلتزمها ولا رواها ، ولا أسندها ، وما كان هكذا فلا يجوز الأخذ به ولا تقوم به حجة . وقد روى هذا الخبر همام عن أبي التياح عن عبد الله بن الحارث عن حكيم فلم يذكر فيه : ثلاث مرات . ورواه شعبة ، وسعيد بن أبي عروبة ، وحماد بن سلمة ، كلهم عن قتادة بإسناده ولفظه ، فلم يذكر أحد منهم : ثلاث مرار . وقد حدثنا هشام بن سعيد الخير نا عبد الجبار بن أحمد المقري نا الحسن بن الحسين بن عبد ربه النجيرمي نا جعفر بن محمد الأصبهاني نا يونس بن حبيب الزبيري نا أبو داود الطيالسي نا شعبة ، وهمام ، كلاهما عن قتادة ، قال شعبة في حديثه : إنه سمع صالحا أبا الخليل يحدث عن عبد الله بن الحارث عن حكيم بن حزام ، قال : قال رسول الله ﷺ : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما } . قال أبو داود : وحديث همام مثل هذا فارتفع الإشكال وثبت همام على ترك هذه اللفظة ، ولم يقل إذ وجدها في كتابه : إنها من روايته ، ووالله لو ثبت همام عليها من روايته ، أو غيره - من الثقات - لقلنا بها ؛ لأنها كانت تكون زيادة .

1419 - مسألة : فإن تبايعا في بيت فخرج أحدهما عن البيت ، أو دخل حنية في البيت : فقد تفرقا وتم البيع ، أو تبايعا في حنية أحدهما إلى البيت : فقد تفرقا وتم البيع . فلو تبايعا في صحن دار فدخل أحدهما البيت : فقد تفرقا وتم البيع . فلو تبايعا في دار ، أو خص فخرج أحدهما إلى الطريق ، أو تبايعا في طريق فدخل أحدهما دارا ، أو خصا : فقد تفرقا وتم البيع . فإن تبايعا في سفينة فدخل أحدهما البليج ، أو الخزانة ، أو مضى إلى الفندقوق ، أو صعد الصاري : فقد تفرقا وتم البيع . وكذلك لو تبايعا في أحد هذه المواضع فخرج أحدهما إلى السفينة : فقد تم البيع إذ تفرقا - فإن تبايعا في دكان فزال أحدهما إلى دكان آخر ، أو خرج إلى الطريق فقد تم البيع وتفرقا . ولو تبايعا في الطريق فدخل أحدهما الدكان فقد تم البيع وتفرقا . فلو تبايعا في سفر أو في فضاء فإنهما لا يفترقان إلا بأن يصير بينهما حاجز يسمى تفريقا في اللغة ، أو بأن يغيب عن بصره في الرفقة ، أو خلف ربوة ، أو خلف شجرة ، أو في حفرة - وإنما يراعى ما يسمى في اللغة تفريقا فقط - وبالله تعالى التوفيق .

1420 - مسألة : فلو تنازع المتبايعان فقال أحدهما : تفرقنا وتم البيع ، أو قال : خيرتني ، أو قال : خيرتك فاخترت أو اخترت تمام البيع - وقال الآخر : بل ما تفرقنا حتى فسخت وما خيرتني ولا خيرتك ، أو أقر بالتخيير وقال : فلم أختر أنا ، أو قال : أنت تمام البيع - : فإن كانت السلعة المبيعة معروفة للبائع ببينة ، أو بعلم الحاكم ولا نبالي حينئذ في يد من كانت منهما ولا في يد من كان الثمن منهما - أو كانت غير معروفة إلا أنها في يده والثمن عند المشتري - فإن القول في كل هذا قول مبطل البيع منهما - كائنا من كان - مع يمينه ، لأنه مدعى عليه عقد بيع لا يقر به ، ولا بينة عليه به ، فليس عليه إلا اليمين بحكم رسول الله ﷺ باليمين على المدعى عليه . فإن كانت السلعة في يد المشتري وهي غير معروفة للبائع وكان الثمن عند البائع بعد : فالقول قول مصحح البيع منهما - كائنا من كان - مع يمينه ؛ لأنه مدعى عليه نقل شيء عن يده ، ومن كان في يده شيء فهو في الحكم له : فليس عليه إلا اليمين . فلو كانت السلعة والثمن معا في يد أحدهما فالقول قوله مع يمينه لأنه مدعى عليه كما قلنا - وبالله تعالى التوفيق . وهكذا القول في كل ما اختلف فيه المتبايعان ، مثل أن يقول أحدهما : ابتعته بنقد ، ويقول الآخر : بل بنسيئة ، أو قال أحدهما : بكذا أو كذا ، أو قال الآخر : بل أكثر - أو قال أحدهما : بعرض وقال الآخر : بعرض آخر ، أو بعين . أو قال أحدهما : بدنانير ، وقال الآخر بدراهم - أو قال أحدهما بصفة كذا وذكر ما يبطل به البيع وقال الآخر . بل بيعا صحيحا - : فإن كان في قول أحدهما إقرار للآخر بزيادة إقرارا صحيحا ألزم ما أقر به ولا بد - : فإن كانت السلعة بيد البائع والثمن بيد المشتري ، فهنا هو كل واحد منهما مدعى عليه فيحلف البائع بالله ما بعتها منه كما يذكر ولا بما يذكر ، ويحلف المشتري بالله ما باعها مني بما يذكر ولا كما يذكر ، ويبرأ كل واحد منهما من طلب ، الآخر ، ويبطل ما ذكرا من البيع . وذهب قوم إلى أن البيعين إذا اختلفا ترادا البيع دون أيمان - وهو قول ابن مسعود ، والشعبي ، وأحمد بن حنبل . كما روينا من طريق عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن معن بن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود [ عن أبيه ] أن ابن مسعود باع من الأشعث بن قيس بيعا فاختلفا في الثمن ، فقال ابن مسعود : بعشرين ، وقال الأشعث : بعشرة ، فقال له ابن مسعود : اجعل بيني وبينك رجلا ؟ فقال له الأشعث : أنت بيني وبين نفسك ، قال ابن مسعود : فإني أقول بما قضى به رسول الله ﷺ : { إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال رب المال ، أو يترادان البيع } . وروي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنه قال : يحلف البائع فإن شاء المشتري أخذ وإن شاء ترك - ولم يذكر عليه يمينا . وقال قوم : إن كانت السلعة قائمة تحالفا وفسخ البيع ، وإن كانت قد هلكت فالقول قول المشتري مع يمينه ، هذا إذا لم تكن هنالك بينة - وهو قول حماد بن أبي سليمان ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومالك - وقال إبراهيم ، والثوري ، والأوزاعي في المستهلكة بذلك . وقال قوم : إذا اختلف المتبايعان حلفا جميعا ، فإن حلفا أو نكلا فسخ البيع - وإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضي بقول الذي حلف سواء كانت قائمة أو مستهلكة - وهو قول شريح ، والشافعي ، ومحمد بن الحسن ، إلا أنهما قالا : يترادان ثمن المستهلكة ، وقال عطاء يرد البيع إلا أن يتفقا - وقال زفر بن الهذيل في السلعة القائمة : يتحالفان ويترادان ، وأما المستهلكة فإن اتفقا على أن الثمن كان من جنس واحد فالقول قول المشتري ، فإن اختلفا في الجنس تحالفا وترادا قيمة المبيع - . وقال أبو سليمان ، وأبو ثور : القول في ذلك - قائمة كانت السلعة أو مستهلكة - قول المشتري مع يمينه . قال أبو محمد : فأما قول ابن مسعود ، والشعبي ، وأحمد ، فإنهم احتجوا بالحديث الذي ذكرنا فيه - ورويناه بلفظ آخر ، وهو { إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع ، والمبتاع بالخيار } فاللفظ الأول رويناه كما ذكرناه . ورويناه أيضا من طريق حفص بن غياث عن أبي عميس أخبرني عبد الرحمن بن محمد بن قيس بن محمد بن الأشعث بن قيس عن أبيه عن جده قال ابن مسعود - ومن طريق أبي عميس أيضا عن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده قال ابن مسعود - من طريق هشيم نا ابن أبي ليلى - هو محمد بن عبد الرحمن القاضي - عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه : أن ابن مسعود - : وأما اللفظ الثاني فرويناه من طريق ابن عجلان عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : أن ابن مسعود . قال أبو محمد : وهذا كله لا حجة فيه ، ولا يصح شيء منه ؛ لأنها كلها مرسلات - وعبد الرحمن بن مسعود كان له - إذ مات أبوه رضي الله عنه - ست سنين فقط ، لم يحفظ منه كلمة ، والراوي عنه أيضا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى - وهو سيئ الحفظ - وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث - ظالم من ظلمة الحجاج - لا حجة في روايته - وأيضا فلم يسمع منه أبو عميس شيئا لتأخر سنه عن لقائه - وأيضا فهو خطأ ، وإنما هو عبد الرحمن بن محمد بن قيس بن محمد بن الأشعث - وهو مجهول ابن مجهول - وأيضا محمد بن الأشعث لم يسمع من ابن مسعود - : فبطل التعلق به جملة . وأما قول أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود فإنه يحتج له بما روينا من طريق أحمد بن شعيب ، أخبرني إبراهيم بن الحسين نا حجاج - هو ابن محمد - قال ابن جريج : أخبرني إسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عبيد أنه سمع أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود يقول : قال ابن مسعود { أمر رسول الله ﷺ في المتبايعين سلعة يقول أحدهما : أخذتها بكذا وكذا ، وقال الآخر : بعتها بكذا وكذا ، بأن يستحلف البائع ، ثم يختار المبتاع ، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك } . ورويناه أيضا من طريق إسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عبيد عن ابن لعبد الله بن مسعود عن أبيه عن رسول الله ﷺ وهذا لا شيء - لأن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود سئل أتذكر من أبيك شيئا ؟ قال : لا - ولم يكن لعبد الله رضي الله عنه من الولد إلا أبو عبيدة - وهو أكبرهم - وعبد الرحمن تركه ابن ست سنين ، وعتبة - وكان أصغرهم - وعبد الملك بن عبيد المذكور مجهول - : فسقط هذا القول . قال أبو محمد : وأما سائر الأقوال فلا حجة لهم أصلا ، لا سيما من فرق بين السلعة القائمة والمستهلكة ، ومن حلف المشتري - : فإنه لا يوجد ذلك في شيء من الآثار أصلا ، إلا أنهم أطلقوا إطلاقا سامحوا فيه قلة الورع - يعني الحنفيين والمالكيين - فلا يزالون يقولون في كتبهم : قال رسول الله ﷺ : { إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة فإنهما يتحالفان ويترادان } . وهذا لا يوجد أبدا لا في مرسل ولا في مسند ، لا في قوي ولا في ضعيف ، إلا أن يوضع للوقت . قال علي : وهذا مما تناقضوا فيه ، فخالفوا المرسل المذكور ، وخالفوا ابن مسعود ، ولا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . واحتج بعضهم لقولهم في ذلك بأن قال : لما كان كلاهما مدعيا ومدعى عليه وجب عليهما اليمين جميعا ، فإن البائع يدعي على المشتري ثمنا أو عقدا لا يقر به المشتري ، والمشتري يدعي على البائع عقدا لا يقر به البائع . قال أبو محمد : ليس هذا في كل مكان كما ذكروا ؛ لأن من كان بيده شيء لا يعرف لغيره ، وقال له إنسان : هذا لي بعته منك بمثقالين ، وقال الذي هو في يده : بل ابتعته منك بمثقال وقد أنصفتك ، فإن الذي الشيء بيده ليس مدعيا على الآخر بشيء أصلا ؛ لأن الحكم أن كل ما بيد المرء فهو له ، فإن ادعى فيه مدع : حلف الذي هو بيده وبرئ ولم يقر له قط بملكه إقرارا مطلقا ، فليس البائع ههنا مدعى عليه أصلا . وقد عظم تناقضهم ههنا ، لا سيما تفريقهم بين السلعة القائمة والمستهلكة فهو شيء لا يوجبه قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول صاحب ولا قياس ، ولا معقول ، ولا رأي له وجه . ويعارضون بما احتج له أصحابنا ، وأبو ثور ، في قولهم : إن القول قول المشتري على كل حال مع يمينه ؛ لأنهما جميعا قد اتفقا على البيع ، وعلى انتقال الملك إلى المشتري ، ثم ادعى البائع على المشتري بما لا يقر له به المشتري ، وهذا أشبه بأصول الحنفيين ، والمالكيين : من أقوالهم في الإقرار . قال أبو محمد : وليس هذا أيضا صحيحا ؛ لأن البائع لم يوافق المشتري قط على ما ادعاه في ماله ، وإنما أقر له بانتقال الملك وبالبيع على صفة لم يصدقه المشتري فيها ، فلا يجوز أن يقضي للمشتري بإقرار هو مكذوب له . فصح أن القول ما قلناه : من أن كل ما كان بيد إنسان فهو له ، إلا أن تقوم بملكه بينة لغيره - وهو قول إياس بن معاوية ، وبهذا جاءت السنة . والعجب من إيهام الحنفيين والمالكيين ، والشافعيين : أنهم يقولون بالحديث المذكور وهم قد خالفوه جملة كما أوردنا ، لا سيما الشافعيين ، فإنهم يقولون : لا يجوز الحكم بالمرسل ، ثم أخذوا ههنا بمرسل ، وليتهم صدقوا في أخذهم به ، بل خالفوه ، وتناقضوا كلهم مع ذلك في ، فتاويهم في فروع هذه المسألة تناقضا كثيرا - وبالله تعالى التوفيق . وأعجب شيء في هذا تحليف المالكيين للبائع ، والمشتري : بأن يحلف البائع : بالله لقد بعتكها بكذا وكذا ، وبأن يحلف المشتري : بالله لقد اشتريتها منك بكذا وكذا ، فيجمعون في هذا أعجوبتين : إحداهما - تحليفهما على ما يدعيانه لا على نفي ما يدعي به كل واحد منهما على الآخر ، والأخرى أنهم يحلفونهما كذلك ثم لا يعطونهما ما حلفا عليه ، فأي معنى لتحليفهما بذلك ؟ وإنما يحلف المدعى عليه على نفي ما يدعي به كل واحد منهما على الآخر ، والأخرى أنهم يحلفونهما كذلك ثم لا يعطونهما ما حلفا عليه ، فأي معنى لتحليفهما بذلك ؟ وإنما يحلف المدعى عليه على نفي ما ادعي عليه به ويبرأ . وأما هم ومن يرى رد اليمين : فإنه يحلف المدعي على ما ادعى ويقضون له به ، ونقضوا ههنا أصولهم أقبح نقض وأفسده بلا دليل أصلا . وقالوا أيضا : إن ادعى أحدهما صحة العمل ، والآخر فساده : القول قول مدعي الصحة ولا يدرى من أين وقع لهم هذا ؟ وبالله تعالى التوفيق . 

1421 - مسألة : وكل بيع وقع بشرط خيار للبائع ، أو للمشتري ، أو لهما جميعا ، أو لغيرهما : خيار ساعة ، أو يوم ، أو ثلاثة أيام ، أو أكثر أو أقل : فهو باطل - تخيرا إنفاذه أو لم يتخيرا - فإن قبضه المشتري بإذن بائعه فهلك في يده بغير فعله فلا شيء عليه ، فإن قبضه بغير إذن صاحبه - لكن بحكم حاكم ، أو بغير حكم حاكم - : ضمنه ضمان الغصب . وكذلك إن أحدث فيه حدثا ضمنه ضمان التعدي . وقال أبو حنيفة : بيع الخيار جائز لكل واحد منهما ، ولهما معا ، ولإنسان غيرهما ، فإن رد الذي له الخيار البيع فهو مردود ، وإن أمضاه فهو ماض ، إلا أنه لا يجيز مدة الخيار أكثر من ثلاثة أيام - لكن ثلاثة أيام فأقل - فإن اشترط الخيار أكثر من ثلاثة أيام بطل البيع ، فإن تبايعا بخيار ولم يذكرا مدة فهو إلى ثلاثة أيام . وخالفه أبو يوسف ، ومحمد ، فقالا : الخيار جائز إلى ما تعاقداه طالت المدة أم قصرت - واتفقوا في كل ما عدا ذلك - والنقد جائز عندهم في بيع الخيار بتطوع المشتري لا بشرط أصلا - فإن تشارطا النقد فسد البيع ، فإن مات الذي له الخيار في مدة الخيار فقد لزمه البيع ، فإن تلف الشيء في مدة الخيار - : فإن كان الخيار للمشتري فقد لزمه البيع بذلك الثمن ، وإن كان الخيار للبائع فعلى المشتري قيمته لا ثمنه ، وللذي له الخيار منهما إنفاذ الرضا بغير محضر الآخر ، وليس له أن يرد البيع إلا بمحضر الآخر - وزكاة الفطر إن تم البيع بالرضا على المشتري ، وإن لم يتم البيع بالرد على البائع . قال أبو محمد : وهذه وساوس ، وأحكام لا يعرف لها أصل ، وأقسام وأحكام لا تحفظ عن أحد قبله - وقال مالك : بيع الخيار جائز كما قال أبو حنيفة وأصحابه ، إلا أن مدة الخيار عنده تختلف : أما في الثوب فلا يجوز الخيار عنده إلا يومين فأقل ، فما زاد فلا خير فيه . وأما الجارية فلا يجوز الخيار عنده فيها إلا جمعة فأقل ، فما زاد فلا خير فيه - : ينظر إلى خبرها ، وهيئتها ، وعملها . وأما الدابة فيوم فأقل ، أو سير البريد فأقل . وأما الدار فالشهر فأقل - وإنما الخيار عنده ليستشير ويختبر البيع وأما ما بعد من أجل الخيار فلا خير فيه ؛ لأنه غرر . ولا يجوز عنده النقد في بيع الخيار - لا بشرط ولا بغير شرط - فإن تشارطاه فسد البيع ، فإن مات الذي له الخيار فورثته يقومون مقامه . فإن تلف المبيع في يد المشتري من غير فعله في مدة الخيار فهو من مصيبة البائع ولا ضمان على المشتري ، سواء كان الخيار للمشتري أو للبائع أو لهما أو لغيرهما ، وللذي له الخيار الرد والرضا بغير محضر الآخر وبمحضره - وزكاة الفطر على البائع في كل ذلك . قال : فإن انقضى أمد الخيار ولم يرد ولا رضي - : فله الرد بعد ذلك بيوم ، فإن لم يرد في هذا القدر لزمه البيع . وهذه أقوال في الفساد كالتي قبلها ، ولا تحفظ عن أحد قبله ، وتحديدات في غاية الفساد ؛ لأن كل ما ذكرنا من الجارية ، والثوب ، والدار ، والدابة : قد يختبر ، ويستشار فيه في أقل من المدد التي ذكروا ، وفي أقل من نصفها - وقد يخفى من عيوب كل ذلك أشياء في أضعاف تلك المدد ، فكل ذلك شرع لم يأذن الله تعالى به ، ولا أوجبته سنة ، ولا رواية ضعيفة ، ولا قياس ولا قول متقدم ، ولا رأي له وجه . وليت شعري ما قولهم إن كان الخيار لأجنبي فمات في أمد الخيار : أيقوم ورثته مقامه في ذلك أم لا ؟ فإن قالوا : لا ، تناقضوا ، وجعلوا الخيار مرة يورث ، ومرة لا يورث وإن قالوا : نعم ؟ قلنا : فلعلهم صغار ، أو سفهاء ، أو غيب ، أو لا وارث له فيكون الخيار للإمام ، أو لمن شاء الله ، إن هذه لعجائب ؟ وقال الشافعي : يجوز الخيار لأحدهما ولهما معا ، ولا يجوز أكثر من ثلاثة أيام - واختلف قوله في التبايع على أن يكون الخيار لأجنبي ؟ فمرة أجازه ، ومرة أبطل البيع به ، إلا على معنى الوكالة . والنقد جائز عنده في بيع الخيار ، فإن مات الذي له الخيار فورثته يقومون مقامه ، فإن تلف الشيء في يد المشتري في مدة الخيار ، فإن كان الخيار للبائع أو لهما معا : فعلى المشتري ضمان القيمة ، وإن كان الخيار للمشتري فقد لزمه البيع بالثمن الذي ذكرا - وللذي له الخيار عنده أن يرد وأن يرضى بغير محضر الآخر وبمحضره . واحتج هو ، وأبو حنيفة : في أن الخيار لا يكون أكثر من ثلاث بخبر المصراة - وبخبر الذي كان يخدع في البيوع فجعل له النبي ﷺ الخيار ثلاثا ، وأمره أن يقول إذا باع : لا خلابة . واحتج الحنفيون في ذلك بما رويناه من طريق الحذافي محمد بن يوسف قال : أخبرني محمد بن عبد الرحيم بن شروس ، أخبرني حفص بن سليمان الكوفي ، أخبرني أبان عن أنس : { أن رجلا اشترى بعيرا واشترط الخيار أربعة أيام ، فأبطل النبي ﷺ البيع وقال : إنما الخيار ثلاثة أيام } قال الحذافي : وحدثنا عبد الرزاق نا رجل سمع أبانا يقول : عن الحسن { اشترى رجل وجعل الخيار أربعة أيام ؟ فقال رسول الله ﷺ : البيع مردود وإنما الخيار ثلاثة أيام } . قال أبو محمد : أما احتجاج أبي حنيفة ، والشافعي : بحديث منقذ ، وأن النبي ﷺ جعل له الخيار ثلاثة أيام فيما اشترى ؟ فعجب عجيب جدا أن يكونا أول مخالف لهذا الحديث ، وقولهما بفساد بيعه جملة - إن كان يستحق الحجر ويخدع في البيوع - أو جواز بيعه جملة ، ولا يرده إلا من عيب - إن كان لا يستحق الحجر - فكيف يستحل ذو ورع أن يعصي رسول الله ﷺ فيما أمر به ثم يقوله ما لم يقل ذلك ؟ وليس في هذا الخبر بيع وقع بخيار من المتبايعين لأحدهما أو لهما - وفي هذا نوزعوا ، فوا أسفاه عليهم ؟ وأما احتجاج أبي حنيفة بحديث المصراة : فطامة من طوام الدهر ؟ وهو أول مخالف له ، وزار عليه وطاعن فيه ، مخالف كل ما فيه ، فمرة يجعله ذو التورع منهم : منسوخا بتحريم الربا ، وكذبوا في ذلك ما للربا ههنا مدخل ؟ ومرة يجعلونه كذبا ، ويعرضون بأبي هريرة - والله تعالى يجزيهم بذلك في الدنيا والآخرة - وهم أهل الكذب ، لا الفاضل البر أبو هريرة رضي الله عنه وعن جميع الصحابة ، وكب الطاعن على أحد منهم لوجهه ومنخريه . ثم لا يستحيون من أن يحتجوا به فيما ليس فيه منه شيء ؛ لأنهم إنما يريدون نصر تصحيح بيع وقع بشرط خيار للبائع ، أو للمشتري ، أو لهما معا أو لغيرهما ، وليس من هذا كله في خبر المصراة أثر ، ولا نص ، ولا إشارة ، ولا معنى ، فأي عجب أكثر من هذا ؟ وأما حديثا : الحذافي المسند ، والمرسل - : فهما من طريق أبان بن يزيد الرقاشي - وهو هالك مطرح - والمسند من طريق حفص بن سليمان الكوفي - وهو هالك أيضا متروك - وأما المرسل فعن رجل لم يسم ، فهما فضيحة وشهوة ، لا يأخذ بهما في دينه إلا محروم التوفيق . ولعمري لقد خالف المالكيون ههنا أصولهم فإنه لا مؤنة عليهم من الأخذ بمثلها في الدناءة والرذالة إذا وافق تقليدهم ، وقالوا أيضا : قد اتفقنا على جواز الخيار ثلاثا واختلفنا فيما زاد ؟ قال أبو محمد وهذا كذب ما وفقوا قط على ذلك : هذا مالك لا يجيز الخيار في الثوب إلا يومين فأقل ، ولا في الدابة إلا اليوم فأقل - : فبطل كل ما موهوا به - وبالله تعالى التوفيق . ويعارضون بالخبر الذي فيه : { النهي عن تلقي الركبان ، فمن تلقى شيئا من ذلك فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق } ، هو خبر صحيح ، وفيه الخيار إلى دخول السوق - ولعله لا يدخله إلا بعد عام فأكثر - وسنذكره بإسناده بعد هذا إن شاء الله تعالى ، فظهر فساد أقوال هؤلاء جملة وأنها آراء أحدثوها متخاذلة لا أصل لها ولا سلف لهم فيها . وقال ابن أبي ليلى : شرط الخيار في البيع جائز لهما ، أو لأحدهما ، أو لأجنبي ، ويجوز إلى أجل بعيد أو قريب . وقال الليث : يجوز الخيار إلى ثلاثة أيام فأقل . وقال الحسن بن حي : يجوز شرط الخيار في البيع ، ولو شرطاه أبدا فهو كذلك : لا أدري ما الثلاث إلا المشتري إن باع ما اشترى بخيار فقد رضيه ولزمه - وإن كانت جارية بكرا فوطئها فقد رضيها ولزمته . وقال عبيد الله بن الحسن : لا يعجبني شرط الخيار الطويل في البيع إلا أن الخيار للمشتري ما رضي البائع . وقال ابن شبرمة ، وسفيان الثوري : لا يجوز البيع إذا شرط فيه الخيار للبائع أو لهما - وقال سفيان : البيع فاسد بذلك ، فإن شرط الخيار للمشتري عشرة أيام أو أكثر جاز . وروينا في ذلك عن المتقدمين آثارا كما روينا من طريق وكيع نا زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن الشعبي قال : اشترى عمر فرسا واشترط حبسه إن رضيه وإلا فلا بيع بينهما بعد ، فحمل عمر عليه رجلا فعطب الفرس ، فجعلا بينهما شريحا ؟ فقال شريح لعمر : سلم ما ابتعت أو رد ما أخذت ؟ فقال عمر : قضيت بمر الحق . وروينا عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه قال : اشترى نافع بن عبد الحارث من صفوان بن أمية بن خلف دارا للسجن بأربعة آلاف فإن رضي عمر فالبيع بيعه ، وإن لم يرض فلصفوان أربعمائة درهم فأخذها عمر . وبه إلى سفيان الثوري عن عبد الله بن دينار قال : سمعت ابن عمر يقول : كنت أبتاع إن رضيت حتى ابتاع عبد الله بن مطيع نجيبة إن رضيها فقال : إن الرجل ليرضى ثم يدعي - : فكأنما أيقظني ، فكان يبتاع ويقول : ها إن أخذت .

ومن طريق عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني سليمان بن البرصاء قال : بايعت ابن عمر بيعا فقال لي : إن جاءتنا نفقتنا إلى ثلاث ليال فالبيع بيعنا ، وإن لم تأتنا نفقتنا إلى ذلك فلا بيع بيننا وبينك ، ولك سلعتك ؟ قال أبو محمد : لا نعلم عن الصحابة رضي الله عنهم في بيع الخيار شيئا غير هذا ، وهو كله خلاف لأقوال أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وهذه عندهم بيوع فاسدة مفسوخة ، فأين تهويلهم بالصاحب الذي لا يعرف له مخالف ؟ نعم ، وإن عرف له مخالف . وأين ردهم السنة الثابتة في أن لا بيع بين أحد من المتبايعين حتى يتفرقا أو يخير أحدهما الآخر بعد البيع برواية شيخ من بني كنانة عن عمر البيع عن صفقة أو خيار ؟ وليس في هذا لو صح خلاف للسنة ، بل قد صح عن عمر وغير عمر من الصحابة موافقة السنة في ذلك ، وإجازة رد البيع قبل التخيير والتفرق . ثم هان عليهم ههنا خلاف عمل عمر بن الخطاب ، ونافع بن الحارث ، وصفوان بن أمية - وكلهم صحابة - : العمل المشهور الذي لا يمكن أن يخفى بحضرة الصحابة بالمدينة ، ومكة ، ولا يعرف لهم في ذلك مخالف ، ولا عليهم منهم منكر ممن يجيز البيع بشرط الخيار أصلا بأصح طريق وأثبته في أشهر قصة ، وهي ابتياع دار للسجن بمكة ، وما كان قبل ذلك بها للسجن دار أصلا . ثم فعل ابن عمر ، وابن مطيع - وهما صاحبان - يبتاعان كما ترى بخيار إن أخذا إلى غير مدة مسماة - وعمر قبل ذلك ، وصفوان ، ونافع يتبايعون على الرضا إلى غير مدة مسماة ، لا يعرف لهم في ذلك مخالف ممن يجيز البيع بشرط خيار ، فاعجبوا لأقوال هؤلاء القوم ؟ وأما التابعون : فروينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن ابن طاوس عن أبيه في الرجل يشتري السلعة على الرضا ؟ قال : الخيار لكليهما حتى يفترقا عن رضا . وبه إلى معمر عن أيوب عن ابن سيرين إذا بعت شيئا على الرضا فلا تخلط الورق بغيرها حتى تنظر أيأخذ أم يرد . ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا يونس عن الحسن قال : إذا أخذ الرجل من الرجل البيع على أنه فيه بالخيار فهلك منه ؟ فإن كان سمى الثمن فهو له ضامن ، وإن لم يسمه فهو أمين ولا ضمان عليه . وعن شريح ما ذكرنا قبل ما نعلم في هذا عن أحد من التابعين غير ما ذكرنا ، وكله مخالف لقول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ؛ لأنه ليس في شيء منه ذكر مدة أصلا . وفي قول الحسن : جواز ذلك بغير ذكر ثمن . وفي قول ابن سيرين : جواز النقد فيه ، ولم يخص بشرط ولا بغير شرط وأما قول طاوس فموافق لقولنا ؛ لأنه قطع بأن كل بيع يكون فيه شرط خيار فإن الخيار يجب فيه للبائع وللمشتري حتى يتفقا ، فصح أنه ليس هو عنده بيعا أصلا ، وأنه باق على حكمه كما كان - وهذا قولنا ، فصح يقينا أن أقوال من ذكرنا مخالفة لكل ما روي في ذلك عن صاحب أو تابع ، وأنهما لا سلف لهم فيها ، وتفريق سفيان ، وابن شبرمة من كون الخيار للبائع أو لهما ، فلم يجيزاه ، وبين أن يكون الخيار للمشتري وحده ؟ فأجازه سفيان ، لا معنى له ؛ لأنه لم يأت بالفرق بين ذلك قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول متقدم ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه - وليس إلا جواز كل ذلك أو بطلان كل ذلك . وقد روينا بطلان ذلك عن جماعة من السلف . كما روينا من طريق عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن عاصم بن عبيد الله عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق : أن عائشة أم المؤمنين كرهت أن تباع الأمة بشرط . ومن طريق عبد الرزاق نا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال : أراد ابن مسعود أن يشتري جارية يتسراها من امرأته ؟ فقالت : لا أبيعكها حتى أشترط عليك إن اتبعتها نفسي فأنا أولى بالثمن ؟ فقال ابن مسعود : حتى أسأل عمر ، فسأله ؟ فقال له عمر : لا تقربها وفيها شرط لأحد . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم قال : سألت عكرمة مولى ابن عباس عن رجل أخذ من رجل ثوبا ؟ فقال : أذهب به فإن رضيته أخذته ، فباعه الآخذ قبل أن يرجع إلى صاحب الثوب ؟ فقال عكرمة : لا يحل له الربح . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريح قال : قال عطاء : كل بيع فيه شرط فليس بيعا - وقال طاوس بما ذكرنا قبل . قال أبو محمد : هذا كله عند كل ذي حس سليم أوضح في إبطال البيع بشرط الخيار من دعواهم أن عمر مخالف للسنة في أن لا بيع بين المتبايعين حتى يتفرقا بما لم يصح عنه من قوله : البيع عن صفقة أو خيار ، ومن دعواهم مثل ذلك على ابن عمر في قوله : ما أدركت الصفقة حيا مجموعا فمن البائع ، وليس في هذا إشارة إلى خلاف السنة المذكورة ، بل قد صح عنهما موافقة السنة في ذلك . قال علي : فإن كان ما روي عن الصحابة ، والتابعين في ذلك إجماع فقد خالفوه ، فهم مخالفون للإجماع كما أقروا على أنفسهم ، وإن لم يكن إجماعا فلا حجة في قول لم يأت به نص ولا إجماع . فإن احتجوا في إباحة بيع الخيار بما روي { : المسلمون عند شروطهم } فهذا لا يصح لأنه عن كثير بن زيد وهو مطرح باتفاق ، ولا يحل الاحتجاج بما روى . ومن طريق أخرى عن كذاب عن مجهول عن مجهول مرسل مع ذلك وعن عطاء مرسل ، ولو صح مع ذلك لما كان لهم فيه متعلق أصلا ؛ لأن شروط المسلمين ليس هي كل ما اشترطوه ، لو كان ذلك للزم شرط الزنى ، والسرقة ، وهم قد أبطلوا أكثر من ألف شرط أباحها غيرهم ، وإنما شروط المسلمين : الشروط التي جاء القرآن ، والسنة بإباحتها نصا فقط ، قال رسول الله ﷺ { كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل } . قال علي : فإن احتج من يجيز بيع الخيار بما قد ذكرناه من قول رسول الله ﷺ : { كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار } فلا حجة لهم فيه ؛ لأن أيوب عن نافع عن ابن عمر قد بين ذلك الخيار ما هو ؟ وأنه قول أحدهما للآخر : اختر . وبينه أيضا الليث عن نافع عن ابن عمر بمثله . وأوضحه إسماعيل بن جعفر عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال : { المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع عن خيار ، فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع } . فصح ضرورة أن هذا الخيار إنما هو التخيير من أحدهما للآخر فقط . وذكروا أيضا خبر " المصراة " وسنذكره في هذا الكتاب بإسناده إن شاء الله تعالى ، { وأن رسول الله ﷺ جعل الخيار لواجدها ثلاثا ، فإن رضيها أمسكها وإن كرهها ردها ، ورد معها صاعا من تمر } . وخبر { منقذ إذ أمره رسول الله ﷺ بأن يقول إذا باع أو ابتاع : لا خلابة ، ثم جعل له الخيار ثلاثا } ، وقد ذكرناه في " كتاب الحجر " من ديواننا هذا . وخبر تلقي السلع [ الركبان ] والنهي عنه ، وأنه ﷺ جعل للبائع الخيار إذا دخل السوق ، وبالخيار في رد البيع يوجد فيه العيب . قال أبو محمد : وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه ، واحتجاجهم به في إباحة بيع الخيار إثم وعار ؛ لأن خبر المصراة إنما فيه الخيار للمشتري - أحب البائع أم كره - لا برضا منه أصلا ولا بأن يشترط في حال عقد البيع فكيف يستجيز ذو فهم أن يحتج بهذا الخيار في إباحة بيع يتفق فيه البائع والمشتري على الرضا بشرط خيار لأحدهما أو لكليهما أو لغيرهما ؟ وأما خبر منقذ فكذلك أيضا ؛ لأنه إنما هو خيار يجب لمن قال عند التبايع : لا خلابة ، بائعا كان أو مشتريا سواء رضي بذلك معاملة أو لم يرض لم يشترطه الذي جعل له في نفس العقد ، فأي شبه بين هذين الحكمين وبين خيار يتفقان برضاهما على اشتراطه لأحدهما أو لغيرهما ، وكلهم لا يقول بهذا الخبر أصلا ؟ وأما خبر تلقي السلع فكذلك أيضا إنما هو خيار جعل للبائع - أحب المشتري أم كره - لم يشترطاه في العقد - . وهو أيضا خيار إلى غير مدة محدودة وكلهم لا يجيز هذا أصلا . فأي عجب يفوق قول قوم يبطلون الأصل ولا يجيزون القول به ، ويصححون القياس عليه في ما لا يشبهه ويخالفون السنن فيما جاءت فيه ، ثم يحتجون بها فيما ليس فيها منه أثر ولا دليل ولا معنى ؟ فخالفوا الحقائق جملة ونحمد الله تعالى على ما من به من التوفيق . فإن قالوا : لما جاز في هذه الأخبار في أحدها الخيار للبائع ، وفي الآخر الخيار للمشتري ، وفي الثالث الخيار للمرء بائعا كان أو مشتريا ، وكان في الشفعة الخيار لغير البائع والمشتري بغير أن يشترط في العقد شيء من ذلك ، من غير أن يلتفت رضا الآخر أو رضا البائع والمشتري كان إذا اشترطاه بتراضيهما لأحدهما أو - لهما أو لغيرهما أحرى أن يجوز ؟ قلنا : هذا حكم الشيطان لا حكم الله عز وجل ، وهذا هو تعدي حدود الله تعالى الذي قال الله تعالى : { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } وتلك دعوى منكم لا برهان على صحتها ، بل البرهان قائم على بطلانها بقوله تعالى : { شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } . وما تدرون أنتم ولا غيركم من أين قلتم بدعواكم هذه ؟ ثم لو صح القياس لكان هذا منه عين الباطل ، لأن القياس عند القائلين به لا يصح تشبيه المشبه إلا حتى يصح المشبه به ، وليس منكم أحد يصحح حكم شيء من هذه الأخبار إلا المصراة ، والشفعة فقط ، فكيف تستحلون أن تحكموا بحكم لأنه يشبه حكما لا يجوز العمل به ؟ وهل سمع بأحمق من هذا العمل ؟ والذين يصححون منكم حكم المصراة لا يختلفون في أنه يجوز القياس على ما فيه من رد صاع تمر مع الشيء الذي يختار الراد رده ، فمن أين جاز عندكم القياس على بعض ما في ذلك الخبر وحرم القياس على بعض ما فيه ؟ أليس هذا مما تحتار فيه أوهام العقلاء ؟ وكذلك الشفعة إنما هي لشريك عندكم ، أو للجار فيما بيع من مشاع في العقار خاصة ، فمن أين وقع بكم يا هؤلاء أن تحرموا القياس على ذلك ما بيع أيضا من المشاع في غير العقار للشريك أيضا . ولو صح قياس في الدهر كان هذا أوضح قياس وأصحه لتساويهما في العلة والشبه عند كل ناظر ثم تقيسون عليه ما لا يشبهه أصلا من اشتراط اختيار للبائع أو للمشتري أو لهما أو لأجنبي ، وهو ضد ذلك الحكم جملة ، فذلك للشريك وهذا لغير الشريك ، وذلك في المشاع وهذا في غير المشاع ، وذلك مشترط ، وهذا غير مشترط ، وذلك إلى غير مدة وهذا إلى مدة ، فما هذا التخليط ، والخبط ؟ وأما الخيار في رد المبيع فالقول فيه كالقول في خيار الشفعة سواء سواء ، من أنه لا شبه بينه وبين اشتراط الخيار في البيع بوجه من الوجوه لما قلنا آنفا ، فظهر فساد احتجاجهم جملة بالأخبار ، وبالقياس - . وبالله تعالى التوفيق . وأي قول أفسد من قول من يبطل الخيار الذي أوجبه الله تعالى على لسان رسوله ﷺ للمتبايعين قبل التفرق بأبدانهما ، وقبل أن يخير أحدهما الآخر فيختار إمضاء أو ردا . والخيار الواجب لمن قال عند البيع : لا خلابة . والخيار لمن باع سلعته ممن تلقاها إذا دخل السوق . والخيار الواجب لمن ابتاع مصراة . والخيار الواجب لمن باع شركا من مال هو فيه شريك ثم أوجب خيارا لم يوجبه الله تعالى قط ولا رسوله ﷺ . ومن البرهان على بطلان كل بيع يشترط فيه خيار للبائع أو للمشتري أو لهما أو لغيرهما - : قول رسول الله ﷺ { ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن اشترطه مائة مرة وإن كان مائة شرط كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } . وكان اشتراط الخيار المذكور شرطا ليس في كتاب الله تعالى ولا في شيء من سنة رسول الله ﷺ ولو كان فيها لكان في كتاب الله تعالى ؛ لأن الله تعالى أمر في كتابه بطاعة رسوله ﷺ فوجب بطلان الشرط المذكور يقينا ، وإذ هو باطل فكل عقد لم يصحح إلا بصحة ما لم يصح فلا صحة له بلا شك ، فوجب بطلان البيع الذي عقد على شرط خيار كما ذكرنا ، قال الله تعالى : { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } . قال أبو محمد : وعهدنا بهم يفتخرون باتباع المرسل وأنه كالمسند - : وقد روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا إسماعيل ابن علية عن أيوب السختياني عن أبي قلابة قال : قال رسول الله ﷺ { لا يتفرق بيعان إلا عن تراض } وهذا من أحسن المراسل ، فأين هم عنه ؟ وفيه النهي عن بقاء عن الخيار بعد التفرق ؟ ونسألهم عن بيع الخيار هل زال ملك بائعه عنه وملكه المشتري له أم لا ، إذا اشترط الخيار للبائع أو لهما ؟ فإن قالوا : لا ، فهو قولنا وصح أنه لا بيع هنالك أصلا ؛ لأن البيع نقل ملك البائع وإيقاع ملك المشتري . وإن قالوا : نعم ، قلنا : فالخيار لا معنى له ، ولا يصح في شيء قد صح ملكه عليه - وأقوالهم تدل على خلاف هذا . فإن قالوا قد باع البائع ولم يشتر المشتري بعد ؟ قلنا : هذا تخليط وباطل لا خفاء به ؛ لأنه لا يكون بيع إلا وهنالك بائع ومبتاع وانتقال ملك . وهكذا إن كان الخيار للبائع فقط ، فمن المحال أن ينعقد بيع على المشتري ولم ينعقد ذلك البيع على البائع . فإن كان الخيار لهما أو لأجنبي : فهذا بيع لم ينعقد لا على البائع ولا على المبتاع فهو باطل - والقوم أصحاب قياس بزعمهم . وقد أجمعوا على أن النكاح بالخيار لا يجوز ، فهلا قاسوا على ذلك البيع وسائر ما أجازوا فيه الخيار ، كما فعلوا في معارضة السنة بهذا القياس نفسه في إبطالهم الخيار بعد البيع قبل التفرق ، فلا نصوص التزموا ولا القياس طردوا ، والدلائل على إبطال بيع الخيار تكثر ، ومناقضاتهم فيه جمة ، وإنما أقوالهم فيه دعاوى - بلا برهان - مختلفة متدافعة كما ذكرناها قبل - وبالله تعالى التوفيق . 

*

1422 - مسألة : وكل بيع صح وتم فهلك المبيع إثر تمام البيع فمصيبته من المبتاع ولا رجوع له على البائع . وكذلك كل ما عرض فيه من بيع أو نقص سواء في كل ذلك كان المبيع غائبا أو حاضرا ، أو كان عبدا أو أمة فجن أو برص أو جذم إثر تمام البيع فما بعد ذلك ، أو كان ثمرا قد حل بيعه ، فأجيح كله أو أكثره أو أقله ، فكل ذلك من المبتاع ولا رجوع له على البائع بشيء - وهو قول أبي سليمان ، والشافعي ، وأصحابهما . وقال أبو حنيفة : على البائع تسليم ما باع ، فإن هلك قبل أن يسلمه فمصيبته من البائع - وقال مالك بقولنا ، إلا في الرقيق والثمار خاصة ، فإنه قال : ما أصاب الرقيق في ثلاثة أيام بعد بيع الرأس من إباق ، أو عيب ، أو موت ، أو غير ذلك ، فمن مصيبة البائع ، فإذا انقضت برئ البائع ، إلا من الجنون ، والجذام ، والبرص : فإن هذه الأدواء الثلاثة إن أصاب شيء منها الرأس المبيع قبل انقضاء عام من حين ابتياعه كان له الرد بذلك . قال : ولا يقضي بذلك إلا في البلاد التي جرت عادة أهلها بالحكم بذلك فيها - وأما البلاد التي لم تجر عادة أهلها بالحكم بذلك فيها : فلا حكم عليهم بذلك . قال : ومن باع بالبراءة بطل عنه حكم العهدة ، وأسقطها جملة فيما باعه السلطان لغريم ، أو من مال يتيم - وأجاز النقد في عهدة السنة ، ولم يجزه في عهدة الثلاث . وأما الثمار فمن باع ثمرة كانت بعد أن يحل بيعها والمقاثي ، فإذا أجيح من ذلك الثلث فصاعدا رجع بذلك على البائع ، فإن أجيح ما دون الثلث - بما قل أو كثر - فهو من مصيبة المشتري ولا رجوع له على البائع . قال : فإن كان بقلا فأصابته جائحة - قلت أو كثرت - فإنه يرجع بذلك على البائع - واختلف قوله في الموز ، فمرة قال : هو بمنزلة الثمار في مراعاة الثلث ، ومرة قال : هو بمنزلة البقل في الرجوع بقليل الجائحة وكثيرها . ومرة قال : لا يرجع بجائحة أصابته كله أو أكثره أو أقله . قال أبو محمد : أما إيجاب التسليم فما نعلم فيه للحنفيين حجة أصلا ، لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا رواية ضعيفة ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ، ولا رأي سديد ، وإنما على البائع أن لا يحول بين المشتري وبين قبض ما باع منه فقط ، فإن فعل صار عاصيا وضمن ضمان الغصب فقط ، ولا يحل أن يلزم أحد حكما لم يأت به قرآن ، ولا سنة ، قال تعالى : { شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } فسقط هذا القول . وأما قول مالك في الرقيق : فإن مقلديه يحتجون له بما رويناه من طريق أبي داود نا مسلم بن إبراهيم نا أبان - هو ابن يزيد العطار - عن قتادة عن الحسن البصري عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله ﷺ قال : { عهدة الرقيق ثلاثة أيام } . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبدة ، ومحمد بن بشر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله ﷺ { عهدة الرقيق ثلاث } . وقالوا : إنما قضى بعهدة الثلاث لأجل حمى الربع ؛ لأنها لا تظهر في أقل من ثلاثة أيام . وذكروا ما رويناه من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع أبان بن عثمان بن عفان ، وهشام بن إسماعيل بن هشام يذكران في خطبتهما عهدة الرقيق في الأيام الثلاثة من حين يشتري العبد أو الوليدة وعهدة السنة ، ويأمران بذلك . ومن طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال : قضى عمر بن عبد العزيز في عبد اشتري فمات في الثلاثة الأيام فجعله عمر من الذي باعه . قال ابن وهب : وحدثني يونس عن ابن شهاب ، قال : القضاة منذ أدركنا يقضون في الجنون والجذام ، والبرص : سنة . قال ابن شهاب : وسمعت سعيد بن المسيب يقول : العدة من كل داء عضال نحو الجنون ، والجذام ، والبرص : سنة . قال ابن وهب : وأخبرني ابن سمعان ، قال : سمعت رجالا من علمائنا منهم يحيى بن سعيد الأنصاري يقولون : لم تزل الولاة بالمدينة في الزمان الأول يقضون في الرقيق بعهدة السنة من الجنون والجذام ، والبرص إن ظهر بالمملوك شيء في ذلك قبل أن يحول الحول عليه فهو رد إلى البائع ، ويقضون في عهدة الرقيق بثلاث ليال فإن حدث في الرأس في تلك الثلاث حدث - من موت أو سقم - فهو من الأول ، وإنما كانت عهدة الثلاث من الربع ، ولا يستبين الربع إلا في ثلاث ليال . هذا كل ما شغبوا به ، وما نعلم لهم في ذلك شيئا غير ما أوردنا ، وكله لا حجة لهم في شيء منه - : أما الحديثان فساقطان ؛ لأن الحسن لم يسمع من عقبة بن عامر شيئا قط ، ولا سمع من سمرة إلا حديث العقبة فصارا منقطعين ، ولا حجة في منقطع . وقد رويناهما بغير اللفظ ، لكن كما روينا من طريق ابن وهب أخبرني مسلمة بن علي عمن حدثه عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله ﷺ : { عهدة الرقيق أربعة أيام وثلاثة } . ومن طريق قاسم بن أصبغ نا محمد بن الجهم نا عبد الوهاب - هو ابن عطاء الخفاف - نا هشام عن قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر قال : عهدة الرقيق أربع ليال . ومن طريق حماد بن سلمة عن زياد الأعلم عن الحسن أن رسول الله ﷺ قال : { لا عهدة إلا بعد أربعة أيام } . قال أبو محمد : وهذا مما نقضوا فيه أصولهم فإن الحنفيين يقولون : المنقطع ، والمتصل : سواء ، وقد تركوا ههنا هذه الأخبار ، وما عابوها إلا بالانقطاع فقط . والمالكيون تركوا ههنا الأخذ بالزيادة ، فهلا جعلوا العهدة أربع ليال بالآثار التي أوردنا ؟ فظهر تناقضهم وأنهم لا يثبتون على أصل . قال علي : وأما نحن فنقول : إن الله تعالى افترض على رسوله ﷺ أن يبين لنا ما نزل إلينا وما ألزمنا إياه ، ولم يجعل علينا في الدين من حرج ، وقول القائل " عهدة الرقيق ثلاث " كلام لا يفهم ، ولا تدري " العهدة " ما هي في لغة العرب ، وما فهم قط أحد من قول قائل " عهدة الرقيق ثلاثة أيام " أن معناه ما أصاب الرقيق المبيع في ثلاثة أيام ، فمن مصيبة البائع ، ولا يعقل أحد هذا الحكم من هذا اللفظ - فصح يقينا أن رسول الله ﷺ لم يقله قط ، ولو قاله لبين علينا ما أراد به . ولا يفرح الحنفيون بهذا الاعتراض فإنه إنما يسوغ ويصح على أصولنا لا على أصولهم ؛ لأن الحنفيين إذ رزقهم الله تعالى عقولا كهنوا بها ما معنى الكذب المضاف إلى رسول الله ﷺ أنه نهى عن " البتيراء " حتى فهموا أن البتيراء : هي أن يوتر المرء بركعة واحدة لا بثلاث ، على أن هذا لا يفهمه إنسي ولا جني من لفظة " البتيراء " ولم يبالوا بالتزيد من الكذب على رسول الله ﷺ في الإخبار عنه بما لم يخبر به عن نفسه ، فما المانع لهم من أن يكهنوا أيضا ههنا معنى العهدة ؟ فما بين الأمرين فرق . وأما نحن فلا نأخذ ببيان شيء من الدين إلا من بيان النبي ﷺ فقط ، فهو الذي تقوم به حجة الواقف غدا بين يدي الله تعالى لا بما سواه . وأما المالكيون فهم أصحاب قياس بزعمهم ، وقد جاء الحكم من رسول الله ﷺ بالشفعة في البيع ، فقاسوا عليه الشفعة في الصداق بآرائهم . وجاء النص بتحديد المنع من القطع في سرقة أقل من ربع دينار فقاسوا عليه الصداق ولم يقيسوا عليه الغصب وهو أشبه بالسرقة من النكاح عند كل ذي مسكة عقل . وقد جاء النص بالربا في الأصناف الستة فقاسوا عليها : الكمون ، واللوز ، فهلا قاسوا ههنا على خبر " العهدة " في الرقيق سائر الحيوان ؟ ولكن لا النصوص يلتزمون ولا القياس يحسنون ؟ ومن طرائفهم ههنا : أنهم قاسوا من أصدق امرأته عبدا أو ثمرة بعد أن بدا صلاحها فمات العبد أو أبق أو أصابه عيب قبل انقضاء ثلاثة أيام ، وأجيحت الثمرة بأكثر من الثلث ؟ فللمرأة القيام بالجائحة ، ولا قيام لها في العبد بعهدة الثلاث - فكان " هذا طريفا جدا . وكلا الأمرين تعلقوا فيه بخبر وعمل ولا فرق ؟ وأما احتجاجهم بأن " عهدة الثلاث " إنما جعلت من أجل حمى الربع ، فلا يخلو من أن تكون هذه العلة مخرجة من عند أنفسهم ، أو مضافة إلى رسول الله ﷺ لا بد من أحدهما ، فإن أضافوها إلى رسول الله ﷺ كان ذلك كذبا بحتا موجبا للنار ، وإن كانوا أخرجوها من عند أنفسهم ؟ قلنا لهم : فلم تعديتم بالحكم بذلك إلى الإباق ، والموت ، وسائر العيوب التي يقرون بأنها حادثة بلا شك ، كذهاب العين من رمية ، ونحو ذلك ؟ فهذا عجب جدا ؟ وليس هذا موضع قياس لافتراق العلة . وأيضا : فإن كنتم فعلتم ذلك لهذه العلة فنراكم قد اطرحتم الخبر الوارد في ذلك واقتصرتم على علة في غاية الفساد ؟ ؟ وأما الآثار التي شغبوا بها فلا متعلق لهم بشيء منها ؛ لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ وأيضا - فإن هشام بن إسماعيل ممن لا نعلمه تجب الحجة بروايته فكيف بخطبته ؟ وأما خطبة أبان بن عثمان بذلك - فعهدنا بهم قد خالفوا أبانا في قوله : إن ألبتة في الطلاق واحدة ، وفي إبطاله طلاق السكران ، وغير ذلك : فمرة يكون حكم أبان حجة ، ومرة لا يكون حجة - وهذا تخليط شديد وعمل لا يحل . وأما عمر بن عبد العزيز فالرواية عنه بذلك ساقطة ؛ لأنها من طريق ابن أبي الزناد ، وأول من ضعف روايته فمالك - وهو ضعيف جدا - وهم قد اطرحوا حكم عمر بن عبد العزيز الثابت عنه ، والسنة معه في أمره الناس علانية بالسجود في " إذا السماء انشقت " وغير ذلك من أحكامه كثير جدا ، فالآن صار حجة وهنالك ليس حجة ، ما أقبح هذا العمل في الديانة . وأما قول يحيى بن سعيد الأنصاري ، فمن رواية ابن سمعان ، وهو مذكور بالكذب لا تحل الرواية عنه . وأما قول الزهري ، وسعيد بن المسيب : فصحيح عنهما ، ولا حجة في الدين في قول أحد دون رسول الله ﷺ وقول سعيد مخالف لهم ؛ لأنه رأى عهدة السنة من كل داء عضال ، ولم يخص الجنون ، والجذام ، والبرص فقط ، وقد علم كل ذي حس أن الأكلة ، والحربة ، والأدرة : من الأدواء العضال ، فبطل كل ما موهوا به ، وما نعلم لهم في عهدة السنة من الأدواء المذكورة أثرا أصلا ، ولا قول صاحب ، ولا قياسا . وقال بعضهم : هذه الأدواء لا تظهر ببيان إلا بعد عام . قال أبو محمد : وهذه دعوى كاذبة ، وقول بلا برهان ، وما كان هكذا فحكمه الإطراح ، ولا يحل الأخذ به ، وما علم هذا قط ، لا في طب ، ولا في لغة عربية ، ولا في شريعة . قال علي : وذكروا أيضا : ما رويناه من طريق الحجاج بن المنهال نا همام عن قتادة أنه كان يقول : إن رأى عيبا في ثلاث ليال رد بغير بينة ، وإن رأى عيبا بعد ثلاث لم يرد إلا ببينة . ومن طريق حماد بن سلمة عن حميد عن عبد الملك بن يعلى فيمن ابتاع غلاما فوجده مجنونا ؟ قال : إن ظهر ذلك في السنة فإنه يستحلف البائع لقد باعه وما به جنون ، وإن كان بعد السنة فيمينه بالله على علمه . وذكر بعضهم أن عمر بن الخطاب ؛ وابن الزبير سئلا عن العهدة فقالا : لا نجد أمثل من حديث { حبان بن منقذ إذ كان يخدع في البيوع فجعل له النبي ﷺ الخيار ثلاثا إن شاء أخذ وإن شاء رد } . وخبر عن علي بن أبي طالب أجل الجارية بها الجذام ، والداء : سنة . قال علي : وكل هذا لا حجة لهم فيه - : أما خبر عمر ، وابن الزبير ، فلا بيان فيه بأنهما يقولان بقولهم أصلا ، بل فيه أنه خلاف قولهم " لأنهما بيناه على حديث حبان بن منقذ " . والمالكيون مخالفون لذلك الخبر ، فقول عمر ، وابن الزبير : حجة عليهم ، ولا وفاق فيه لقولهم أصلا لأنه إنما فيه الخيار بين الرد والأخذ فقط ، دون ذكر وجود عيب ، ولا فيه تخصيص للرقيق دون سائر ذلك ، فهو حجة عليهم لا لهم . ونحن نقول بهذا إذا قال المشتري : ما أمر منقذ أن يقوله . وأما خبر علي : فليس فيه أيضا شيء يدل على موافقة قولهم ، ولا ذكر رد أصلا ، وإنما يموهون بالخبر يكون فيه لفظ كبعض ألفاظ قولهم ، فيظن من لا يمعن النظر أن ذلك الخبر موافق لقولهم ، وليس هو كذلك ، بل هو مخالف لقولهم في الأكثر ، أو لا موافق ولا مخالف كذلك أيضا . قال أبو محمد : وقد روى ابن جريج أنه سأل الزهري عن عهدة الثلاث والسنة ؟ فقال : ما علمت فيه أمرا سالفا . قال ابن جريج : وسألت عطاء عن ذلك ؟ فقال : لم يكن فيما مضى عهدة في الأرض ، قلت : فما ثلاثة أيام ؟ قال : لا شيء . قال علي : قال الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } فمن الباطل أن تكون جارية ملكها لزيد وفرجها له حلال ويكون ضمانها على خالد ، حاش لله من هذا . وقد صح عن ابن عمر : ما أدركت الصفقة حيا مجموعا فهو من المبتاع - ولا يعلم له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم .

رويناه من طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه - وهذا يبطل عهدة الثلاث ، والسنة - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : ثم نقول لهم : أخبرونا عن الحكم بعهدة الثلاث ، والسنة : أسنة هو وحق أم ليس سنة ولا حقا ، ولا بد من أحدهما ؟ فإن قالوا : هو سنة وحق ؟ قلنا : فمن أين استحللتم أن لا تحكموا بها في البلاد التي اصطلح أهلها على ترك الحكم بها فيها ؟ ومتى رأيتم سنة يفسح للناس في تركها ومخالفتها ؟ حاش لله من هذا . وإن قالوا : ليست سنة ولا حقا ؟ قلنا : بأي وجه استحللتم أن تأخذوا بها أموال الناس المحرمة فتعطوها غيرهم بالكره منهم ؟ ولعل المحكوم عليه فقير هالك ، والمحكوم له غني أشر ، وقد قال رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } ففسختم البيوع الصحيحة بما ليس سنة ولا حقا ، إذ أبحتم ترك الحكم بالسنة والحق ، ولا مخلص لكم من أحدهما ، وهذا كما ترى . وأما قول مالك في الجوائح : فإنه لا يعرف عن أحد قبله مما ذكرنا عنه من التقسيم بين الثمار ، والمقاثي ، وبين البقول ، والموز ولا يعضد قوله في ذلك قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة أصلا ، ولا قول أحد ممن سلف ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه . ولهم في تخصيص الثلث آثار ساقطة نذكرها أيضا إن شاء الله تعالى ونبين وهيها - وقولنا في هذا هو قول أبي حنيفة ، وسفيان الثوري ، وأبي سفيان - وأحد قولي الشافعي ، وقول جمهور السلف . كما روينا من طريق أبي عبيدة نا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد أخبرني أبو بكر بن سهل بن حنيف أن أهل بيته كانوا يلزمون المشتري الجائحة - قال الليث : وبلغني عن عثمان بن عفان أنه قضى بالجائحة على المشتري . قال أبو محمد : وذهب أحمد بن حنبل : وأبو عبيد ، والشافعي ، في أول قوله إلى حط الجائحة في الثمار عن المشتري - قلت أو كثرت - وهذا قول له متعلق بأثر صحيح ، نذكره إن شاء الله تعالى ونبين وجهه وحكمه بحول الله تعالى وقوته . روينا من طريق مسلم بن الحجاج نا محمد بن عباد نا أبو ضمرة عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله ﷺ : { لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل أن تأخذ منه شيئا ، بم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟ } . ومن طريق مسلم نا بشر بن الحكم نا سفيان - هو ابن عيينة - عن حميد الأعرج عن سليمان بن عتيق عن جابر بن عبد الله { أن النبي ﷺ أمر بوضع الجوائح } . قال علي : وهذان أثران صحيحان . وقالوا أيضا : على بائع الثمرة إسلامها إلى المشتري طيبة كلها فإذا لم يفعل ، سقط عن المشتري بمقدار ما لم يسلم إليه كما يلزم . ومن طريق ابن وهب عن أنس بن عياض أن أبا إسحاق مقدما مولى أم الحكم بنت عبد الحكم حدثه أن عمر بن عبد العزيز قضى بوضع الجوائح . وبه إلى ابن وهب عن عثمان بن الحكم عن ابن جريج عن عطاء قال : الجوائح كل ظاهر مفسد من مطر أو برد أو ريح أو حريق أو جراد . قال أبو محمد : إن لم يأت ما يبين أن هذين الخبرين المذكورين على غير ظاهرهما وإلا فلا يحل خلاف ما فيهما ، وعلى كل حال فلا حجة فيهما لقول مالك ، بل هما حجة عليه ؛ لأنه ليس فيهما تخصيص ثلث من غيره . فنظرنا هل جاء في هذا الحكم غير هذين الخبرين ؟ فوجدنا ما رويناه من طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد نا ليث بن سعد عن بكير - هو ابن الأشج - عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري قال : { أصيب رجل في عهد رسول الله ﷺ في ثمار ابتاعها ، فكثر دينه ، فقال رسول الله ﷺ : تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله ﷺ لغرمائه : خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك } فأخرجه رسول الله ﷺ من ماله لغرمائه ، ولم يسقط عنه لأجل الجائحة شيئا ؟ فنظرنا في هذا الخبر مع خبري جابر المتقدمين . فوجدنا خبرين من طريق جابر ، وأنس ، قد وردا ببيان تتألف به هذه الأخبار كلها - بحمد الله تعالى . كما روينا من طريق مسلم حدثني أبو الطاهر أنا ابن وهب أخبرني مالك عن حميد الطويل عن أنس { أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الثمر حتى تزهي قالوا : وما تزهي ؟ قال : تحمر ، أرأيت إذا منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك ؟ } . ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرنا قتيبة نا سفيان - هو ابن عيينة - عن حميد الأعرج عن سليمان بن عتيق عن جابر { أن النبي ﷺ نهى عن بيع الثمر السنين } . فصح بهذين الخبرين أن الجوائح التي أمر رسول الله ﷺ بوضعها هي التي تصيب ما بيع من الثمر سنين ، وقبل أن يزهي ، وأن الجائحة التي لم يسقطها وألزم المشتري مصيبتها ، وأخرجه عن جميع ماله بها - : هي التي تصيب الثمر المبيع بعد ظهور الطيب فيه وجواز بيعه - وبالله تعالى التوفيق . وأيضا : فإن رسول الله ﷺ قال : { لو بعت من أخيك تمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا } فلم يخص عليه السلام شجرا في ورقه من ثمر موضوع الأرض وهم يخصون ذلك بآرائهم ، فقد صح خلافهم لهذا الخبر وتخصيصهم له ، وبطل احتجاجهم به على عمومه والأخذ فيه . وأمر بوضع الجوائح ولم يذكر في ثمر ولا في غيره ، ولا في أي جائحة هو - فصح أنهم مخالفون له أيضا ، وبطل أن يحتجوا به على عمومه ، وصار قولهم ، وقولنا في هذين الخبرين سواء في تخصيصهم ، إلا أنهم خصوهما بلا دليل ؟ قال أبو محمد : والخسارة لانحطاط السعر جائحة بلا شك ، وهم لا يضعون عنه شيئا لذلك - وأما قولهم على البائع أن يسلمها طيبة إلى المشتري ؟ فباطل ما عليه ذلك ، إنما عليه أن يسلم إليه ما باع بيعا جائزا فقط ، إذ لم يوجب عليه غير ذلك نص ولا إجماع - وهذا مما خالف فيه المالكيون القياس ، والأصول ، إذا جعلوا مالا ربحه وملكه لزيد ، وخسارته على عمرو : الذي لا يملكه . قال علي : وأما الآثار الواهية التي احتج بها مقلدو مالك - : فروينا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي نا مطرف عن أبي طوالة عن أبيه " أن رسول الله ﷺ قال : { إذا أصيب ثلث الثمر فقد وجب على البائع الوضيعة } . قال عبد الملك : وحدثني أصبغ بن الفرج عن السبيعي عبد الجبار بن عمر عن ربيعة الرأي { أن رسول الله ﷺ أمر بوضع الجائحة إذا بلغت ثلث الثمر فصاعدا } . قال عبد الملك : وحدثني عبيد الله بن موسى عن خالد بن إياس عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله ﷺ : { خمس من الجوائح : الريح ، والبرد ، والحريق ، والجراد ، والسيل } . قال أبو محمد : هذا كله كذب : عبد الملك مذكور بالكذب . والأول مرسل مع ذلك . والسبيعي مجهول لا يدري أحد من هو ؟ وعبد الجبار بن عمر ضعيف وهو أيضا مرسل - فسقط كل ذلك ، وخالد بن إياس ساقط - ثم لو صح لما كان فيه أمر بإسقاط الجوائح أصلا ، لا بنص ، ولا بدليل ، إلا أن الحنفيين الذين يحتجون بروايات الكذابين ومرسلاتهم : كمبشر بن عبيد الحلبي ، وجابر الجعفي ؛ وغيرهما : فلا عذر لهم في أن لا يأخذوا بهذه المراسيل - وهذا مما تناقضوا فيه . وذكر المالكيون عمن دون رسول الله ﷺ ما رويناه من طريق عبد الملك بن حبيب نا ابن أبي أويس عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب : أنه كان يقضي بوضع الجائحة إذا بلغت ثلث الثمر فصاعدا . ومن طريق ابن حبيب أيضا حدثني الحذافي عن الواقدي عن موسى بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن سليمان بن يسار قال : باع عبد الرحمن بن عوف من سعد بن أبي وقاص عينا له فأصابه الجراد فأذهبه أو أكثره ، فاختصما إلى عثمان فقضى على عبد الرحمن برد الثمن إلى سعد . قال الواقدي : وكان سهل بن أبي حثمة ، وعمر بن عبد العزيز ، والقاسم ، وسالم ، وعلي بن الحسين ، وسليمان بن يسار ، وعطاء بن أبي رباح - : يرون الجائحة موضوعة عن المشتري إذا بلغت الثلث فصاعدا . قال أبو محمد : هذا كله باطل ، لأنه كله من طريق عبد الملك بن حبيب ، ثم الحسين بن عبد الله بن ضميرة مطرح ، متفق على أن لا يحتج بروايته ، وأبوه مجهول ، والواقدي مذكور بالكذب . ثم لو صح حديث عثمان لكان فيه أن عبد الرحمن بن عوف لم ير رد الجائحة وإن أتت على الثمر كله أو أكثر - وإذا وقع الخلاف فلا حجة في قول بعضهم دون بعض ، والثابت في هذا عن ابن عمر رضي الله عنه - وهو عالم أهل المدينة في عصره - ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب محمد نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر نا شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : { لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه } ، فقيل لابن عمر : ما صلاحه ؟ قال : تذهب عاهته " . قال أبو محمد : تأملوا هذا فإن ابن عمر روى نهي النبي ﷺ عن بيع الثمر قبل ، بدو صلاحه - وفسر ابن عمر بأن بدو صلاح الثمر : هو ذهاب عاهته . فصح يقينا أن العاهة وهي الجائحة لا تكون عند ابن عمر إلا قبل بدو صلاح الثمر ، وأنه لا عاهة ، ولا جائحة بعد بدو صلاح الثمر ، وهذا هو نص قولنا - والحمد لله رب العالمين - ولا يصح غير هذا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم . ومن تناقض المالكيين في هذا أنهم يقولون فيمن باع ثمرا قد طاب أكله وحضر جداده فأجيح كله أو بعضه - : لم يسقط عنه لذلك شيء من الثمن - . وهذا خلاف كل ما ذكرنا آنفا من الموضوعات جملة . فإن احتجوا في ذلك بقول النبي ﷺ : { الثلث والثلث كثير } . قلنا : نعم هذا في الوصية ، ولكن من أين لكم أن الكثير من الجوائح يوضع دون القليل حتى تحدوا ذلك بالثلث ؟ وأنتم تقولون في غني له مائة ألف دينار ابتاع ثمرا بثلاثة دراهم فأجيح في ثلث الثمرة ثم باع الباقي بدينار - : أنه توضع عنه الجائحة . وتقولون في مسكين ابتاع ثمرة بدينار فذهب ربعها ثم رخص الثمر فباع الباقي بدرهم - : أنه لا يحط عنه شيء ، والكثير والقليل إنما هما بإضافة كما ترى لا على الإطلاق . ثم لم يلبثوا أن تناقضوا أسمج تناقض وأغثه وأبعده عن الصواب للمرأة ذات الزوج أن تحكم في الصدقة بالثلث من مالها فأقل بغير رضا زوجها ، ولا يجوز لها ذلك فيما كان أكثر من الثلث إلا بإذن زوجها ، فجعلوا الثلث ههنا قليلا كما هو دون الثلث وجعلوه في الجائحة كثيرا بخلاف ما دونه . ثم قالوا : إن اشترط المحبس مما حبس الثلث فما زاد بطل الحبس ، فإن اشترط أقل من الثلث جاز وصح الحبس - فجعلوا الثلث ههنا كثيرا بخلاف ما دونه . ثم قالوا : من باع سيفا محلى بفضة أو مصحفا كذلك يكون ما عليهما من الفضة ثلث قيمة الجميع فأقل فهذا قليل ، ويجوز بيعه بالفضة وإن كان ما عليهما من الفضة أكثر من الثلث لم يجز أن يباعا بفضة أصلا - فجعلوا الثلث ههنا قليلا في حكم ما دونه . وأباحوا أن يستثني المرء من ثمر شجره ومن زرع أرضه إذا باعها مكيلة تبلغ الثلث فأقل - ومنعوا من استثناء ما زاد على الثلث - فجعلوا الثلث ههنا قليلا في حكم ما دونه . ثم منعوا من باع شاة واستثنى من لحمها لنفسه أرطالا أن يستثني منها مقدار ثلثها فصاعدا ، وأباحوا له أن يستثني منها أرطالا أقل من الثلث - فجعلوا الثلث ههنا كثيرا بخلاف ما دونه . ثم أباحوا لمن اشترى دارا فيها شجر فيها ثمر لم يبد صلاحه أن يدخل الثمر في كراء الدار إن كان الثلث بالقيمة منه ومن كراء الدار - ومنعوا من ذلك إذا كان الثلث فأكثر - : فجعلوا الثلث ههنا قليلا في حكم ما دونه . ثم جعلوا العشر قليلا وما زاد عليه كثيرا فقالوا فيمن أمر آخر بأن يشتري له خادما بثلاثين دينارا فاشتراها له بثلاثة وثلاثين دينارا : أنها تلزم الآمر ؛ لأن هذا قليل ، قالوا : فإن اشتراها له بأكثر لم يلزم الآمر ؛ لأنه كثير - وهذا يشبه اللعب ، فيا للناس ؟ أبهذه الآراء تشرع الشرائع وتحرم وتحلل ، وتباع الأموال المحرمة وتعارض السنن ؟ حسبنا الله ونعم الوكيل . وروينا من طريق ابن وهب عن عثمان بن الحكم عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال : لا جائحة فيما أصيب دون ثلث رأس المال . ومن طريق عبد الرزاق حدثنا معمر أخبرني من سمع الزهري قال : قلت ما الجائحة ؟ قال : النصف . قال علي : فهذا الزهري لا يرى الجائحة إلا النصف . وهذا يحيى بن سعيد فقيه المدينة لا يرى الجائحة إلا في الثمن ، لا في عين الثمرة - وكل ذلك خلاف قول مالك - وبالله تعالى التوفيق .

 

 

 

===============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1وط2.كتاب : الأمثال المؤلف : أبو عبيد ابن سلام

  ج1وج2.كتاب  الأمثال أبو عبيد ابن سلام المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمّد وآله رأيت في أوّل نسخة الشيخ الإمام أبي...