4.المحلى ابن حزم - المجلد الرابع تابع كتاب البيوع{{ 1471 - مسألة الي 1483 - مسألة }}
1472 - مسألة : ولا يحل بيع فراخ الحمام في البرج مدة مسماة كسنة ، أو ستة أشهر ، أو نحو ذلك ؛ لأنه بيع ما لم يخلق ، وبيع غرر لا يدرى كم يكون ، ولا أي صفة يكون فهو أكل مال بالباطل ، وإنما الواجب في الحلال في ذلك بيع ما ظهر منها بعد أن يقف البائع أو وكيله ، والمشتري أو وكيله عليها ، وإن لم يعرفا أو أحدهما عددها أو يرها أحد من ذكرنا فيقع البيع بينهما على صفة الذي رآها منهما . فإن تداعيا بعد ذلك في فراخ فقال المشتري : كانت موجودة حين البيع فدخلت فيه ، وقال الآخر : لم تكن موجودة حينئذ ، ولا بينة : حلفا معا ، وقضي بها بينهما ، لأنها في أيديهما معا ، هي بيد المشتري بحق الشراء للفراخ التي في البرج ، وهي بيد صاحب الأصل بحق ملكه للأصل من الأمهات والمكان - وبالله تعالى التوفيق ، إلا إن كان المشتري قبض كل الفراخ وعرف ذلك ثم ادعى أنه بقي له شيء هنالك فهو للبائع وحده مع يمينه ؛ لأنه مدعى عليه فيما بيده .
1473 - مسألة : وجائز بيع الصغار من جميع الحيوان حين تولد ، ويجبر كلاهما على تركها مع الأمهات إلى أن يعيش دونها عيشا لا ضرر فيه عليها ، وكذلك يجوز بيع البيض المحضونة ، ويجبر كلاهما على تركها إلى أن تخرج وتستغني عن الأمهات . برهان ذلك - : قول الله عز وجل : { وأحل الله البيع } . وأما ترك كل ذلك إلى أن يستغني عن الأمهات فلقول الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } والنهي عن إضاعة المال والوعيد الشديد على من عذب الحيوان وأصبرها ، وإزالة الصغار عن الأمهات قبل استغنائها عنها عذاب لها وقتل إلا من ذبحها للأكل فقط على ما ذكرنا في " كتاب ما يحل أكله وما يحرم " وإزالة البيض بعد أن تغيرت بالحضن عن حالها إضاعة للمال .
1474 - مسألة : ولا يحل بيع شيء من ثمر النخل ، من : البلح ، والبسر ، والزهو ، والمكث ، والحلقان ، والمعو ، والمعد ، والثغد ، والرطب بعضه ببعض من صنفه ، أو من صنف آخر منه ولا بالثمر ، ولا متماثلا ولا متفاضلا ، ولا نقدا ولا نسيئة ، ولا في رءوس النخل ولا موضوعا في الأرض . ويجوز بيع الزهو ، والرطب بكل شيء يحل بيعه ، حاشا ما ذكرنا نقدا وبالدراهم والدنانير نقدا ونسيئة ، حاشا العرايا في الرطب وحده . ومعناها أن يأتي الرطب ويكون قوم يريدون ابتياع الرطب للأكل فأبيح لهم أن يبتاعوا رطبا في رءوس النخل بخرصها تمرا فيما دون خمسة أوسق ، يدفع التمر إلى صاحب الرطب ولا بد - ولا يحل بتأخير ، ولا في خمسة أوسق فصاعدا ، ولا بأقل من خرصها تمرا ولا بأكثر ، فإن وقع ما قلنا : أنه لا يجوز فسخ أبدا ، وضمن ضمان الغصب . برهان ذلك - ما روينا من طريق مسلم أنا ابن نمير : وزهير بن حرب ، قالا جميعا : أنا سفيان بن عيينة أنا الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه { نهى رسول الله ﷺ عن بيع التمر بالتمر } . ومن طريق مسلم أنا عبد الله بن مسلمة القعنبي أنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ من أهل دارهم منهم سهل بن أبي حثمة { أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع التمر بالتمر وقال : ذلك الربا } . وصح أيضا من طريق رافع بن خديج ، وأبي هريرة { عن رسول الله ﷺ : النهي عن بيع التمر بالتمر } والثمر يقتضي الأصناف التي ذكرنا - . وصح النهي عن ذلك عن سعد بن أبي وقاص . ولم يجز سعيد بن المسيب قفيز رطب بقفيز من جاف - وهو قول مالك ، والشافعي ، والليث ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وأبي ثور ، وأبي سليمان - وهو الخارج من أقوال سفيان ، وأحمد ، وإسحاق . وأجاز أبو حنيفة بيع الرطب بالتمر كيلا بمثله نقدا ولم يجز متفاضلا ولا نسيئة - وقال : إنما يحرم بيع الثمر الذي في رءوس النخل خاصة بالتمر ، ولم يجز ذلك لا في العرايا ولا في غيرها . واحتج له مقلدوه بما صح من طريق ابن عمر { نهى رسول الله ﷺ عن المزابنة } ، والمزابنة أن يباع ما في رءوس النخل من ثمر بتمر مسمى بكيل ، إن زاد فلي وإن نقص فعلي " . ومثله مسندا أيضا من طريق أبي سعيد الخدري . ومن طريق عطاء عن جابر بن عبد الله أنه فسر لهم المزابنة : أنها بيع الرطب في النخل بالتمر كيلا . قال أبو محمد : لا حجة لهم في شيء من هذه الأخبار ؛ لأننا لم ننازعهم في تحريم الرطب في رءوس النخل بالتمر كيلا ، نعم ، وغير كيل ، ولا نازعناهم في أن هذا مزابنة فاحتجاجهم بها تمويه وإيهام ضعيف ، وليس في شيء من هذه الأخبار ولا غيرها : أنه لا يحرم من بيع الثمر بالتمر إلا هذه الصفة فقط ولا في شيء من هذا : أن ما عدا هذا فحلال - لكن كل ما في هذه الأخبار فهو بعض ما في حديث ابن عمر الذي صدرنا به وبعض ما في حديث سهل بن أبي حثمة ، ورافع ، وأبي هريرة . وتلك الأخبار جمعت ما في هذه وزادت عليها ، فلا يحل ترك ما فيها من زيادة الحكم من أجل أنها لم تذكر في هذه الأحاديث . كما أن قول الله تعالى { : منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } ليس حجة في إباحة الظلم في غيرها - وهكذا جميع الشرائع أولها عن آخر ، ليست كل شريعة مذكورة في كل حديث . وأيضا - فإننا نقول لهم : من أين قلتم : إن المراد في تلك الأخبار التي فيها النهي عن بيع الثمر بالتمر إنما هو ما ذكرنا في هذه الأخبار الأخر من النهي عن بيع الثمر في رءوس النخل بالتمر ، وما برهانكم على ذلك ؟ وهل زدتمونا على الدعوى المجردة الكاذبة شيئا ؟ ومن أين وجب ترك عموم تلك الأخبار الثابتة من أجل أنه ذكر في هذه بعض ما في تلك ؟ فإنهم لا سبيل إلى دليل أصلا - لا قوي ولا ضعيف - فحصلوا على الدعوى فقط ، فإن ادعوا إجماعا على ما في هذه كذبوا . وقد روينا من طريق ابن أبي شيبة أنا ابن المبارك عن عثمان بن حكيم عن عطاء عن ابن عباس قال : الثمر بالتمر على رءوس النخل مكايلة إن كان بينهما دينار أو عشرة دراهم فلا بأس به ، وهذا خبر صحيح ، وعثمان بن حكيم ثقة وسائر من فيه أئمة أعلام . وقد فسر ابن عمر المزابنة كما روينا من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر { نهى رسول الله ﷺ فذكر المزابنة ، والمزابنة : بيع الثمر بالتمر كيلا ، وبيع الكرم بالزبيب كيلا } . وحدثنا حمام أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنا بكر - هو ابن حماد - أنا مسدد أنا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن عبيد الله بن عمر أخبرني نافع عن ابن عمر قال { نهى رسول الله ﷺ عن المزابنة ، والمزابنة : اشتراء الثمر بالتمر واشتراء العنب بالزبيب كيلا } . فمن جعل تفسير ابن عمر باطلا وتفسير جابر ، وأبي سعيد صحيحا . بل كلاهما حق وكل ذلك مزابنة منهي عنها ، وما عدا هذا فضلال وتحكم في دين الله تعالى بالباطل . والعجب كله من إباحة أبي حنيفة ومن قلده دينه ما قد نص رسول الله ﷺ على النهي عنه من بيع الرطب بالتمر ، وبيع التمر بالتمر ، وتحريمه ما لم يحرمه الله تعالى قط ولا رسوله ﷺ ولا جاء قط عنه نهي من بيع الجوز على رءوس أشجاره بالجوز المجموع ، وهذا عجب جدا وما رأينا قط سنة مضاعة إلا وإلى جنبها بدعة مذاعة ، ونعوذ بالله من الخذلان . واحتجوا أيضا - بأن قالوا : لا يخلو الرطب ، والتمر من أن يكونا جنسا واحدا أو جنسين ، فإن كانا جنسا واحدا فالتماثل في الجنس الواحد جائز ، لإباحة رسول الله ﷺ التمر بالتمر مثلا بمثل ، وإن كانا جنسين فذلك فيهما أجوز ، لقول رسول الله ﷺ : { إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد } . قال أبو محمد : فنقول لهم : الذي أباح التمر بالتمر متماثلا يدا بيد ، وأمرنا إذا اختلفت الأصناف أن نبيع كيف شئنا إذا كان يدا بيد ، هو الذي نهانا عن بيع الرطب بالتمر جملة ، وعن بيع التمر بالتمر ، وأخبرنا : أنه الربا ، وليست طاعته في بعض ما أمر به واجبة وفي بعضه غير واجبة ، هذا كفر ممن قاله ، بل طاعته في كل ما أمر به واجبة . لكن يا هؤلاء أين كنتم عن هذا الاستدلال الفاسد الذي صححتموه وعارضتم به سنة الله تعالى ورسوله عليه السلام ؟ إذ حرمتم برأيكم الفاسد بيع الدقيق بالحنطة أو بالسويق جملة ، فلم تجيزوه لا متفاضلا ، ولا متماثلا ، ولا نقدا ، ولا نسيئة ، ولا كيلا ، ولا وزنا - وهلا قلتم لأنفسكم : لا يخلو الدقيق والحنطة ، والسويق ، من أن تكون جنسا واحدا أو جنسين أو ثلاثة أجناس ، فإن كانت جنسا واحدا فالتماثل في الجنس الواحد جائز ، لإباحة رسول الله ﷺ الحنطة بالحنطة مثلا بمثل ، وإن كانت جنسين أو ثلاثة فذلك فيها أجوز ، لقول رسول الله ﷺ : { إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد } فهذا المكان أولى بالاعتراض ، وبالرد ، وبالإطراح ، لا قول رسول الله ﷺ وحكمه . فقال قائل منهم : التفاضل في الدقيق بالحنطة موجود في الوقت ، وأما في الرطب بالتمر ، فلا يوجد إلا بعد الوقت ؟ فقلنا : فكان ماذا لو كان ما قلتم حقا ؟ ومن أين وجب مراعاة التفاضل في الوقت أو بعده ؟ فكيف والذي قلتم باطل ؟ لأن المماثلة بالكيل موجودة في الرطب بالتمر ، كما هي موجودة في الدقيق بالسويق ، وفي الدقيق بالحنطة في الوقت ، فلا تفاضل فيهما أصلا ، وإنما كان التفاضل موجودا في الدقيق بالسويق فيما خلا وبطل الآن ، ولا يقطع أيضا بهذا ، فبطل فرقكم الفاسد . وأيضا - فإنما أباح رسول الله ﷺ التمر بالتمر مثلا بمثل ، وبالمشاهدة ندري أن الرطب ليس مثلا للتمر في صفاته . واحتجوا أيضا بأن قالوا : بيع التمر الحديث بالتمر القديم جائز ، وهو ينقص ، عنه فيما بعد ؟ فقلنا : نعم فكان ماذا ؟ ومتى جعلنا لكم علة المنع من بيع الرطب بالتمر ، إنما هي نقصانه إذا يبس ؟ حاشا لله أن يقول هذا ؛ لأن الأثر الذي من طريق سعد ، الذي فيه : أينقص الرطب إذا جف لا يصح ، لأنه من رواية زيد بن أبي عياش - وهو مجهول - ولو صح لأذعنا له ولقلنا به ، وهذا التعليل منكم باطل وتخرص في دين الله تعالى لم يأت به قرآن ، ولا سنة ، وإنما هو الطاعة لله تعالى ولرسوله عليه السلام فقط . { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } . ونقول لمن ادعى التعليل ، وأنه هو الحكمة ، وما عداه عبث : أخبرونا ما علة تحريم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، والخامسة في النكاح ، وسائر الشرائع ؟ فلا سبيل لهم إلى وجود شيء أصلا ، فمن أين وجب أن تعلل بعض الشرائع بالدعاوى الكاذبة ، ولا تعلل سائرها ؟ وما نعلم لأبي حنيفة سلفا قبله في إباحة الرطب بالتمر ممن يحرم الربا في غير النسيئة - وقال مالك : بيع الرطب جائز ، وهذا خطأ لنهي رسول الله ﷺ عن بيع الثمر بالتمر . وقال الشافعي كقولنا - وبالله تعالى التوفيق . وأما العرايا - روينا من طريق نافع عن ابن عمر قال : كانت العرايا أن يعري الرجل في ماله النخلة والنخلتين ؟ قال علي : ليس في هذا بيان حكم العرايا - وروينا عن موسى بن عقبة أنه قال : العرايا نخلات معلومات يأتيها فيشتريها . وروينا عن زيد بن ثابت ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، ومحمد بن إسحاق أنها النخلة والنخلتان والنخلات تجعل للقول فيبيعون ثمرها بخرصها تمرا . وقال سفيان بن حسين ، وسفيان بن عيينة ، والأوزاعي ، وأحمد بن حنبل مثل هذا ، إلا أنهم خصوا بذلك المساكين يجعل لهم ثمر النخل فيصعب عليهم القيام عليها ، فأبيح لهم أن يبيعوها بما شاءوا من التمر . وروينا عن عبد ربه بن سعيد الأنصاري : أن العرية الرجل يعري النخلة ، أو يستثني من ماله النخلة أو النخلتين يأكلها فيبيعهما بمثل خرصهما تمرا . وقال أبو حنيفة : العرية أن يهب الرجل رجلا آخر ثمرة نخلة أو نخلتين ثم يبدو له فيعطيه مكان ثمر ما أعطاه تمرا يابسا فيخرج بذلك عن إخلاف الوعد . وقال مالك : العرية أن يهب الرجل لآخر ثمر نخلة أو نخلتين أو نخلات من ماله ويكون الواهب ساكنا بأهله في ذلك الحائط فيشق عليه دخول المعري في ذلك الحائط ، فله أن يبتاع منه ذلك الثمر بخرصه تمرا إلى الجداد ولا يجوز عنده إلا نسيئة ولا بد ، وأما يدا بيد فلا . وأما قول الشافعي فإنه قال : العرية أن يأتي أوان الرطب ، وهناك قوم فقراء لا مال لهم ، ويريدون ابتياع رطب يأكلونه مع الناس ، ولهم فضول تمر من أقواتهم ، فأبيح لهم أن يشتروا الرطب بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق نقدا ولا بد . وأما قولنا الذي ذكرنا فهو قول يحيى بن سعيد الأنصاري ، وأبي سليمان . وروينا من طريق مسلم أنا محمد بن رمح بن المهاجر أنا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال : العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا . قال أبو محمد : أما قول ابن عمر ، وموسى بن عقبة فلا بيان فيهما . وأما قول زيد بن ثابت ، وأحد قولي يحيى بن سعيد ، وابن إسحاق ، وسفيان بن حسين ، والأوزاعي ، وأحمد ، فإنه يحتج له بما روينا من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت { أن رسول الله ﷺ رخص ، لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها من التمر } . قال علي : ليس لهم في هذا الحديث حجة أصلا ، وإنما فيه أن صاحب الرطب هو الذي يبيعه بخرصه تمرا - ونحن هكذا نقول ، وجائز عندنا أن نبيع الرطب كذلك الذي هو له والنخل معا ، وجائز أن نبيعه أيضا كذلك من مالك الرطب وحده بهبة أو بشراء أو بميراث أو بإجازة أو بإصداق فهذا الخبر موافق لقولنا ولله الحمد ، وليس فيه إلا صفة البائع فقط ، وليس فيه من هو المشتري . وأما من ذهب مذهب عبد ربه بن سعيد فإنه يحتج له بما رويناه من طريق مسلم - أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير حدثني بشير بن يسار مولى بني حارثة : أن رافع بن خديج ، وسهل بن أبي حثمة حدثاه { أن رسول الله ﷺ نهى عن المزابنة الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه أذن لهم } . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ؛ لأنه ليس فيه بيان قولهم لا بنص ولا بإشارة ولا بدليل ، وإنما فيه : أن أصحاب العرايا أذن لهم في التمر بالتمر فقط ، وهكذا نقول - فبطل أن يكون لشيء من هذين القولين في شيء من هذين الخبرين حجة . ثم نظرنا في قول الشافعي فوجدناه دعوى بلا برهان ، وإنما ذكر فيه حديثا لا يدري أحد منشأه ولا مبدأه ولا طريقه ، ذكره أيضا بغير إسناد - فبطل أن يكون فيه حجة ، وحصل قوله دعوى بلا برهان - نعني تخصيصه أن الذين أبيح لهم ابتياع الرطب بخرصه تمرا إنما هم من لا شيء لهم يبتاعون به الرطب ليأكلوه فقط . ثم نظرنا في قول مالك فوجدنا قوله : إن العرية هي ثمر نخل تجعل لآخرين - وقوله : إن الذين جعلوه يسكنون بأهليهم في الحائط الذي فيه تلك النخل - وقوله : إن أصحاب النخل ينادون بدخول الذين جعل لهم تلك النخل أقوالا ثلاثة ؟ لا دليل على شيء منها ، لا في قرآن ، ولا في سنة ، ولا في رواية سقيمة ، ولا في قول صاحب ، ولا تابع ، ولا قياس ، ولا لغة ، ولا رأي له وجه ، وما نعلمه عن أحد قبله . ثم الشنعة والأعجوبة العظيمة قوله : إن ذلك لا يجوز إلا نسيئة إلى الجداد ، ولا يجوز نقدا أصلا - وهذا هو الربا المحرم جهارا ، ثم إلى أجل مجهول - ولا نعلم هذا عن أحد قبله ، وهو حرام مكشوف لا يحل أصلا ، وإنما حل ههنا الرطب بالتمر بالنص الوارد فيه فقط ، ووجدنا النسيئة فيما فيه الربا حراما بكل وجه ، فلما حل بيع التمر بالتمر ههنا لم يجز إلا يدا بيد ولا بد ؛ لأنه لا بيع إلا إما نقدا وإما نسيئة ، فالنسيئة حرام : لأنه ربا في كل ما يقع فيه الربا بلا خلاف - ولأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى - يعني اشتراط تأخيره فهو باطل فلم يبق إلا النقد فلم يجز غيره - وبالله تعالى التوفيق . ثم نظرنا في قول أبي حنيفة فوجدناه أبعد الأقوال ؛ لأنه خالف جميع الآثار كلها جهارا ، وأتى بدعوى لا دليل عليها ، ولا نعلم أحدا قال بها قبله . والخبر في استثناء جواز بيع الرطب بالتمر لأهل العرايا خاصة منقول نقل التواتر : رواه رافع ، وسهل ، وجابر ، وأبو هريرة ، وزيد ، وابن عمر في آخرين سواهم كل من سمينا هو عنهم في غاية الصحة - فخالفوا ذلك بآرائهم الفاسدة . والبرهان لصحة قولنا - : هو ما رويناه من طرق جمة كلها ترجع إلى مالك : أن داود بن الحصين حدثه عن أبي أحمد عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق } يشك داود . قال أبو محمد : فاليقين واقع فيما دون خمسة أوسق بلا شك ، فهو مخصوص فيما حرم من بيع التمر بالتمر ، ولا يجوز أن يباح متيقن الحرام بشك ، ولو أن رسول الله ﷺ أباح ذلك في خمسة أوسق لحفظه الله تعالى حتى يبلغ إلينا مبينا ، وتقوم به الحجة ، فلم يفعل الله تعالى ذلك ، فأيقنا أنه لم يبحه نبيه عليه السلام قط في خمسة أوسق ، لكن فيما دونها بيقين - وبالله تعالى التوفيق . فلا يجوز لأحد أن يبلغ ذلك في عام واحد في صفقة واحدة ، ولا في صفقات خمسة أوسق أصلا ، لا البائع ولا المشتري ؛ لأنه يخالف أمر رسول الله ﷺ . ومن طريق مسلم بن الحجاج أنا يحيى بن يحيى - هو النيسابوري - أنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصاري أخبرني نافع أنه سمع عبد الله بن عمر يحدث أن زيد بن ثابت حدثه { أن رسول الله ﷺ رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا } . ومن طريق مسلم أنا عبد الله بن مسلمة القعنبي أنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ من أهل دارهم منهم سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم { أنه نهى عن بيع التمر بالتمر وقال : ذلك الربا تلك المزابنة ، إلا أنه رخص في بيع العرية والنخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا } . قال أبو محمد : تحديد النبي ﷺ في حديث أبي هريرة { ما دون خمسة أوسق } يقضي على هذه الأحاديث ؛ لأنه إن كان في النخلتين خمسة أوسق لم يجز ، وإن كان في النخلات أقل من خمسة أوسق جاز ذلك فيها ؛ لأن تحديد الخمسة الأوسق زيادة حكم ، وزيادة حد ، وزيادة بيان ، ولا يجوز تركها - وبالله تعالى التوفيق .==
1475 - مسألة : فمن ابتاع كذلك رطبا للأكل ثم مات فورثت عنه ، أو مرض ، أو استغنى عن أكلها إلا أنه حين اشتراها كانت نيته أكلها بلا شك ، فقد ملك الرطب ملكا صحيحا ، ويفعل فيه ما شاء من بيع أو غيره . وبالله تعالى التوفيق .
1476 - مسألة : ولا يجوز حكم العرايا المذكور في شيء من الثمار غير ثمار النخل كما ذكرنا - ولا يجوز بيع شيء من الثمار سوى ثمر النخل بخرصها أصلا ، لا في رءوس النخل ولا مجموعة في الأرض أصلا . ولا يحل أن يباع العنب بالزبيب كيلا ، لا مجموعا ولا في عوده ، ولا بيع الزرع بالحنطة ، لما روينا من طريق مسلم حدثنا يحيى بن معين ، وهارون بن عبد الله قالا : أنا أبو أسامة أنا عبيد الله - هو ابن عمر - عن نافع عن ابن عمر قال : { نهى رسول الله ﷺ عن المزابنة ، والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا وبيع الزبيب بالعنب كيلا ، وعن كل ثمر بخرصه } . ومن طريق مسلم أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا محمد بن بشر أنا عبيد الله - هو ابن عمر - عن نافع عن ابن عمر أنه أخبره { أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الزرع بالحنطة كيلا } . ومن طريق مسلم أنا قتيبة أنا الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر { نهى رسول الله ﷺ عن المزابنة أن يبيع ثمر حائطه إن كانت نخلا بتمر كيلا ، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا ، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام } .
1477 - مسألة : فإن كان ثمر ما عدا ثمر النخل جاز أن يباع بيابس ورطب من صنفه ، ومن غير صنفه بأكثر منه ، وبأقل ومثله ، وأن يسلم في جنسه وغير جنسه ما لم يكن بخرصه كما ذكرنا ، وما لم يكن زبيبا كيلا بعنب ؛ لأن الله تعالى قال : { وأحل الله البيع } . وقال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } . فلو كان حراما لفصل لنا تحريمه { وما كان ربك نسيا } . فإن قيل : قد نهى عن الرطب باليابس وروي { أنه عليه السلام سأل : أينقص الرطب إذا يبس ؟ فقيل : نعم ، فنهى عن بيعه بالتمر } قلنا : أما أينقص الرطب إذا يبس ، فإن مالكا ، وإسماعيل بن أمية روياه عن عبيد الله بن يزيد عن زيد أبي عياش عن سعد ، وقال مالك مرة : زيادة أبي عياش مولى بني زهرة - وهو رجل مجهول لا يدرى من هو - ثم لو صح لما وجب أن يكون ذلك علة لغير ما نص عليه فيه من الرطب بالتمر وحده ؛ لأنه كان يكون تعديا لحدود الله عز وجل . ومن العجب العجيب أن يكون صح عن رسول الله ﷺ أنه قال : { ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا إلا السن والظفر ، أما السن فإنه عظم ، وأما الظفر فإنه مدى الحبشة } . فخالفه الحنفيون ، والمالكيون ، ولا يرون العظمية علة لما يمنع من أن يذكى به ، ولا يرى الشافعيون كون الذي يذكى به من مدى الحبشة علة في منع الذكاة به إلا في الظفر وحده ، ثم يجعلون ما لم يصح عنه من { أينقص الرطب إذا يبس } علة في جميع الثمار ، فأي عجب أعجب من هذا ؟ وأما الرطب باليابس فلا يصح أصلا ؛ لأنه أثر رويناه من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث - وهو ضعيف - عن الليث بن سعد عن أسامة بن زيد - وهو ضعيف - وغيره - وهو مجهول - عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن بعض أصحاب النبي ﷺ { سئل رسول الله ﷺ عن رطب بتمر ؟ فقال : أينقص الرطب ؟ قالوا : نعم ، قال : لا يباع الرطب باليابس } ومثل هذا لا يحل الاحتجاج به ، ولو صح لما ترددنا في الأخذ به . والعجب من الحنفيين الآخذين بكل ضعيف ، ومرسل ، كالوضوء من القهقهة في الصلاة ، والوضوء بالنبيذ ، وغير ذلك ثم يخالفون هذا المرسل وهذا الضعيف . وأيضا : فإن الشافعيين ، والمالكيين ، المدعين الأخذ بهذا الخبر قد خالفوه ، لأنهم يبيحون بيع الرطب من التمر ، والتين ، والعنب ، باليابس من غير جنسه ، وهذا خلاف لعموم الخبر . فإن قالوا : إنما أريد بذلك ما كان من جنسه ؟ قلنا : وما دليلكم على ذلك ؟ وما الفرق بينكم وبين أبي حنيفة القائل : إنما أريد بذلك ما كان في رءوس أشجاره فقط ؟ وهل هي إلا دعوى بدعوى بلا برهان وحسبنا الله ونعم الوكيل . وروينا من طريق ابن أبي شيبة أنا يحيى بن أبي زائدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري قال { نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المحاقلة ، والمزابنة ، فالمحاقلة في الزرع والمزابنة في النخل } . هذا نص لفظ أبي سعيد رضي الله عنه وهذا نص قولنا ؛ لأنه لم ير المزابنة إلا في النخل وحده ، لا في سائر الثمار - والحمد لله رب العالمين - وما نعلم له من الصحابة رضي الله عنهم مخالفا . ومن طريق مسلم أنا عبد الله بن مسلمة القعنبي أنا سليمان بن بلال عن يحيى - هو ابن سعيد الأنصاري - عن بشير بن يسار عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ [ من أهل دارهم ] منهم سهل بن أبي حثمة { أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الثمر بالتمر ، وقال : ذلك الربا تلك المزابنة ، إلا أنه رخص بيع العرية } وذكر الحديث . ومن طريق مسلم أنا محمد بن رمح أنا الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر قال : { إن رسول الله ﷺ نهى عن المزابنة أن يبيع ثمر حائطه إن كانت نخلا بتمر كيلا ، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا ، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام } . قال أبو محمد : لا مزابنة إلا ما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم الصحابة رضي الله عنهم بعده أنه مزابنة ، وما عدا ذلك فباطل وخطأ متيقن بلا شك - وبالله تعالى التوفيق .
1478 - مسألة : فإن قال قائل : فأنتم المنتمون إلى الأخذ بما صح من الآثار - وقد رويتم من طريق ابن وهب : أخبرني ابن جريج عن عطاء ، وأبي الزبير عن جابر قال { نهى رسول الله ﷺ عن بيع الثمر حتى يطيب ، ولا يباع شيء منه إلا بالدنانير ، والدراهم } . ورويتموه أيضا من طريق سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عن جابر عن رسول الله ﷺ وهذا خبر في غاية الصحة ؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق : نعم ؛ لأن الثمار كلها إذا يبست حدت أو لم تجد فهي ثمار قد طابت بلا خلاف من أحد ، ولا خلاف في اللغة . وقد صح عن رسول الله ﷺ أنه أمر ببيع التمر يدا بيد ، كيلا بكيل ، مثلا بمثل ، وأمر ببيعه بغير صنفه كيف شئنا . فصح النص على جواز بيع التمر بما شئنا مما يحل بيعه ، فكان ما في هذا مضافا إلى ما في خبر جابر المذكور وزائدا عليه ، فكان ذلك : لا تبيعوا الثمر إذا طاب إلا بالدنانير والدراهم ، وبما شئتم ، حاشا ما نهيتم عنه ، وهذا هو الذي لا يجوز غيره . وقد صح الإجماع المتيقن المقطوع به على أن جميع الثمار بعد طيبها حكمها فيما يباع مما يجوز حكم التمر ، وهذا برهان صحيح - وبالله تعالى التوفيق وما نعلم أحدا منع من بيع التمر بغير الدنانير والدراهم وبالله تعالى التوفيق .
1479 - مسألة : الربا : والربا لا يكون إلا في بيع ، أو قرض ، أو سلم ، وهذا ما لا خلاف فيه من أحد ؛ لأنه لم تأت النصوص إلا بذلك ، ولا حرام إلا ما فصل تحريمه ، قال الله تعالى { : خلق لكم ما في الأرض جميعا } . وقال تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } . وقال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } . ==
1480 - مسألة : والربا لا يجوز في البيع ، والسلم إلا في ستة أشياء فقط : في التمر ، والقمح ، والشعير ، والملح ، والذهب ، والفضة - وهو في القرض في كل شيء ، فلا يحل إقراض شيء ليرد إليك أقل ولا أكثر ، ولا من نوع آخر أصلا ، لكن مثل ما أقرضت في نوعه ومقداره على ما ذكرنا في " كتاب القرض " من ديواننا هذا فأغنى عن إعادته وهذا إجماع مقطوع به . والفرق بين البيع والسلم ، وبين القرض ، هو أن البيع والسلم : يكونان في نوع بنوع آخر ، وفي نوع بنوعه ، ولا يكون القرض إلا في نوع بنوعه ولا بد - وبالله تعالى التوفيق . وكذلك الذي ذكرنا من وقوع الربا في الأنواع الستة المذكورة في البيع والسلم ، فهو إجماع مقطوع به .
وما عدا الأنواع المذكورة فمختلف فيه ، أيقع فيه الربا أم لا ؟ والربا من أكبر الكبائر قال تعالى { : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } . وقال تعالى { : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } . ومن طريق مسلم أنا هارون بن سعيد الأيلي أنا ابن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة " أن رسول الله ﷺ قال : { اجتنبوا السبع الموبقات قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات } . ومن طريق مسلم أنا عثمان بن أبي شيبة أنا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن المغيرة بن مقسم أنا إبراهيم - هو النخعي - عن علقمة بن قيس عن ابن مسعود قال { لعن رسول الله ﷺ آكل الربا وموكله } . قال أبو محمد : فإذا أحل الله تعالى البيع وحرم الربا فواجب طلب معرفته ليجتنب ، وقال تعالى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } . فصح أن ما فصل لنا بيانه على لسان رسوله عليه السلام من الربا ، أو من الحرام ، فهو ربا وحرام ، وما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال ، لأنه لو جاز أن يكون في الشريعة شيء حرمه الله تعالى ثم لم يفصله لنا ، ولا بينه رسوله عليه السلام لكان تعالى كاذبا في قوله تعالى { : وقد فصل لكم ما حرم عليكم } وهذا كفر صريح ممن قال به ، ولكان رسول الله ﷺ عاصيا لربه تعالى إذ أمره بالبيان فلم يبين فهذا كفر متيقن ممن أجازه . وممن قال : لا ربا إلا في الأصناف المذكورة : طاوس ، وقتادة ، وعثمان البتي ، وأبو سليمان ، وجميع أصحابنا . واختلف الناس في هذا ، فقالت طائفة : إن هذه الأصناف الستة إنما ذكرت لتكون دلالة على ما فيه الربا مما سواها مما يشبهها في العلة التي حيثما وجدت كان ما وجدت فيه ربا . ثم اختلفوا في تلك العلة ، وكل طائفة منها تبطل علة الآخرين أو تنفيها فقالت طائفة : هي الطعم ، واللون - : روينا من طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد قال : سئل ابن شهاب عن الحمص بالعدس اثنان بواحد يدا بيد ؟ فقال ابن شهاب : كل شيء خالف صاحبه باللون ، والطعم ، فلا أراه إلا شبه الطعام - وقال ابن وهب : وبلغني عن ابن مسعود ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وربيعة ، مثله . قال أبو محمد : فنظرنا في هذا فوجدناه قولا بلا دليل فسقط - وقد بين ابن شهاب أنه رأي منه والرأي إذا لم يسند إلى النبي ﷺ فهو خطأ بلا شك . وقالت طائفة : هي وجوب الزكاة ، كما روينا من طريق ابن وهب عن عبد الجبار بن عمر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن : أنه كان لا يرى بأسا بالتفاحتين بالتفاحة ، والخوخ مثل ذلك . وكل ما لم تجز فيه الزكاة ، فنظرنا في هذا فوجدناه أيضا قولا بلا دليل ، ووجدنا الملح لا زكاة فيه ، والربا يقع فيه بالنص ، فبطل . قال علي : وما يعجز من قلد ربيعة في هذا عما قدر عليه مالك ، والشافعي ، بزيادتهم في علتهم ، كما قال الشافعي : علة الربا الطعم ، والتثمين . وقول مالك : علة الربا الادخار فيما يؤكل ، والتثمين . فهل هذا إلا كقول من قلد ربيعة : علة الربا بما فيه الزكاة والملحية ؟ وهل هي إلا دعوى كدعوى كلاهما بلا برهان ؟ وقالت طائفة بغير ذلك - : كما روينا من طريق عبد الرزاق أنا عبد الله بن كثير عن شعبة سألت الحكم بن عتيبة عمن اشترى خمسة عشر جريبا من أرض بعشرة أجربة ؟ فقال : لا بأس به - وكرهه حماد بن أبي سليمان ولا ندري ما علته في ذلك ، ولعلها الجنس ، فلم يجز التفاضل في جنس واحد ، كائنا ما كان والله أعلم ، إلا أنها دعوى ليست غيرها أصح منها ، ولا هي بأضعف من غيرها . وقد روي مثله عن سعيد بن جبير ، وهو أنه جعل علة الربا تقارب المنفعة في الجنس الواحد ، أو الجنسين . وقد روينا من طريق الحجاج بن المنهال أنا الربيع بن صبيح عن محمد بن سيرين قال : إذا اختلف النوعان فلا بأس إذا كان يدا بيد ، واحدا باثنين . قال أبو محمد : وهذه أعم العلل فيلزم من قال منهم : بالعلة العامة أن يقول بها - وقال المالكيون : علة الربا هي الاقتيات ، والادخار في الجنس ، فما كان يدخر مما يكون قوتا في الأكل ، فالربا فيه نقدا ونسيئة ، وما كان لا يقتات ولا يدخر ، فلا يدخل الربا فيه يدا بيد - وإن كان جنسا واحدا - لكن يدخل فيه الربا في النسيئة إذا كان جنسا واحدا ، وهذه هي علة المتقدمين منهم ، ثم رغب عنها المتأخرون منهم ؛ لأنهم وجدوها تفسد عليهم ، لأن الثوم ، أو البصل ، والكراث ، والكرويا ، والكزبرة ، والخل ، والفلفل - نعم ، والملح الذي جاء فيه النص ليس منه شيء يكون قوتا أصلا ، بل بعضه يقتل إذا أكل منه نصف وزن ما يؤكل مما يتقوت به ، كالملح ، والفلفل ، فلو أن إنسانا أكل رطل فلفل في جلسة لقتله بلا شك ، وكذلك الملح ، والخل الحاذق ، وكذلك الثوم - ووجدوها تفسد عليهم أيضا في اللبن ، والبيض ، فإنهما لا يمكن ادخارهما ، والربا عندهم يدخل فيهما ، ووجدوها أيضا تفسد عليهم في الكمون ، والشونيز ، والحلبة الرطبة ، والكزبرة ، والكرويا ، ليس شيء من ذلك قوتا ، والربا عندهم في كل ذلك ، فلما رأوا هذه العلة كذلك ، وهي علة من قلدوه دينهم اطرحوها ، ولم تكن عليهم مؤنة في استخراج غيرها بآرائهم لتستقيم لهم آراؤهم في الفتيا عليها ؟ فقال بعضهم : إنما ذكر رسول الله ﷺ أعلى القوت ، وهو البر ، وأدون القوت ، وهو الملح ، ليدل على أن حكم ما بينهما كحكمهما . قال أبو محمد : هذا كذب على النبي ﷺ مجرد بلا كلفة ، وما ندري كيف ينشرح صدر مسلم لإطلاق مثل هذا على الله تعالى ، وعلى رسوله ﷺ ؟ ولو أطلق هذا المطلق مثله على سائس حماره بغير أن يخبره به عن نفسه لكان كاذبا مجرحا بذلك ، فكيف على الله تعالى وعلى نبيه عليه السلام ؟ اللهم لك الحمد على عظيم نعمتك في تنفيرنا عن مثل هذا وشبهه . ثم لم يرض سائرهم هذه العلة وقالوا : ليس الملح دون الأقوات ، بل الحاجة إليه أمس منها إلى الثوم ، والحلبة الرطبة ، والشونيز ، فارتادوا غيرها ، كمن يتحكم في بيدر تمره ، ويأخذ ما استحسن ويترك ما لم يستحسن . فقالوا : العلة في الربا مختلفة ، فمنها الاقتيات ، والادخار ، كما قال أسلافهم قياسا على البر والشعير - ومنها الحلاوة ، والادخار ، كالزبيب والتين ، والعسل قياسا على التمر - ومنها التأدم ، والادخار قياسا على الملح ، وهذا تعليل استصنعه لهم محمد بن عبد الله بن صالح الأبهري ، وهذا تعليل يفسد عليهم ؛ لأن السلجم والباذنجان ، والقرع ، والكرنب ، والرجلة ، والقطف ، والسلق ، والجزر ، والقنبيط ، واليربز إدام الناس في الأغلب . وكثير من ذلك يدخر ولا يقع الربا فيه عندهم : كاللفت ، والجزر ، والباذنجان ، بل كل ذلك يجوز منه اثنان بواحد يدا بيد من جنس واحد ، فاطرح بعضهم هذه العلة ولم تعجبه لما ذكرنا فزاد فيها بأن قال : ومنها الحلاوة ، والادخار مما يتفكه به ويصلح للقوت - فلم يرض غيره منهم هذه العلة وقال : ليست بشيء ؛ لأن الفلفل ، والثوم ، والكرويا ، والكمون ، ليس شيء منها يتفكه به ولا يصلح للقوت ، ولا يتأدم به ، ولا هو حلو . وأيضا : فإن العناب والإجاص المزبب ، والكمثرى المزبب والمخيطاء كلها يتفكه به ويصلح للقوت ، ولا يدخل الربا في شيء منه عندهم - فاحتاج إلى استعمال علة أخرى ، فقال : العلة هي الاقتيات ، والادخار ، وما يصلح به الطعام المتقوت به ليصح له فيما ظن إدخال : الكمون ، والكرويا ، والبصل ، والثوم ، والكراث ، والفلفل ، والخل ، فيما يقع فيه الربا قياسا على الملح ؛ لأن الطعام يصلح بكل ذلك . قال أبو محمد : وهذه أفسد العلل التي ذكروا ، وإن كانت كلها فاسدة ، واضحة البرهان ، برهان ذلك - : أن إصلاح الطعام بما ذكرنا من التوابل ، والخضراوات ، والخل ، لا يشبه إصلاحه بالملح أصلا ؛ لأن الطعام المطبوخ إن لم يؤكل أصلا ، ولا يقدر عليه أحد ، إلا من قارب الموت من الجوع أو خافه ، وإما إصلاحه بالتابل ، والخضراوات المذكورة فما بالطعام إلى شيء منه حاجة إلا عن بذخ وأشر . وأيضا : فإن كل ذي حس سليم في العالم يدري بضرورة الحس أن إصلاح الطعام بالكرويا ، والكمون ، والفلفل ، والكزبر ، والشونيز ، كإصلاحه بالدارصيني ، والخولنجان ، والقرفة ، والسنبل ، والزعفران ، ولا فرق ، بل إصلاحه بهذه أطيب له وأعبق ، وأصلح منه بتلك ، والربا عندهم لا يدخل في هذه ، وبلا شك أن الضرورة في إصلاح الطعام بالماء أشد وأمس ، والربا عندهم لا يدخل في الماء بالماء - وما نعلم لهم علة غير ما ذكرنا . وهذه العلل كلها ذكر بعضها عبد الله بن أبي زيد القيرواني ، وذكر سائرها ابن القصار ، وعبد الوهاب بن علي بن نصر في كتبهم مفرقة ومجموعة . قال أبو محمد : وكلها فاسد بما ذكرنا من التخاذل ، وبأنها موضوعة مستعملة - ويقال لهم : ما الفرق بين علتكم هذه وبين من قال : بل علة الربا ما كان ذا سنبل قياسا على البر ، والشعير ، وما كان ذا نوى قياسا على التمر ، وما كان طعمه ملحيا قياسا على الملح ، وما كان معدنيا قياسا على الذهب ، والفضة . فإن قالوا : لم يقل بهذا أحد ؟ قلنا : ولا قال بعللكم أحد قبلكم . فإن قال قائل : هذه أيضا يكون مثلكم ، وأيضا : فمن أين خرج لكم أن تعللوا البر ، والشعير ، والتمر ، والملح ؟ ولا تعللون الذهب ، والفضة ، وكلها جاء النص به سواء ، فمن أين هذا التحكم يا هؤلاء ؟ وهل هذا إلا شبه اللعب ؟ وليس هذا مكان دعوى إجماع ، فقد علل الحنفيون الذهب والفضة بالوزن ، وعللوا الأصناف الأربعة بالكيل . قال علي : وغيرهم لم يعلل شيئا من ذلك ، ولا بد من تعليل الجميع والقياس عليه ، أو ترك تعليل الجميع وترك القياس عليه ، والاقتصار على ما جاء به النص فقط ، وهذا ما لا مخلص لهم منه أصلا . وقد أجهدنا أنفسنا في أن نجد لنظارهم شيئا يقوون به شيئا من هذه العلل يمكن إيراده - وإن كال شغبا - فما قدرنا عليه في شيء من كتبهم . وجهدنا أن نجد لهم شيئا نورده - وإن لم يوردوه - كما نفعل بهم وبكل من خالفنا ، فإنهم وإن كانوا لم ينتبهوا له فلا يبعد أن ينتبه له منتبه فيشغب به ، فما قدرنا على ذلك . وأيضا : فإننا لم نجد لمالك في تعليله المذكور الذي عليه بنى أقواله في الربا سلفا ألبتة ، لا من صاحب ؛ ولا من تابع ، ولا من أحد قبله ، ولهم تخاليط عظيمة في أقوالهم في الربا ، فقد تقصيناها في غير هذا المكان ، ولم نذكرها ههنا ؛ لأنه كتاب مختصر ، لكن يكفي من إيرادها : أن ينظر كل ذي فهم كيف تكون أقوال بنيت على هذه القواعد وفروع أنشئت من هذه الأصول ؟ وبالله تعالى التوفيق .
وقالت طائفة منهم : أبو ثور ، ومحمد بن المنذر ، والنيسابوري ، وهو قول الشافعي في أول قوليه - : علة الربا هي الأكل ، والشرب ، والكيل ، والوزن ، والتثمين - فما كان مما يؤكل أو يشرب ، أو يكال أو يوزن ، لم يجز منه من جنس واحد واحد باثنين ، لا يدا بيد ولا نسيئة ، وكذلك الذهب والفضة ، وما كان يكال أو يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب ، أو كان يؤكل ولا يشرب ، أو كان يؤكل أو يشرب مما لا يكال ولا يوزن ، فلا ربا فيه يدا بيد ، والتفاضل فيه جائز ، فأجازوا الأترج في الأترج متفاضلا نسيئة . وكذلك كل ما لا يوزن ولا يكال مما يؤكل أو يشرب ، وكل ما يكال أو يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب ، ولا هو ذهب ولا فضة - وهذا القول صح عن سعيد بن المسيب ، ذكره مالك عن أبي الزناد عنه في موطئه ، ولا نعلمه عن أحد قبل سعيد ، ولا عن غيره من أهل عصره . وحجة أهل هذا القول أنهم ادعوا الإجماع عليه ، قالوا : وما عداه فمختلف فيه - ولا دليل على وجوب الربا فيما عدا ما ذكرنا . قال أبو محمد : ودعواهم ههنا باطل ؛ لأن من ادعى الإجماع على أهل الإسلام - وفيهم الجن ، والإنس - في مسألة لم يرو فيها قول عن ثمانية من الصحابة أصلا أكثرها باطل لا يصح ، ولا عن ثلاثة عشر من التابعين أصلا ، على اختلاف شديد بينهم ، فقد ادعى الباطل ، فكيف والخلاف في هذا أشهر من الشمس ؟ لأن مالكا ومن وافقه لا يرون الربا في الماء ، ولا في كل ما يكال أو يوزن مما يؤكل ويشرب ، إذا لم يكن مقتاتا مدخرا . فلا يرون الربا في : التفاح ، ولا في العناب ، ولا في حب القنب ، ولا في زريعة الكتان ، ولا في الكرنب ، ولا في غير ذلك ، وكله يوزن أو يكال ويؤكل - فبطل هذا الإجماع المكذوب . وما وجدنا لهم حجة غير هذا أصلا ، ولا قدرنا على أن نأتي لهم بغيرها ، فبطل هذا القول لتعريه من البرهان - وبالله تعالى التوفيق . وقالت طائفة : علة الربا إنما هي الطعم في الجنس أو الجنسين ، والتثمين في الجنس أو الجنسين ، فما كان يؤكل ، ويشرب ، فلا يجوز متفاضلا أصلا ولا بنسيئة أصلا ، وإنما يجوز فيه التماثل نقدا فقط إذا كان في جنس واحد ، فإن كان من جنسين : جاز فيه التماثل والتفاضل نقدا ، ولم يجز فيهما النسيئة . وما كان لا يؤكل ولا يشرب ، ولا هو ذهب ولا فضة ، فالتماثل والتفاضل ، والنقد والنسيئة : جائز فيه جنسا كان أو جنسين - فأجاز رطل حديد برطلي حديد إلى أجل ، وكذلك في كل ما لا يؤكل ولا يشرب ، ولا هو ذهب ولا فضة . ومنع من بيع رطل سقمونيا برطلي سقمونيا ، وكذلك كل ما يتداوى به ؛ لأنه يطعم على وجه ما - وهو قول الشافعي الآخر ، وعليه يعتمد أصحابه ، وإياه ينصرون . واحتج أهل هذه المقالة بالخبر الثابت عن رسول الله ﷺ : { الطعام بالطعام مثلا بمثل } من طريق عمر بن عبد الله العدوي عن رسول الله ﷺ . قال أبو محمد : هكذا رويناه من طريق مسلم أنا هارون بن معروف أنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو - هو ابن الحارث - أن أبا النضر حدثه أن بسر بن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله العدوي قال " كنت أسمع رسول الله ﷺ يقول : { الطعام بالطعام مثلا بمثل } . قال علي : وحرفه بعض متأخريهم ممن لا علم له بالحديث ولا ورع له يحجزه عن أن يتكلم عن رسول الله ﷺ بما لم يقله ، ولا جاء عنه وبما لا علم له به ، فأطلقه إطلاقا بلا إسناد فقال : قال رسول الله ﷺ { لا يباع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل } . قال أبو محمد : وهذا كذب بحت ، وتعمد لوضع الحديث ، إن لم يكن خطأ من جاهل ، وما جاء هكذا قط ، ولا يوجد أبدا من طريق غير موضوعة . قال أبو محمد : ولا حجة لهم في الخبر المذكور ؛ لأنه إنما فيه " الطعام بالطعام مثلا بمثل ، وليس فيه المنع عنه مثلا بأكثر ، ولا إباحته ، إنما هو مسكوت عنه ، فوجب طلبه من غير هذا الخبر " . وأيضا - فإن لفظة " الطعام " لا تطلق في لغة العرب إلا على البر وحده - : كما روينا من طريق أبي سعيد الخدري وهو حجة في اللغة { كنا نخرج على عهد رسول الله ﷺ صدقة الفطر صاعا من طعام ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من أقط - فلم يقع اسم الطعام إلا على البر وحده } . وأيضا - فإذا كان قول رسول الله ﷺ { الطعام بالطعام مثلا بمثل } موجبا عندكم للمنع من بيع الطعام بالطعام أكثر من مثل بمثل ، فاجعلوا - ولا بد - اقتصاره عليه السلام على ذكر الأصناف الستة مانعا من وقوع الربا فيما عداها ، وإلا فقد تناقضتم . فإن قالوا : فما الفائدة في قول رسول الله ﷺ { الطعام بالطعام مثلا بمثل } ؟ قلنا : أعظم الفائدة إن كنتم تتعدون باسم الطعام إلى كل ما يؤكل ، فإن فيه إبطال قول المالكيين : لا يجوز تفاحة بتفاحة إلا حين يوقن أيهما أكبر ، ولا الخضر بالخضر إلا حين يوقن أيها أكثر ، وإن كان لا يتعدى بلفظة الطعام البر ، ففيه إباحة بيع بر فاضل بأدنى ، وفاضل وأدنى بمتوسط إذا تماثلت في الكيل - . وأيضا : فلا يطلق عربي ولا مستعرب على السقمونيا اسم طعام لا بإطلاق ولا بإضافة . فإن قالوا : قد تؤكل في الأدوية ؟ قلنا : والصندل قد يؤكل في الأدوية ، والطين الأرميني ، والأحمر ، والطفل كذلك ، والسبد ، واللؤلؤ ، وحجر اليهود كذلك ، فأوقعوا الربا في كل ذلك - وهم لا يفعلون هذا ، نعم ، وفي الناس من يأكل أظفاره ، وشعر لحيته ، والرق ، أكلا ذريعا ، فأوقعوها في الطعام ، وأدخلوا الربا فيها ؛ لأنهما قد يؤكلان أيضا . واحتجوا أيضا بما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي أنا ابن مفرج أنا محمد بن أيوب الرقي أنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار أنا يوسف بن موسى أنا محمد بن فضيل أنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، كلاهما عن أبي سعيد الخدري قال { قسم رسول الله ﷺ طعاما مختلفا فتبايعناه بيننا بزيادة ، فنهانا رسول الله ﷺ أن نأخذه إلا كيلا بكيل } . وبما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أخبرني إبراهيم بن الحسن أنا حجاج - هو ابن محمد - قال : قال ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله ﷺ { لا تباع الصبرة من الطعام بالصبرة من الطعام ، ولا الصبرة من الطعام بالكيل من الطعام المسمى } . فهذان حديثان صحيحان إلا أنهما لا حجة لهم فيهما ؛ لأن اسم " الطعام " لا يقع كما قلنا عند العرب مطلقا إلا على البر فقط ، كما ذكرنا عن أبي سعيد الخدري آنفا . فإن قيل : فقد قال الله عز وجل { : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } فأراد تعالى ذبائحنا وذبائحهم . وقال رسول الله ﷺ : { لا صلاة بحضرة طعام } ؟ قلنا : لا نمنع من وقوع اسم " الطعام " على غير البر بإضافة أو بدليل من النص على أن هذا الاحتجاج هو على الشافعيين لا لهم ؛ لأنهم لا يختلفون في أحد قوليهم : إن ذبائح أهل الكتاب وذبائحنا جائز بعضها ببعض متفاضلا ، وفي قولهم الثاني : أنه لا يجوز بيع شيء منها بشيء أصلا حتى ييبس . وهذان القولان مخالفان لاحتجاجهم بإطلاق اسم الطعام على اللحوم وغيرها . قال أبو محمد : وهذان الخبران مخالفان لقول مالك ، وأبي حنيفة ، جملة إن حملاهما على أن " الطعام " واقع على كل ما يؤكل مبطلان لقولهما في الربا . وبالله تعالى التوفيق . وأما حديث أبي سعيد فكما قلنا ، ويبطل أيضا احتجاجهم به بأنه قد رواه عن ابن إسحاق من هو أضبط وأحفظ من ابن فضيل : قتيبة ، كما روينا من طريق ابن أبي شيبة أنا ابن نمير - هو عبد الله - أنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري " قال : { قسم فينا رسول الله ﷺ طعاما من التمر مختلفا بعضه أفضل من بعض ، فذهبنا نتزايد فيه فنهانا رسول الله ﷺ إلا كيلا بكيل } فبطل تعلقهم بذلك . وأيضا : فإنه لا خلاف بيننا وبينهم في أن ذلك الطعام الذي فرق رسول الله ﷺ بينهم إنما كان صنفا واحدا : إما تمرا ، أو برا ، أو غير ذلك ؛ لأن فيه نهيهم عن أن يبيعوه بعضه ببعض بزيادة ، هذا ما لا شك فيه . فإذ هو كذلك فتسميته بالطعام من قول رسول الله ﷺ فيمكن لهم أن ينازعونا في معناه ، ثم يحملوه على عمومه ، إنما هو من كلام أبي سعيد وقد أخبرنا عن أبي سعيد أنه لا يطلق اسم " الطعام " إلا على البر . ثم لا يماروننا في أن حكم ذلك الخبر إنما هو في ذلك المقسوم - هذا نص مقتضى لفظ الخبر يقينا ضرورة ولا بد ، فلا حجة لهم فيه في جميع أصناف ما يريدون أن يسموه طعاما ، إلا بقياس فاسد ينازعون فيه ، وهم لا يدعون معرفة ما كان من صنف ذلك الطعام ، فيمكنهم عندنا أن يحتجوا علينا به لو صح لهم أنه لم يكن برا ، ولا تمرا ، ولا شعيرا ، ويبطل تعلقهم به إن كان برا ، أو تمرا ، أو شعيرا ؛ لأن هذا هو قولنا في هذه الأصناف الثلاثة ، فبطل تعلقهم بخبر أبي سعيد بيقين لا إمكان في سواه - . ولله تعالى الحمد . واستدركنا في حديث جابر ما رويناه من طريق أحمد بن شعيب قال : وأنا به إبراهيم بن الحسن مرة أخرى فقال : أنا حجاج قال : قال ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول { نهى رسول الله ﷺ عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلتها بالكيل المسمى من التمر } . فقد أخبر أحمد بن شعيب : أن إبراهيم بن الحسن حدثهم بذلك الحديث مرة أخرى فأخبر عنه : أنه هو ذلك الحديث نفسه . وصح أن إبراهيم بن الحسن حدث به مرة على ما هو معناه عنده ، ومرة على ما سمعه - وأيضا : فإن حجاج بن محمد لم يذكر فيه أنه سمعه من ابن جريج [ فظاهره الانقطاع ] . وقد رويناه مسندا صحيحا من طريق مسلم بن الحجاج قال : أنا [ أبو الطاهر ] أحمد بن عمرو بن السرح أنا ابن وهب أخبرني ابن جريج : أن أبا الزبير أخبره أنه سمع جابر بن عبد الله يقول { نهى رسول الله ﷺ عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلتها بالكيل المسمى من التمر } . قال مسلم : وناه أيضا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا روح بن عبادة أنا ابن جريج أنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول { نهى رسول الله ﷺ فذكر مثله إلا أنه لم يقل بالكيل المسمى } في آخر الحديث ، فهذا هو المتصل الصحيح . وصح بهذا كله أن إبراهيم بن الحسن أخطأ فيه مرة واستدرك أخرى ، أو حدث به مرة على ما معناه عنده ، ومرة كما سمعه كما رواه غيره - وبالله تعالى التوفيق - فبطل التعلق بهذين الخبرين جملة . فإن موهوا بما رويناه من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن { جابر قال : كنا في زمان رسول الله ﷺ نعطي الصاع من حنطة بستة أصوع من تمر فأما سوى ذلك من الطعام فيكره ذلك إلا مثل بمثل } فهذا لا شيء ؛ لأنه من طريق ابن لهيعة هو ساقط . ثم لو صح لكان موقوفا على جابر وليس عن رسول الله ﷺ . ثم هو مخالف لقول المالكيين ، والشافعيين ، والحنفيين جملة ؛ لأنهم لا يمنعون من التفاضل في التمر مع غير البر ، ولا يقتصرون في إباحة التفاضل في البر بالتمر خاصة ، كما في هذا الخبر . هذا كل ما يمكن أن يحتجوا به فقد تقصيناه . وذكروا في ذلك عمن دون رسول الله ﷺ ما روينا من طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب الزهري : بلغنا أن عمر بن الخطاب قال : لا بأس أن تتبايعوا يدا بيد ما اختلفت ألوانه من الطعام - يريد التمر بالقمح والتمر بالزبيب . ومن طريق عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه قال : ما اختلفت ألوانه من الطعام ، فلا بأس به يدا بيد ، البر بالتمر ، والزبيب بالشعير ، وكرهه نسيئة ، وكان يكره الطعام أن يباع شيء منه بشيء نظرة . ومن طريق الحجاج بن المنهال أنا الربيع بن صبيح عن عطاء بن أبي رباح أنه كان يكره أن يشتري شيئا من الفاكهة ما يكال بشيء من الطعام نسيئة . قال أبو محمد : أما قول عمر فمنقطع ، ثم لو صح فقد روي عن عمر خلافه كما نذكر في ذكرنا قول أبي حنيفة - إن شاء الله تعالى . ثم ليس فيه بيان بمنعه من النظرة فيما عدا الستة الأصناف فبطل تعلقهم به . وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه ، وهو صحيح ؛ لأنه كراهية لا تحريم ، ولا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ ، وقد روي عنه خلافه على ما نذكر - إن شاء الله تعالى - في ذكرنا أقوال أبي حنيفة ، فعاد حجة عليهم ؛ لأنه خلاف قولهم . ثم كم قصة خالفوا فيها عمر وابن عمر ، كتوريث عمر المطلقة ثلاثا في المرض - وقول عمر وابن عمر فيمن أكل يظن أنه ليل فإذا به قد طلع الفجر أن صومه تام ولا قضاء عليه - وفي توريث ذوي الأرحام - وفي أن لا يقتل أحد قودا بمكة - وفي أن لا يحج أحد على بعير جلال - وفي غير ما قصة ، فكيف ولم يأت عن عمر وابنه - رضي الله عنهما - وعن عطاء ههنا إلا الكراهة فقط ، لا التحريم الذي يقدمون عليه بلا برهان أصلا ؟ وقد حدثنا محمد بن سعيد بن نبات أنا عبد الله بن نصر أنا قاسم بن أصبغ أنا ابن وضاح أنا موسى بن معاوية أنا وكيع أنا سفيان الثوري عن بعض أصحابه عن ابن عمر قال : إنه ليعجبني أن يكون بين الحلال والحرام ستر من الحرام . وقد جاء عن عمر : أنه خاف أن يزيد فيما نهى عنه من الربا أضعاف الربا المحرم خوفا من الوقوع فيه على ما روينا من طريق الحجاج بن المنهال أنا يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن عامر الشعبي أن عمر بن الخطاب قام خطيبا فقال : إنا والله ما ندري لعلنا نأمركم بأمور لا تصلح لكم ، ولعلنا ننهاكم عن أمور تصلح لكم ، وإنه كان من آخر القرآن نزولا لآيات الربا ، فتوفي رسول الله ﷺ قبل أن يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم . قال علي : حاش لله من أن يكون رسول الله ﷺ لم يبين الربا الذي توعد فيه أشد الوعيد ، والذي أذن الله تعالى فيه بالحرب ، ولئن كان لم يبينه لعمر فقد بينه لغيره ، وليس عليه أكثر من ذلك ، ولا عليه أن يبين كل شيء لكل أحد ، لكن إذا بينه لمن يبلغه فقد بلغ ما لزمه تبليغه . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عيسى بن المغيرة عن الشعبي قال : قال عمر بن الخطاب : تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا . فبطل أن يكون لهم متعلق في شيء مما ذكرنا ، وحصل قولهم لا سلف لهم فيه أصلا ، ولا نعرفه عن أحد قبلهم . وقالوا : إنما ذكر النبي ﷺ ستة أصناف : أربعة مأكولة ، واثنتين هما ثمن الأشياء ، فقسنا على المأكولة كل مأكول ، ولم نقس على الأثمان شيئا ؟ فقلنا : هذا أول الخطأ ، إن كان القياس باطلا فما يحل لكم أن تقيسوا على الأربعة المأكولة المذكورة غيرها ، وإن كان القياس حقا فما يحل لكم أن تدعوا الذهب ، والفضة : دون أن تقيسوا عليهما ، كما فعلتم في الأربعة المأكولة ولا فرق ، فقيسوا على الذهب والفضة كل موزون كما فعل أبو حنيفة ، أو كل معدني ، فإن أبيتم وعللتم الذهب والفضة بالتثمين ؟ قلنا : هذا عليكم لا لكم ؛ لأن كل شيء يجوز بيعه فهو ثمن صحيح لكل شيء يجوز بيعه ، بإجماعكم مع الناس على ذلك ، ولا ندري من أين وقع لكم الاقتصار بالتثمين على الذهب ، والفضة ، ولا نص في ذلك ، ولا قول أحد من أهل الإسلام ؟ وهذا خطأ في غاية الفحش ، ولازم للشافعيين ، والمالكيين ، لزوما لا انفكاك منه . وأيضا : فما الذي جعل علتكم بأولى من علة الحنفيين الذين عللوا الأربعة الأصناف بالكيل ، والذهب والفضة بالوزن - وقالوا : لم يذكر عليه السلام إلا مكيلا أو موزونا ، وهذا ما لا مخلص لهم منه ، وحاش لله أن يكون ههنا علة لم يبينها الله في كتابه ، ولا على لسان رسوله عليه السلام ، بل تركنا في ضلال ودين غير تام ، ووكلنا إلى ظنون أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، التي لا معنى لها ، هذا أمر لا يشك فيه ذو عقل . والحمد لله رب العالمين .==
وقالت طائفة : علة الربا هي الكيل والوزن في جنس واحد أو جنسين فقط ، فإذا كان الصنف مكيلا بيع بنوعه كيلا بمثله يدا بيد ، ولم يحل فيه التفاضل ولا النسيئة - وجاز بيعه بنوع آخر من المكيلات متفاضلا يدا بيد ، ولا يجوز فيه النسيئة - وإذا كان موزونا جاز بيعه بنوعه وزنا بوزن نقدا ، ولا يجوز فيه التفاضل ولا النسيئة ، وجاز بيعه بنوع آخر من الموزونات متفاضلا يدا بيد ، ولا يجوز فيه النسيئة إلا في الذهب ، والفضة ، خاصة فإنه يجوز أن يباع بهما سائر الموزونات نسيئة . وجائز بيع المكيل بالموزون متفاضلا ومتماثلا نقدا ونسيئة ، كاللحم بالبر ، أو كالعسل بالتمر ، أو الزبيب بالشعير ، وهكذا في كل شيء - وهو قول أبي حنيفة وأصحابه . وقد رغب بعض المتأخرين منهم عن هذه العلة بسبب انتقاضها عليهم في الذهب والفضة بسائر الموزونات ، فلجأ إلى أن قال : علة الربا هي وجود الكيل ، أو الوزن فيما يتعين ، فما زادونا بهذا إلا جنونا وكذبا بدعواهم أن الدنانير ، والدراهم : لا تتعين ، وهذه مكابرة العيان . وأيضا : فإن علة الذهب والفضة عندهم تتعين ، وهم يجيزون تسليمه فيما يوزن ، فلم ينتفعوا بهذه الزيادة السخيفة في إزالة تناقضهم . ثم أتوا بتخاليط تشبه ما يأتي به من بغى لفساد عقله ، قد تقصيناها في هذا المكان ، إلا أن منها مخالفتهم السنة المتفق عليها من كل من يرى الربا في غير النسيئة ، فأجازوا التمرة بالتمرتين يدا بيد ، ويلزمهم أن يجيزوا تسليم ثلاث حبات من قمح في حبتين من تمر ، وهذا خروج عن الإجماع المتيقن . قال أبو محمد : واحتجوا لقولهم هذا بما رويناه من طريق مسلم أنا ابن قعنب عن سليمان - يعني ابن بلال - عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث أن أبا هريرة ، وأبا سعيد حدثاه { أن رسول الله ﷺ بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب ، فقال له رسول الله ﷺ : أكل تمر خيبر هكذا ؟ قال : لا ، والله يا رسول الله إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع فقال رسول الله ﷺ : لا تفعلوا ، ولكن مثلا بمثل ، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ، وكذلك الميزان } فاحتجوا بهذه اللفظة ، وهي قول " وكذلك الميزان " . ومن طريق عبد الرزاق أنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد قال : { دخل رسول الله ﷺ على بعض أهله فوجد عندهم تمرا أجود من تمرهم فقال : من أين هذا ؟ فقالوا : أبدلنا صاعين بصاع فقال رسول الله ﷺ لا يصلح صاعين بصاع ولا درهمين بدرهم } . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد عن رسول الله ﷺ أنه قال : { لا يصلح درهم بدرهمين ولا صاع بصاعين } وهذان خبران صحيحان إلا أنه لا حجة لهم فيهما ، على ما نبين ، إن شاء الله تعالى . وبما رويناه من طريق وكيع أنا أبو جناب عن أبيه عن ابن عمر قال { قال رسول الله ﷺ - عند هذه السارية وهي يومئذ جذع نخلة - : لا تبيعوا الدينار بالدينارين ، ولا الدرهم بالدرهمين ، ولا الصاع بالصاعين ، إني أخاف عليكم الرماء - والرماء الربا - زاد بعضهم : فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيب بالإبل ، قال : لا بأس إذا كان يدا بيد } . وبما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي أنا ابن مفرج أنا إبراهيم بن أحمد بن فراس أنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري أنا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا روح أنا { حيان بن عبيد الله - وكان رجل صدق - قال سألت أبا مجلز عن الصرف ؟ فقال : يدا بيد ، كان ابن عباس لا يرى به بأسا ما كان منه يدا بيد ، فأتاه أبو سعيد فقال له : ألا تتقي الله ، حتى متى يأكل الناس الربا ؟ أوما بلغك أن رسول الله ﷺ قال : التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة يدا بيد ، عينا بعين ، مثلا بمثل ، فما زاد فهو ربا ؟ ثم قال : وكذلك ما يكال ويوزن أيضا } ؟ فقال ابن عباس لأبي سعيد : جزاك الله الجنة ، ذكرتني أمرا قد كنت أنسيته ، فأنا أستغفر الله وأتوب إليه - فكان ينهى عنه بعد ذلك - . وهذا كل ما احتجوا به ، ولا حجة لهم في شيء منه . أما حديث ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي سعيد فإنه رواه عن محمد بن عمرو من هو أحفظ من ابن أبي زائدة وأوثق ، فزاد فيه بيانا - : كما حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي أنا ابن مفرج أنا إبراهيم بن أحمد بن فراس أنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري أنا إسحاق بن راهويه أنا الفضيل بن موسى ، والنضر بن شميل ، قالا جميعا : أنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري قال { كان رسول الله ﷺ يرزقنا تمرا من تمر الجمع ، فنستبدل تمرا أطيب منه ونزيد في السعر ، فقال رسول الله ﷺ : لا يصلح هذا لا يصلح صاعين بصاع ، ولا درهمان بدرهم ، ولا الدينار بدينارين ، ولا الدرهم بالدرهم لا فضل بينهما إلا ربا } . قال أبو محمد : فقوله عليه السلام : { لا يصلح ، هذا لا يصلح صاعين بصاع } إشارة إلى التمر المذكور في الخبر ، لا يمكن غير ذلك أصلا ، بدأ عليه السلام فقال : " لا يصلح " مشيرا إلى فعلهم ، ثم ابتدأ الكلام فقال : " هذا لا يصلح صاعين بصاع " ف " هذا ، ابتداء ، و " لا يصلح صاعين بصاع " جملة في موضع خبر الابتداء وانتصب " صاعين بصاع " على التمييز ، ولا يجوز غير ذلك أصلا ؛ لأنه لو قال عليه السلام : لا يصلح هذا ، ثم ابتدأ الكلام بقوله : لا يصلح صاعين بصاع ، دون أن يكون في يصلح الثانية ضمير راجع إلى مذكور ، أو مشار إليه لكان لحنا لا يجوز ألبتة . ومن الباطل المقطوع به أن يكون عليه السلام يلحن ، ولا يحل إحالة لفظ الخبر ما دام يوجد له وجه صحيح - فبطل تعلقهم بهذا الخبر . ولله تعالى الحمد . وأما حديث سعيد بن المسيب عن أبي سعيد ، وأبي هريرة ، الذي فيه { وكذلك الميزان } فإنهم جسروا ههنا على الكذب البحت على رسول الله ﷺ إذ قطعوا بأنه عليه السلام أراد أن يقول : لا يحل التفاضل في كل جنس من الموزونات بجنسه ، ولا النسيئة ، فاقتصر من هذا كله على أن قال " وكذلك الميزان " . قال أبو محمد : إنما بعث رسول الله ﷺ بالبيان ، وأما بالإشكال في الدين ، والتلبس في الشريعة : فمعاذ الله من هذا ، وليس في التلبيس ، والإشكال : أكثر من أن يريد رسول الله ﷺ أن يحرم كل جنس مما يكال بشيء من جنسه متفاضلا أو نسيئة ، وكل جنس مما يوزن بشيء من جنسه متفاضلا أو نسيئة ، فيقتصر من بيان ذلك علينا ، وتفصيله لنا ، على أن يقول في التمر الذي اشتري بتمر أكثر منه : لا تفعلوا ، ولكن مثلا بمثل ، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ، وكذلك الميزان . وما خلق الله قط أحدا يفهم تلك الصنفين من هذا الكلام ، ولا ركب الله تعالى قط هذا الكلام على تلك الخرافتين . ولو أن إنسانا من الناس أراد تلك الشريعتين اللتين احتجوا لهما بهذا الكلام ، فعبر عنهما بهذا الكلام ، لسخر منه ، ولما عده من يسمعه إلا ألكن اللسان ، أو ماجنا من المجان ، أو سخيفا من النوكى . أفلا يستحيون من هذه الفضائح الموبقة عند الله تعالى ، المخزية في العاجل ، ولكنا نقول قولا نتقرب به إلى الله تعالى ، ويشهد لصحته كل ذي فهم من مخالف ومؤالف - وهو أن قول رسول الله ﷺ : { وكذلك الميزان } قول مجمل ، مثل قول الله تعالى : { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } نؤمن بكل ذلك ، ونطلب بيانه من نصوص أخر ، ولا نقدم بالظن الكاذب ، والدعوى الآفكة على أن نقول : أراد الله تعالى كذا وكذا ، وأراد رسوله عليه السلام معنى كذا - : لا يقتضيه ذلك اللفظ بموضوعه في اللغة ، فطلبنا ذلك - : فوجدنا حديث عبادة بن الصامت ، وأبي بكرة ، وأبي هريرة ، قد بين فيها مراده عليه السلام بقوله ههنا : " وكذلك الميزان " وهو تفسيره عليه السلام هنالك : أنه لا يحل الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن ، ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن - فقطعنا : أن هذا هو مراد رسول الله ﷺ بقوله : " وكذلك الميزان " . وشهدنا بشهادة الله تعالى : أنه عليه السلام لو أراد غير هذا لبينه ووضحه حتى يفهمه أهل الإسلام ولم يكلنا إلى ظن أبي حنيفة ورأيه ، الذي لا رأي أسقط منه ، ولا إلى كهانة أصحابه الغثة التي حلوانهم عليها الخزية فقط ، قال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } ، { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } فسقط تمويههم بهذا الخبر - ولله تعالى الحمد . والعجب كل العجب من قولهم في البين الواضح من نهي رسول الله ﷺ عن الرطب بالتمر : أنه إنما أراد التي في رءوس النخل - وليس هذا في شيء من الأخبار ؛ لأن ذلك خبر وهذا آخر . ويأتون إلى مجمل لا يفهم أحد منه إلا ما فسره عليه السلام في مكان آخر ، فيزيدون فيه ويفسرونه بالباطل ، وبما لا يقتضيه لفظه عليه السلام أصلا . وأما حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة : لا يصلح صاعين بصاع ، فإنهم قالوا : هذا عموم لكل مكيل . قال أبو محمد : وهذا خبر اختصره معمر عن يحيى بن أبي كثير ، أو وهم فيه بيقين لا إشكال فيه ، فرواه ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو ، أو وهم فيه على ما ذكرنا قبل ؛ لأن هذا خبر رواه عن يحيى بن أبي كثير بإسناده : الأوزاعي ، وهشام الدستوائي ، وشيبان بن فروخ - وليس هشام ، والأوزاعي ، دون معمر ، إن لم يكن هشام أحفظ منه . فرويناه من طريق مسلم حدثني إسحاق بن منصور أنا عبيد الله بن موسى عن شيبان - ومن طريق أحمد بن شعيب أنا هشام بن أبي عمار عن يحيى بن حمزة أنا الأوزاعي - وحدثنا حمام أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنا بكر بن حماد أنا مسدد أنا بشر بن المفضل أنا هشام - هو الدستوائي - كلهم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري " أن رسول الله ﷺ قال : { لا صاعي تمر بصاع ، ولا صاعي حنطة بصاع ، ولا درهمين بدرهم } . قال الأوزاعي في روايته عن يحيى بن أبي كثير : حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن حدثني أبو سعيد الخدري - وهذا هو خبر محمد بن عمرو نفسه . قال أبو محمد : فأسقط معمر ذكر التمر ، والحنطة . ومن البيان الواضح على خطأ معمر الذي لا شك فيه : إيراده اللحن عن رسول الله ﷺ في هذا الخبر بقوله : لا يصلح صاعين بصاع - ووالله ما قاله رسول الله ﷺ قط ، إلا أن يشير إلى شيء ، فيكون ضميره في " لا يصلح " لا سيما والأوزاعي يذكر سماع يحيى بن أبي كثير من أبي سلمة ، وسماع أبي سلمة من أبي سعيد ، لم يذكر ذلك معمر - وهذا لا يكدح عندنا شيئا ، إلا إذا كان خبرا واحدا اختلف فيه الرواة ، فإن رواية الذي ذكر السماع أولى ، لا سيما ممن ذكر بتدليس . ثم لو صح لهم لفظ ابن أبي زائدة ، ومعمر ، بلا زيادة من غيرهما ، ولا بيان من سواهما ، لما كان لهم فيه حجة لوجهين - : أحدهما - أنه ليس فيه ذكر جنس واحد ، ولا جنسين أصلا ، وهم يجيزون صاعي حنطة بصاع تمر ، وبكل ما ليسا من جنس واحد - وهذا خلاف عموم الخبر . فإن قالوا : فسر هذا أخبار أخر ؟ قلنا : وكذلك فسرت أخبار أخر ما أجمله معمر . والوجه الثاني - أن يقول هذا في القرض لا في البيع ، نعم ، لا يجوز في القرض صاعان بصاع في شيء من الأشياء كلها ، وأما البيع فلا ، لأن الله تعالى يقول : { وأحل الله البيع } . فإن ادعوا إجماعا كذبوا ؛ لأنهم يجيزون صاعي شعير بصاع بر ، والناس لا يجيزونه كلهم ، بل يختلفون في إجازته . وصاعي حمص بصاع لبياء ، ولا إجماع ههنا ، فمالك لا يجيزه . فإن قالوا : قد قال رسول الله ﷺ : { فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم } ؟ قلنا : صح أنه عليه السلام قال : { فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد } فإنما قال رسول الله ﷺ في الأصناف التي سمى في الحديث الذي ذكر هذا اللفظ في آخره - ولا يحل أن ينسب إليه عليه السلام قول بظن كاذب . ويكفي من هذا أنهم مجمعون معنا على لفظة " لا صاعين بصاع " ليست على عمومها ، فقالوا هم : في كل مكيل من جنس واحد ، وقلنا نحن : هو في الأصناف المنصوص عليها ، فدعوى كدعوى . وبرهاننا نحن - : صحة النص على قولنا ، وبقي قولهم بلا برهان فبطل تعلقهم بهذا الخبر - ولله تعالى الحمد . وأما حديث ابن عمر فساقط ؛ لأنه عن أبي جناب - وهو يحيى بن أبي حية الكلبي - ترك الرواية عنه يحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وضعف ، وذكر بتدليس ، ثم هو عن أبيه وهو مجهول جملة - فبطل التعلق به - ثم لو صح لكان القول فيه كالقول في غيره مما ذكرنا آنفا مما خالفوا فيه عمومه . وأما حديث أبي سعيد الخدري الذي أوردنا من طريق حيان بن عبيد الله عن أبي مجلز ، فلا حجة فيه ؛ لأنه منقطع كما أوردنا ، لم يسمعه ، لا من أبي سعيد ، ولا من ابن عباس ، وذكر فيه : أن ابن عباس تاب ورجع عن القول بذلك - وهذا الباطل وقول من بلغه خبر لم يشهده ولا أخذه عن ثقة . وقد روى رجوع ابن عباس : أبو الجوزاء - رواه عنه سليمان بن علي الربعي - وهو مجهول لا يدرى من هو - وروى عنه أبو الصهباء أنه كرهه . وروى عنه طاوس ما يدل على التوقف . وروى الثقة المختص به خلاف هذا - : كما حدثنا حمام أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل أنا أبي هاشم أنا أبو بشر - هو جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : ما كان الربا قط في هاء وهات . وحلف سعيد بن جبير : بالله ما رجع عنه حتى مات . ثم هو أيضا من رواية حيان بن عبيد الله - وهو مجهول - ثم لو انسند حديث أبي مجلز المذكور لما كانت لهم فيه حجة ؛ لأن اللفظ الذي تعلقوا به من " وكذلك ما يكال ويوزن " ليس من كلام رسول الله ﷺ وإنما هو من كلام أبي سعيد لو صح . وهو أيضا عنه منقطع ؛ لأن هذا خبر رواه : نافع ، وأبو صالح السمان ، وأبو المتوكل الناجي ، وسعيد بن المسيب ، وعقبة بن عبد الغافر ، وأبو نضرة ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وسعيد الجريري ، وعطاء بن أبي رباح ، كلهم عن أبي سعيد الخدري ، وكلهم ذكروا أنهم سمعوه منه ، وكلهم متصل الأسانيد بالثقات المعروفين إليهم ، ليس منهم أحد ذكر هذا اللفظ فيه ، وهو بين في الحديث المذكور نفسه ؛ لأنه لما تم كلام رسول الله ﷺ قال أبو مجلز : ثم قال فابتدأ الكلام المذكور من ذكر " وكذلك كل ما يكال ويوزن " مفصولا عن كلام رسول الله ﷺ وما يبعد أن يكون من كلام أبي مجلز - وهو الأظهر - فبطل من كل جهة ، ولا يحل أن ينسب إلى رسول الله ﷺ كلام بالظن الكاذب . قال أبو محمد ثم العجب كله من احتجاجهم فيما ليس فيه منه نص ولا دليل ولا أثر ، وخلافهم ليقين ما فيه منسوبا مبينا أنه قول رسول الله ﷺ . وقد صح من غير هذا الخبر أنه من كلام رسول الله ﷺ { التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، يدا بيد ، عينا بعين } . فقالوا هم جهارا : نعم ، ويجوز غير عين بغير عين ، ويجوز عين بغير عين ، نعم ، يجوز تمرة بتمرتين وبأكثر ، فهل بعد هذه الفضائح فضائح ؟ أو يبقى مع هذا دين أو حياء من عار أو خوف نار - نعوذ بالله من الضلال والدمار . قال أبو محمد : ومما يبين غاية البيان : أن هذا اللفظ - نعني وكذلك ما يكال ويوزن - ليس من كلام النبي ﷺ قطعا ببرهان واضح - وهو أيضا مبطل لعلتهم بالوزن ، والكيل ، من طريق ضرورة الحس ، وبديهة العقل ، وصادق النظر ، فإن من الباطل البحت أن يكون عليه السلام يجعل علة الحرام في الربا : الوزن ، والكيل ، والتفاضل فيه ، وباعثه عز وجل يعلم ، وهو عليه السلام يدري ، وكل ذي عقل يعرف : أن حكم المبيعات يختلف في البلاد أشد اختلاف ، فما يوزن في بلدة يكال في أخرى : كالعسل ، والزيت والدقيق ، والسمن ، يباع الزيت والعسل ببغداد والكوفة وزنا ، ولا يباع شيء منها بالأندلس إلا كيلا . ويباع السمن والدقيق في بعض البلاد كيلا ، ولا يباع عندنا إلا وزنا ، والتين يباع برية كيلا ، ولا يباع بإشبيلية وقرطبة إلا وزنا ، وكذلك سائر الأشياء . ولا سبل إلى أن يعرف كيف كان يباع ذلك على عهد رسول الله ﷺ أصلا ، فحصل الربا لا يدرى ما هو حتى يجتنب ؟ ولا ما ليس هو فيستعمل وصار الحرام والحلال في دين الله تعالى أمشاجا مختلطين لا يعرف هذا من هذا أبدا . وحصلت الأنواع المبيعة كلها التي يدخلون فيها الربا لا يدرون كيف يدخل الربا فيها ؟ ولا كيف يسلم منه ؟ نبرأ إلى الله تعالى من دين هذه صفته ، هيهات أين هذا القول الكاذب ؟ من قول الله تعالى الصادق { : اليوم أكملت لكم دينكم } ومن قول رسول الله ﷺ { اللهم هل بلغت ؟ قالوا : اللهم نعم ، قال : اللهم اشهد } . فإن رجعوا إلى أن يجعلوا لأهل كل بلد عادته حصل الدين لعبا إذا شاء أهل بلد أن يستحلوا الحرام ردوا كل ما كانوا يبيعونه بكيل إلى الوزن ، وما كانوا يبيعونه بوزن إلى كيل فحل لهم باختيارهم ما كان حراما أمس من التفاضل بين الكيلين ، أو بين الوزنين ما شاء الله كان ، وهذا بعينه أيضا يدخل على المالكيين ، والشافعيين ؛ لأنهم إذا أدخلوا الربا في المأكول كله ، أو في المدخر المقتات : سألناهم عن الأصناف المبيعة من ذلك ، وليست صنفا ، ولا صنفين ، بل هي عشرات كثيرة : بأي شيء يوجبون فيها التماثل ، أبالكيل أم بالوزن ؟ فأيا ما قالوا صاروا متحكمين بالباطل ، ولم يكونوا أولى من آخر يقول بالوزن فيما قالوا هم فيه بالكيل ، أو بالكيل فيما قالوا هم فيه بالوزن ، فأين المخلص ؟ أم كيف يبيع الناس ما أحل لهم من البيع ؟ أم كيف يجتنبون ما حرم عليهم من الربا ؟ وهذا من الخطأ الذي لا يحل على من يسره الله تعالى لنصيحة نفسه . وذكروا في ذلك عمن تقدم ما روينا من طريق ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه سمعت عمرو بن شعيب قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري : أن لا يباع الصاع بالصاعين إذا كان مثله وإن كان يدا بيد ، فإن اختلف فلا بأس ، وإذا اختلف في الدين فلا يصلح - وكل شيء يوزن مثل ذلك كهيئة المكيال .
ومن طريق يحيى بن سعيد القطان أنا صدقة بن المثنى أنا جدي - هو رباح بن الحارث أن عمار بن ياسر قال في المسجد الأكبر : العبد خير من العبدين والأمة خير من الأمتين ، والبعير خير من البعيرين ، والثوب خير من الثوبين ، فما كان يدا بيد فلا بأس به ، إنما الربا في النساء إلا ما كيل أو وزن . قال أبو محمد : وزاد بعضهم في هذا الخبر : فلا يباع صنف منه بالصنف الآخر إلا مثلا بمثل - ومن طريق ابن أبي شيبة أنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سالم أن ابن عمر كان لا يرى بأسا فيما يكال يدا بيد واحدا باثنين إذا اختلفت ألوانه . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن حماد بن أبي سليمان عن النخعي وعن رجل عن الحسن ، قالا جميعا : سلف ما يكال فيما يوزن ولا يكال ، وسلف ما يوزن ولا يكال فيما يكال ولا يوزن . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن موسى بن أبي عائشة عن إبراهيم النخعي قال : ما كان من بيع يكال مثلا بمثل ، فإذا اختلفت فزد وازدد يدا بيد ، وإن كان شيئا واحدا يوزن فمثلا بمثل ، فإذا اختلف فزد وازدد يدا بيد . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : كل شيء يوزن فهو يجري مجرى الذهب والفضة ، وكل شيء يكال فهو يجري مجرى البر والشعير . فأما الرواية عن معمر فمنقطعة ، وعن الحسن كذلك . وأما قول عمار : فغير موافق لقولهم ، لكنهم موهوا به ؛ لأنه لا يخلو قوله : إلا ما كيل أو وزن من أن يكون استثناه من النساء الذي هو ربا ، أو يكون استثناه مما قال : إنه لا بأس به ما كان يدا بيد ، ولا سبيل إلى وجه ثالث ، فإن كان استثناه من النساء الذي هو ربا ، فهو ضد مذهبهم عينا ، وموجب أنه لا ربا إلا فيما يكال أو يوزن في النسيئة ، فإن كان استثناه مما لا بأس به يدا بيد ، فهو أيضا ضد مذهبهم وموجب : أنه لا يجوز ما كيل بما وزن يدا بيد . وأما الزيادة التي زادوها فلا يباع صنف منه بالصنف الآخر إلا مثلا بمثل فهو ضد مذهبهم عيانا بكل حال . وأما قول ابن عمر فصحيح عنه ، وقد صح عنه خلافه كما ذكرنا في ذكرنا قول الشافعي ، فليس أحد قوليه بأولى من الآخر ، مع أنه ليس فيه كراهية التفاضل فيما يكال ، ولا يوافقه سائر أقوالهم ، وما وجدنا قولهم يصح عن أحد قبلهم إلا عن النخعي ، والزهري فقط - فبطل كل ما موهوا به من الآثار . فإن قالوا : لم ينص عليه السلام إلا على مكيل ، وموزون ؟ قلنا : ما الفرق بين هذا وبين من قال : لم ينص عليه السلام إلا على مأكول أو ثمن - أو من قال : لم ينص عليه السلام إلا على مقتات مدخر ، ومعدني ؟ وما يصلح به الطعام . أو من قال : لم ينص عليه السلام إلا على ما يزكى وعلى مالح الطعم فقط - أو من قال : لم ينص عليه السلام إلا على نبات ، ومعدني ، وجامد ؟ فأدخل الربا في كل ما ينبت كالصبر وغير ذلك ، وأسقطه عن اللبن وما يتصرف منه ، وعن العسل ، واللحم ، والسمك ، فليس بعض هذه الدعاوى أولى من بعض . وكل هذا إذا تعدى به ما ورد فيه النص فهو تعد لحدود الله تعالى ، وما عجز رسول الله ﷺ قط عن أن يبين لنا مراده ، وحاش له أن يكلنا في أصعب الأشياء من الربا المتوعد فيه بنار جهنم في الآخرة والحرب به في الدنيا إلى هذه الكهانات الكاذبة ، والظنون الآفكة ، ظلمات بعضها فوق بعض - ونحمد الله على السلامة . وعهدنا بهم يقولون : نحن على يقين من وجوب قطع اليد في عشرة دراهم ؛ وغير موقنين بوجوب قطعها في أقل ، ونحن موقنون بتحريم عصير العنب إذا أسكر ولم نوقن بتحريم ما عداه - ونحن موقنون بالقصر في ثلاث ولا نوقن به في أقل ، فلا نقول بشيء من ذلك حيث لا نوقنه . فهلا قالوا ههنا : نحن موقنون بالربا في الأصناف المنصوص عليها ، ولسنا على يقين منه في غيرها ، فلا نقول به حيث لا يقين معنا فيه ؟ ولو فعلوا هذا ههنا وتركوا هنالك لوفقوا لأنهم كانوا يتبعون السنن - وبالله تعالى التوفيق - ثم لم يلبثوا أن نقضوا علتهم أقبح نقض ، فأجازوا تسليف الذهب ، والفضة فيما يكال ، وما يوزن . وأجازوا بيع آنية نحاس بآنية نحاس أو وزن منها ، ولم يجيزوا ذلك في آنية الذهب ، والفضة ، وكل ذلك سواء عندهم في دخول الربا فيه . ثم أجازوا بيع قمح بعينه بقمح بغير عينه ، أو تمر بعينه بتمر بغير عينه أو شعير بعينه بشعير بغير عينه ، فيقبض الذي بغير عينه ثم يفترقان قبل قبض الذي بعينه - وحرموا ذلك في ذهب بعينه بذهب بغير عينه ، وفي فضة بعينها بفضة بغير عينها ، ولا فرق بين شيء من ذلك ، لا في نص ، ولا في معقول ، فأباحوا الربا جهارا - ونعوذ بالله من الخذلان - فبطلت علة هؤلاء ، وبطل قولهم يقينا .==
1481 - مسألة : قال أبو محمد : وههنا أشياء ذكرها القائلون - بتعليل حديث الربا - كلهم ، وهي أنهم ذكروا ما روينا من طريق وكيع أنا إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر { عن عبادة بن الصامت سمعت رسول الله ﷺ يقول : الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والكفة بالكفة ، حتى خلص إلى الملح } . قالوا : فهذا يدل على أنه عليه السلام ذكر غير ذلك . قال أبو محمد : وهذا باطل لوجوه - : أولها : أن هذا اللفظ لم يروه إلا حكيم بن جابر - وهو مجهول . والثاني : أنه قد أسقط من هذا الخبر ذكر البر ، والتمر والشعير - ، فبطل تقديرهم أنه ذكر أصنافا لم يذكرها غيره من الرواة . والثالث : أن هذا الخبر رويناه من طريق بكر بن حماد عن مسدد عن يحيى بن سعيد القطان عن إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر عن عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ فقال فيه : { حتى خص الملح } فلاح أنه لم يذكر غير تلك الأصناف . والرابع : أن من الباطل المتيقن أن يذكر عليه السلام شرائع مفترضة فيسقط ذكرها عن جميع الناس - أولهم عن آخرهم - من غير نسخ ، هذا خلاف قول الله تعالى : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } . وقوله تعالى { : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } . ولو جاز هذا لكان الدين لم يكمل ، والشريعة فاسدة ، قد ضاعت منها عنا أشياء ، ولكنا مكلفين ما لا نقدر عليه ، ومأمورين بما لا ندريه أبدا ، وهذه ضلالات ناهيك بها ، وباطل لا خفاء به . وذكروا ما روينا من طريق ابن وهب عن يزيد بن عياض عن إسحاق بن عبد الله عن جبير عن مالك بن أوس بن الحدثان : أن النبي ﷺ قال : { التمر بالتمر ، والزبيب بالزبيب ، والبر بالبر ، والسمن بالسمن ، والزيت بالزيت ، والدينار بالدينار ، والدرهم بالدرهم ، لا فضل بينهم } . قال أبو محمد : وهذا حديث موضوع مكذوب لا تحل روايته إلا على بيان فضيحته ؛ لأن مالك بن أوس لا يعرف له سماع من رسول الله ﷺ . وجبير بن أبي صالح - مجهول لا يدرى من هو ، وإسحاق بن عبد الله - هو الفروي - متروك - ويزيد بن عياض - هو ابن جعدبة مذكور بالكذب ووضع الأحاديث . ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة في إيجاب علة أصلا ، وإنما كان يكون فيه زيادة ذكر الزيت ، والسمن ، والزبيب ، فقط . وأيضا : فلو صح لكان المالكيون مخالفين له ، لأنهم يجيزون الدرهم بأوزن منه على سبيل المعروف ولكان الحنفيون مخالفين له ، لأنهم يجيزون ثلاث تمرات بست تمرات ، وعشر حبات بر بثلاثين حبة بر - وكذلك في الشعير ، والملح ، والزبيب ، والملح ، ولا يحل تحريم حلال خوف الوقوع في الحرام ، فيستعجل من فعل ذلك المعصية ، والوقوع في الباطل خوف أن يقع فيه غيره . ومن طريق وكيع أنا إبراهيم بن يزيد عن أبي الزبير عن جابر أنه كره مدي ذرة بمد حنطة نسيئة - إبراهيم - متروك متهم - وهذا كراهية لا تحريم ، ولا يدرى هل كره الكيل أو الطعام ؟ وقد ذكرنا كل قول روي في هذا الباب عن المتقدمين وبينا خلافهم لها ، وأنهم قالوا في ذلك بأقوال لا تحفظ عن أحد قبلهم . وأعجب شيء مجاهرة من لا دين له بدعوى الإجماع على وقوع الربا فيما عدا الأصناف المنصوص عليها - وهذا كذب مفضوح من قريب ، والله ما صح الإجماع في الأصناف المنصوص عليها فكيف في غيرها . أو ليس ابن مسعود ، وابن عباس يقولان : لا ربا فيما كان يدا بيد ؟ وعليه كان عطاء ، وأصحاب ابن عباس ، وفقهاء أهل مكة . وقد روينا من طريق سعيد بن منصور أنا أبو معاوية أنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله بن مسعود قال : لا ربا فيما كان يدا بيد والماء من الماء . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة أنا وكيع أنا سفيان - هو الثوري - عن ابن جريج عن عطاء قال : لا بأس بأن يسلم ما يكال فيما يكال ، وما يوزن فيما يوزن ، إنما هو طعام بطعام ، وهذا نفس قولنا ، ومخالف لجميع قول هؤلاء . وقد صح عن طلحة بن عبيد الله إباحة بيع ذهب بفضة ، يقبض أحدهما ويتأخر قبض الآخر إلى أجل غير مسمى ، ولا يقدرون فيما عدا الستة الأصناف في الربا على كلمة ، إلا عن سبعة من الصحابة رضي الله عنهم مختلفين ، كلهم مخالف لأقوال أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، ليس عن أحد منهم رواية توافق أقوال هؤلاء صحيحة ولا سقيمة . وعن نحو اثني عشر من التابعين مختلفين أيضا كذلك مخالفين لأقوالهم إلا إبراهيم وحده ، فإنه وافق قوله أصل أبي حنيفة . وأيضا : فأكثر الروايات التي ذكرنا عن الصحابة والتابعين فواهية لا تصح ، فمن يجعل مثل هذا إجماعا إلا من لا دين له ولا عقل - وبالله تعالى التوفيق . ووجدنا لبشر بن غياث المريسي قولا غريبا ، وهو أن تسليم كل جنس في غير جنسه جائز كالذهب في الفضة والفضة في الذهب ، والقمح في الشعير ، والتمر في الملح ، وكل صنف منها في غيره ، وأن الربا لا يقع إلا فيما بيع بجنسه فقط . ثم لا ندري أعم كل جنس في العالم قياسا على المنصوصات ، وهو الأظهر من قوله ؟ أو خص المنصوصات فقط - وهذا قول مخالف لما صح عن رسول الله ﷺ فلا وجه للاشتغال به .
1482 - مسألة : قال علي : فإذ قد بطلت هذه الأقوال كلها فالواجب أن نذكر البرهان على صحة قولنا بعون الله تعالى - : روينا من طريق مسلم أنا قتيبة بن سعيد قال : أنا الليث - هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان أنه قال : أقبلت أقول : من يصطرف الدراهم ؟ فقال طلحة بن عبيد الله - وهو عند عمر بن الخطاب - : أرنا ذهبك ؟ ثم جئنا إذا جاء خادمنا نعطك ورقك ؟ فقال عمر بن الخطاب : كلا ، والله لتعطينه ورقة أو لتردن إليه ذهبه ، فإن رسول الله ﷺ قال : { الورق بالذهب ربا ، إلا هاء وهاء والبر بالبر ربا ، إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا ، إلا هاء وهاء ، والتمر بالتمر ربا ، إلا هاء وهاء } . ومن طريق مسلم أنا عبيد الله بن عمر القواريري أنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن أبي قلابة أنا أبو الأشعث عن { عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله ﷺ ينهى عن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، إلا سواء بسواء ، عينا بعين ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى } . ومن طريق مسلم أنا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن أيوب السختياني بنحوه . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن المثنى أنا عمرو بن عاصم أنا همام - هو ابن يحيى - أنا قتادة عن أبي الخليل عن مسلم المكي عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله ﷺ { الذهب بالذهب تبره وعينه وزنا بوزن ، والفضة بالفضة تبره وعينه وزنا بوزن ، والملح بالملح ، والتمر بالتمر ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، كيلا بكيل فمن زاد أو ازداد فقد أربى ، ولا بأس ببيع الشعير بالبر ، والشعير أكثرهما يدا بيد } . قال أبو محمد : عمرو بن عاصم أنصاري ثقة معروف ، وأبو الخليل - هو صالح بن أبي مريم - ثقة ، ومسلم المكي - هو مسلم بن يسار الخياط مولى عثمان رضي الله عنه - ثقة . وقد روينا هذا أيضا من طريق صحاح فلا ربا إلا فيما نص عليه رسول الله ﷺ المأمور بالبيان ، وما عدا ذلك فحلال { وما كان ربك نسيا } وبالله تعالى التوفيق .
1483 - مسألة : ولا يحل أن يباع قمح بقمح إلا مثلا بمثل كيلا بكيل يدا بيد ، عينا بعين - ولا يحل أن يباع شعير بشعير إلا كذلك . ولا يحل أن يباع تمر بتمر إلا كذلك . ولا يحل أن يباع ملح بملح إلا كذلك ، وسواء معدنية أو ما ينعقد منه من الماء ، كل ذلك لا يباع بعضه ببعض إلا كما ذكرنا . وكذلك أصناف القمح فهي كلها قمح - الأعلى ، والأدنى ، والوسط : سواء فيما قلنا ، وكذلك أقسام الشعير . وكذلك أقسام التمر فإن تأخر قبض أحد العينين فهو ربا حرام مفسوخ أبدا ، محكوم فيه بحكم الغصب ، سواء تأخر طرفة عين أو أكثر ، والكثير والقليل من كل ما ذكرنا سواء فيما وصفنا . ولا يحل شيء مما ذكرنا من نوعه وزنا بوزن ، ولا وزنا بكيل ، ولا جزافا بجزاف ، ولا جزافا بكيل ، ولا جزافا بوزن ، لأن كل هذا مقتضى كلام رسول الله ﷺ الذي ذكرنا ، ومفهومه وموضوعه في اللغة التي بها خاطبنا - وبالله تعالى التوفيق . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : جائز أن يباع منها شيء بغير عينه بمعين وبغير معين ، وجائز أن يتأخر التقابض عن وقت العقد ما لم يفترقا بأبدانهما وإن طال ذلك - وهذا خلاف قول رسول الله ﷺ - : روينا من طريق الحجاج بن المنهال أنا يزيد بن إبراهيم أنا محمد بن سيرين قال : نبئت أن عمر بن الخطاب قام يخطب فقال : يا أيها الناس ألا إن الدرهم بالدرهم ، والدينار بالدينار ، عين بعين ، سواء سواء ، مثلا بمثل فهذا عمر بحضرة الصحابة لا يجيز في الدراهم والدنانير إلا عينا بعين ، ويرى أنها تتعين ، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة : فخالفوه .
1484 - مسألة : وجاز بيع كل صنف مما ذكرنا بالأصناف الأخر منها ، متفاضلا ومتماثلا وجزافا ، وزنا وكيلا كيفما شئت إذا كان يدا بيد . ولا يجوز في ذلك التأخير طرفة عين فأكثر ، لا في بيع ولا في سلم ، وهذا مقتضى قول رسول الله ﷺ الذي ذكرنا وهو متفق عليه ، إلا مالكا فإنه لم يجز بيع الشعير بالقمح إلا متماثلا كيلا بكيل - وأجازه أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان ، كما قلنا . برهان صحة قولنا - : ما روينا من طريق مسلم أنا أبو كريب أنا ابن فضيل - هو محمد - عن أبيه عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، فمن زاد واستزاد فقد أربى ، إلا ما اختلفت ألوانه } . ومن طريق مسلم أنا أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع أنا سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله ﷺ { الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، سواء بسواء فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد } . وقد ذكرنا قبل هذه بمسألة نصه عليه السلام على جواز بيع الشعير بالبر متفاضلا ، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن عبد الله بن بزيع أنا يزيد أنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ، وعبد الله بن عبيد - هو ابن هرمز - قالا جميعا : إن عبادة بن الصامت حدثهم قال : { نهى رسول الله ﷺ عن بيع الذهب بالذهب ، والورق بالورق ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، إلا مثلا بمثل يدا بيد ، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق ، والورق بالذهب ، والبر بالشعير ، والشعير بالبر ، يدا بيد كيف شئنا زاد أحدهما في حديثه : الملح بالملح ، ولم يقله الآخر } . فهذا أثر متواتر رواه عن رسول الله ﷺ أبو هريرة ، وعبادة بن الصامت - ورواه عن أبي هريرة : أبو زرعة بن عمرو بن جرير ، وأبو حازم . ورواه عن عبادة بن الصامت : أبو الأشعث الصنعاني ، وعبد الله بن عبيد . ورواه عن أبي الأشعث : أبو قلابة ، ومسلم بن يسار . ورواه عن مسلم بن يسار أبو الخليل ، وابن سيرين - . ورواه عن هؤلاء : الناس . واحتج المالكيون بما روينا من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث : أن أبا النضر حدثه أن بسر بن سعيد حدثه عن { معمر بن عبد الله : أنه أرسل غلامه بصاع قمح وقال : بعه ثم اشتر به شعيرا ، فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع ، فلما جاء قال له معمر : لم فعلت ذلك ؟ انطلق فرده ؛ ولا تأخذن إلا مثلا بمثل فإني كنت أسمع النبي ﷺ يقول الطعام بالطعام مثلا بمثل } قيل : فإنه ليس مثله ، قال : إني أخاف أن يضارع . وبما رويناه من طريق مالك عن نافع عن سليمان بن يسار قال : قال عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث لغلامه : خذ من حنطة أهلك طعاما فابتع بها شعيرا ، ولا تأخذ إلا مثله . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا أبو داود الطيالسي عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير قال : أرسل عمر بن الخطاب غلاما له بصاع من بر يشتري له به صاعا من شعير ، وزجره إن زادوه أن يزداد . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا شبابة عن ليث عن نافع عن سليمان بن يسار عن سعد بن أبي وقاص مثل هذا . ومن طريق مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد عن معيقيب مثل هذا أيضا - وهو قول أبي عبد الرحمن السلمي صح عنه ذلك ، وروي - ولم يصح - عن القاسم ، وسالم ، وسعيد بن المسيب . وصح عن ربيعة ، وأبي الزناد ، والحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان والليث بن سعد ، قالوا : فهؤلاء ، عمر ، وسعد ، ومعيقيب ، وعبد الرحمن بن الأسود ، ومعمر بن عبد الله : خمسة من الصحابة رضي الله عنهم . قال علي : وجسر بعضهم فقال : لا يعرف لهم مخالف من الصحابة - .
======
1485 - مسألة : وجائز بيع الذهب بالفضة ، سواء في ذلك الدنانير بالدراهم ، أو بالحلي ، أو بالنقار ، وبالدراهم بحلي الذهب وسبائكه ، وتبره ، والحلي من الفضة بحلي الذهب وسبائكه ، وسبائك الذهب وتبره بنقار الفضة يدا بيد ولا بد ، عينا بعين ولا بد ، متفاضلين ومتماثلين ، وزنا بوزن ، وجزافا بجزاف ، ووزنا بجزاف في كل ذلك لا تحاش شيئا - ولا يجوز التأخير في ذلك طرفة عين ، لا في بيع ولا في سلم . ويباع الذهب بالذهب سواء كان دنانير ، أو حليا ، أو سبائك ، أو تبرا ، وزنا بوزن ، عينا بعين يدا بيد ، لا يحل التفاضل في ذلك أصلا ، ولا التأخير طرفة عين ، لا بيعا ولا سلما . وتباع الفضة بالفضة ، دراهم أو حليا أو نقارا ، وزنا بوزن ، عينا بعين ، يدا بيد ، ولا يجوز التفاضل في ذلك أصلا ، ولا التأخير طرفة عين ، لا بيعا ولا سلما . ولا تجوز برادة أحدهما مثلها من نوعها كيلا أصلا ، لكن بوزن ولا بد ، ولا نبالي كان أحد الذهبين أجود من الآخر بطبعه أو مثله . وكذلك في الفضتين ؛ وهذا مجمع عليه ، إلا ما ذكرنا عن طلحة بن عبيد الله وإلا بيع الفضة بالفضة ، أو الذهب بالذهب ، فإن ابن عباس ، وابن مسعود ، ومن وافقهما : أجازوا فيهما التفاضل يدا بيد - وإلا أن أبا حنيفة ، والشافعي : أجازا بيع كل ذلك بغير عينه - وأجازا تأخير القبض ما لم يتفرقا بأبدانهما ، وقد ذكرناه عن عمر قبل هذا بخلاف قولهم وإلا أن مالكا لا يجيز الجزاف في الدنانير ، ولا في الدراهم ، بعضها ببعض ، ويجيزه في المصوغ من أحدهما بالمصوغ من الآخر ، ويجيز إعطاء درهم بدرهم أو وزن منه ، على سبيل المكارمة . فأما قول مالك هذا ، وقول أبي حنيفة ، والشافعي ، فلا حجة لشيء منها ، لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا من رواية سقيمة ، ولا من قياس ، ولا من قول صاحب ، بل هو خلاف أمر رسول الله ﷺ الذي ذكرنا آنفا من أمره عليه السلام أن نبيع الفضة بالذهب كيف شئنا يدا بيد . وأما قول ابن عباس ، فإنه احتج بما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن منصور عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار { عن أبي المنهال قال : باع شريك لي ورقا بنسيئة فجاءني فأخبرني فقلت : هذا لا يصلح فقال : قد والله بعته في السوق وما عابه علي أحد ، فأتيت البراء بن عازب فسألت ؟ فقال : قدم علينا رسول الله ﷺ المدينة ونحن نبيع هذا البيع ، فقال : ما كان يدا بيد فلا بأس به ، وما كان نسيئة فهو ربا ثم قال لي : ائت زيد بن أرقم فأتيت زيد بن أرقم فسألته ؟ فقال : مثل ذلك } . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا قتيبة أنا سفيان - هو ابن عيينة - عن عمرو - هو ابن دينار - عن أبي صالح السمان : أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول في حديث : إن ابن عباس قال له : أسامة بن زيد أخبرني : أن رسول الله ﷺ قال : { إنما الربا في النسيئة } . ومن طريق سعيد بن منصور حدثني أبو معاوية - هو محمد بن خازم الضرير - عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد قال : قال عبد الله بن مسعود ، لا ربا في يد بيد ، والماء من الماء . وصح عن ابن عمر أنه قال بقول ابن عباس ، ثم رجع عنه . وروينا من طريق حجاج بن المنهال أنا جرير بن حازم قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن الصرف ؟ فقال : يا بني إن وجدت مائة درهم بدرهم نقدا فخذه . قال أبو محمد : حديث عبادة ، وأبي هريرة ، وعمر ، وأبي سعيد ، في أن الأصناف الستة كل صنف منها بصنفه : ربا إن كان في أحدهما زيادة على وزن الآخر : هو زائد حكما على حديث أسامة ، والبراء ، وزيد - والزيادة لا يحل تركها - وبالله تعالى التوفيق .
1486 - مسألة : وجائز بيع القمح ، والشعير ، والتمر ، والملح بالذهب ، أو بالفضة يدا بيد ونسيئة - وجائز تسليم الذهب أو الفضة بالأصناف التي ذكرنا ؛ لأن النص جاء بإباحة كل ذلك - وبالله تعالى التوفيق .
1487 - مسألة : وأما القرض فجائز في الأصناف التي ذكرنا وغيرها ، وفي كل ما يتملك ، ويحل إخراجه عن الملك ، ولا يدخل الربا فيه ، إلا في وجه واحد فقط ، وهو اشتراط أكثر مما أقرض ، أو أقل مما أقرض ، أو أجود مما أقرض ، أو أدنى مما أقرض ، وهذا مجمع عليه ، وهو في الأصناف الستة منصوص عليه ، كما أوردنا بأنه ربا وهو فيما عداها شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل - ويجوز إلى أجل مسمى ومؤخرا بغير ذكر أجل ، لكن حال في الذمة متى طلبه صاحبه أخذه . وقال مالك : لا يأخذه إلا بعد مدة ينتفع فيها المستقرض بما استقرض - . وهذا خطأ ؛ لأنه لم يأت به قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قياس ، ولا قول أحد نعلمه قبله . وأيضا : فإنه حد فاسد ؛ لأن الانتفاع لا يكون إلا في ساعة فما فوقها . وقال الله تعالى { : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } والقرض أمانة ففرض أداؤها إلى صاحبها متى طلبها - وبالله تعالى التوفيق .
1488 - مسألة : فإن كان مع الذهب شيء غيره - أي شيء كان من فضة أو غيرها - : ممزوج به ، أو مضاف فيه ، أو مجموع إليه في دنانير ، أو في غيرها : لم يحل بيعه مع ذلك الشيء ، ولا دونه بذهب أصلا ، لا بأكثر من وزنه ولا بأقل ، ولا بمثله ، إلا حتى يخلص الذهب وحده خالصا . وكذلك إن كان مع الفضة شيء غيرها : كصفر ، أو ذهب ، أو غيرهما ، ممزوج بها ، أو ملصق معها ، أو مجموع إليها : لم يحل بيعها مع ذلك الشيء ، ولا دونه بفضة أصلا - دراهم كانت أو غير دراهم - لا بأكثر من وزنها ، ولا بأقل ، ولا بمثل وزنها ، إلا حتى تخلص الفضة وحدها خالصة ، سواء في كل ما ذكرنا : السيف المحلى ، والمصحف المحلى ، والخاتم فيه الفص ، والحلي فيه الفصوص ، أو الفضة المذهبة ، أو الدنانير فيها خلط صفر أو فضة ، أو الدراهم فيها خلط ما ، ولا ربا في غير ما ذكرنا أصلا . وكذلك إن كان في القمح شيء من غيره مخلوط به ، أو مضاف إليه من دغل أو غيره : لم يجز بيعه بذلك الشيء ، ولا دونه بقمح صاف أصلا . وكذلك القول في الشعير - فيه شيء غيره أو معه شيء غيره - : فلا يحل بيعه بشعير محض - وفي التمر يكون معه أو فيه شيء غيره أو معه فلا يحل بيعه بتمر محض . وكذلك القول في الملح يكون فيه أو معه شيء غيره - : فلا يحل بيعه بملح صاف . وإنما هذا كله إذا ظهر أثر الخلط في شيء مما ذكرنا - وأما ما لم يؤثر ولا ظهر له فيه عين ولا نظر أيضا : فحكمه حكم المحض ؛ لأن الأسماء إنما هي موضوعة على حسب الصفات التي بها تنتقل الحدود . برهان ذلك : { أمر النبي ﷺ أن لا يباع الذهب والفضة بشيء من نوعهما ، إلا عينا بعين ، وزنا بوزن ، وأن لا يباع شيء من الأصناف الأربعة بشيء من نوعه إلا كيلا بكيل عينا بعين } ، فإذا كان في أحد الأنواع المذكورة خلط أو شيء مضاف إليه فلا سبيل إلى بيعه بشيء من نوعه عينا بعين ، ولا كيلا بكيل ، ولا وزنا بوزن ، لأنه لا يقدر على ذلك أصلا . فقال من أجاز ذلك : إذا علمنا وزنه أو كيله : جاز بيعه بشيء من نوعه أكثر وزنا أو كيلا منه ، فيكون مقدار وزنه به ، أو مقدار كيله كذلك ، ويكون الفضل بذلك الشيء - : مثال ذلك : دينار فيه حبة فضة فيباع بدينار ذهب صرف ، فيكون من هذا الدينار الصرف دينار غير حبة بإزاء الذهب الذي في ذلك الدينار الذي فيه حبة فضة ، ويكون ما زاد على ذلك من ذهب هذا الدينار بالحبة الفضة . وكذلك الدرهم يكون فيه ربعه أو ثلثه أو نصفه صفرا فيباع بدرهم فضة محضة ، فيكون ما في هذا الدرهم من الفضة بإزاء وزنه من ذلك الدرهم الآخر من الفضة ، ويكون الصفر الذي مع هذه الفضة بإزاء ما بقي من ذلك الآخر من الفضة - وهكذا في الأربعة الأصناف الباقية . قال أبو محمد : فقلنا : إن كنتم تخلصتم بهذه النية من الوزن ، فلم تتخلصوا من التعيين ؛ لأنه لا يعرف أي فضة هذا الدرهم بعتم بفضة ذلك الآخر ؟ وقد افترض رسول الله ﷺ : أنه لا يحل ذلك إلا عينا بعين ، فكيف وقد ورد في هذا نص ؟ كما روينا من طريق مسلم أنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح أنا ابن وهب أخبرني أبو هانئ الخولاني أنه سمع علي بن رباح اللخمي يقول : سمعت فضالة بن عبيد يقول : { أتى رسول الله ﷺ وهو بخيبر بقلادة فيها ذهب وخرز وهي من المغانم تباع فأمر رسول الله ﷺ بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ، ثم قال لهم عليه السلام : الذهب بالذهب وزنا بوزن } . ومن طريق أبي داود أنا محمد بن العلاء أنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد - هو أبو شجاع - عن خالد بن أبي عمران عن حنش الصنعاني عن فضالة بن عبيد الأنصاري قال { : أتى رسول الله ﷺ عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير فقال رسول الله ﷺ : حتى تميز بينه وبينه فقال : إنما أردت الحجارة ؟ فقال عليه السلام : لا ، حتى تميز بينهما ، فرده حتى ميز بينهما } . فهذا رسول الله ﷺ لم يلتفت إلى نيته في أنه إنما كان غرضه الخرز ويكون الذهب تبعا ، ولا راعى كثرة ثمن من قلته ، وأوجب التمييز والموازنة ولا بد - وفي هذا خلاف نذكر منه طرفا - إن شاء الله تعالى - : روينا من طريق شعبة أنا عمارة بن أبي حفصة عن المغيرة بن حنين سمعت علي بن أبي طالب - وهو يخطب - إذ أتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين إن بأرضنا قوما يأكلون الربا ؟ قال علي : وما ذلك ؟ قال : يبيعون جامات مخلوطة بذهب وفضة بورق ، فنكس علي رأسه ، وقال : لا - أي لا بأس به - ومن طريق سعيد بن منصور أنا جرير بن عبد الحميد عن السماك بن موسى عن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه : أن عمر أعطاه آنية خسروانية مجموعة بالذهب فقال عمر : اذهب فبعها واشترط رضانا ، فباعها من يهودي بضعف وزنها ، ثم أخبر عمر ، فقال له عمر : اذهب فاردده ، لا ، إلا بزنته . ومن طريق سعيد بن منصور أنا هشيم عن مجالد عن الشعبي : أن عبد الله بن مسعود باع نفاية بيت المال زيوفا بدراهم دون وزنها . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا شريك بن عبد الله عن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم النخعي قال : كان خباب قينا ، وكان ربما اشترى السيف المحلى بالورق . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا عبد السلام بن حرب عن يزيد الدالاني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : كنا نبيع السيف المحلى بالفضة ونشتريه . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا وكيع عن إسرائيل عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لا بأس ببيع السيف المحلى بالدراهم . فهؤلاء : عمر ، وعلي ، وأنس ، وابن مسعود ، وطارق ، وابن عباس ، وخباب ، إلا أن عليا ، وخبابا ، وابن مسعود ، وطارقا ، وابن عباس لم يخصوا بأكثر مما فيها من الفضة ولا أقل - وعمر راعى وزن الفضة وألغى الذهب ، إلا أنه أجاز الصرف بخيار رضاه بعد افتراق المتصارفين - وأنس وحده راعى أكثر من الوزن ، وأجاز الخيار في الصرف . وممن بعدهم روينا من طريق أحمد بن حنبل عن يحيى بن أبي زائدة أخبرني ابن أبي غنية سألت الحكم بن عتيبة ألف درهم وستين درهما بألف درهم وخمسة دنانير ؟ فقال : لا بأس به ألف بألف والفضل بالدنانير . ومن طريق عبد الرزاق أنا معمر ، وسفيان الثوري ، وحي بن عمر قال معمر : عن قتادة عن الحسن البصري ، وقال سفيان : عن المغيرة عن إبراهيم النخعي ، وقال حي : عن عبد الكريم أبي أمية عن الشعبي ، ثم اتفق الحسن ، وإبراهيم ، والشعبي ، قالوا كلهم : لا بأس بالسيف فيه الحلية ، والمنطقة ، والخاتم أن يبتاعه بأكثر مما فيه أو بأقل ونسيئة . ومن طريق عبد الرزاق أنا هشيم عن مغيرة سألت إبراهيم النخعي عن الخاتم أبيعه نسيئة ؟ فقال : أفيه فص ؟ فقلت : نعم ، فكأنه هون فيه . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا عثمان بن مطر عن هشام - هو ابن حسان - وسعيد بن أبي عروبة قال هشام : عن ابن سيرين ، وقال سعيد : عن قتادة ثم اتفق ابن سيرين ، وقتادة : أنه لا بأس بشراء السيف المفضض ، والخوان المفضض ، والقدح بالدراهم . ومن طريق شعبة قال : سألت حماد بن أبي سليمان عن السيف المحلى يباع بالدراهم ؟ فقال : لا بأس به - وروي هذا عن سليمان بن موسى ، ومكحول أيضا . ومن طريق سعيد بن منصور أنا هشيم أنا حصين - هو أبو عبد الرحمن - عن الشعبي : أنه كان لا يرى بأسا بالسيف المحلى يشترى نقدا ونسيئة ويقول : فيه الحديد ، والحمائل وروينا من طريق شعبة : أنه سأل الحكم بن عتيبة عن السيف المحلى يباع بالدراهم ؟ فقال : إن كانت الدراهم أكثر من الحلية فلا بأس به . وروينا مثله أيضا عن الحسن ، وإبراهيم - وهو قول سفيان . وروينا عن إبراهيم قولا ثالثا ، كما روينا من طريق سعيد بن منصور أنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم في الذهب والفضة يكونان جميعا ؟ قال : لا يباع إلا بوزن واحد منهما . قال أبو محمد : كأنه يلغي الواحد ، وقال الأوزاعي : إذا كانت الحلية تبعا ، وكان الفضل في النصل : جاز بيعه بنوعه نقدا وتأخيرا . وقال مالك : إن كانت فضة السيف المحلى بالفضة ، أو المصحف كذلك ، أو المنطقة كذلك ، أو خاتم الفضة كذلك : يقع في الثلث من قيمتها مع النصل ، والغمد ، والحمائل ، ومع المصحف ، ومع الفص ، وكان حلي النساء من الذهب ، أو الفضة ، يقع الفضة أو الذهب في ثلث قيمة الجميع مع الحجارة فأقل : جاز بيع كل ذلك بنوعه أكثر مما فيه ومثله ، وأقل نقدا ولا يجوز نسيئة ، فإن كانت أكثر من الثلث لم يجز أصلا . وهذا تناقض عظيم ؛ لأن التفاضل حرام كالتأخير ولا فرق ، فإن منع من أحدهما فليمنع من الآخر - وإن أجاز أحدهما - لأنه تبع فليجز الآخر أيضا ؛ لأنه تبع . وتحديده الثلث عجب آخر ؟ وما عقل قط أحد أن وزن عشرة أرطال فضة تكون ثلث قيمة ما هي فيه يكون قليلا ، ووزن درهم فضة يكون نصف قيمة ما هي فيه يكون كثيرا - وهذا فاسد من القول جدا ، ولا دليل على صحته ، لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول أحد قبله نعلمه ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه ، ولا احتياط . وقال أيضا : لا يجوز بيع غير ما ذكرنا يكون فيه فضة أو ذهب بنوع ما فيه منهما - قل أو كثر - كالسكين المحلاة بالفضة أو الذهب ، والسرج كذلك ، وكل شيء كذلك ، إلا أن يكون ما فيه من الفضة أو الذهب إذا نزع لم يجتمع منه شيء له بال ، فلا بأس حينئذ ببيعه بنوع ما فيه من ذلك نقدا وبتأخير ، وكيف شاء . قال أبو محمد : شيء له بال كلام لا يحصل ، وحبة ذهب أو فضة لها بال عند المساكين ، نعم ، وعند التجار ، وعند أكثر الناس ، ولا يحل عنده ولا عندنا تزيدها في الموازنة فيما فيه الربا ، ثم تفريقه بين السيف ، والمصحف ، والخاتم ، والمنطقة ، وحلي النساء في ذلك - وبين السرج واللجام والمهاميز ، والسكين ، وغير ذلك عجب جدا ؟ فإن قالوا : لأن ما ذكرنا قبل مباح اتخاذه ؟ قلنا : والدنانير مباح اتخاذها فأجيزوا بيعها مع غيرها بذهب إذا كانت ثلث القيمة فأقل - وأجاز مالك بدل الدنانير المحضة بالدنانير المغشوشة بالصفر ، أو الفضة - كثر الغش أم قل - كان الثلث ، أو أكثر أو أقل - مثلا بمثل . وكذلك أجاز بدل الدراهم المغشوشة بالصفر وغيره بالدراهم الفضة المحضة ، مثلا بمثل - كان الغش الثلث أو أكثر أو أقل . قال : فإن كان ذلك باسم البيع لم يجز ، وهو يرى في المغشوشة الزكاة إذا بلغ وزنها بغشها مائتي درهم ، أو بلغ وزن الدنانير عشرين دينارا ، وإن كانت الفضة أو الذهب فيهما أقل من العشر . وهذا تناقض آخر ، ولئن كان حكمها حكم الصافية في وجوب الزكاة فيها ، وكانت ورقا ، فإن بيع بعضها ببعض جائز ؛ لأنها شيء واحد ، وورق ولئن كان بيع بعضها ببعض لا يجوز ؛ لأنها ليست شيئا واحدا ، ولا هي ورق ، فإن الزكاة فيها لا تجب لذلك سواء سواء . ثم الفرق بين البدل ، وبين البيع : عجب آخر ما سمعناه عن أحد قبله ولا ندري من أين قاله ؟ ولئن كان للبدل هنا غير حكم البيع ليجوزن الدينار بالدينارين على البدل ، لا على اسم البيع ، وهذه عجائب كما تسمع . وقال أبو حنيفة : كل شيء محلى بفضة أو ذهب فجائز بيعه بنوع ما فيه من ذلك إذا كان الثمن أكثر مما في المبيع من الفضة أو الذهب ، ولا يجوز بمثل ما فيه من ذلك ولا بأقل . قال : ولا بد من قبض ما يقع للفضة أو للذهب من الثمن قبل التفرق ، فكان هذا طريفا جدا ، ومخالفا للسنة كما ذكرنا من قبل . وقال أبو حنيفة في الدراهم المغشوشة : إن كان الثلثان هو الصفر ، وكانت الفضة الثلث ولا يقدر على تخليصها ؛ لأنه لا يدري إن خلصت أيبقى الصفر أم يحترق ؟ فلا بأس يبيعها بوزن جميعها فضة محضة . وبأكثر من وزن جميعها أيضا ، ولا يجوز بيعها بمثل الفضة التي فيها ولا بأقل منها . قال : فإن كان نصفها صفرا أو نصفها فضة ؟ فإن كانت الفضة هي الغالبة : جاز بيعها بوزن جميعها من الفضة المحضة ، ولا تباع بأكثر من ذلك من الفضة وإن لم يكن أحدهما غاليا للآخر جاز بيعها حينئذ بمثل وزن جميعها فضة محضة ، وبأكثر وبأقل بعد أن يكون فضة الثمن أكثر من الفضة التي في الدراهم فإن لم يدر أي الفضتين أكثر التي هي ثمن أم التي في الدراهم ؟ فالبيع فاسد . قال : فإن كان ثلثا الدراهم وثلثها صفرا لم يجز أن تباع بالفضة المحضة إلا مثلا بمثل ، لا بأقل ولا بأكثر . وهذه وساوس لو قالها صبي في أول فهمه ليئس من فلاحه ، ولوجب أن يستعد له بغل ونعوذ بالله من البلاء ، وما لهذه الأحكام وجه أصلا ، لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قياس ، ولا رأي سديد ، ولا احتياط ، ولا سمعت عن أحد قبله وحسبنا الله ونعم الوكيل . والعجب : أنه مرة رأى الثلث ههنا قليلا . ومرة رأى الربع كثيرا ، فيما ينكشف من بطن الحرة في الصلاة . ومرة رأى مقدار الدرهم البغلي كثيرا فيما ينكشف من فخذها أو دبرها . ومرة رأى النصف قليلا . ومرة رأى مقدار ثلاثة أصابع من جميع الرأس كثيرا . وهذه تخاليط لا تعقل ، وتحكم في دين الله تعالى بالباطل . قال أبو محمد : وروي مثل قولنا عن طوائف من السلف : كما روينا من طريق ابن أبي شيبة أنا وكيع عن محمد بن عبد الله الشعيثي عن أبي قلابة عن أنس قال : أتانا كتاب عمر بن الخطاب ونحن بأرض فارس : لا تبيعوا سيوفا فيها حلقة فضة بالدراهم . ومن طريق سعيد بن منصور أنا مهدي بن ميمون عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب حدثني يحيى الطويل عن رجل من همدان قال : سألت علي بن أبي طالب ، فقلت : يا أمير المؤمنين إنه يكسد علي الورق أفأصرفه بالزيادة والنقصان ؟ قال : ذلك الربا العجلان ؟ ومن طريق سعيد بن منصور أنا جرير عن مغيرة بن مقسم عن أبيه عن رجل من السمانين قال : قال علي بن أبي طالب : إذا كان لأحدكم دراهم لا تنفق فليبتع بها ذهبا ، وليبتع بالذهب ما شاء . ومن طريق سعيد بن منصور أنا هشيم عن مجالد عن الشعبي : أن عبد الله بن مسعود باع نفاية بيت المال زيوفا وقسيان بدراهم دون وزنها ؟ فنهاه عمر عن ذلك ، وقال : أوقد عليها حتى يذهب ما فيها من حديد أو نحاس وتخلص ، ثم بع الفضة بوزنها . ومن طريق مسلم بن الحجاج حدثني أبو الطاهر أنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن عامر بن يحيى المعافري أخبرهم { عن حنش بن عبد الله الصنعاني أنه كان مع فضالة بن عبيد في غزوة فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وورق وجوهر ، فأردت أن أشتريها ، فسألت فضالة بن عبيد ؟ فقال : انزع ذهبها فاجعله في كفة واجعل ذهبك في كفة ، ثم لا تأخذن إلا مثلا بمثل ، فإن رسول الله ﷺ قال . } . ثم ذكر الحديث . ومن طريق وكيع أنا فضيل بن غزوان عن نافع قال : كان ابن عمر لا يبيع سرجا ولا سيفا فيه فضة حتى ينزعه ثم يبيعه وزنا بوزن : فهؤلاء : عمر ، وعلي ، وابن عمر ، وفضالة بن عبيد ، ومن التابعين : كما روينا عن طريق ابن أبي شيبة أنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري : أنه كان يكره أن يشترى السيف المحلى بفضة ، ويقول : اشتره بالذهب يدا بيد . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية عن أيوب السختياني أن محمد بن سيرين : كان يكره شراء السيف المحلى إلا بعرض . ومن طريق سعيد بن منصور أنا هشيم أنا يونس عن ابن سيرين أنه كان يقول : إذا كانت الحلية فضة اشتراها بالذهب ، وإن كانت الحلية ذهبا اشتراها بالفضة ، وإن كانت ذهبا وفضة فلا يشتريها بذهب ولا فضة واشتراها بعرض . ومن طريق سعيد بن منصور أنا هشيم أنا الشيباني هو أبو إسحاق عن الشعبي عن شريح أنه أتى بطوق ذهب فيه جوهر ، فقال شريح : أزيلوا الذهب من الجوهر فبيعوا الذهب يدا بيد وبيعوا الجوهر كيف شئتم . ومن طريق وكيع أنا زكريا هو ابن أبي زائدة عن الشعبي قال : سئل شريح عن طوق ذهب فيه فصوص ، أتباع بدنانير ؟ قال : تنزع الفصوص ثم يباع الذهب بالذهب وزنا بوزن ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، وقتادة ، قال قتادة : عن ابن سيرين ، ثم اتفق ابن سيرين ، والزهري ، قالا جميعا : يكره أن يباع الخاتم فيه فضة بالورق . ومن طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أنه كان يكره أن يشترى ذهب ، وفضة بذهب ، وقال حماد : فيمن أراد أن يشتري ألف درهم بمائة دينار ودرهم ؟ فمنع من ذلك وقال : لا ، ولكن اشتر ألف درهم غير درهم بمائة دينار وكل ما قلنا فهو قول الشافعي ، وأحمد وجمهور أصحابنا وبالله تعالى التوفيق .
1489 - مسألة : فإن كان ذهب وشيء آخر غير الفضة معه أو مركبا فيه جاز بيعه كما هو مع ما هو معه ودونه بالدراهم يدا بيد ولا يجوز نسيئة . وكذلك الفضة معها شيء آخر غير الذهب أو مركبا فيها ، أو هي فيه : جاز بيعها مع ما هي معه أو دونه بالدنانير يدا بيد ، ولا يجوز نسيئة . وكذلك القمح معه تمر أو ملح أو شيء آخر : فجائز بيعه مع الآخر أو دونه بشعير يدا بيد ، ولا يجوز نسيئة . وكذلك الشعير معه تمر أو ملح أو غير ذلك : فجائز بيعه وما معه أو دونه بقمح نقدا ، لا نسيئة وكذلك التمر معه شعير أو ملح أو غير ذلك : فجائز بيعه معه أو دونه بقمح نقدا ، لا نسيئة . وكذلك الملح معه قمح أو شعير أو غير ذلك : فجائز بيعه بالتمر نقدا ، لا بنسيئة برهان ذلك : قول رسول الله ﷺ : { فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد } فسقطت الموازنة ، والمكايلة ، والمماثلة ، وبقي النقد فقط وبالله تعالى التوفيق . روينا من طريق حماد بن سلمة أنا الحجاج بن أرطاة عن جعفر بن عمرو بن حريث : أن أباه اشترى من علي بن أبي طالب ديباجة ملحمة بذهب بأربعة آلاف درهم بنساء فأحرقها فأخرج منها قيمة عشرين ألف درهم . وأجاز ربيعة بيع سيف محلى بفضة بذهب إلى أجل . قال علي : لا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ وهذا مما تناقض فيه المالكيون : والحنفيون فخالفوا عمل علي وعمرو بن حريث بحضرة الصحابة رضي الله عنهم .
1490 - مسألة : وأما الدراهم المنقوشة والدنانير المغشوشة فإنه إن تبايع اثنان دراهم مغشوشة قد ظهر الغش فيها بدراهم مغشوشة قد ظهر الغش فيها : فهو جائز إذا تعاقدا البيع ، على أن الصفر الذي في هذه بالفضة التي في تلك ، والفضة التي في هذه بالصفر الذي في تلك : فهذا جائز حلال ، سواء تبايعا ذلك متفاضلا ، أو متماثلا ، أو جزافا بمعلوم ، أو جزافا بجزاف ، لأن الصفر بالفضة حلال . وكذلك إن تبايعا دنانير مغشوشة بدنانير مغشوشة قد ظهر الغش في كليهما على هذه الصفة ، فإن تبايعا ذهب هذه بفضة تلك وذهب تلك بفضة هذه : فهذا أيضا حلال متماثلا ، ومتفاضلا ، وجزافا نقدا ولا بد لأنه ذهب بفضة ، فالتفاضل جائز ، والتناقد فرض وبالله تعالى التوفيق .
1491 - مسألة : وجائز بيع القمح بدقيق القمح وسويق القمح وبخبز القمح ودقيق القمح بدقيقه وبسويقه وخبزه ، وسويقه بسويقه وبخبزه ، وخبز القمح بخبز القمح ، متفاضلا كل ذلك ، ومتماثلا ، وجزافا والزيتون بالزيت والزيتون ، والزيت بالزيت ، والعنب بالعنب وبالعصير ، وبخل العنب بالخل ، يدا بيد وأن يسلم كل ما ذكرنا بعضه في بعض . وكذلك دقيق الشعير بالقمح وبالشعير وبدقيق الشعير وبخبزه ، والتين بالتين ، والزبيب بالزبيب ، والأرز بالأرز ، كيف شئت متفاضلا ، ومتماثلا ؛ ويسلم بعضه في بعض . ولا ربا ألبتة ، ولا حرام ، إلا في الأصناف الستة التي قدمنا وفي العنب بالزبيب كيلا ، ويجوز وزنا كيف شئت . وفي الزرع القائم بالقمح كيلا ، فإن كان الزرع ليس قمحا ولا شعيرا ولا سنبل بعد : فقد جاز بيعه بالشعير كيلا وبكل شيء ما عدا القمح كيلا . وأجاز المالكيون السويق من القمح بالقمح متفاضلا . وأجاز الحنفيون خبز القمح بالقمح متفاضلا وكل ذلك أصله القمح ، ولا فرق . برهان ذلك : ما أوردنا قبل من أنه لا ربا ولا حرام إلا ما نص عليه رسول الله ﷺ قال تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } وقال تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } { وأباح رسول الله ﷺ السلف في كيل معلوم ، أو وزن معلوم إلى أجل معلوم } وقال الله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } فصح بأوضح من الشمس أن كل تجارة ، وكل بيع ، وكل سلف في كيل معلوم ، أو وزن معلوم إلى أجل معلوم : فحلال مطلق لا مرية في ذلك ، إلا ما فصل الله تعالى لنا تحريمه على لسان رسوله عليه السلام . ونحن نشهد بشهادة الله تعالى ونبت ونقطع بأن الله تعالى لم يحرم على عباده شيئا كتمه عنهم ولم يبينه رسوله عليه السلام لهم ، وأنه تعالى لم يكلنا فيما حرم علينا إلى ظنون أبي حنيفة ، ومالك ، الشافعي ، أو غيرهم ، ولا إلى ظنوننا ولا إلى ظن أحد ، ولا إلى دعاوى لا برهان عليها . وما وجدنا عن أحد قبل مالك المنع من بيع الزيتون بالزيت ثم اتبعه عليه الشافعي ، وإن كان لم يصرح به ، وأجازه أبو حنيفة وأصحابه إذا كان الزيت أكثر مما في الزيتون من الزيت وإلا فلا . فإن قالوا : هي مزابنة ؟ قلنا : قلتم الباطل ، قد فسر المزابنة : أبو سعيد الخدري ، وجابر بن عبد الله ، وابن عمر رضي الله عنهم وهم أعلم الناس باللغة وبالدين فلم يذكروا شيئا من هذه الوجوه فيه أصلا فإن قالوا : قسنا ذلك على الرطب بالتمر ، والزبيب بالعنب كيلا ؟ قلنا : القياس كله باطل ، ثم هذه منه عين الباطل ، لأن الزبيب هو عين العنب نفسه ، إلا أنه يبس ، والتمر هو عين الرطب إلا أنه يابس والزيت هو شيء آخر غير الزيتون لكنه خارج منه كخروج اللبن من الغنم ، والتمر من النخل ، وبيع كل ذلك بما يخرج منه : جائز بلا خلاف . فهذا أصح في القياس لو صح القياس يوما ما . وقد ذكرنا أقوالهم المختلفة المتناقضة وكل قول منها يكذب قول الآخر ويبطله ، ويشهد عليه بالخطأ ، كل ذلك بلا برهان والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمه علينا كثيرا ، وهذا قول أبي سليمان وأصحابنا . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا عبيدة بن حميد عن مطرف هو ابن طريف عن الشعبي : أنه سئل عن السويق بالحنطة ؟ فقال : إن لم يكن ربا فهو ريبة . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا جرير عن ليث عن مجاهد قال : لا بأس بالحنطة بالسويق ، والدقيق بالحنطة والسويق ، فلم يشترط المماثلة ، وقد ذكرنا أقوال الصحابة ومن بعدهم في المزابنة فأغنى عن تكرار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق