7. كتاب الشفعة المحلى ابن حزم - المجلد الرابع
1595 - مسألة :
1596 - مسألة : ولا شفعة إلا في البيع وحده ، ولا شفعة في صداق ولا في إجارة ، ولا في هبة ، ولا غير ذلك ، وهو قول جماعة من السلف . كما روينا من طريق سعيد بن منصور أنا هشيم عن منصور بن المعتمر عن الحسن أنه كان لا يرى الشفعة في الصداق ومن طريق محمد بن المثنى أنا عبد الرحمن بن مهدي أنا سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر قال : بلغني عن الشعبي أنه قال : لا شفعة في صداق وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، وأبي سليمان ، وأصحابنا ، والليث بن سعد . وقال الحارث العكلي ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والحسن بن حي ، ومالك ، والشافعي في الصداق والشفعة . ثم اختلفوا فقال العكلي والشافعي : يأخذ الشفيع بصداق مثلها ، وقال ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والحسن بن حي ومالك : يأخذه بقيمة الشقص وأوجب مالك ، والشافعي : الشفعة في الإجارة . قال أبو محمد : إن قيل : فهلا أخذتم بإيجاب الشفعة في كل ذلك بعموم قول رسول الله ﷺ وقضائه بالشفعة في كل ما لم يقسم ؟ قلنا : لم يجز ما تقولون ؛ لأن " الشفعة " ليست لفظة قديمة إنما هي لفظة شريعية لم تعرف العرب معناها قبل رسول الله ﷺ كما لم تعرف لفظة " الصلاة " ولفظة " الزكاة " ولفظة " الصيام " ولفظة " الكفارة " ولفظة " النسك " ولفظة " الحد " الوارد كل ذلك في الدين ، حتى بينها لنا رسول الله ﷺ بما لم تعرفه العرب قط : من صفة الركوع ، والسجود ، والقراءة ، وما يعطى من الأموال ، وما يمتنع منه في رمضان ، وغير ذلك ، وكذلك " الشفعة " من هذا الباب لا يدري أحد ما المراد بها حتى بينه رسول الله ﷺ وقد بين أن ذلك في البيع ، ولم يذكرها غير ذلك ، فلم يجز أن يتعدى بها بيان رسول الله ﷺ إلى الظنون الكاذبة . فإن قالوا : قسنا الصداق ، والإجارة على البيع ؟ قلنا : هذا باطل ؛ لأن القياس كله باطل . ثم لو صح لكان هذا منه عين الفساد ؛ لأن الصداق ، والإجارة لا يشبهان البيع في شيء من الأشياء ، وإنما القياس عند القائلين به أن يحكم للشيء بحكم نظيره ، والبيع تمليك للمبيع ، وليست الإجارة تمليكا للمؤاجر ، إنما هي إباحة للمنافع الحادثة الظاهرة ، ولا الصداق تمليكا للرقبة ، ولا يحل بيع ما لم يخلق ، والإجارة إنما هي فيما لم يخلق من المنافع ، والنكاح يجوز بلا ذكر صداق ، ولا يجوز البيع بغير ذكر ثمن . ثم اختلافهم في ذلك أبصداق مثلها أم بقيمة الشقص ؟ بيان أنه رأي فاسد متعارض ليس أحد القولين أولى من الآخر . وليت شعري أين كانوا عن هذا القياس في أن يقيسوا على الأرضين في " الشفعة " سائر الأموال ؟ وهذا أصح في القياس لو صح القياس يوما . فإن ذكروا الخبر الذي فيه عن النبي ﷺ { من ابتاع دينا على رجل فصاحب الدين أولى } فهذا باطل ؛ لأنه عمن لم يسم عن عمر بن عبد العزيز عن النبي ﷺ ثم لو صح لم ينتفعوا به ؛ لأنه في البيع أيضا ، فهو حجة عليهم في منعهم من الشفعة فيما عدا العقار .
1597 - مسألة : ومن لم يعرض على شريكه الأخذ قبل البيع حتى باع فوجبت الشفعة بذلك للشريك ، فالشريك على شفعته علم بالبيع أو لم يعلم ، حضره أو لم يحضره ، أشهد عليه أو لم يشهد حتى يأخذ متى شاء ، ولو بعد ثمانين سنة أو أكثر ، أو يلفظ بالترك فيسقط حينئذ ، ولا يسقط حقه بعرض غير شريكه أو رسوله عليه . واختلف الحاضرون في هذا فقال أبو حنيفة : متى علم بالبيع ، وعلم أن له الشفعة ، فإن طلب في الوقت أو أشهد على أنه آخذ بشفعته فله الشفعة أبدا ، وإن سكت بعد ذلك سنين فإن لم يشهد ، ولا طلب فقد بطل حقه . وروي عن أبي حنيفة في الحاضر : أن له أجل ثلاثة أيام ، فإن طلب الشفعة فيها قضي له ، وإن مرت الثلاث ولم يطلب الشفعة بطل حقه ولا شفعة له . وقال صاحبه محمد بن الحسن كذلك ، إلا أنه قال : لا ينتفع بالإشهاد على أنه طالب بالشفعة إلا بأن يكون إشهاده بذلك بحضرة المطلوب بالشفعة ، أو بحضرة الشقص المطلوب وقال أيضا : فإن سكت بعد الإشهاد المذكور شهرا واحدا لا يطلب بطلت شفعته . وقال بعض كبار نظار مقلدي أبي حنيفة : للشفيع من أمد الخيار إن سكت ولم يشهد ولا طلب ما للمرأة المخيرة . وبقول أبي حنيفة يقول البتي ، وابن شبرمة ، وعبيد الله بن الحسن ، والأوزاعي ، إلا أن عبيد الله قال : لا يمهل إلا ساعة واحدة . وقال مالك ثلاثة أقوال : مرة قال : إن بلغه البيع أن له القيام بالشفعة فسكت ، ولم يطلب ولا أشهد ، فهو على حقه ، وله أن يطلب ما لم يطل الأمد جدا دون تحديد في ذلك . ومرة قال : إن قام ما بينه وبين خمسة أعوام فله ذلك وإن لم يقم حتى مضت خمسة أعوام فقد بطل حقه . وقال الشافعي : إن ترك الطلب ثلاثة أيام فأقل كان له أن يطلب ، فإن لم يطلب حتى مضت له ثلاثة أيام فقد بطل حقه وهو قول سفيان الثوري ثم رجع الشافعي فقال : إن ترك الطلب دون عذر مانع ما قل أو كثر فقد بطل حقه ، وإن تركه لعذر فهو على حقه طال الأمد أو قصر وهو قول معمر وروي عن شريح وصح عن الشعبي وروي عن الشعبي أن له أجل يوم واحد . وممن قال مثل قولنا ما روينا من طريق محمد بن المثنى أنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن حميد الأزرق أن عمر بن عبد العزيز قضى بالشفعة بعد بضع عشرة سنة . قال أبو محمد : أما أقوال مالك كما هي ، فهي في غاية الفساد لأنها إما تحديد بلا برهان ، وإما إجمال بلا تحديد ، فلا يدري أحد متى يسقط حقه ولا متى لا يسقط حقه ، وليس في الزمان طويل إلا بإضافة إلى ما هو أقصر منه ، فاليوم طويل لمن عذب فيه ، وبالإضافة إلى ساعة ومائة عام قليل بالإضافة إلى عمر الدنيا مع أنها أقوال لم تعهد عن أحد قبله ولا يعضدها قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول سلف ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه . وكذلك قول سفيان ، والأول من قولي الشافعي ، وقول الشعبي في تحديد يوم ، فهما قولان في غاية الفساد ؛ لأنهما تحديد بلا برهان ، وليس رد ذلك إلى ما جاء من الأخبار بخيار ثلاثة أيام أولى من أن يرد إلى خيار العدة إن شاء ارتجع وإن شاء أمضى الطلاق وهو ثلاثة أشهر ، وهذه كلها تخاليط . وكذلك قول محمد بن الحسن وتحديده بشهر ، وبأن لا يكون الإشهاد إلا بحضرة المطلوب بالشفعة ، أو الشقص المبيع فهذا تخليط ناهيك به ، وتحكم في الدين بالباطل . وأما قول من قال : " له من الأمد ما للمخيرة " فأسخف قول سمع به ؛ لأنه احتجاج للباطل بالباطل ، وللهوس بالهوس ، وما سمع بأحمق من أقوالهم في حكم المخيرة . وأما قول أبي حنيفة ، والأوزاعي ، والبتي ، ومن وافقهم فإن تحديدهم في ذلك بالإشهاد ، ثم السكوت إن شاء قول بلا برهان له ، وما كان هكذا فهو باطل . وقد علمنا أن حق الشريك واجب بعد البيع إذا لم يؤذنه البائع قبل البيع ، فأي حاجة به إلى الإشهاد ، أو من أين ألزموه إياه وأسقطوا حقه بتركه هذا خطأ فاحش ، وإسقاط لحق قد وجب بإيجاب الله تعالى له ، فما يقويه الإشهاد ولا يضعفه تركه فبطل قول أبي حنيفة ، ولم يبق إلا أحد قولي الشافعي ، والشعبي فنظرنا فيه فلم نجد لهم حجة أصلا إلا أن بعض المموهين نزع بقول مكذوب موضوع مضاف إلى رسول الله ﷺ { الشفعة كنشطة عقال والشفعة لمن واثبها } . وهذا خبر رويناه من طريق البزار قال : أنا محمد بن المثنى أنا محمد بن الحارث أنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ قال : { لا شفعة لغائب ولا لصغير والشفعة كحل العقال من مثل بمملوكه فهو حر وهو مولى الله ورسوله والناس على شروطهم ما وافقوا الحق . } قال أبو محمد : أفيكون أعجب من مخالفتهم كل ما في هذا الخبر واحتجاجهم ببعضه ، فبعضه حق وبعضه باطل ؟ أف لهذه الأديان . وأما { الشفعة لمن واثبها } ، فما يحضرنا الآن ذكر إسنادها ، إلا أنه جملة لا خير فيه ، وابن البيلماني ضعيف مطرح ، ومتفق على تركه . وأما لفظ { لمن واثبها } فهو لفظ فاسد ، لا يحل أن يضاف مثله إلى رسول الله ﷺ لأن قول القائل : الشفعة لمن واثبها : موجب أن يلزمه الطلب مع البيع لا بعده ؛ لأن المواثبة فعل من فاعلين ، فوجب أن يكون طلبه مع البيع لا بعده ؛ لأن التأني في الوثب لا يسمى مواثبة . وأما قوله { الشفعة كنشطة عقال } فمعناه ظاهر ، ولا حجة لهم فيه ؛ لأن نشط العقال : هو حل العقال ، وكذلك الشفعة ؛ لأنها حل ملك عن المبيع وإيجابه لغيره فقط . قال علي : وقد جعل الله تعالى حق الشفيع واجبا وجعله على لسان رسوله عليه السلام المصدق أحق ، إذا لم يؤذن قبل البيع ، فكل حق ثبت بحكم الله تعالى ورسوله ﷺ فلا يسقط أبدا إلا بنص وارد بسقوطه ، فإن وقفه المشتري على أن يأخذ أو يترك لزمه أحد الأمرين ، ووجب على الحاكم إجباره على أحد الأمرين لأنه قد أعطي حقه فلا ينبغي له تضييعه ، فهو إضاعة للمال ، ولا بد له من أخذه ؛ أو أن يبيحه لغيره ، وإلا فهو غاش غير ناصح لأخيه المنصف له وبالله تعالى التوفيق . وأما من منع حقه ولم يعطه ، فليس سقوطه عن طلبه قطعا لحقه ولو سكت عمره كله ولا يختلفون فيمن غصب مالا ، أو كان له دين أو ميراث ، أو حق ما ، فإن سقوطه عن طلبه لا يبطله ، وأنه على حقه أبدا فمن أين خصوا حق الشفعة من سائر الحقوق بهذه التخاليط ؟
1598 - مسألة : فإن أخذ الشفيع حقه لزم المشتري رد ما استغل وكان كل ما أنفذ فيه من هبة ، أو صدقة أو عتق ، أو حبس ، أو بنيان ، أو مكاتبة ، أو مقاسمة ، فهو كله باطل مردود مفسوخ أبدا ، وتقلع أنقاضه ليس له غير ذلك ، لا سيما المخاصم المانع ، فإن هذا غاصب ظالم متعد ، مانع حق غيره بلا مرية ، فإن ترك الشريك الأخذ بالشفعة نفذ كل ذلك وصح ، ولم يرد شيئا منه ، وكانت الغلة له ، هذا إذا كان إيذانه الشريك ممكنا له ، أو للبائع حين اشترى ، فإن لم يكن إيذان الشريك ممكنا للبائع لعذر ما ، أو لتعذر طريق ، فإن الشفعة للشريك متى طلبها ، وليس على المشتري رد الغلة حينئذ ، لكن كل ما أحدث فيه مما ذكرنا فمفسوخ ويقلع بنيانه ولا بد . برهان ذلك : قوله عليه السلام الذي أوردنا قبل { لا يصلح أن يبيع حتى يؤذن شريكه } فلا يخلو بيع الشريك قبل أن يؤذن شريكه من أحد أوجه ثلاثة ، لا رابع لها : إما أن يكون باطلا وإن صححه الشفيع بتركه الشفعة وهذا باطل ؛ لأنه لو كان ذلك لوجب عليه رد الغلة على كل حال أخذ الشفيع أو ترك ، والخبر يوجب غير هذا ، بل يوجب أن الشريك أحق ، وأنه إن ترك فله ذلك ، فلو كان البيع باطلا لاحتاج إلى تجديد عقد آخر وهذا خطأ ، أو يكون صحيحا حتى يبطله الشفيع بالأخذ وهذا باطل بقوله عليه الصلاة والسلام : { لا يصلح } فمن الباطل أن يكون صحيحا ما أخبر عليه الصلاة والسلام أنه لا يصلح ، أو يكون موقوفا ، فإن أخذ الشفيع بالشفعة علم أن البيع وقع باطلا ، وإن ترك حقه علم أن البيع وقع صحيحا وهذا هو الصحيح لبطلان الوجهين الأولين لقوله عليه السلام { الشريك أحق } فصح أن للمشتري حقا بعد حق الشفيع . فصح ما قلناه . وبالله تعالى التوفيق . ونسأل من خالف في هذا : متى كان الشفيع أحق ، أحين أخذ أم حين رد البيع ؟ فإن قالوا : من حين أخذ ؟ قلنا : هذا باطل ؛ لأنه خلاف حكم رسول الله ﷺ إذ جعله أحق حين البيع ، فإذ هو أحق حين البيع فإذا أخذ فقد أخذ حقه من حين البيع . وأما إذا لم يكن للبائع إعلام الشريك ، فإن الله تعالى يقول : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . وقال رسول الله ﷺ : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } . فصح بلا شك أن من لم يقدر على إيذان الشريك ، ولم يستطعه فقد سقط حقه وحل له البيع ؛ لأن قوله عليه السلام { : لا يصلح أن يبيع حتى يؤذن شريكه } يقتضي ضرورة من يقدر على إيذانه ، فخرج عن هذا النص حكم من لم يقدر على إيذانه فهو قادر على البيع ، وعاجز عن الإيذان فمباح له ما قدر عليه ، وساقط عنه ما ليس في وسعه فهذا إذا طلب الشفيع وأخذ شفعته ، فحينئذ بطل العقد ، وكان قبل ذلك صحيحا ، فإذا هو كذلك فالغلة له ؛ لأنها غلة ماله . وأما البناء وسائر ما أحدث فقد أبطله حكم رسول الله ﷺ بأن الشفيع أحق منه فإنما أنفذ حكمه فيما غيره أحق به منه فبطل أن ينفذ حكمه فيما جعله تعالى حقا لغيره لقوله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } واختلف الناس في هذا : فروينا من طريق عبد الرزاق أنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي ، وابن أبي ليلى ، قالا جميعا : إذا بنى ثم جاء الشفيع بعده فالقيمة . وقال حماد بن أبي سليمان : يقلع بناءه وبه يأخذ سفيان الثوري وأبو حنيفة ، وأبو سليمان ، وأصحابهم وبقول الشعبي يأخذ مالك ، والبتي ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد قال أبو محمد : إلزامه قلع بنائه واجب بما ذكرنا ، وبأنه لا يجوز له إبقاء أنقاضه في ساحة غيره لقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام . } ولا يجوز إلزامه غرامة في ابتياع ما لا يريد ابتياعه من أنقاض بناء المخرج من الابتياع لأنه لم يوجب ذلك نص ، فهو ظلم مجرد . ولا فرق بين إلزامه غرامة للمخرج عن الملك وبين إباحة أنقاض المخرج للشفيع وكل ذلك أكل مال محرم بالباطل ، بل كل ذي حق أولى بحقه وبالله تعالى التوفيق . قال علي أوجب الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام الخيار في البيع في خمسة مواضع : المصراة ، ومن بايع وقال : لا خلابة فهذان خيارهما ثلاثة أيام بلياليها فقط . ومن تلقيت سلعته فهذا له الخيار إذا دخل السوق ، لا قبل ذلك . ومن وجد عيبا لم يبين له به ، ولا شرط السلامة منه . والشريك يبيع مع غير شريكه ولا يؤذنه . فهؤلاء لهم الخيار بلا تحديد مدة إلا حتى يقروا بترك حقهم : فوجدنا مشتري المصراة ، ومن بايع على أن لا خلابة : ينقضي خيارهما بتمام الثلاثة الأيام ولا يكون لهما خيار بعدها ، ويلزمهما الشراء ، فصح يقينا أن العقد وقع صحيحا ، إذ لو وقع فاسدا لم يلزم أصلا إلا بتجديد عقد ، فإذ قد صح هذا بما ذكرنا ، وأنه لو وقع فاسدا لم يخير في إمضائه أو في رده ، بل كان يكون باطلا لا خيار لأحد في تصحيحه ، فقد صح أنه وقع صحيحا ، ثم جعل تعالى للمشتري رده إن شاء . فصح أن الغلة له رد أو أخذ لأنها حدثت في ماله . ووجدنا من تلقى السلع فابتاع ، وإن كان منهيا عن ذلك فإن الله تعالى لم يجعل للبائع خيارا إلا بعد دخوله إلى السوق ، ولم يجعل له قبل ذلك خيارا ، فصح أن البيع صحيح ، وإن كان منهيا عن التلقي ، ولم ينه عن الابتياع ؛ لأن التلقي غير الابتياع فهما فعلان ، أحدهما غير الآخر نهى عن أحدهما ولم ينه عن الآخر ، لكن جعل للبائع خيار في رده أو إمضائه ولو وقع فاسدا لبطل جملة . فوجب بذلك أن العلة للمشتري في رد البائع البيع ، أو إجازته . ووجدنا [ أيضا ] من وجد عيبا لم يبين له به ، ولا شرط السلامة منه ، له الخيار أيضا في إمضاء البيع أو رده ، فعلمنا أن البيع وقع صحيحا ، إذ لو وقع فاسدا لم يجز إمضاؤه ، فوجب أيضا أن الغلة له ، رد أو أخذ . وبقي أمر الشفيع فوجدناه بخلاف كل ما ذكرناه من البيوع ؛ لأنه لم يأت نص بالمنع من البيوع المذكورة ، بل جاء النص بإجازتها كما قدمنا ، وبان الدليل بأنها وقعت صحيحة . ووجدنا من يمكنه إيذان شريكه فقد جاء النص بأنه لا يصلح له أن يبيع حتى يؤذنه ، فلو لم يكن إلا هذا اللفظ وحده لوجب بطلان العقد بكل حال ، لكن لما جعل النبي ﷺ الشريك أحق ، وأباح له الأخذ أو الترك : وجب أنه مراعى كما ذكرنا ، فإن أخذ فقد علمنا أنه لم يمض ذلك العقد ، بل أبطله ، فصح أنه انعقد فاسدا فلزمه رد الغلة ، وإن ترك الأخذ فقد أجازه ، فصح أنه انعقد جائزا . وأما من لم يمكنه الإيذان فلم يأت النص فيه بأنه لا يصلح ، وقد أحل الله البيع ، إلا أن للشريك الأخذ أو الترك ، فإن أخذ فحينئذ بطل العقد ، لا قبل ذلك ، فالغلة للمشتري هاهنا على كل حال وبالله تعالى التوفيق .
1599 - مسألة : والشفعة واجبة للبدوي ، وللساكن في غير المصر ، وللغائب ، وللصغير إذا كبر ، وللمجنون إذا أفاق ، وللذمي بعموم قوله عليه السلام { : فشريكه أحق به } وقد قال قوم من السلف : لا شفعة . قال الشعبي : لا شفعة لمن لا يسكن المصر ، ولا للذمي . وقال أحمد بن حنبل : لا شفعة لذمي . وقال النخعي : لا شفعة لغائب ، وقاله أيضا الحارث العكلي ، وعثمان البتي ، قالا : إلا القريب الغيبة . وقال ابن أبي ليلى : لا شفعة لصغير وما نعلم لمن منع من ذلك حجة أصلا وبالله تعالى التوفيق ، فإن ترك ولي الصغير ، أو المجنون الأخذ بالشفعة فإن كان ذلك نظرا لهما لزمهما ؛ لأنه فعل ما أمر به من النصيحة لهما ، وإن كان الترك ليس نظرا لهما لم يلزمهما ، ولهما الأخذ أبدا ؛ لأنه فعل ما نهي عنه من غشهما
1600 - مسألة: فإن باع الشقص بعرض , أو بعقار لم يجز للشفيع أخذه إلا بمثل ذلك العقار , أو مثل ذلك العرض , فإن لم يقدر على ذلك أصلا فالمطلوب مخير بين أن يلزمه قيمة العرض أو العقار , وبين أن يسلم إليه الشقص ويلزمه مثل ذلك العقار , أو مثل ذلك العرض متى قدر عليه ; لأن البيع لم يقع إلا بذلك العرض أو ذلك العقار , وليس للشريك أخذ الشقص إلا بما رضي به البائع سواء عرضه عليه قبل البيع أو أخذه بعد البيع , هذا ما لا خلاف فيه من أحد ; فلا يجوز إجبار البائع على أخذ غير ما طابت به نفسه وبالله تعالى التوفيق. فإن لم يقدر عليه فقد تعين له قبله عرض أو عقار عجز عنه ,
وقال تعالى : {والحرمات قصاص} فله الأقتصاص بالقيمة التي هي مثل حرمة المال الذي له عنده وبالله تعالى التوفيق.
1601 - مسألة: ومن باع شقصه بثمن إلى أجل فالشفيع أحق به بذلك الثمن إلى ذلك الأجل.
وقال مالك : إن كان مليا أخذ الشقص بذلك الثمن إلى ذلك الأجل ,
وكذلك إن كان معسرا فضمنه مليء وإلا فلا.
وقال الشافعي : وأبو حنيفة : لا يأخذه إلا بالنقد , فإن أبى قيل له : اصبر , فإذا جاء الأجل فخذها حينئذ.
قال علي : احتجوا بأن قالوا : إن البائع لم يرض ذمة الشريك وقد يعسر قبل الأجل.
قال أبو محمد : هذا لا شيء , ونقول لهم : إن كان لم يرض ذمة الشريك فكان ماذا ومن أين وجب مراعاة رضاه وسخطه
وكذلك أيضا لم يرض معاملته , وقد يعسر الذي باع منه أيضا , فالأرزاق مقسومة , وقول رسول الله ﷺ : فالشريك أحق موجب له الأخذ بما يبيع به جملة وتفضيله على المشتري فيما اشترى فقط وبالله تعالى التوفيق.
1602 - مسألة: ولو أن الشريك بعد بيع شريكه قبل أن يؤذنه باع أيضا حصته من ذلك الشريك البائع , أو من المشتري منه , أو من أجنبي علم بأن له الشفعة أو لم يعلم علم بالبيع , أو لم يعلم فالشفعة له كما كانت ; لأنه حق قد أوجبه الله تعالى له فلا يسقطه عنه بيع ماله , ولا غير ذلك أصلا وبالله تعالى التوفيق.
1603- مسألة: ومن وجبت له الشفعة ولا مال له لم يجب أن يهمل , لكن يباع ذلك الشقص عليه , فإن وفى بالثمن فذلك , وإن فضلت فضلة دفعت إليه , وإن لم يف اتبع بالباقي , وأنظر فيه أن يوسر , وذلك لأنه ذو مال بذلك الشقص الواجب له . ومن كان له مال فليس ذا عسرة , لكن يباع ماله في الدين الذي عليه , فإن لم يف فهو حينئذ ذو عسرة بالباقي فنظرة إلى ميسرة حينئذ كما أمر الله تعالى . .
وقال قوم : يبطل حقه في الشفعة , وهذا باطل ; لأنه إخراج حقه الذي جعله الله تعالى أحق به عن يده بلا برهان , وهذا لا يجوز . وبالله تعالى التوفيق .
1604 - مسألة: وإن مات الشفيع قبل أن يقول : أنا آخذ شفعتي فقد بطل حقه ، ولا حق لورثته في الأخذ بالشفعة أصلا ; لأن الله تعالى إنما جعل الحق له لا لغيره , والخيار لا يورث , وهذا قول محمد بن سيرين.
وروينا من طريق عبد الرزاق عن فضيل عن محمد بن سالم عن الشعبي قال : سمعنا أن الشفعة لا تباع ، ولا توهب ، ولا تورث ، ولا تعار , هي لصاحبها الذي وقعت له. قال عبد الرزاق :
وهو قول سفيان الثوري
وهو قول أبي حنيفة , وسفيان بن عيينة , والحسن بن حي , وأحمد , وإسحاق , وأبي سليمان , وأصحابهم.
وقال مالك , والشافعي : الشفعة لورثته. واحتجوا بأن قالوا : تورث الشفعة كما يورث العفو في الدم أو القصاص ما نعلم لهم شيئا أوهموا به غير هذا , وهذا باطل ; لأنها دعوى بلا
برهان ثم هو احتجاج للخطأ بالخطأ. وقولهم : إن العفو والقصاص يورثان , خطأ , بل هما لمن جعلهما الله تعالى له من ذكور الأولياء فقط , وإنما أوجب الله تعالى الميراث في الأموال , لا فيما ليس مالا , ولو ورث الخيار لوجب أن يورث عندهم فيمن جعل أمر امرأته بيد إنسان بعينه وخيره في طلاقها أو إبقائها , فمات ذلك الإنسان , فكان يجب على قولهم أن يرث ورثته ما جعل له من الخيار , وهم لا يقولون هذا. ونسألهم أيضا : لمن يأخذون الورثة بالشفعة , أللميت أم لأنفسهم
فإن قالوا : للميت
قلنا : هذا باطل ; لأن الميت لا يملك شيئا.
وإن قالوا : لأنفسهم
قلنا : هذا باطل ; لأن شركتهم إنما حدثت بعد البيع فلا توجد شفعة , ولم يكونوا حين البيع شركاء , فلم تجب لهم شفعة. وهذا مما تناقض فيه المالكيون , وخالفوا جمهور العلماء ; لأنهم يقولون : إن أحد الأولياء الذي لهم العفو أو القصاص إن مات وترك زوجة وبنات لم يرثن الخيار الذي له. وهذا مما تناقض فيه الحنفيون ; لأنهم يورثون العفو والقصاص ، ولا يورثون الخيار هاهنا ,
فأما إذا بلغ الشريك أمر البيع فقال : أنا آخذ بالشفعة ثم مات فقد صحت له , وهي موروثة عنه حينئذ , ولورثته الطلب ; لأنها حينئذ مال قد تم له. ولا معنى للطلب عند القاضي , ولا لحكم القاضي ; لأن الله تعالى لم يوجب ذلك قط ، ولا رسوله ﷺ وإنما جعل القاضي ليجبر الممتنع من الحق فقط ، ولا مزيد , ولو تعاطى الناس الحقوق بينهم ما احتيج إلى قاض وبالله تعالى التوفيق.
1605 - مسألة: ومن باع شقصا أو سلعة معه صفقة واحدة فجاء الشفيع يطلب فليس له إلا أن يأخذ الكل أو يترك الكل وهذا قول عثمان البتي وسوار بن عبد الله , وعبيد الله بن الحسن القاضيين.
وروي أيضا عن أبي حنيفة من طريق خاملة.
وقال أبو حنيفة في المشهور عنه , وسفيان , ومالك , وابن شبرمة , والشافعي : يأخذ الشقص بحصته من الثمن , واحتجوا بأنه لا يدخل في الشفعة ما لا شفعة فيه , ولا يقطع بالشفعة فيما فيه شفعة بالنص.
قال علي : ليس للشفيع بعد البيع إلا ما كان له إذا أذنه البائع قبل البيع , والنص والإجماع المتيقن قد بينا بأنه لا يخرج عن ملك البائع إلا ما رضي بإخراجه عن ملكه , قال تعالى : {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} والبائع لم يرض ببيع الشقص وحده دون تلك السلعة فلا يجوز إجباره على بيع ما لا يرضى بيعه بغير نص. ولو عرض عليه قبل البيع لم يكن للشريك إلا أخذ الكل أو الترك بإجماعهم معنا ,
وكذلك لو حضر عند البيع , ولم يجعل له رسول الله ﷺ بعد البيع من غيره إلا ما كان حقه لو أخذه إذا عرض عليه قبل البيع فقط وليس له في العرض قبل البيع تبعيض ما لا يريد البائع تبعيضه , فإنما له الآن ما كان له حينئذ ، ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق
وأيضا فلا يجوز أن يلزم المشتري بعض صفقة لم يرض قط تبعيضها , ولا أن يفسخ عن البائع بيعا وقع صحيحا إلا بنص وارد , ولا نص في شيء من ذلك , فهو كله باطل. فإن رضي المشتري بتسليم الشقص وحده فقد قيل ليس للشفيع غيره , لأنه كرضا البائع بذلك حين الإيذان. والأولى عندنا : أن الشريك أحق بجميع الصفقة إن أراد ذلك ; لأنها صفقة واحدة , وعقد واحد , إما تصح فتصح كلها ,
وأما تفسد فتفسد كلها , ولا يمكن تبعيض عقد واحد بتصحيح بعضه وإفساد بعضه إلا بنص وارد في ذلك.
1606 - مسألة: ومن كان له شركاء فباع من أحدهم كان للشركاء مشاركته فيه وهو باق على حصته مما اشترى كأحدهم , لأنه شريك وهم شركاء , فهو داخل معهم في قول رسول الله ﷺ : فشريكه أحق وقد قال قائل : لا حصة للمشتري وهذا خلاف النص كما ذكرنا.
وروينا من طريق ليث بن أبي سليم عن الشعبي ، أنه قال : إذا باع من أحد شركائه فلا شفعة للآخرين منهم.
وكذلك أيضا عن الحسن , وعثمان البتي
قال علي : وهذا خلاف النص أيضا.
1607 - مسألة: فلو كان بعض الشركاء غيبا فاشترى أحدهم فكذلك أيضا , وليس للحاضر أن يقول : لا آخذ إلا حصتي لأن البائع لا يرضى ببيع بعض ذلك دون بعض كما ذكرنا آنفا فيمن باع شقصا وسلعة. فلو باع من أجنبي فحضر أحد الشركاء فليس له أن يأخذ إلا حصته فقط في قول قوم والذي نقول به : إنه ليس له إلا أخذ الكل أو ترك الكل ; لأنه لم يكن له حين الإيذان إلا ذلك , فإنما هو أحق بما كان حقه حين الإيذان فقط وبالله تعالى التوفيق.
1608 - مسألة: فإن باع اثنان فأكثر من واحد , أو من أكثر من واحد , أو باع واحد من اثنين فصاعدا , فللشريك أن يأخذ أي حصة شاء ويدع أيها شاء , وله أن يأخذ الجميع ; لأنها عقود مختلفة وإن كانت معا لقول الله تعالى : {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} فعقد زيد غير عقد عمرو. ولو استحق الثمن الذي أعطى أحدهما فانفسخ عقده لم يكدح ذلك في حصة غيره لما ذكرنا
وهو قول أبي حنيفة , والشافعي وبالله تعالى التوفيق.
1609 - مسألة: وإن كان شركاء في شيء بعضهم بميراث , وبعضهم ببيع , وبعضهم بهبة , وفيهم إخوة ورثوا أباهم ما كان أبوهم ورثه مع أعمامهم , فباع أحدهم فالجميع شفعاء على عددهم , ليس الأخ أولى بحصة أخيه من عمه , ولا من امرأة أبيه , ولا من امرأة جده , ولا من الأجنبي ; لأن رسول الله ﷺ قال : فشريكه أحق وكلهم شريكه
وهو قول أبي حنيفة , والشافعي.
وقال مالك : إن كان إخوة الأم وزوجات وبنات وأخوات وعصبة فباع أحد الإخوة للأم فسائر الإخوة للأم أحق بالشفعة من سائر الورثة.
وكذلك لو باع إحدى الزوجات فسائرهن أحق بالشفعة من سائر الورثة ,
وكذلك لو باع أحد البنات فسائرهن أحق بالشفعة من سائر الورثة.
وكذلك لو باع إحدى الأخوات فسائرهن أحق بالشفعة من سائر الورثة , ثم ناقض فقال : لو باع أحد العصبة لم يكن سائر العصبة أحق بالشفعة , بل يأخذها معهم البنات , والزوجات , والأخوات , والإخوة لأم. قال : فلو اشترى بنات إنسان شقصا واشترى أخواته شقصا آخر من ذلك الشيء , واشترى أجنبيون شقصا ثالثا منه فباع إحدى البنات أو إحدى الأخوات لم يكن أخواتها أحق بالشفعة من عمتها , ولا من الأجنبيين. قال : ولو كان ورثة ومشترون في شيء فباع أحد الورثة فللأجنبي الشفعة في ذلك مع سائر الورثة , وهذا كلام يغني إيراده عن تكلف إفساده لفحش تناقضه , وظهور فساده وبالله تعالى التوفيق.
1610 - مسألة: ومن باع شقصا وله شركاء لأحدهم مائة سهم , ولأخر عشرون , ولأخر عشر العشر أو أقل أو أكثر : فكلهم سواء في الأخذ بالشفعة , ويقتسمون ما أخذوا بالسواء , ولا معنى لتفاضل حصصهم.
وهو قول إبراهيم النخعي , والشعبي , والحسن البصري , وابن أبي ليلى , وابن شبرمة , وسفيان الثوري , وأبي حنيفة , وأصحابه , وشريك , والحسن بن حي , وعثمان البتي , وعبد الله بن الحسن , وأبي سليمان , وأشهر قولي الشافعي.
وروينا من طريق سعيد بن منصور أنا هشيم عن عبيدة : وأشعث قال عبيدة عن إبراهيم , وأشعث عن الشعبي , قالا جميعا : الشفعة على رءوس الرجال , قال هشيم : وبه كان يقضي ابن أبي ليلى , وابن شبرمة وقال آخرون : هي على قدر الأنصباء
وهو قول عطاء : وابن سيرين
وروي عن الحسن أيضا.
وبه يقول مالك , وسوار بن عبد الله , وإسحاق , وأبو عبيد
قال علي : قول رسول الله ﷺ : فشريكه تسوية بين جميع الشركاء ولو كان هنالك مفاضلة لبينها رسول الله ﷺ ولم يجمل الأمر : فبطلت المفاضلة. ولا يختلفون في أن من أوصى لورثة فلان , فإنهم في الوصية سواء ، ولا يقتسمونها على حصص الميراث , وإنما استحقوها بكونهم من الورثة.
1611 - مسألة: ولا شفعة إلا بتمام البيع بالتفريق أو التخيير لأنها ليس بيعا قبل ذلك
وهو قول كل من يقول بتفرق الأبدان.==
تابع كتاب الشفعة
1612 - مسألة : والشفعة واجبة وإن كانت الأجزاء مقسومة إذا كان الطريق إليها واحدا متملكا نافذا أو غير نافذ لهم ، فإن قسم الطريق أو كان نافذا غير متملك لهم فلا شفعة حينئذ كان ملاصقا أو لم يكن . برهان ذلك : قول رسول الله ﷺ : { فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة } فلم يقطعها عليه السلام إلا باجتماع الأمرين معا ، وقوع الحدود ، وصرف الطرق ، لا بأحدهما دون الآخر . ولا يقطع الشفعة قسمة فاسدة قبل البيع ؛ لأنها ليست قسمة . ولا يقطعها قسمة صحيحة بعد البيع ؛ لأن الحق قد وجب قبلها . وقال أبو حنيفة ، وسفيان : الشفعة للشريك ، فإن ترك ، أو لم يكن له شريك ، فلشريكه في الطريق ، وإن كانت الأرض أو الدار قد قسمت ، فإن ترك أو لم يكن فالشفعة للجار الملاصق ، وإن كانت القسمة قد وقعت والطريق غير الطريق ، ولا شفعة لجار غير ملاصق . وقال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق وأبو ثور ، والأوزاعي ، والليث بن سعد : لا شفعة إلا لشريك لم يقاسم فقط . وقال آخرون : الشفعة لكل جار . ثم اختلفوا ، وروي في كل ذلك آثار : فروينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد الأنصاري أن عمر بن الخطاب قال : إذا قسمت الأرض وحددت فلا شفعة . ومن طريق ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن أبان بن عثمان عن أبيه إذا وقعت الحدود فلا شفعة ، وعن معمر عن إبراهيم بن ميسرة أن عمر بن عبد العزيز قال : إذا ضربت الحدود فلا شفعة . وروي عن ابن المسيب ، وسليمان بن يسار إنما الشفعة في الأرضين ، والدور ، ولا تكون إلا بين الشركاء . قال أبو محمد : يخرج كل هذا على وجوب الشفعة مع القسمة إذا بقي الطريق متملكا غير مقسوم ؛ لأن الحدود لم تضرب بعد والقسمة لم تتم . وصح عن يحيى بن سعيد الأنصاري وأبي الزناد وربيعة مثل قول مالك والشافعي بينا ، وروينا من طريق سفيان بن عيينة أنا إبراهيم بن ميسرة أنا { عمرو بن الشريد أنه حضر مع المسور بن مخرمة وسعد بن أبي وقاص ، وأبي رافع فقال أبو رافع للمسور : ألا تأمر هذا يعني سعدا فيشتري مني بيتي اللذين في داره فقال له سعد : والله لا أزيدك على أربعمائة دينار مقطعة أو قال منجمة ، فقال أبو رافع : إن كنت لأمنعهما من خمسمائة دينار نقدا ، ولولا أني سمعت رسول الله ﷺ يقول : الجار أحق بسقبه ما بعتك } . ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء عن إياس بن معاوية أنه يقضي بالجوار حتى أتاه كتاب عمر بن عبد العزيز أن لا يقضي به إلا ما كان بين جارين مختلطين أو دار يغلق عليها باب واحد . ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية عن ابن جريج أخبرني الزبير بن موسى عن عمر بن عبد العزيز قال : إذا قسمت الأرض وحدت وصرفت طرقها فلا شفعة فهذا كله قول موافق لقولنا ؛ لأنهم كلهم لم يخالفوا أبا رافع في رؤيته الشفعة في المقسوم إذا كان الطريق واحدا متملكا . ومن طريق سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي بكر بن حفص قال شريح : كتب إلي عمر بن الخطاب اقض بالشفعة للجار زاد بعضهم : الملازق . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا معاوية بن هشام أنا سفيان عن أبي حيان عن أبيه أن عمرو بن حريث كان يقضي بالجوار . ومن طريق وكيع عن سفيان عن الحسن عن عمرو بن فضيل بن عمرو عن إبراهيم النخعي قال : الخليط أحق من الجار والجار أحق من غيره فهذا موافق لقول أبي حنيفة . وروينا مثله عن قتادة ، والحسن ، وحماد ، وقالوا كلهم : لا شفعة لجار غير ملاصق بينهما طريق غير متملكة . وروينا عن طاوس أنه ذكر له قول عمر بن عبد العزيز إذا قسمت الأرض فلا شفعة فقال : لا ، الجار أحق به . ومن طريق ابن الجهم نا يحيى بن محمد نا ابن عسكر عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن جابر عن الشعبي عن شريح قال في الجار : الأول فالأول يعني في الشفعة . وقال الحسن بن حي : الشفعة للجار مطلقا بعد الشريك . وقال آخرون : الجار الذي تجب له الشفعة أربعون دارا حول الدار . وقال آخرون : من كل جانب من جوانب الدار أربعون دارا . وقال آخرون : هو كل من صلى معه صلاة الصبح في المسجد . وقال بعضهم : أهل المدينة كلهم جيران . وروينا من طريق ابن الجهم نا أحمد بن الهيثم نا سليمان بن حرب نا أبو العيزار سمعت أبا قلابة يقول : الجوار أربعون دارا . ومن طريق ابن الجهم نا أحمد بن فرج نا نصر بن علي الجهضمي أنا أبي قال : نا الوليد سمعت الحسن يقول : أربعون دارا هاهنا وأربعون دارا هي من جوانبها الأربع أربعون أربعون أربعون . ومن طريق ابن الجهم نا أحمد بن محمد بن المؤمل خالي نا علي بن المديني نا ابن أبي زائدة عن إسحاق بن فائد سئل محمد بن علي بن الحسين بن علي : من جار الرجل ؟ قال : من يصلي معه الغداة . قال أبو محمد : ولا يحضرنا الآن ذكر اسم من قال : هم جميع أهل المدينة إلا أنه قول قد قيل . قال علي : أما من حد بأربعين دارا ، أو بصلاة الغداة ، أو بأهل المدينة ، فإنهم تعلقوا بالخبر { الجار أحق بسقبه } إلا أن تحديد الأربعين ؛ وصلاة الغداة ، لا وجه له ، فنظرنا في الخبر الذي احتج به هؤلاء فوجدنا ما ذكرناه آنفا من طريق عمرو بن الشريد عن أبي رافع . وما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن عبد العزيز المروزي نا الفضل بن موسى عن حسين عن أبي الزبير عن جابر { قضى رسول الله ﷺ بالشفعة والجوار } ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبدة بن سليمان عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء عن جابر قال : قال رسول الله ﷺ : { الجار أحق بشفعة جاره إذا كان طريقهما واحدا ينتظر بها وإن كان غائبا } . وهكذا رويناه من طريق أبي داود عن أحمد بن حنبل عن هشيم عن عبد الملك عن عطاء عن جابر ومن طريق ابن أيمن نا محمد بن سليمان نا سليمان بن داود نا هشيم أنا عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء عن { جابر قال : اشتريت أرضا إلى جنب أرض رجل فقال : أنا أحق بها ؟ فاختصمنا إلى رسول الله ﷺ فقلت : يا رسول الله ليس له في أرضي طريق ولا حق ؟ فقال عليه السلام هو أحق بها فقضى له بالجوار } ومن طريق ابن أيمن أيضا نا أحمد بن محمد البرتي القاضي نا محمد بن كثير نا سفيان الثوري عن منصور هو ابن المعتمر عن الحكم عمن سمع عليا ، وابن مسعود قالا جميعا : { قضى رسول الله ﷺ بالجوار } . ومن طريق شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال رسول الله ﷺ : { جار الدار أحق بالدار وبالأرض } يعني في الشفعة . ومن طريق ابن أيمن نا أحمد بن زهير بن حرب نا أحمد بن حباب نا عيسى بن يونس عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس قال رسول الله ﷺ : { جار الدار أحق بالدار } قال أحمد بن حباب ، أخطأ فيه عيسى إنما هو موقوف على الحسن . ومن طريق قاسم بن أصبغ نا محمد بن إسماعيل نا الحسن بن سوار نا أبو المعلى نا أيوب بن عتبة اليمامي عن الفضل عن قتادة عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال : { الجار أحق بصقب أرضه } ومن طريق ابن أبي شيبة ، عن أبي أسامة عن الحسين المعلم عن عمرو بن شعيب { عن عمرو بن الشريد بن سويد عن أبيه قلت : يا رسول الله أرض ليس فيها لأحد قسم ولا شرك إلا الجوار ؟ قال : الجار أحق بصقبه ما كان } . ومن طريق ابن الجهم نا يوسف بن يعقوب نا محمد بن أبي بكر هو المقدمي عن دلال بنت أبي العدل عن الصهفاق { عن عائشة أم المؤمنين قلت : يا رسول الله ما حق الجوار ؟ قال : أربعون دارا . } ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان عن هشام بن المغيرة الثقفي قال : سمعت الشعبي يقول : قال النبي ﷺ : { الشفيع أولى من الجار والجار أولى من الجنب } ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا يونس عن الحسن : { أن رسول الله ﷺ قضى بالجوار . } ومن طريق سعيد بن منصور نا أبو الأحوص عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة قال : قال رسول الله ﷺ : { الشريك أولى بشفعته } . هذا كل ما جاء لهم مما يتعلقون به قد تقصيناه لهم ما نعلم لهم غير هذا أصلا ، وقبل كل شيء فهو كله أوله عن آخره مخالف لقول أبي حنيفة ؛ لأنه ليس في شيء من الأخبار التي أوردنا إلا إما الجار أحق على العموم ، فهي حجة لمن رأى الشفعة لكل جار ، وهم لا يرونها لكل جار ، لكن للملاصق وحده ، أو للذي طريقهما واحد متملك فقط وإما الجار الذي طريقهما واحد فقط : وهذا لا ننكره ، ولكن من غير هذه الأخبار فبطل تمويه الحنفيين بها جملة ، وحصل قولهم عاريا من موافقة شيء من الأخبار . ثم نظرنا هل فيها حجة لمن يرى الشفعة لكل جار : فبدأنا بالخبر عن أبي الزبير عن جابر فوجدناه لا حجة لهم فيه لوجهين : أحدهما أن كل ما لم يذكر فيه أبو الزبير سماعا من جابر ، ولا رواه الليث عنه ، فلم يسمعه من جابر ، لكن لا يدرى ممن هو أقر بذلك على نفسه فسقط هذا الخبر . والوجه الثاني أننا لو شهدنا جابرا رضي الله تعالى عنه يحدث به لما كان لهم فيه حجة ؛ لأن نصه { أن النبي ﷺ قضى بالشفعة والجوار } فأما الشفعة فقد عرفنا ما هي من أخبار أخر . وأما الجوار فما ندري ما هو من هذا الخبر أصلا . ومن فسر كلام رسول الله ﷺ من عقله بما لا يقتضيه لفظه فهو كاذب على رسول الله ﷺ مقول له ما لم يقل وقول القائل : قضى بالجوار ، لا دليل فيه على شيء من أحكام الشفعة ولعله البر للجار من أجل الجوار ، فهذا أبين بصحة وجوبه بالقرآن ، وبالسنن الصحاح فسقط تعلقهم به . ثم نظرنا في حديث عطاء عن جابر فوجدناه من طريق عبد الملك بن أبي سليمان وهو متكلم فيه ، ضعفه شعبة وغيره ، ثم لو صح لكان حجة لنا ؛ لأنه موافق لنا ، ولكنا لا نحتج بما لا نصححه وإن وافقنا ، لا كما يصنع من لا يتقي الله عز وجل فلا يزال يحتج بما وافقه ، وإن كان ضعيفا أو صحيحا ، ويرد الضعيف ، والصحيح إذا لم يوافق تقليده ثم نظرنا في الحديث الثالث فوجدناه أيضا من رواية عبد الملك بن أبي سليمان وهو ضعيف . ثم رواية عبدة وأحمد عن هشيم عن العرزمي جاءت بزيادة لم يذكرها سليمان بن داود وهي كون الطريق واحدا فلو صحت رواية العرزمي لكان الأخذ بزيادة العدلين أولى ، وقوله ليس له في أرضي طريق ، لا نخالف القول إذا كان طريقهما واحدا ؛ لأن الطريق المرعاة إنما هي إلى الأرض ، لا كونها في الأرض . ثم نظرنا في خبر علي ، وابن مسعود فوجدناه منقطعا ؛ لأن الحكم لم يدركهما ولا سمى من سمعه منه عنهما : فبطل ، ثم لو صح لم يكن لهم فيه متعلق أصلا ؛ لأنه إنما فيه : أنه عليه السلام قضى بالجوار وليس في هذا دليل على الشفعة أصلا . ثم نظرنا في خبر سمرة فوجدناه لا حجة لهم فيه ؛ لأن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة وحده فبطل تعلقهم به . ثم نظرنا في حديث أنس فوجدنا نصه { جار الدار أحق بالدار } فكان هذا ربما أمكن أن يكون حجة لمن جعل الشفعة لكل جار لولا ما نذكره إذا أتممنا الكلام في هذه الأخبار إن شاء الله تعالى . هذا وما نرى سماع عيسى بن يونس كان من ابن أبي عروبة إلا بعد اختلاطه ، وحسبك أن الذي رواه عنه ذكر أنه أخطأ فيه . وأيضا فليس فيه ذكر لشفعة أصلا ، والتكهن لا يحل ، ولعل المراد أنه أحق ببر أهل الدار ورفدهم ، فهذا أحسن وأولى لصحة ورود القرآن بذلك ، قال الله تعالى : { والجار ذي القربى والجار الجنب } وقد أوصى رسول الله ﷺ بالجار فبطل تعلقهم بأنه إنما أراد الشفعة ، وكان قولهم هذا كهانة وظنا ، والظن أكذب الحديث . ثم نظرنا في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فوجدناه في نهاية السقوط ؛ لأنه عن أيوب بن عتبة اليمامي وهو ضعيف ، ثم عن الفضل ، فإن كان ابن دلهم فهو ساقط ، وإن كان غيره فهو مجهول ، ثم لم يسمع قتادة من عبد الله بن عمرو بن العاص قط كلمة ، ولا اجتمع معه فبطل من كل وجه ثم لو صح لما كان فيه إلا الجار أحق بصقب أرضه ، فالقول فيه كالقول في حديث أنس سواء سواء . ثم نظرنا في حديث عائشة فوجدناه أسقطها كلها ؛ لأنه عن دلال بنت أبي المدل ولا يدرى من هي عمن : لا يدرى من هو ، ثم ليس فيه أيضا بيان أنه في الشفعة . لقد كان يلزم الحنفيين المتكهنين في الأخبار التي ذكرنا أن يأخذوه ؛ لأنه مثلها ولا فرق ، كهانة بكهانة . ثم نظرنا في حديث الشعبي فوجدناه لا شيء ؛ لأنه منقطع ، ثم هو عن هشام بن المغيرة الثقفي وهو ضعيف ثم نظرنا في خبر الحسن فوجدناه مرسلا ، ثم ليس فيه إلا أنه عليه السلام قضى بالجوار وليس في هذا من الشفعة أثر ولا عثير ولا إشارة وكما ذكرنا قبل . ثم نظرنا في حديث ابن أبي مليكة فوجدناه أيضا مرسلا ، ثم ليس فيه إلا الشريك أولى بصقبه ، وهذا لا ننكره ، بل نقول به . ثم نظرنا في حديث عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن أبيه فوجدناه لا متعلق لهم به ؛ لأنه ليس فيه إلا الجار أحق بصقبه ، وليس فيه للشفعة ذكر ولا أثر . وقد حدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أحمد بن زهير نا أبو نعيم الفضل بن دكين نا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الثقفي قال : سمعت عمرو بن الشريد يحدث عن الشريد عن النبي ﷺ قال : { المرء أحق وأولى بصقبه قلت لعمرو : ما صقبه ؟ قال : الشفعة ، قلت : زعم الناس أنها الجوار ؟ قال : الناس يقولون ذلك } فهذا راوي الحديث عمرو بن الشريد لا يرى الشفعة بالجوار ، ولا يرى لفظ ما روي يقتضي ذلك فبطل كل ما موهوا به . ثم لو صحت هذه الأحاديث ببيان واضح أن الشفعة للجار لكان حكمه عليه الصلاة والسلام وقوله ، وقضاؤه { فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة } يقضي على ذلك كله ويرفع الإشكال ، فكيف ولا بيان في شيء منها كما ذكرنا ، وأكثرها لا يصح ، ولا ينبغي أن يشتغل بها لسقوط طرقها وبالله تعالى التوفيق . ومن عظيم إقدام المتأخرين في زمانهم وأديانهم وعند الله تعالى قول بعضهم في الثابت عن رسول الله ﷺ من قوله { فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة } أن هذا اللفظ ليس من كلام النبي ﷺ فليت شعري أين وجدوا هذا ؟ ومن أخبرهم به ؟ والقوم قد رزقهم الله تعالى من استسهال الكذب في الدين حظا وافرا ونعوذ بالله من مثله . وقالوا فيما رويناه من طريق أبي داود نا محمد بن يحيى بن فارس نا الحسن بن الربيع نا ابن إدريس هو عبد الله عن ابن جريج عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أو عن سعيد بن المسيب أو عنهم جميعا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها . } قالوا : نعم ليست القسمة ولا التحديد موجبين فيها شفعة ، إنما تجب الشفعة بالبيع ، فكان هذا برهانا قويا على عدم الحياء من وجه قائله فقط وقد أعاذ الله رسوله عليه السلام من أن يتكلم بالسخف وبما لا معنى له . وقد علم كل ذي حس سليم أن الشفعة لا مدخل لها في القسمة فكيف تكون الشفعة في أرض قسمت ؟ أترى أحدهما يأخذ مال صاحبه مصادمة ؟ هذا محال . فكيف وهو خبر مسند ، مرة ذكر الثقات هذا اللفظ وحده عن رسول الله ﷺ ومرة أضافوه إلى لفظ آخر له عليه السلام كما روينا من طريق قاسم بن أصبغ نا عبيد الله بن محمد العمري نا أبو إبراهيم يحيى بن أبي قتيلة المدني نا مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة } . فظهر فساد الأقوال المذكورة ، فأشدها فسادا أقوال أبي حنيفة ؛ لأنه خالف جميع الأخبار ، ولم يتعلق لا بخبر صحيح ، ولا برواية سقيمة ، ولا بقول صاحب ، بل خالف كل رواية جاءت في ذلك عن صاحب ؛ لأن الرواية عنهم رضي الله عنهم كما قدمنا عن عمر ، وعثمان أن الحدود تقطع الشفعة . ورواية عن عمر بالشفعة للجار وزاد بعضهم الملازق ، ولا تعرف هذه اللفظة ، وحتى لو صحت فقد جاء عنه للجار جملة ، فهي زيادة على الملازق . وعن سعيد ، وأبي رافع ولم يذكرا أن لا شفعة لجار بينهما طريق غير متملك ، لا عن عمرو بن حريث ، ولا عن أحد من الصحابة . وأما قول مالك ، والشافعي : فإنهم تعلقوا بهذا الخبر وبمثله مما فيه { فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة } ؟ فقلنا : إن حديث معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر فيه { إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة } فكان هذا بيانا زائدا لا يحل تركه وزيادة عدل أخذها واجب . وأيضا : فإن قوله عليه السلام { إذا قسمت الأرض فلا شفعة } يوجب قولنا لا قولهم ، حتى لو لم يأت زيادة معمر ، لأنه وإن قسمت الأرض والدار ، وكان الطريق إليها متملكا لأهلها فلم يقسموه فلم تقسم تلك الأرض بعد ، لكن قسم بعضها وحد بعضها ، ولم يبطل النبي ﷺ قط الشفعة بقسمة البعض ، لكن بقسمة الكل وبالله تعالى التوفيق . اخر الشفعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق