1636 - مسألة : وأما إذا أعطى شيئا غير معين من جملة ، أو عددا كذلك ، أو ذرعا كذلك ، أو وزنا كذلك ، أو كيلا كذلك ، فهو باطل لا يجوز ، مثل : أن يعطي درهما من هذه الدراهم ، أو دابة من هذه الدواب أو خمسة دنانير من هذه الدنانير ، أو رطلا من هذا الدقيق ، أو صاعا من هذا التمر ، أو ذراعا من هذا الثوب ، وهكذا في كل شيء ، والصدقة بكل هذا ، والهبة والإصداق ، والبيع ، والرهن ، والإجارة ، باطل كل ذلك سواء فيما اختلفت أبعاضه أو لم تختلف - لا لشريك ولا لغيره ، ولا لغني ولا لفقير - لأنه لم يوقع الهبة ولا الصدقة ، ولا الإصداق ، ولا الرهن ، ولا الإجارة على شيء أبانه عن ملكه ، أو أوقع فيه حكم الرهن ، أو الإجارة ، فإذ ذلك كذلك ، فلم يخرج شيء من تلك الجملة عن ملكه ، ولا أوقع فيه حكما - : فلا شيء في ذلك ، وهذا هو أكل المال بالباطل ، وهذا خلاف ما تقدم ؛ لأن الجزء المسمى متيقن أنه لا جزء إلا وفيه حظ للمشتري ، أو المصدق ، أو الموهوب له ، أو المتصدق عليه ، أو المرتهن ، أو المستأجر - : روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر سألت الزهري عن الرجل يكون شريكا لأبيه فيقول له أبوه : لك مائة دينار من المال الذي بيني وبينك ؟ فقال الزهري : قضى أبو بكر ، وعمر : أنه لا يجوز ، حتى يحوزه من المال ويعزله . وبه إلى معمر عن سماك بن الفضل : كتب عمر بن عبد العزيز : أنه لا يجوز من النحل ، إلا ما أفرد ، وعزل ، وأعلم .
1637 - مسألة : ومن أعطي شيئا من غير مسألة ، ففرض عليه قبوله ، وله أن يهبه بعد ذلك - إن شاء - للذي وهبه له ، وهكذا القول في الصدقة ، والهدية ، وسائر وجوه النفع . برهان ذلك - : ما رويناه من طريق البزار نا إبراهيم بن سعيد الجوهري نا سفيان بن عيينة عن الزهري عن السائب بن يزيد عن حويطب بن عبد العزى عن ابن الساعدي عن عمر بن الخطاب قال : " قال رسول الله ﷺ : { ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ، ولا إشراف نفس ، فاقبله } لا نعلم حديثا رواه أربعة من الصحابة في نسق بعضهم عن بعض إلا هذا . ومن طريق مسلم نا أبو الطاهر نا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه { أن رسول الله ﷺ كان يعطي عمر العطاء فيقول له عمر : يا رسول الله أعطه أفقر إليه مني فقال رسول الله ﷺ خذه فتموله ، أو تصدق به ، وما جاءك من هذا المال - وأنت غير مشرف ولا سائل - : فخذه ، وما لا فلا تتبعه نفسك } . قال سالم : فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدا شيئا ، ولا يرد شيئا أعطيه " . نا أحمد بن محمد بن الجسور نا أحمد بن الفضل بن بهرام الدينوري نا محمد بن جرير الطبري نا الفضل بن الصباح نا عبد الله بن يزيد نا سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن خالد بن عدي الجهني " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { من جاءه من أخيه معروف فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه } . فهذه آثار متواترة لا يسع أحدا الخروج عنها ، وأخذ بذلك من الصحابة ابن عمر كما ذكرنا آنفا وأبوه عمر بن الخطاب - : كما روينا من طريق أحمد بن شعيب نا عمرو بن منصور ، وإسحاق بن منصور ، كلاهما عن الحكم بن نافع - هو أبو اليمان - نا شعيب - هو ابن أبي حمزة - عن الزهري أخبرني السائب بن يزيد أن حويطب بن عبد العزى أخبره أن عبد الله بن السعدي أخبره أن عمر بن الخطاب قال لي في خلافته : ألم أحدث أنك تلي من أعمال الناس أعمالا فإذا أعطيت العمالة كرهتها . قلت : إن لي أفراسا وأعبدا وأنا بخير ، فأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين قال له عمر : فلا تفعل - ثم ذكر له خبره مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو ما ذكرناه - فهذا عمر ينهى عن رد ما أعطي المرء . ومن طريق حماد بن سلمة ، نا ثابت البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة قال : ما أحد يهدي إلي هدية إلا قبلتها ، فأما أن أسأل ، فلم أكن لأسأل . ومن طريق الحجاج بن المنهال نا مهدي بن ميمون نا واصل مولى أبي عيينة عن صاحب له : أن أبا الدرداء قال : من آتاه الله عز وجل من هذا المال شيئا من غير مسألة ولا إشراف ، فليأكله ، وليتموله ومن طريق الحجاج بن المنهال نا عبد الله بن داود - هو الخريبي - عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت قال : رأيت هدايا المختار تأتي ابن عباس وابن عمر فيقبلانها . ومن طريق محمد بن المثنى نا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي قال : خذ من السلطان ما أعطاك . قال أبو محمد : هذا من طريق الأثر ، وأما من طريق النظر فإنه لا يخلو من أعطاه : سلطان أو غير سلطان ، كائنا من كان ، من بر أو ظالم ، من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها - : إما أن يوقن المعطى أن الذي أعطي حرام ، وإما أن يوقن أنه حلال ، وإما أن يشك فلا يدري أحلال هو أم حرام ؟ ثم ينقسم هذا القسم ثلاثة أقسام : إما أن يكون أغلب ظنه أنه حرام ، أو يكون أغلب ظنه أنه حلال ، وإما أن يكون كلا الأمرين ممكنا على السواء . فإن كان موقنا أنه حرام وظلم وغصب ، فإن رده فهو فاسق عاص لله تعالى ظالم ؛ لأنه يعين به ظالما على الإثم والعدوان بإبقائه عنده ، ولا يعين على البر والتقوى في انتزاعه منه ، وقد نهى الله تعالى عن ذلك وأمره بخلاف ما فعل بقوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } . ثم لا يخلو من أن يكون يعرف صاحبه الذي أخذ منه بغير حق أو لا يعرفه ، فإن كان يعرفه . فهنا زاد فسقه ، وتضاعف ظلمه ، وأتى كبيرة من الكبائر ، وصار أظلم من ذلك الظالم ؛ لأنه قدر على رد المظلمة إلى صاحبها وعلى إزالتها عن الظالم فلم يفعل ، بل أعان الظالم ، وأيده وقواه ، وأعان على المظلوم . وإن كان لا يعرف صاحبه فكل مال لا يعرف صاحبه فهو في مصالح المسلمين ، فالقول في هذا القسم كالقول في الذي قبله سواء سواء ، إذ منع المساكين والفقراء والضعفاء حقهم ، وأعان على هلاكهم ، وقوى الظالم بما لا يحل له ، وهذا عظيم جدا - نعوذ بالله منه . فإن كان يوقن أنه حلال فإن الذي أعطاه مكتسب بذلك حسنات جمة بلا شك ، فهو في رده عليه ما أعطاه غير ناصح ، له ، إذ منعه الحسنات الكثيرة ، وقد قال رسول الله ﷺ : { الدين النصيحة الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم } فمن لم ينصح لأخيه المسلم في دينه فقد عصى الله عز وجل في ذلك ، ولعله إن رده لا يحضر المردود عليه بنية أخرى في بذله ، فيكون قد حرمه الأجر وصد عن سبيل من سبل الخير . وإن كان لا يدري أحلال هو أم حرام ؟ فهذه صفة كل ما يتعامل به الناس إلا في اليسير الذي يوقن فيه أنه حلال ، أو أنه حرام ، فلو حرم أخذ هذا لحرمت المعاملات كلها إلا في النادر القليل جدا . وقد كان على عهد رسول الله ﷺ سرقات ومعاملات فاسدة غير مشهورة ، فما حرم عليه الصلاة والسلام قط من أجل ذلك أخذ مال يتعامل به الناس ، إلا أن قوما من أهل الورع اتقوا ما الأغلب عندهم أنه حرام ، فما كان من هذا القسم فهو داخل في باب وجوب النصيحة بأخذه ، فإن طابت نفسه عليه فحسن ، وإن اتقاه فليتصدق به فيؤجر على كل حال ، فهذا برهان ظاهر لائح . وبرهان آخر - : وهو أن من الجهل المفرط ، والعمل في الدين بغير علم أن يكون المرء يستسهل بلا مؤنة أخذ مال زيد في بيع يبيعه منه ، أو في إجارة يؤجر نفسه في عمل يعمله ، له ، ثم يتجنب أخذ مال ذلك الزيد نفسه إذا أعطاه إياه طيب النفس به ، فهذا عجب عجيب ، لا مدخل له في الورع أصلا ؛ لأنه إن كان يتقي كون ذلك المال خبيثا فقد أخذه في البيع والإجارة فهذا يكاد يكون رياء مشوبا بجهل . فإن قيل : يكره المرء أخذه ؟ قيل : هذا خلاف فعل رسول الله ﷺ والرغبة عن سنته نعوذ بالله من هذا - : كما روينا من طريق البخاري نا محمد بن بشار نا محمد بن أبي عدي عن شعبة عن سليمان - هو الأعمش - عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت ، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت } ومن رغب عن سنته فما وفق لخير صح أنه عليه الصلاة والسلام قال : { من رغب عن سنتي فليس مني } . قال أبو محمد : وكان مالك ، والشافعي لا يردان ما أعطيا ، ولا يسألان أحدا شيئا ، فإن احتج المخالف بحديث الصعب بن جثامة { إذ أهدى إلى النبي ﷺ حمار وحش فرده عليه وقال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم } . وبما روينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : { لقد هممت أن لا أقبل هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي } . ومن طريق أبي داود نا محمد بن عمرو والرازي نا سلمة بن الفضل نا محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { وايم الله لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية إلا أن يكون من مهاجري قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي } . وبما رويناه من طريق البخاري نا محمد بن يوسف نا الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير أن حكيم بن حزام قال { سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ، ثم قال : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه ، وكان كالذي يأكل ولا يشبع ، واليد العليا خير من اليد السفلى قال حكيم فقلت : يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ بعدك أحدا شيئا حتى أفارق الدنيا } ، فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا ، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا ، فقال عمر : يا معشر المسلمين إني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه - فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس شيئا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى توفي " . وبما رويناه من طريق أبي ذر أنه قال للأحنف بن قيس وقد سأله الأحنف عن العطاء ؟ فقال له أبو ذر : خذه ، فإن فيه اليوم معونة ، فإذا كان ثمنا لدينك فلا تأخذه . فكل هذا لا حجة لهم فيه - : أما حديث { لقد هممت أن لا أقبل هبة } فإن سعيد بن أبي سعيد لا يخلو : إما أن يكون سمعه من أبي هريرة أو لم يسمعه . فإن كان لم يسمعه فهو منقطع ، وإن كان سمعه فإنما فيه : أنه عليه السلام هم بذلك ، لا أنه أنفذه وهو موافق لمعهود الأصل ، لأن الأصل كان أن المعطى مخير إن شاء قبل وإن شاء رد . وحديث عمر رضي الله عنه وارد بإبطال الحال الأول ، ولا شك في ذلك حين أمره عليه الصلاة والسلام بقبول ما جاء من المال من غير مسألة ولا إشراف نفس . فصح أن هذا الهم قد صح نسخه بيقين لا مرية فيه ، فمن ادعى أن الموقن نسخه قد دعا ونسخ الناسخ ، فقد ادعى الباطل ، وما لا علم له به ، وحاش الله من جواز ذلك في الدين ، إذ لو كان ذلك لما علمنا صحيح الدين من سقيمه فيه ولا ما يلزمنا مما لا يلزمنا ، ومعاذ الله من هذا - فبطل التعلق بهذا الخبر جملة . وأما الآخر { لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية } فرواية سلمة بن الفضل الأبرش - وهو ساقط مطرح - فبطل التعلق به جملة . وأما حديث الصعب بن جثامة فقد بين عليه الصلاة والسلام السبب الذي من أجله رده وهو كونهم محرمين ، وهذا بعض الأحوال التي عمها حديث عمر ، فهو مستثنى منه ، وكذلك نقول : إن المحرم إذا أهدي له صيد فهو مخير في قبوله ورده ، وهكذا روينا عن عائشة أم المؤمنين ، وابن عمر أنهما كانا يقبلان الهدايا ويردان الصيد إن أهدي لهما وهما محرمان . وأما حديث حكيم - فبين جدا ؛ لأنه لما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيمن أخذ المال بإشراف نفس ما قال من أنه { لا يبارك له فيه } وعلم من نفسه الإشراف إلى المال لم يستجز أخذه وهكذا نقول : إنه إنما يلزم أخذه من كان غير مشرف النفس إليه . وبرهان ذلك - : إخباره عن نفسه أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاه ، ثم سأله فأعطاه ، ثم سأله فأعطاه - كذا جاء في بعض الروايات حتى خاطبه بما خاطبه به . وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب { أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكيم بن حزام يوم حنين عطاء فاستقله ، فزاده } ، ثم ذكر الحديث المذكور ، وهذا غاية إشراف النفس ؛ وروينا من طريق أبي داود الطيالسي نا ابن أبي ذئب عن مسلم بن جندب عن حكيم بن حزام قال { : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فألحفت في المسألة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أنكر مسألتك يا حكيم إن هذا المال حلو خضر } . وذكر الحديث . فهذا بيان لائح ، ولا يجوز أن يظن بحكيم رضي الله عنه غير هذا . وأما قول أبي ذر فصحيح ؛ لأن ما أعطى المرء وطلب عوضا منه فحرام عليه أخذه ، وإنما يلزم أخذ ما أعطي دون شرط فاسد - : روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن ذر بن عبد الله المرهبي عن عبد الله بن مسعود أن رجلا سأله فقال : لي جار يأكل الربا ، وأنه لا يزال يدعوني . فقال له ابن مسعود : مهناه لك ، وإثمه عليك ، قال سفيان : إن عرفته بعينه فلا تأكله . قال أبو محمد : صدق سفيان الأكل غير الأخذ ، لما عرف أن عينه حرام ؛ لأنه يقدر في أخذه على أن يؤدي فيه ما افترضه الله تعالى عليه من إيصاله إلى أهله وإزالته عن المظالم ، ولا يقدر على ذلك في الأكل ، ففرض عليه اجتناب أكله . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق السبيعي عن الزبير - هو ابن الخريت - عن سلمان الفارسي قال : إذا كان لك صديق عامل ، أو جار عامل ، أو ذو قرابة عامل ، فدعاك إلى طعام فاقبله ، فإنه مهناه لك وإثمه عليه . وبه إلى عبد الرزاق عن معمر قال : كان عدي بن أرطاة - هو عامل البصرة - يبعث إلى الحسن كل يوم بجفان ثريد فيأكل الحسن منها ويطعم أصحابه قال : وبعث عدي إلى الحسن ، والشعبي ، وابن سيرين ، فقبل الحسن ، والشعبي ، ورد ابن سيرين . قال : وسئل الحسن عن طعام الصيارفة ؟ فقال : قد أخبركم الله تعالى عن اليهود ، والنصارى أنهم يأكلون الربا وأحل لكم طعامهم . وبه إلى معمر عن منصور بن المعتمر قلت لإبراهيم النخعي : عريف لنا يهمط ويصيب من الظلم فيدعوني فلا أجيبه فقال إبراهيم : الشيطان عرض بهذا ليوقع عداوة ، وقد كان العمال يهمطون ويصيبون ثم يدعون فيجابون ، قلت له : نزلت بعامل فنزلني وأجازني ، قال : اقبل ، قلت : فصاحب ربا ؟ فقال : اقبل ما لم تره بعينه . قال علي : وهكذا أدركنا من يوثق بعلمه - وبالله تعالى التوفيق .
1638 - مسألة : ولا تحل الرشوة : وهي ما أعطاه المرء ليحكم له بباطل ، أو ليولي ولاية ، أو ليظلم له إنسان - فهذا يأثم المعطي والآخذ . فأما من منع من حقه فأعطى ليدفع عن نفسه الظلم فذلك مباح للمعطي ، وأما الآخذ فآثم ، وفي كلا الوجهين فالمال المعطى باق على ملك صاحبه الذي أعطاه كما كان ، كالغصب ولا فرق - ومن جملة هذا ما أعطيه أهل دار الكفر في فداء الأسرى ، وفي كل ضرورة ، وكل هذا متفق عليه ، إلا ملك أهل دار الكفر ما أخذوه في فداء الأسير وغير ذلك ، فإن قوما قالوا : قد ملكوه - وهذا باطل ؛ لأنه قول لم يأت به قرآن ، ولا سنة ، ولا قياس ، ولا نظر ، وقولنا في هذا هو قول الشافعي ، وأبي سليمان ، وغيرهما . برهان صحة قولنا - : قول الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فنسأل من خالفنا : أبحق أخذ الكفار ما أخذوا منا في الفداء وغيره أم بباطل ؟ فمن قولهم : بالباطل ، ولو قالوا غير ذلك كفروا ، وفي هذا كفاية ؛ لأنه خطاب لجميع الجن والإنس ، وللزوم الدين لهم . وقول رسول الله ﷺ { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . فإن قيل : لم أبحتم إعطاء المال في دفع الظلم ، وقد رويتم من طريق أبي هريرة ، قال : { جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : فلا تعطه مالك ، قال : أرأيت إن قاتلني ؟ قال : قاتله ، قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : فأنت شهيد ، قال : أرأيت إن قتلته ؟ قال : فهو في النار } . وبالخبر المأثور { لعن الله الراشي والمرتشي } . قال أبو محمد : خبر لعنه الراشي إنما رواه الحارث بن عبد الرحمن وليس بالقوي - وأيضا - فإن المعطي في ضرورة دفع الظلم ليس راشيا . وأما الخبر في المقاتلة فهكذا نقول : من قدر على دفع الظلم عن نفسه لم يحل له إعطاء فلس فما فوقه في ذلك ، وأما من عجز فالله تعالى يقول : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . وقال عليه السلام : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } فسقط عنه فرض المقاتلة والدفاع ، وصار في حد الإكراه على ما أعطى في ذلك . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } وقد ذكرناه بإسناده فيما سلف من ديواننا هذا - والحمد لله رب العالمين . وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من طريق أبي موسى الأشعري : { أطعموا الجائع وفكوا العاني } وهذا عموم لكل عان عند كل كافر أو مؤمن بغير حق . روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري ، ومعمر قال : معمر عن الحسن البصري ، وقال سفيان : عن إبراهيم النخعي ، ثم اتفق الحسن ، وإبراهيم ، قالا جميعا : ما أعطيت مصانعة على مالك ودمك ، فإنك فيه مأجور - وبالله تعالى التوفيق .
1639 - مسألة : وأما من نصر آخر في حق ، أو دفع عنه ظلما ، ولم يشترط عليه في ذلك عطاء ، فأهدى إليه مكافأة ، فهذا حسن لا نكرهه ؛ لأنه من جملة شكر المنعم ، وهدية بطيب نفس ، وما نعلم قرآنا ولا سنة في المنع من ذلك - وقد روينا عن علي ، وابن مسعود المنع من هذا ، ولا نعلم برهانا يمنع منه - وبالله تعالى التوفيق .
1640 - مسألة : ولا يحل السؤال تكثرا إلا لضرورة فاقة ، أو لمن تحمل حمالة ، فالمضطر فرض عليه أن يسأل ما يقوته هو وأهله مما لا بد لهم منه ، من : أكل ، وسكنى ، وكسوة ، ومعونة ، فإن لم يفعل فهو ظالم ، فإن مات في تلك الحال فهو قاتل نفسه . وأما من طلب غير متكثر فليس مكروها . وكذلك من سأل سلطانا فلا حرج في ذلك - : روينا من طريق مسلم حدثني أبو الطاهر أخبرني عبد الله بن وهب أخبرني الليث هو ابن سعد - عن عبيد الله بن أبي جعفر عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : { ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم } . ومن طريق مسلم نا أبو كريب نا ابن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر } . ومن طريق مسلم نا يحيى بن يحيى نا حماد بن زيد عن هارون بن رئاب حدثني كنانة بن نعيم العدوي عن قبيصة بن المخارق الهلالي ، { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له : يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، أو قال سدادا من عيش ، ورجل أصابته فاقة حتى يقوت ثلاثة من ذوي الحج من قومه فيقولون : لقد أصابت فلانا فاقة ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، أو قال : سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا } . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمود بن غيلان قال : نا وكيع نا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن زيد بن عقبة عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله ﷺ : { المسألة كد يكد الرجل بها وجهه ، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان ، أو في الأمر لا بد له منه } . فهذا نص ما قلنا حرفا بحرف - ولله الحمد . ومن طريق النظر : أننا قد ذكرنا في " كتاب الزكاة " من ديواننا هذا وجوب قيام ذوي الفضل من المال بمن لا مال معه ، يقوم منه بنفسه وعياله ، فإذ ذلك كذلك فالمحتاج إنما يسأل حقه الواجب ، ودينه اللازم ، الذي على الحاكم أن يحكم له به ، وله أخذه كيف قدر إن منعه ، فلا غضاضة عليه في ذلك . وأما السلطان فليس يسأل من ماله شيء ، إنما بيده أموال المسلمين ، فلا حرج على المسلم أن يسأل من أموال المسلمين الذين هو أحدهم . وأما سؤال غير المتكثر فقد ذكرنا في " كتاب الحج { قول رسول الله ﷺ لأبي قتادة وأصحابه في الحمار الذي عقروه : معكم منه شيء ؟ فقلت : نعم : فناولته العضد فأكلها حثى نفذها ، وهو محرم . } وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد الخدري الذي رقي على قطيع من الغنم : { اقتسموا واضربوا لي بسهم معكم }
1641 - مسألة : وإعطاء الكافر مباح ، وقبول ما أعطى هو كقبول ما أعطى المسلم - : روينا من طريق البخاري نا سهل بن بكار نا وهيب - هو ابن خالد - عن عمرو بن يحيى عن عباس الساعدي عن أبي حميد الساعدي قال { : غزونا مع رسول الله ﷺ تبوك وأهدى ملك آيلة للنبي ﷺ بغلة بيضاء وكساه بردا } . ومن طريق البخاري نا عبيد بن إسماعيل نا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن { أسماء بنت أبي بكر قالت : قدمت أمي علي - وهي مشركة - فاستفتيت رسول الله ﷺ فقال : صلي أمك } . ومن طريق مسلم نا قتيبة عن مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { في كل كبد رطبة أجر } . فإن قيل : فأين أنتم عما رويتم من طريق ابن الشخير عن عياض بن حمار { أنه أهدى إلى رسول الله ﷺ هدية ، فقال : أسلمت ؟ قلت لا ، قال : إني نهيت عن زبد المشركين } . ومن طريق الحسن عن عياض بن حمار مثله ، وقال : فأبى أن يقبلها - قال الحسن : زبد المشركين رفدهم ؟ قلنا : هذا منسوخ بخبر أبي حميد الذي ذكرنا ؛ لأنه كان في تبوك ، وكان إسلام عياض قبل تبوك - وبالله تعالى التوفيق ==
* ومن (مسأله 1642 - 1649)
كتاب الهبات
1642 - مسألة : لا تقبل صدقة من مال حرام بل يكتسب بذلك إثما زائدا لقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . فكلما تصرف في الحرام فقد زاد معصية وإذا زاد معصية زاد إثما قال الله تعالى : { من يعمل سوءا يجز به } .
1643 - مسألة: ولا يحل لأحد أن يمن بما فعل من خير إلا من كثر إحسانه وعومل بالمساءة , فله أن يعدد إحسانه
قال الله عز وجل : {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}.
روينا من طريق شعبة سمعت سليمان هو الأعمش عن سليمان بن مسهر عن خرشة بن الحر عن أبي ذر قال رسول الله ﷺ : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة , ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم , ولهم عذاب أليم : المنان بما أعطى , والمسبل إزاره , والمنفق سلعته بالحلف الكاذبة.
ومن طريق مسلم نا شريح بن يونس نا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن يحيى بن عمارة عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد لما فتح رسول الله ﷺ حنينا قسم الغنائم فأعطى المؤلفة قلوبهم فبلغه أن الأنصار يحبون أن يصيبوا ما أصاب الناس فقام رسول الله ﷺ فخطبهم فقال : يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي , وعالة فأغناكم الله بي , ومتفرقين فجمعكم الله بي ويقولون : الله ورسوله أمن فقال : ألا تجيبونني , أما إنكم لو شئتم أن تقولوا كذا , وكان من الأمر كذا أشياء ذكر عمرو أنه لا يحفظها فهذا موضع إباحة تعديد الإحسان وبالله تعالى التوفيق.
1644 - مسألة: وهبة المرأة ذات الزوج , والبكر ذات الأب , واليتيمة , والعبد , والمخدوع في البيوع , والمريض مرض موته , أو مرض غير موته , وصدقاتهم : كهبات الأحرار , واللواتي لا أزواج لهن , ولا آباء كهبات الصحيح ، ولا فرق.
وقد ذكرنا
برهان ذلك فيما سلف من كتابنا. وجملة ذلك : أن الله تعالى ندب جميع البالغين المميزين إلى الصدقة , وفعل الخير , وإنقاذ نفسه من النار , وكل من ذكرنا متوعد بلا خلاف من أحد " فلا يحل منعهم من القرب إلا بنص , ولا نص في ذلك وبالله تعالى التوفيق.
1645 - مسألة: والصدقة للتطوع على الغني جائزة وعلى الفقير , ولا تحل لأحد من بني هاشم , والمطلب ابني عبد مناف , ولا لمواليهم , حاش " الحبس " فهو حلال لهم , ولا تحل صدقة التطوع على من أمه منهم إذا لم يكن أبوه منهم.
وأما الهبة , والهدية , والعطية , والإباحة , والمنحة , والعمرى , والرقبى : فكل ذلك حلال لبني هاشم , والمطلب ومواليهم هذا كله لا خلاف فيه حاش دخول بني المطلب فيهم , وحاش دخول الموالي فيهم , وحاش جواز صدقة التطوع لهم , فإن قوما أجازوها لهم.
روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان نا شعبة نا الحكم ، هو ابن عتيبة ، عن ابن أبي رافع هو عبيد الله عن أبيه أن رسول الله ﷺ استعمل رجلا من بني مخزوم على الصدقة فأراد أبو رافع أن يتبعه فقال له رسول الله ﷺ : إن الصدقة لا تحل لنا , وإن مولى القوم منهم. فهذا عموم لكل صدقة.
ومن طريق أبي داود نا مسدد نا هشيم عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب أخبرني جبير بن مطعم أن رسول الله ﷺ قال له : إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ، ولا إسلام , وإنما نحن وهم شيء واحد وشبك بين أصابعه.
فإن قيل : قد صح قول رسول الله ﷺ : كل معروف صدقة فإن أخذتم بظاهر هذا الخبر فامنعوهم من كل بر وهذا ما لا يقوله أحد ، ولا أنتم , وإلا فلا تمنعوهم إلا ما اتفق عليه : أنه لا يحل لهم وهو صدقة الفرض فقط.
قلنا : قوله عليه الصلاة والسلام : كل معروف صدقة قد خصه عطاؤه لبني هاشم , كالبعير الذي أعطى عليا من النفل من الخمس , ومن المغنم , وسائر هباته عليه الصلاة والسلام لهم , فوجب خروج ذلك بدليله. ووجدنا كل معروف وإن كان يقع عليه اسم صدقة فله اسم آخر يخصه : كالقرض , والهبة , والهدية , والإباحة , والحمالة , والضيافة , والمنحة , وسائر أسماء وجوه البر. ووجدنا الصدقة التطوع ليس لها اسم غير " الصدقة " وقد صح أن الصدقة محرمة على آل محمد ﷺ ومواليهم , فوجب ضرورة أن تكون الصدقة التطوع حراما عليهم ; لأنها هي الصدقة التي لا اسم لها غير " الصدقة " ، ولا خلاف في تحريم الصدقة المفروضة عليهم وهي الزكاة.
فإن قيل : فقد رويتم من طريق أبي داود نا محمد بن عبيد المحاربي نا محمد بن فضيل عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن كريب مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : بعثني رسول الله ﷺ في إبل أعطاه إياها من الصدقة.
قلنا : هذا صحيح , ولا يخلو من أحد وجهين : أحدهما وهو ظاهر الخبر أن ابن عباس هو المعطي لتلك الإبل من صدقة لازمة له , فبعثه عليه الصلاة والسلام فيها إلى حيث يجمع إبل الصدقة.
والثاني أنه حتى لو صح أنه عليه الصلاة والسلام هو أعطى تلك الإبل لأبن عباس وليس ذلك في الخبر لكان ذلك منسوخا بتحريم الصدقة عليهم ; لأن تحريم الصدقة عليهم هو الرافع المعهود الأصل وللحال الأول بلا شك من إباحة الصدقة لهم كسائر الناس ,
ومن ادعى عود المنسوخ ناسخا فقد كذب إلا أن يشهد له نص بين بذلك.
وأما الغني : فقد
روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عدي بن الخيار أن رجلين حدثاه أنهما سألا النبي ﷺ من الصدقة فقال : إن شئتما , ولا حظ فيها لغني ، ولا لقوي مكتسب.
قلنا : هذا الخبر وكل ما جاء بهذا اللفظ فإنما هو على " الصدقة المفروضة " التي حرمت على الأغنياء إلا من خصه النص منهم : من والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فقط.
برهان ذلك
ما روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني عمران بن بكار حدثني علي بن عياش نا شعيب ، هو ابن أبي حمزة حدثني أبو الزناد حدثني عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة يحدث عن رسول الله ﷺ فذكر حديثا فيه قال رجل : لاتصدقن بصدقة , فوضعها في يد سارق , فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق فقال : اللهم لك الحمد لاتصدقن بصدقة , فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية , فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية , فقال : اللهم لك الحمد لاتصدقن بصدقة , فخرج بصدقته فوضعها في يد غني , فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على غني , فقال : اللهم لك الحمد على سارق , وعلى زانية , وعلى غني , فأتي فقيل له : أما صدقتك فقد تقبلت وذكر الخبر. فهذا بيان في جواز الصدقة على الغني , والصالح , والطالح.
1646 - مسألة: وللعبد أن يتصدق من مال سيده بما لا يفسد , واستدركنا في تصدق العبد الخبر الذي قد ذكرناه , أن رسول الله ﷺ كان يجيب دعوة المملوك.
وروينا من طريق أحمد بن شعيب نا قتيبة نا حاتم ، هو ابن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد قال : سمعت عميرا مولى آبي اللحم قال : أمرني مولاي أن أقدد لحما فجاءني مسكين فأطعمته , فعلم بذلك مولاي فضربني , فأتيت رسول الله ﷺ فدعاه فقال : لم ضربته فقال : يطعم طعامي بغير أن آمره , فقال رسول الله ﷺ : الأجر بينكما.
ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة , وابن نمير , وزهير بن حرب كلهم عن حفص بن غياث عن محمد بن زيد عن عمير مولى آبي اللحم قال : كنت مملوكا فسألت رسول الله ﷺ أأتصدق من مال موالي شيئا قال : نعم , والأجر بينكما نصفان
قال أبو محمد : لا يخلو مال العبد من أن يكون له كما نقول نحن , أو يكون لسيده كما يقولون , فإن كان مال فصدقة المرء من ماله فعل حسن مندوب إليه , وإن كان لسيده فهذا نص جلي بإباحة الصدقة له منه فليعضدوا بالجندل. وقد بينا أن قوله تعالى : {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} ليس بضرورة العقل والحس في كل مملوك ; لأننا نراهم لا يعجزون عن شيء مما يعجز عنه الحر فصح أنه تعالى إنما عنى بعض العبيد ممن هذه صفته , كما قال تعالى : {وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء} وليس كل أبكم كذلك.
فصح أنه تعالى أراد من البكم من هذه صفته ويلزمهم على هذا أن يسقطوا عنه الصلاة , والوضوء والغسل , والصيام , إذا كان عندهم لا يقدر على شيء.
فإن قالوا : هذه أعمال أبدان.
قلنا : قد تركتم احتجاجكم بظاهر الآية بعد وأتيتم بدعوى في الفرق بين أعمال الأبدان وأعمال الأموال بلا
برهان والحج عمل بدن فألزموه إياه.
فإن قالوا : قد يجبر بالمال.
قلنا فأسقطوا عنه الصوم بهذا الدليل السخيف ; لأنه يجبر بالمال من عتق المكفر وإطعامه وبالله تعالى التوفيق.
الإباحة
1647- مسألة: والإباحة جائزة في المجهول , بخلاف العطية , والهدية والصدقة , والعمرى , والرقبى , والحبس , وغير ذلك , وذلك كطعام يدعى إليه قوم يباح لهم أكله , ولا يدرى كم يأكل كل واحد. وهذا منصوص من عهد رسول الله ﷺ وأمره بإجابة الدعوة والأكل فيها وكأمر رسول الله ﷺ من شاء أن يقتطع إذ نحر الهدي. وكأمره عليه الصلاة والسلام المرسل بالهدي إذا عطب أن ينحره , ويخلي بينه وبين الناس. ونحو هذا وبالله تعالى التوفيق.
1648 - مسألة: وجائز للمرء أن يأكل من بيت والده , ووالدته , وابنه , وابنته , وأخيه , وأخته , شقيقتين , أو لأب أو لأم , وولد ولده , وجده , وجدته , كيف كانا , وعمه , وعمته , كيف كانا , وخاله , وخالته , كيف كانا , وصديقه , وما ملك مفاتحه , سواء رضي من ذكرنا أو سخط , أذنوا , أو لم يأذنوا , وليس له أن يأكل الكل.
برهان ذلك : قول الله تعالى في نص القرآن
وقوله تعالى : {من بيوتكم أو بيوت آبائكم} نص ما قلنا ; لأن " من " للتبعيض وقوله عليه الصلاة والسلام إن ولد أحدكم من كسبه , وإن أطيب ما أكل أحدكم من كسبه.
المنحة
1649 - مسألة: والمنحة جائزة , وهي في المحتلبات فقط , يمنح المرء ما يشاء من إناث حيوانه من شاء للحلب. وكدار يبيح سكناها , ودابة يمنح ركوبها , وأرض يمنح ازدراعها , وعبد يخدمه , فما حازه الممنوح من كل ذلك فهو له , لا طلب للمانح فيها , وللمانح أن يسترد عين ما منح متى شاء سواء عين مدة أو لم يعين , أشهد أو لم يشهد ; لأنه لا يحل مال أحد بغير طيب نفسه إلا بنص , ولا نص في هذا , وتعيينه المدة : عدة.
وقد ذكرنا أن " الوعد " لا يلزم الوفاء به في " باب النذور , والأيمان " من كتابنا هذا , فأغنى عن إعادته. والإزراع , والإسكان , والإفقار , والإمتاع , والإطراق , والإخدام , والإعراء , والتصيير : حكم ما وقع بهذه الألفاظ كحكم المنحة في كل ما ذكرنا , سواء بسواء ، ولا فرق. وهذا كله قول أبي حنيفة , والشافعي , وداود , وجميع أصحابهم. فالإزراع يكون في الأرض , يجعل المرء لأخر أن يزرع هذه الأرض مدة يسميها , أو طول حياته والإسكان يكون في البيوت , وفي الدور , والدكاكين كما ذكرنا. والإفقار : يكون في الدواب التي تركب. والإطراق : يكون في الفحول تحمل على الإناث. والإخدام : يكون في الرقيق الذكور والإناث. والإمتاع : يكون في الأشجار ذوات الحمل , وفي الثياب , وفي جميع الأثاث ,
وكذلك التصيير.
وكذلك الجعل والإعراء : يكون في حمل النخل , فكل هذا ما قبضه المجعول له ذلك , فلا رجوع لصاحب الرقبة فيه , وما لم يقبضه المجعول له كل ذلك , فلصاحب الرقبة استرجاع رقبة ماله , ومنع المجعول له مما جعل له.
روينا من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : نعم المنيحة اللقحة الصفي منحة , والشاة الصفي تروح بإناء وتغدو بإناء.
وقد ذكرنا قوله عليه الصلاة والسلام من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه.
ومن طريق البخاري نا عبد الله بن يوسف نا ابن وهب نا يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال : قدم المهاجرون المدينة من مكة وليس بأيديهم شيء , وكان الأنصار أهل الأرض والعقار , فقاسمهم الأنصار ، رضي الله عنهم ، على أن يعطوهم ثمار أموالهم كل عام , ويكفوهم العمل والمؤنة. وكانت أم سليم أم أنس بن مالك أعطت رسول الله ﷺ عذاقا فأعطاهن رسول الله ﷺ أم أيمن مولاته أم أسامة بن زيد , فلما فرغ رسول الله ﷺ من خيبر رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم , فرد عليه السلام إلى أم سليم عذاقها , وأعطى عليه الصلاة والسلام أم أيمن مكانهن من حائطه.
وأما الأرتجاع متى شاء , فإنه لم يهب الأصل , ولا الرقبة , فلا يجوز من ماله إلا ما طابت به نفسه , فما دام طيب النفس فيما يحدث الله تعالى في ماله فهو جائز عليه , فإذا أحدث الله تعالى شيئا في ماله لم تطب به نفسه فهو ماله , حرام على غيره , بقوله عليه الصلاة والسلام : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام وإنما طيب النفس حين وجود الشيء , لا قبل خلقه وبالله تعالى التوفيق. ==
حتي 1650==
كتاب الهبات
العمرى والرقبى
1650 - مسألة: العمرى والرقبى : هبة صحيحة تامة , يملكها المعمر والمرقب , كسائر ماله , يبيعها إن شاء , وتورث عنه , ولا ترجع إلى المعمر ، ولا إلى ورثته سواء اشترط أن ترجع إليه أو لم يشترط وشرطه لذلك ليس بشيء. والعمرى هي أن يقول : هذه الدار , وهذه الأرض , أو هذا الشيء عمرى لك , أو قد أعمرتك إياها , أو هي لك عمرك أو قال : حياتك , أو قال : رقبى لك , أو قد أرقبتكها كل ذلك سواء.
وهو قول أبي حنيفة , والشافعي , وأحمد , وأصحابهم وبعض أصحابنا ;
وهو قول طائفة من السلف :
كما روينا من طريق وكيع نا شريك عن عبد الله بن محمد ابن الحنفية عن أبيه قال : قال علي بن أبي طالب : العمرى بتات , ومن خير فقد طلق.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عمرو بن دينار عن طاووس عن حجر المدري عن زيد بن ثابت قال : العمرى للوارث.
ومن طريق معمر عن أيوب السختياني عن نافع سأل رجل ابن عمر عمن أعطى ابنا له بعيرا حياته فقال ابن عمر : هو له حياته وموته.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن طاووس ، عن ابن عباس قال : من أعمر شيئا فهو له.
ومن طريق ابن أبي شيبة نا يحيى بن سعيد عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن طاووس ، عن ابن عباس قال : العمرى , والرقبى سواء.
ومن طريق وكيع نا شعبة ، عن ابن نجيح عن مجاهد قال : قال علي بن أبي طالب : العمرى , والرقبى سواء وصح أيضا عن جابر بن عبد الله في أحد قوليه : من أعمر شيئا فهو له أبدا وعن شريح , وقتادة , وعطاء بن أبي رباح , ومجاهد , وطاووس , وإبراهيم النخعي.
روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا هشيم نا المغيرة بن مقسم قال : سألت إبراهيم النخعي عمن أسكن آخر دارا حياته فمات المسكن والمسكن قال : ترجع إلى ورثة المسكن فقلت : أليس يقال : من ملك شيئا حياته فهو لورثته من بعده فقال إبراهيم : إنما ذلك في العمرى
وأما السكنى والغلة , والخدمة , فإنها ترجع إلى صاحبها
وهو قول سفيان الثوري , والحسن بن حي , والأوزاعي , ووكيع ; وأحد قولي الزهري , إلا أن عطاء , والزهري قالا : إن جعل العمرى بعد المعمر في وجه من وجوه البر , أو لأنسان آخر غير نفسه : نفذ ذلك كما جعله.
وقالت طائفة : العمرى : هبة صحيحة إذا أعمرها له ولعقبه ,
فأما إن لم يقل : له ولعقبه , فهي راجعة إلى المعمر , أو إلى ورثته إذا مات المعمر وهو قول صح عن جابر بن عبد الله , وعروة بن الزبير , وأحد قولي الزهري .
وبه يقول أبو ثور , وبعض أصحابنا
وقالت طائفة : العمرى راجعة إلى المعمر , أو إلى ورثته على كل حال , فإن قال : أعمرتك هذا بشيء لك ولعقبك : كانت كذلك , فإذا انقرض المعمر وعقبه : رجعت إلى المعمر , أو إلى ورثته وهو قول روي عن القاسم بن محمد , ويحيى بن سعيد الأنصاري
وهو قول مالك , والليث
قال أبو محمد :
فنظرنا فيما احتج به من ذهب مذهب مالك , فوجدناهم يذكرون قول الله تعالى : {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}
وقال تعالى : {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها} قالوا : فكان كذلك كل من أعمر عمرى وذكروا الخبر المسلمون عند شروطهم وادعوا ما رويناه من طريق ابن وهب بلغني عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق " أن عائشة أم المؤمنين كانت تعمر بني أخيها حياتهم , فإذا انقرض أحدهم قبضت مسكنه , فورثنا نحن ذلك كله اليوم عنها , ما نعلم لهم شيئا غير هذا أصلا , وكله لا حجة لهم فيه : أما خبر عائشة ، رضي الله عنها ، فباطل , وهذه آفة المرسل , والذي لا شك فيه أن عبد الرحمن بن القاسم , وأباه القاسم , وجده محمدا , لم يرثوا عائشة , ولا صار إليهم بالميراث عنها قيمة خردلة ; لأن محمدا قتل في حياتها قبل موتها بنحو عشرين سنة , وإنما ورثها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر فقط ; لأنه كان ابن شقيقها , فحجب القاسم بن محمد ,
وقد ذكرنا ذلك في " باب هبة المشاع " قبل هذا الباب بأوراق ولو صح ذلك عنها لكان قد خالفها ابن عباس , وابن عمر , وجابر , وزيد بن ثابت , وعلي بن أبي طالب على ما أوردنا آنفا.
وأما المسلمون عند شروطهم فخبر فاسد ; لأنه إما عن كثير بن زيد وهو هالك
وأما مرسل , ثم لو صح لكانوا أول مخالفين له ; لأنهم يبطلون من شروط الناس أكثر من ألف شرط : كمن باع بشرط أن يقيله إلى يومين. وكمن باع أمة بشرط أن لا يبيعها. وكمن باع بخيار إلى عشرين سنة. وكمن نكح على أن تنفق هي عليه وغير ذلك. فكيف وهذا الشرط يعني رجوع العمرى إلى المعمر أو إلى ورثته : شرط قد جاءت السنة نصا بإبطاله , كما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى واحتجاجهم بالآية هاهنا أبعد شيء من التوفيق لوجوه :
أولها أنهم قاسوا حكم الناس على حكم الله تعالى فيهم وهذا باطل ; لأن الله تعالى يقتل الناس ، ولا ملامة عليه , ويجيعهم , ويعذبهم بالمرض , ولا ملامة عليه , ولا يجوز عند أحد قياس المخلوق على الخالق. وثانيها أنهم موهوا وقلبوا لنا الآية , لأننا لم ننازعهم فيمن أعمر آخر مالا له ولم يقل الله تعالى قد أعمرتكم الأرض إنما قال : إنه استعمرنا فيها , بمعنى أنه عمرنا بالبقاء فيها مدة , وليس هذا من العمرى في ورد ولا صدر. وثالثها أن هذه الآية لو جعلناها حجة عليهم , لكان ذلك أوضح مما موهوا به وهو أن الله تعالى بلا شك أباح لنا بيع ما ملكنا من الأرض , وجعلها لورثتنا بعدنا , وهذا هو قولنا في العمرى لا قولهم , فظهر فساد ما يأتون به علانية , وبطل هذا القول يقينا , وهذا مما خالفوا فيه كل ما صح عن الصحابة ، رضي الله عنهم ، , وجمهور العلماء , ومرسلات كثيرة. ثم نظرنا في القول الثاني الذي هو قول عروة , وأبي ثور , فوجدناهم يحتجون ب
ما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن جابر قال : إنما العمرى التي أجازها رسول الله ﷺ أن يقول : هي لك ولعقبك ,
فأما إذا قال : هي لك ما عشت , فإنها ترجع إلى صاحبها.
قال أبو محمد : لم نجد لهم حجة غير هذا , ولا حجة لهم فيه , لأن المسند منه إلى رسول الله ﷺ إنما هو أن العمرى التي أجازها رسول الله ﷺ أن يقول هي لك ولعقبك
وأما باقي لفظ الخبر فمن كلام جابر ، ولا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ وقد خالف جابرا هاهنا ابن عباس ، وابن عمر , وغيرهما كما ذكرنا قبل فإنما في هذا الخبر حكم العمرى إذا قال المعمر : " هي لك ولعقبك " فقط وبقي حكمه إذا لم يقل هذا الكلام لا ذكر له في هذا الخبر , فوجب طلبه من غيره وبالله تعالى التوفيق. فسقط هذا القول أيضا , فلم يبق إلا قولنا : ف
وجدنا ما روينا من طريق مسلم ، حدثنا محمد بن نافع نا ابن أبي فديك ، عن ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن جابر بن عبد الله " أن رسول الله ﷺ قال : (من أعمر عمرى له ولعقبه فهي له بتلة) ، ولا يجوز للمعطي فيها شرط ، ولا ثنيا قال أبو سلمة : لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث , فقطعت المواريث شرطه.
ومن طريق أبي داود ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا الوليد ، هو ابن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة بن الزبير عن جابر بن عبد الله " أن النبي ﷺ قال : (من أعمر عمرى فهي له ولعقبه يرثها من يرثه من عقبه).
ومن طريق أحمد بن شعيب ، حدثنا إسماعيل ، هو ابن علية عن محمد ، هو ابن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة " أن رسول الله ﷺ قال : (لا عمرى فمن أعمر شيئا فهو له).
ومن طريق سعيد بن منصور ، حدثنا أبو معاوية عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مثله مرسلا.
ومن طريق أبي داود ، حدثنا النفيلي هو عبد الله بن محمد قال : قرأت على معقل عن عمرو بن دينار عن طاووس عن حجر المدري عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله ﷺ : من أعمر شيئا فهو لمعمره حياته ومماته ، ولا ترقبوا فمن أرقب شيئا فهو سبيله.
قال علي : هكذا رويناه بضم الميم الأولى من " معمر " وفتح الميم الثانية.
ومن طريق أحمد بن شعيب ، حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري عن سفيان بن عيينة ، عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله " أن رسول الله ﷺ قال : (لا ترقبوا ، ولا تعمروا فمن أرقب شيئا فهو لورثته).
ومن طريق أحمد بن شعيب ، حدثنا أحمد بن حرب ، حدثنا أبو معاوية عن حجاج ، هو ابن محمد عن أبي الزبير عن طاووس ، عن ابن عباس قال : قال " رسول الله ﷺ : (العمرى لمن أعمرها والرقبى لمن أرقبها والعائد في هبته كالعائد في قيئه). فهذه آثار متواترة , زائدة على ما في رواية معمر فلم يسع أحدا الخروج عنها , وليس هذا الحكم إلا في الإعمار والإرقاب كما جاء النص.
وأما الإسكان فيخرجه متى شاء ; لأنها عدة فيما لم يجزه من السكنى بعد وبالله تعالى التوفيق.
1651 - مسألة: والعارية جائزة , وفعل حسن , وهي فرض في بعض المواضع , وهي إباحة منافع بعض الشيء , كالدابة للركوب , والثوب للباس , والفأس للقطع , والقدر للطبخ , والمقلى للقلو , والدلو , والحبل , والرحى للطحن , والإبرة للخياطة , وسائر ما ينتفع به ، ولا يحل شيء من ذلك إلى أجل مسمى , لكن يأخذ ما أعار متى شاء , ومن سألها إياه محتاجا : ففرض عليه إعارته إياه إذا وثق بوفائه , فإن لم يأمنه على إضاعة ما يستعير أو على جحده فلا يعره شيئا. أما كونها فرضا كما ذكرنا , فلقول الله تعالى : {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون} فتوعد عز وجل من منع الماعون بالويل :
روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي ، حدثنا حجاج بن المنهال ، حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش ، عن ابن مسعود في قوله تعالى : {ويمنعون الماعون} قال : هو العواري : القدر , والدلو , والميزان
ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد ، عن ابن مسعود قال : الماعون ما تعاوره الناس بينهم : الفأس , والقدر , وأشباهه.
ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن جابر بن صبح حدثتني أم شراحيل قالت : قالت أم عطية : اذهبي إلى فلانة فأقرئيها السلام وقولي لها : إن أم عطية توصيك بتقوى الله عز وجل ، ولا تمنعي الماعون قالت : فقلت : ما الماعون فقالت لي : هبلت , هي المهنة يتعاطاها الناس بينهم
ومن طريق يحيى بن سعيد أيضا , وعبد الرحمن بن مهدي , قال ابن مهدي : عن سفيان الثوري , وقال يحيى : عن شعبة , ثم اتفقا عن أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن عياض عن أصحاب رسول الله ﷺ قالوا : الماعون منع القدر والفأس , والدلو.
ومن طريق ابن علية , وسفيان الثوري , كلاهما ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، عن ابن عباس في تفسير الماعون المذكور في الآية قال ابن عطية في روايته : متاع البيت , وقال سفيان في روايته : هي العارية والمعنى واحد. ورويناه أيضا : عن علي بن أبي طالب من طريق ابن أبي شيبة ، عن ابن علية عن ليث عن أبي إسحاق , وهؤلاء كلهم حجة في اللغة.
وروينا ، عن ابن عمر : هو المال يمنع حقه وهو موافق لما ذكرنا
وهو قول عكرمة , وإبراهيم وغيرهما , وما نعلم عن أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، خلافا لهذا
فإن قيل : قد روي عن علي رضي الله عنه أنها الزكاة
قلنا : نعم , ولم يقل ليست العارية ثم قد جاء عنه , أنها العارية. فوجب جمع قوليه.
فإن قيل : قد روي ، عن ابن عباس " لم يأت أهلها بعد " من طريق ليث عن مجاهد.
قلنا : نعم , وهذا غير مخالف لما صح عنه من طريق مجاهد ; لأن معنى قوله " لم يأت أهلها بعد " أي إن الناس اليوم يتباذلون ، ولا يمنعون وسيأتي زمان يمنعونه , ولا يحتمل ألبتة قول ابن عباس إلا هذا الوجه وبالله تعالى التوفيق.
وأما منع ذلك لمدة مسماة ; فلأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل.
وكذلك من أعار أرضا للبناء فيها , أو حائطا للبناء عليه , فله أخذه بهدم بنائه متى أحب بلا تكليف عوض لقول رسول الله ﷺ : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ، وأن من أضاع ما يستعير أو جحده ولم يؤمن ذلك منه فقد صح عن النبي ﷺ النهي عن إضاعة المال ونهى الله تعالى عن التعاون على الإثم والعدوان , فلا يجوز عونه على ذلك وبالله تعالى التوفيق.
1652 - مسألة: والعارية غير مضمونة إن تلفت من غير تعدي المستعير , وسواء ما غيب عليه من العواري وما لم يغب عليه منها. فإن ادعى عليه أنه تعدى , أو أضاعها حتى تلفت , أو عرض فيها عارض , فإن قامت بذلك بينة أو أقر : ضمن بلا خلاف , وإن لم تقم بينة ، ولا أقر : لزمته العين وبرئ ; لأنه مدعى عليه وقضى رسول الله ﷺ باليمين على المدعى عليه.
وأما تضمينها : فإن الناس اختلفوا : فقالت طائفة كما
قلنا.
وقالت طائفة : هي مضمونة على كل حال بأي وجه تلفت.
وقالت طائفة : لا يضمن إلا أن يشترط المعير ضمانها فيضمن حينئذ.
وقالت طائفة : لا ضمان على المستعير غير المغل يعني المتهم. وقال قائل : أما ما غيب عليه كالحلي والثياب ونحو ذلك , فيضمن جملة وقد روي عنه ، أنه قال : إن قامت له بينة بأنها تلفت من غير فعله فلا ضمان عليه , وإن لم تقم بينة فهو ضامن.
وأما ما ظهر كالحيوان ونحوه : فلا ضمان فيه ما لم يتعد.
قال أبو محمد : وهذا قول مالك , وما نعلم له فيه سلفا إلا عثمان البتي وحده , وما نعلم لهم حجة أصلا إلا أنهم قالوا : نتهم المستعير فيما غاب. .
فقلنا : ليس بالتهمة تستحل أموال الناس ; لأنها ظن , والله تعالى قد أنكر اتباع الظن , فقال تعالى : {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا}.
وقال رسول الله ﷺ : إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث. ويلزمكم إذا أعملتم الظن أن تضمنوا المتهم , ولا تضمنوا من لا يتهم , كما يقول شريح. ويلزمكم أن تضمنوا الوديعة أيضا بهذه التهمة وفساد هذا القول أظهر من أن يتكلف الرد عليه بأكثر مما أوردنا وبالله تعالى التوفيق.
وقال بعضهم : قسناه على الرهن. .
فقلنا : هذا قياس للخطأ على الخطأ , وحجة لقولكم بقولكم , وكلاهما خطأ.
وقال بعضهم : لما اختلف السلف في تضمين العارية توسطنا قولهم
قلنا لهم : ومن هذا سألناكم من أين فعلتم هذا وملتم إلى هذا التقسيم الفاسد ، ولا سبيل إلى دليل أصلا , لا من قرآن , ولا من سنة , ولا رواية سقيمة , ولا قياس , ولا قول صاحب , ولا رأي له وجه فسقط هذا القول.
وأما من قال : لا ضمان على المستعير غير المغل , ولا على المستودع غير المغل , فهو قول شريح , رويناه من طريق عبد الرزاق : سمعت هشام بن حسان يذكر عن محمد بن سيرين عن شريح هذا القول , وقال : المغل : المتهم وهو يبطل بما بطل به قول مالك ; لأنه بناه على التهمة , وهو ظن فاسد.
وأما من قال : لا ضمان على المستعير إلا أن يشترط عليه الضمان فهو قول قتادة , وعثمان البتي , رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة.
قال أبو محمد : وهذا باطل ; لأنه شرط ليس في كتاب الله عز وجل , فهو باطل , ولقد كان يلزم الحنفيين , والمالكيين المجيزين للشروط الفاسدة بالخبر المكذوب المسلمون عند شروطهم أن يقولوا بقول قتادة هاهنا , ولكن لا مؤنة عليهم من التناقض فبطل هذا القول أيضا , ولم يبق إلا قول من ضمنها جملة , أو قولنا :
فنظرنا في قول من ضمنها جملة. ف
وجدنا ما روينا من طريق عبد الرزاق ، حدثنا ابن عيينة هو سفيان عن عمرو بن دينار ، عن ابن أبي مليكة , وعبد الرحمن بن السائب , قال ابن أبي مليكة : عن ابن عباس , وقال ابن السائب : عن أبي هريرة , قالا جميعا : العارية تغرم.
ومن طريق ابن وهب عن رجال من أهل العلم ، عن ابن عمر أنه كان يضمن العارية.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر ، عن ابن طاووس عن أبيه قال في قضية معاذ بن جبل : العارية مؤداة. وكان شريح يضمن العارية , وضمنها الحسن , ثم رجع عن ذلك , وصح عن مسروق أيضا , وعن عطاء بن أبي رباح. وذكره ابن وهب عن يحيى بن سعيد الأنصاري , وربيعة , وذكرا : أنه قول علمائهم الذين أدركوا به وكانوا يقضون. وذكره أيضا عن سليمان بن سيار , وعمر بن عبد العزيز , ومكحول. وقال الزهري : أجمع رأي القضاة على ذلك , إذ رأوا شرور الناس وبهذا يقول الشافعي , وأحمد بن حنبل , وأصحابهما , واحتجوا بقول الله تعالى : {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}.
فقلنا لهم : فضمنوا بهذه الآية الوديعة فقد ضمنها عمر , وغيره , ونعم , هو مأمور بأدائها ما دام قادرا على أدائها , فإن عجز عن ذلك , فالله تعالى يقول : {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} فإذ ليس في وسعه أداؤها فهو غير مكلف ذلك , وليس في هذه الآية تضمين ; لأن أداء الغرامة هو غير أداء الأمانة , فلا متعلق لكم بهذه الآية أصلا ; لأنه ليس فيها أداء غيرها , ولا ضمانها , واحتجوا بما جاء في أدراع صفوان بن أمية , وبما روي العارية مؤداة والزعيم غارم وكلاهما : لا يصح : أما خبر دروع صفوان , فإننا رويناه من طريق أحمد بن شعيب ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا شريك ، هو ابن عبد الله القاضي عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أن رسول الله ﷺ استعار منه يوم حنين أدراعا ; فقال : غصب يا محمد فقال : بل عارية مضمونة شريك مدلس للمنكرات إلى الثقات , وقد روى البلايا والكذب الذي لا شك فيه عن الثقات.
ومن طريق الحارث بن أبي أسامة ، حدثنا يحيى بن أبي بكير ، حدثنا نافع عن صفوان بن أمية أنه استعار منه النبي ﷺ سلاحا فقال : مضمونة قال : مضمونة. الحارث متروك , ويحيى بن أبي بكير لم يدرك نافعا , وأعلى من عنده شعبة , ولا نعلم لنافع سماعا من صفوان أصلا , والذي لا شك فيه : فإن صفوان مات أيام عثمان قبل الفتنة.
ومن طريق ابن وهب عن أنس بن عياض عن جعفر بن محمد عن أبيه : أن صفوان بن أمية أعار رسول الله ﷺ سلاحا فقال : أعارية مضمونة أم غصب فقال : بل عارية مضمونة هذا منقطع ; لأن محمد بن علي لم يدرك صفوان ، ولا ولد إلا بعد موته بدهر.
ومن طريق مسدد ، حدثنا أبو الأحوص ، حدثنا عبد العزيز بن رفيع عن عطاء بن أبي رباح عن ناس من آل صفوان بن أمية استعار رسول الله ﷺ من صفوان سلاحا , فقال صفوان : أعارية أم غصب قال : بل عارية , ففقدوا منها درعا , فقال رسول الله ﷺ إن شئت غرمناها لك فقال : يا رسول الله إنه في قلبي من الإيمان ما لم يكن يومئذ هذا عن ناس لم يسموا.
ومن طريق أحمد بن شعيب ، حدثنا أحمد بن سليمان ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع ، عن ابن أبي مليكة عن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية أن رسول الله ﷺ استعار من صفوان بن أمية دروعا فهلك بعضها , فقال رسول الله ﷺ إن شئت غرمناها لك قال : لا يا رسول الله إسرائيل ضعيف ثم ليس في قوله عليه الصلاة والسلام إن شئت غرمناها لك لو صح بيان بوجوب غرمها إذا لم يكن هاهنا غير هذا اللفظ , والأموال المحرمة لا يجوز القضاء بإباحتها بغير بيان جلي.
ومن طريق ابن وهب ، عن ابن جريج , ويونس , وعبيد الله بن عمر , قال ابن جريج : عن عطاء , وقال يونس : عن ربيعة , وقال ابن عمر عن الزهري فذكر دروع صفوان , ، وأن النبي ﷺ قال : بل طوعا , وهي علينا ضامنة هذا مرسل.
ومن طريق ابن وهب عن مسلمة بن علي عن بعض أهل العلم أنه بلغه أن في شرط أهل اليمن من النبي ﷺ إن كان بأرض اليمن كون أو حدث أن يعطوا رسل اليمن : ثلاثين بعيرا وثلاثين فرسا , وثلاثين درعا ; وهم ضامنون لها حتى يردوها هذا مردد في الضعف منقطع , وعمن لم يسم , ومسلمة بن علي ساقط.
ومن طريق سعيد بن منصور ، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار : شرط رسول الله ﷺ على أهل نجران عارية : ثلاثين فرسا , وثلاثين درعا , وثلاثين رمحا , فإن ضاع منها شيء فهو ضامن على رسله , شهد المغيرة بن شعبة , وأبو سفيان بن حرب , والأقرع بن حابس هذا منقطع , لم يدرك عمرو من هؤلاء أحدا ورويناه أيضا من طريق هشيم عن حصين مرسل. وقد
روينا من طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا جرير بن عبد الحميد عن عبد العزيز بن رفيع عن إياس بن عبد الله بن صفوان أن رسول الله ﷺ إذا أراد حنينا قال لصفوان : هل عندك من سلاح قال : عارية أم غصبا قال : لا , بل عارية , فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعا , فلما هزم المشركون جمعت دروع صفوان , ففقد منها , فقال له رسول الله ﷺ إنا قد فقدنا من أدراعك أدراعا , فهل نغرم لك فقال : لا يا رسول الله إن في قلبي اليوم ما لم يكن فهذا مرسل كتلك , وهو يبين أنها غير مضمونة في الحكم. واحتجوا بما رويناه من طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم سمعت أبا أمامة الباهلي قال : سمعت النبي ﷺ في حجة الوداع يقول : العارية مؤداة , والدين مقضي , والزعيم غارم إسماعيل بن عياش ضعيف.
وروينا أيضا العارية مؤداة من طريق أحمد بن شعيب عن عبد الله بن الصباح ، حدثنا المعتمر بن سليمان سمعت الحجاج بن الفرافصة حدثني محمد بن الوليد عن أبي عامر الهوزني عن أبي أمامة عن النبي ﷺ الحجاج بن الفرافصة مجهول.
ومن طريق أحمد بن شعيب ، حدثنا عمرو بن منصور ، حدثنا الهيثم بن خارجة ، حدثنا الجراح بن مليح حدثني حاتم بن حريث الطائي سمعت أبا أمامة عن النبي ﷺ حاتم بن حريث مجهول.
ومن طريق ابن وهب ، عن ابن لهيعة عن عبد الله بن حيان الليثي عن رجل منهم قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : العارية مؤداة , والمنحة مردودة ابن لهيعة لا شيء.
ومن طريق البزار ، حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثنا إسحاق بن محمد الفروي ، حدثنا عبد الله بن عمر ، حدثنا زيد بن أسلم ، عن ابن عمر عن النبي ﷺ : العارية مؤداة الفروي ضعيف , وعبد الله بن عمر هو العمري الصغير ضعيف. ثم لو صحت هذه الألفاظ لما كان فيها إلا أنها مؤداة , وهكذا نقول : إن أداءها فرض , والتضمين غير الأداء , وليس فيه أنها مضمونة أصلا فبطل تعلقهم بشيء منها. وذكروا
ما روينا من طريق شعبة عن قتادة عن سمرة بن جندب عن النبي ﷺ : على اليد ما أخذت حتى تؤديه وهذا منقطع ; لأن قتادة لم يدرك سمرة. ورويناه من طريق يحيى بن سعيد القطان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله ﷺ : على اليد ما أخذت حتى تؤديه الحسن لم يسمع من سمرة ثم لو صح فليس فيه إلا الأداء , وهكذا نقول , والأداء غير الضمان في اللغة والحكم , ويلزمهم إذا حملوا هذا اللفظ على الضمان أن يضمنوا بذلك المرهون والودائع ; لأنها مما قبضت اليد , وكل هذا قد قال بتضمينه طوائف من الصحابة فمن بعدهم فظهر تناقضهم. وقد
روينا من طريق أحمد بن شعيب ، حدثنا إبراهيم بن المستمر ، حدثنا حبان بن هلال ، حدثنا همام بن يحيى ، حدثنا قتادة عن عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه قال : قال لي رسول الله ﷺ : إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعا وثلاثين بعيرا فقلت : يا رسول الله أعارية مضمونة أم عارية مؤداة قال : بل عارية مؤداة فهذا حديث حسن ليس في شيء مما روي في العارية خبر يصح غيره ,
وأما ما سواه فلا يساوي الأشتغال به وقد فرق فيه بين الضمان , والأداء , وأوجب في العارية الأداء فقط دون الضمان فبطل كل ما تعلقوا به من النصوص. وقالوا : وجدنا كل ما يقبضه بعض الناس من بعض من الأموال ينقسم ثلاثة أقسام : أحدها قسم منفعة للدافع دون المدفوع إليه , كالوديعة , والوكالة فهذا غير مضمون , فواجب أن يكون كل ما في هذا الباب كذلك وثانيها قسم منفعته للدافع والمدفوع إليه معا , كالقراض , وقد أتفقنا على أنه غير مضمون , فوجب أن يكون الرهن وكل ما في هذا الباب كذلك. وثالثها ما منفعته المدفوع إليه دون الدافع كالقرض , وقد صح الإجماع على أنه مضمون فوجب أن تكون العارية وكل ما في هذا الباب كذلك.
قال أبو محمد : وهذا قياس , والقياس كله باطل , إلا أنه من المليح المموه من مقاييسهم وأنهم ليسفكون الدماء , ويبيحون الفروج , والأموال والأبشار بأقل من هذا , كقياسهم في الصداق , وفي جلد الشارب قياسا على القاذف , والقود للكافر من المؤمن , وفاعل فعل قوم لوط , وسائر قياسهم , إلا أننا نعارض هذا القياس بمثله , وهو أن العارية دفع مال بغير عوض , كالوديعة.
وأيضا فإن ما يلي في اللباس وفيما استعيرت له فنقص منها بلا تعد فلا ضمان فيه , فكذلك سائر النقص وهذا كله وساوس , نعوذ بالله من الحكم بها في دينه.
قال علي : فبقي قولنا , فوجدناه قد روي عن عمر , وعلي ,
كما روينا من طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، عن ابن صالح بن حي عن عبد الأعلى عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب قال : العارية ليست بيعا ، ولا مضمونة إنما هو معروف إلا أن يخالف فيضمن ,
وهذا صحيح عن علي.
ومن طريق عبد الرزاق ، حدثنا قيس بن الربيع عن الحجاج بن أرطاة عن هلال الوزان عن عبد الله بن عكيم قال عمر بن الخطاب : العارية بمنزلة الوديعة , ولا ضمان فيها , إلا أن يتعدى
وهو قول إبراهيم النخعي , وعمر بن عبد العزيز , والزهري , وغيرهم
وهو قول أبي سليمان
قال أبو محمد : قول الله تعالى : {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض}.
وقال رسول الله ﷺ : (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام).
فصح أن مال المستعير محرم إلا أن يوجبه نص قرآن أو سنة , ولم يوجبه قط نص منهما
وقال الله تعالى : {ما على المحسنين من سبيل}
وقال تعالى : {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق}. والمستعير ما لم يتعد ، ولا ضيع : محسن فلا سبيل عليه بنص القرآن , والغرم سبيل بيقين فلا غرم عليه وبالله تعالى التوفيق. ==
**
الضيافة
1653- مسألة: الضيافة فرض على البدوي , والحضري , والفقيه , والجاهل : يوم وليلة : مبرة وإتحاف , ثم ثلاثة أيام : ضيافة ، ولا مزيد , فإن زاد فليس قراه لازما , وإن تمادى على قراه : فحسن فإن منع الضيافة الواجبة فله أخذها مغالبة , وكيف أمكنه , ويقضى له بذلك :
روينا من طريق أبي داود ، حدثنا القعنبي عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي " أن رسول الله ﷺ قال : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه , جائزته يومه وليلته , والضيافة ثلاثة أيام , وما بعد ذلك فهو صدقة , ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه). قال أبو داود عن الحارث بن مسكين عن أشهب عن مالك في قوله عليه الصلاة والسلام : جائزته يوم وليلة : قال مالك : يتحفه ويكرمه ويخصه يوما وليلة وثلاثة أيام ضيافة.
ومن طريق محمد بن جعفر غندر ، حدثنا منصور بن المعتمر عن الشعبي عن المقدم أبي كريمة " أنه سمع النبي ﷺ يقول : (ليلة الضيف حق واجب على من كان مسلما , فإن أصبح بفنائه فهو دين عليه , إن شاء اقتضى وإن شاء ترك).
ومن طريق شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص هو عوف بن مالك بن عوف الجشمي عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله رجل نزلت به فلم يكرمني ولم يضفني ولم يقرني ثم نزل بي أجزيه قال : بل أقره.
ومن طريق مسلم ، حدثنا محمد بن رمح ، حدثنا الليث ، هو ابن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر ,
قلنا : يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى قال رسول الله ﷺ : إن نزلتم بقوم فأمروا بما ينبغي للضيف فاقبلوا , فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم.
ومن طريق عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن أيوب السختياني عن نافع ، عن ابن عمر قال رسول الله ﷺ : وطعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة يكفي الثمانية.
ومن طريق البخاري ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا المعتمر ، هو ابن سليمان التيمي عن أبيه ، حدثنا أبو عثمان هو النهدي عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء , وأن النبي ﷺ قال من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث , ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس , ومن كان عنده طعام خمسة , فليذهب بسادس , أو كما قال ، وأن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق رسول الله ﷺ بعشرة. فهذا نص إيجاب الضيافة على أهل العلم والحاضرة , وهذه أخبار متواترة عن جماعة من الصحابة لا يحل لأحد مخالفتها.
روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن شعبة عن أبي عوف عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى " أن ناسا من الأنصار سافروا فأرملوا فمروا بحي من العرب فسألوهم القرى فأبوا عليهم , فسألوهم الشراء فأبوا فضبطوهم فأصابوا منهم فأتت الأعراب عمر بن الخطاب فأشفقت الأنصار , فقال عمر تمنعون ابن السبيل ما يخلف الله تعالى في ضروع الإبل بالليل والنهار , ابن السبيل أحق بالماء من الثاوي عليه " فهذا فعل الصحابة وحكم عمر بحضرتهم , لا مخالف له منهم وبالله تعالى التوفيق.
وروينا عن مالك : لا ضيافة على أهل الحاضرة , ولا على الفقهاء
وهذا قول في غاية الفساد وبالله تعالى التوفيق
الأحباس
1654 - مسألة: والتحبيس وهو الوقف جائز في الأصول من الدور والأرضين بما فيها من الغراس والبناء إن كانت فيها , وفي الأرحاء , وفي المصاحف , والدفاتر. ويجوز أيضا في العبيد , والسلاح , والخيل , في سبيل الله عز وجل في الجهاد فقط , لا في غير ذلك ، ولا يجوز في شيء غير ما ذكرنا أصلا , ولا في بناء دون القاعة. وجائز للمرء أن يحبس على من أحب , أو على نفسه , ثم على من شاء وخالفنا في هذا قوم : فطائفة أبطلت الحبس مطلقا
وهو قول شريح ,
وروي عن أبي حنيفة , وطائفة قالت : لا حبس إلا في سلاح , أو كراع , روي ذلك ، عن ابن مسعود , وعلي , وابن عباس ، رضي الله عنهم ، وطائفة أجازت الحبس في كل شيء , وفي الثياب , والعبيد , والحيوان , والدراهم , والدنانير
وهو قول مالك. وأتى أبو حنيفة بقول خالف فيه كل من تقدم والسنة والمعقول فقال : الحبس جائز في الصحة , وفي المرض , إلا أن للمحبس إبطاله متى شاء , وبيعه وارتجاعه بنقض الحبس الذي عقد فيه , ولا يجوز بعد الموت أيضا , وهذا أشهر أقواله
وروي عنه : أنه لا يجوز إلا بعد الموت , ثم اختلفوا عنه أيجوز للورثة إبطاله وهذا هو الأشهر عنه أم لا يجوز
وهذا قول يكفي إيراده من فساده ; لأنه لم تأت به سنة , ولا أيده قياس , ولا يعرف عن أحد قبله , وتفريق فاسد فسقط جملة.
وأما القول المروي عن علي , وابن مسعود , وابن عباس : فإنه لم يصح عن أحد منهم : أما ابن مسعود فرويناه من طريق سفيان بن عيينة عن مطرف بن طريف عن رجل عن القاسم ، هو ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ، عن ابن مسعود ، أنه قال : لا حبس إلا في سلاح أو كراع وهذه رواية ساقطة ; لأنها عن رجل لم يسم ; ولأن والد القاسم لا يحفظ عن أبيه كلمة , وكان له إذ مات أبوه ست سنين فكيف ولده ، ولا نعرفها ، عن ابن عباس أصلا , ولا عن علي , بل نقطع على أنها كذب على علي ; لأن إيقافه ينبع , وغيرها : أشهر من الشمس , والكذب كثير , ولعل من ذهب إلى هذا يتعلق بأنه قد صح عن النبي ﷺ أنه كان يجعل ما فضل عن قوته في السلاح والكراع.
قال أبو محمد : فيقال : نعم , وإن صح عن النبي ﷺ إيقاف غير الكراع , والسلاح : وجب القول به أيضا , وقد صح ذلك , فبطل أيضا هذا القول.
وأما من أبطل الحبس جملة : فإن عبد الملك بن حبيب روى عن الواقدي قال : ما من أحد من أصحاب رسول الله ﷺ إلا وقد أوقف وحبس أرضا , إلا عبد الرحمن بن عوف فإنه كان يكره الحبس وهذه رواية أخباث فإنها زادت ما جاءت فيه ضعفا ولعله قبله كان أقوى.
وأما مالك ومن قلده : فإنهم احتجوا بأنهم قاسوا على ما جاء فيه النص ما لا نص فيه.
قال أبو محمد : والقياس كله باطل , فكيف والنص يبطله ; لأن إيقاف الشيء لغير مالك من الناس , واشتراط المنع من أن يورث , أو يباع , أو يوهب : شروط ليست في كتاب الله عز وجل. وقد قال رسول الله ﷺ : من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة مرة كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل.
فصح أنه لا يجوز من هذه الشروط إلا ما نص رسول الله ﷺ على جوازه فقط , فكان ذلك في كتاب الله تعالى. لقوله عز وجل : {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} ولقوله تعالى : {لتحكم بين الناس بما أراك الله} لا سيما الدنانير والدراهم , وكل ما لا منفعة فيه , إلا بإتلاف عينه , أو إخراجها عن ملك إلى ملك , فهذا هو نقض الوقف وإبطاله. ويمكن أن يحتجوا بما صح عن رسول الله ﷺ : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث أشياء : من صدقة جارية , أو علم ينتفع به , أو ولد صالح يدعو له. فهذا لا حجة لهم فيه ; لأن الصدقة الجارية لا شك في أنه عليه الصلاة والسلام لم يعن بها إلا ما أجازه من الصدقات , لا كل ما يظنه المرء صدقة , كمن تصدق بمحرم , أو شرط في صدقته شرطا ليس في كتاب الله عز وجل.
فصح أن الصدقة الجارية , الباقي أجرها بعد الموت : إما صدقة مطلقة فيما تجوز الصدقة به مما صح ملك المتصدق به عليه , ولم يشترط فيها شرطا مفسدا.
وأما صدقة موقوفة فيما يجوز الوقف فيه. فصح أنه ليس في هذا الخبر حجة فيما يختلف فيه من الصدقات , أيجوز أم لا كمن تصدق بصدقة لم يجزها المتصدق عليه , وكمن تصدق في وصيته على وارث أو بأكثر من الثلث. ولا بمحرم : كمن تصدق بخمر , أو خنزير. وإنما فيه : أن الصدقة الجائزة المتقبلة يبقى أجرها بعد الموت فقط. فبطل هذا القول جملة لتعريه من الأدلة وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد : احتج من لم ير الحبس جملة : ب
ما روينا من طريق سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن أبي عون هو محمد بن عبيد الله الثقفي قال : قال لي شريح : جاء محمد بإطلاق الحبس. وبما رويناه من طريق سفيان بن عيينة عن عطاء بن السائب أنه سمع شريحا وسئل فيمن مات وجعل داره حبسا فقال : لا حبس عن فرائض الله.
قال علي : هذا منقطع , بل الصحيح خلافه , وهو أن محمدا ﷺ جاء بإثبات الحبس نصا على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى فكيف , وهذا اللفظ يقتضي أنه قد كان الحبس , وقد جاء محمد ﷺ بإبطاله وهذا باطل يعلم بيقين ; لأن العرب لم تعرف في جاهليتها الحبس الذي اختلفا فيه , إنما هو اسم شريعي , وشرع إسلامي : جاء به محمد ﷺ كما جاء بالصلاة , والزكاة , والصيام , ولولاه عليه الصلاة والسلام ما عرفنا شيئا من هذه الشرائع , ولا غيرها , فبطل هذا الكلام جملة.
وأما قوله " لا حبس عن فرائض الله " فقول فاسد ; لأنهم لا يختلفون في جواز الهبة , والصدقة في الحياة , والوصية بعد الموت , وكل هذه مسقطة لفرائض الورثة عما لو لم تكن فيه لورثوه على فرائض الله عز وجل , فيجب بهذا القول إبطال كل هبة , وكل وصية ; لأنها مانعة من فرائض الله تعالى بالمواريث.
فإن قالوا : هذه شرائع جاء بها النص
قلنا : والحبس شريعة جاء بها النص , ولولا ذلك لم يجز. واحتجوا بما رويناه من طريق العقيلي ، حدثنا روح بن الفرج ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا ابن لهيعة عن أخيه عيسى عن عكرمة ، عن ابن عباس : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله ﷺ لا حبس بعد سورة النساء.
قال أبو محمد : هذا حديث موضوع , وابن لهيعة لا خير فيه , وأخوه مثله وبيان وضعه : أن " سورة النساء " أو بعضها نزلت بعد أحد يعني آية المواريث وحبس الصحابة بعلم رسول الله ﷺ بعد خيبر وبعد نزول المواريث في " سورة النساء ". وهذا أمر متواتر جيلا بعد جيل. ولو صح هذا الخبر لكان منسوخا باتصال الحبس بعلمه عليه الصلاة والسلام إلى أن مات. وذكروا أيضا : ما رويناه من طريق ابن وهب ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار , ومحمد , وعبد الله ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم , كلهم عن أبي بكر بن محمد قال : إن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال لرسول الله ﷺ يا رسول الله إن حائطي هذا صدقة وهو إلى الله ورسوله , فجاء أبواه فقالا : يا رسول الله , كان قوام عيشنا فرده رسول الله ﷺ ثم ماتا فورثهما ابنهما زاد بعضهم " موقوفة " وهي زيادة غير صحيحة وهذا لا حجة لهم فيه لوجوه :
أولها أنه منقطع ; لأن أبا بكر لم يلق عبد الله بن زيد قط.
والثاني أن فيه أنه قوام عيشهم , وليس لأحد أن يتصدق بقوام عيشه , بل هو مفسوخ إن فعله , فهذا الخبر لو صح لكان حجة لنا عليهم وموافقا لقولنا , ومخالفا لقولهم في إجازتهم الصدقة بما لا يبقى للمرء بعده غنى. والثالث أن لفظة " موقوفة " إنما انفرد بها من لا خير فيه. وموهوا بأخبار نحو هذا , ليس في شيء منها ذكر الوقف , وإنما فيها " صدقة " وهذا لا ننكره.
وقال بعضهم : قد كان شريح لا يعرف الحبس ولو كان صحيحا لم يجز أن يستقضي من لا يعرف مثل هذا.
قال أبو محمد : لو استحيا قائل هذا لكان خيرا له , وهلا قالوا هذا في كل ما خالفوا فيه شريحا , وأي نكرة في جهل شريح سنة وألف سنة , والله لقد غاب ، عن ابن مسعود نسخ التطبيق , ولقد غاب عن أبي بكر ميراث الجدة , ولقد غاب عن عمر أخذ الجزية من المجوس سنين , وإجلاء الكفار من جزيرة العرب إلى آخر عام من خلافته , وبمثل هذا لو تتبع لبلغ أزيد من ألف سنة غابت عمن هو أجل من شريح. ولو لم يستقض إلا من لا تخفى عليه سنة , ولا تغيب عن ذكره ساعة من دهره حكم من أحكام القرآن : ما استقصى أحد , ولا قضى ، ولا أفتى : أحد بعد رسول الله ﷺ لكن من جهل عذر ومن علم غبط. وقالوا : الصدقة بالثمرة التي هي الغرض من الحبس يجوز فيها البيع , فذلك في الأصل أولى.
قال علي : هذا قياس , والقياس كله باطل , ثم هو قياس فاسد ; لأن النص ورد بالفرق بينهما كما نذكر إن شاء الله تعالى من إيقاف الأصل وحبسه وتسبيل الثمرة , فهذا اعتراض منهم على رسول الله ﷺ لا على غيره , والقوم مخاذيل. وقالوا : لما كانت الأحباس تخرج إلى غير مالك : بطل ذلك , كمن قال : أخرجت داري عن ملكي.
قال أبو محمد : وهذه وساوس ; لأن الحبس ليس إخراجا إلى غير مالك , بل إلى أجل المالكين وهو الله تعالى كعتق العبد ، ولا فرق. ثم قد تناقضوا فأجازوا تحبيس المسجد , والمقبرة , وإخراجهما إلى غير مالك , وأجازوا الحبس بعد الموت في أشهر أقوالهم , فبلحوا عند هذه فقالوا : المسجد إخراج إلى المصلين فيه. .
فقلنا : كذبتم ; لأنهم لا يملكون بذلك , وصلاتهم فيه كصلاتهم في طريقهم في فضاء متملك ، ولا فرق. وقالوا : إنما خرجت عن ملكي إلى غير مالك ، ولا فرق ; لأن هذا القول نظير الحبس عندكم في الحياة , فوجب أن يكون نظيره في الموت ، ولا فرق. وقالوا : لما كانت الصدقات لا تجوز إلا حتى تحاز , وكان الحبس لا مالك له : وجب أن يبطل. .
فقلنا : هذا احتجاج للخطأ بالخطأ , وقد أبطلنا قولكم : أن الصدقة لا تصح حتى تقبض , وبينا أنه رأي من عمر , وعثمان رضي الله عنهما قد خالفهما غيرهما فيه , كابن مسعود , وعلي رضي الله عنهما , فكيف والحبس خارج إلى قبض الله عز وجل له , الذي هو وارث الأرض ومن عليها وكل شيء بيده وفي قبضته. وقد أجاز رسول الله ﷺ صدقة أبي طلحة لله تعالى دون أن يذكر متصدقا عليه , ثم أمره عليه الصلاة والسلام أن يجعلها في أقاربه وبني عمه وبالله تعالى التوفيق.
ومن عجائب الدنيا المخزية لهم : احتجاجهم في هذا بأن رسول الله ﷺ ساق الهدي في الحديبية وقلدها , وهذا يقتضي إيجابه له , ثم صرفها عما أوجبها له وجعلها للإحصار , ولذلك أبدلها عاما ثانيا.
قال أبو محمد : أول ذلك كذبهم في قولهم , وهذا يقتضي إيجابه له وما اقتضى ذلك قط إيجابه ; لأنه عليه الصلاة والسلام لم ينص على أنه صار التطوع بذلك واجبا , بل أباح ركوب البدنة المقلدة. ومن المحال أن تكون واجبة لوجه ما خارجة بذلك عن ماله باقية في ماله. ثم كذبوا في قولهم : إنه عليه الصلاة والسلام أبدله من قابل. فما صح هذا قط. ومن المحال أن يبدل عليه الصلاة والسلام هديا وضعه في حق في واجب ثم أي شبه بين هدي تطوع ينحر عن واجب في الإحصار عن أصحابه , وعن نفسه المقدسة في حبس. أما يستحي من هذا مقدار علمه وعقله أن يتكلم في دين الله عز وجل.
ثم نقول لهم : أنتم تقولون : إن له أن يحبس ثم يفسخه , وقستموه على الهدي المذكور , فأخبرونا : هل له رجوع في الهدي بعد أن يوجبه فيبيعه هكذا بلا سبب أم لا فمن قولهم : لا , فنقول لهم : فهذا خلاف قولكم في الحبس إذ أجزتم الرجوع فيه بلا سبب , وظهر هوس قياسكم الفاسد البارد , ويقال لهم : هلا قسمتموه على التدبير الذي لا يجوز فيه الرجوع عندكم , أو هلا قستم قولكم في التدبير على قولكم في الحبس , لكن أبى الله تعالى لكم إلا خلاف الحق في كلا الوجهين.
قال أبو محمد : وكل هذا فإنما من احتجاج من لا يرى الحبس جملة
وأما قول أبي حنيفة فكل هذا خلاف له ; لأنه يجيز الحبس , ثم يجيز نقضه المحبس , ولورثته بعده , ويجيز إمضاءه وهذا لا يعقل , ونسوا احتجاجهم ب المسلم عند شرطه و أوفوا بالعقود.
قال أبو محمد : فإذ قد بطلت هذه الأقوال كلها فلنذكر البرهان على صحة قولنا بحول الله تعالى وقوته :
روينا من طريق البخاري ، حدثنا مسدد ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا ابن عون عن نافع عن عمر قال : أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي ﷺ فقال له : أصبت أرضا لم أصب قط مالا أنفس منه فكيف تأمر به فقال : إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها فتصدق بها عمر : أنه لا يباع أصلها ، ولا تورث : في الفقراء والقربى , والرقاب , وفي سبيل الله , والضيف , وابن السبيل , لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف , أو يطعم صديقا غير متمول فيه ".
ومن طريق أحمد بن شعيب ، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المكي ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن عمر عن نافع ، عن ابن عمر قال عمر للنبي ﷺ إن المائة سهم التي بخيبر لم أصب مالا قط هو أعجب إلي منها , وقد أردت أن أتصدق بها فقال له النبي ﷺ احبس أصلها وسبل ثمرتها. ورويناه أيضا : من طريق حامد بن يحيى البلخي عن سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن عمر عن نافع ، عن ابن عمر مثله وفيه احبس الأصل وسبل الثمرة. وحبس عثمان بئر رومة على المسلمين بعلم رسول الله ﷺ ينقل ذلك الخلف عن السلف , جيلا بعد جيل , وهي مشهورة بالمدينة.
وكذلك صدقاته عليه السلام بالمدينة مشهورة كذلك. وقد تصدق عمر في خلافته بثمغ , وهي على نحو ميل من المدينة وتصدق بماله وكان يغل مائة وسق بوادي القرى كل ذلك حبسا , وقفا , لا يباع ، ولا يشترى , أسنده إلى حفصة , ثم إلى ذوي الرأي من أهله. وحبس عثمان , وطلحة , والزبير , وعلي بن أبي طالب , وعمرو بن العاص : دورهم على بنيهم , وضياعا موقوفة.
وكذلك ابن عمر , وفاطمة بنت رسول الله ﷺ وسائر الصحابة جملة صدقاتهم بالمدينة أشهر من الشمس , لا يجهلها أحد. وأوقف عبد الله بن عمرو بن العاص " الوهط " على بنيه. اختصرنا الأسانيد لأشتهار الأمر.
ومن طريق مسلم ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة " أن رسول الله ﷺ قال : وأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله في حديث.
ومن طريق محمد بن بكر البصري ، حدثنا أبو داود ، حدثنا الحسن بن الصباح ، حدثنا شبابة ، هو ابن سوار عن ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة " قال النبي ﷺ :
وأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعبده في سبيل الله في حديث.
قال أبو محمد : الأعتاد جمع عتد وهو الفرس قال القائل راحوا بصائرهم على أكتافهم وبصيرتي تعدو بها عتد وأى والأعبد جمع عبد , وكلا اللفظين صحيح , فلا يجوز الأقتصار على أحدهما دون الآخر
ومن طريق مسلم ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب قال : إن رسول الله ﷺ كان ينفق على أهله قوت سنة وما بقي يجعله في الكراع والسلاح في سبيل الله عز وجل. الكراع : الخيل فقط. والسلاح في لغة العرب : السيوف , والرماح , والقسي , والنبل , والدروع , والجواشن , وما يدافع به : كالطبرزين , والدبوس , والخنجر , والسيف بحد واحد , والدرق , والتراس. ، ولا يقع اسم السلاح على سرج , ولا لجام , ولا مهماز. وكان عليه السلام يكتب إلى الولاة والأشراف إذا أسلموا بكتب فيها السنن والقرآن بلا شك , فتلك الصحف لا يجوز تملكها لأحد , لكنها للمسلمين كافة يتدارسونها موقوفة لذلك , فهذا هو الذي يجوز فيه الحبس فقط ,
وأما ما لم يأت فيه نص فلا يجوز تحبيسه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
ومن عجائب الدنيا قول من لا يتقي الله تعالى : أن صدقة رسول الله ﷺ إنما جازت لأنه كان لا يورث ، وأن صدقات الصحابة ، رضي الله عنهم ، إنما جازت لأن الورثة لم يردوها , وأن يونس بن عبد الأعلى روي ، عن ابن وهب عن مالك عن زياد بن سعد عن الزهري أن عمر بن الخطاب قال : لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله ﷺ لرددتها
قال أبو محمد : أما قولهم إن صدقة رسول الله ﷺ إنما جازت ; لأنه لا يورث فقد كذبوا ; بل لأنه عليه الصلاة والسلام جعلها صدقة , فلذلك صارت صدقة هكذا :
روينا من طريق قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا يوسف بن عدي ، حدثنا أبو الأحوص هو سلام بن سليم عن أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن الحارث هو أخو جويرية أم المؤمنين قال : ما ترك رسول الله ﷺ دينارا , ولا درهما , ولا عبدا , ولا أمة , إلا بغلته البيضاء , وأرضا جعلها صدقة.
وأما قوله : إنه عليه الصلاة والسلام لم يورث فنعم , وهذا لا يوجب الصدقة بأرضه , بل تباع فيتصدق بالثمن : فظهر فساد قولهم.
وأما قولهم : إنما جازت صدقات الصحابة ، رضي الله عنهم ، ; لأن الورثة أجازوها فقد كذبوا , ولقد ترك عمر ابنيه زيدا وأخته صغيرين جدا ,
وكذلك عثمان , وعلي , وغيرهم , فلو كان الحبس غير جائز لما حل ترك أنصباء الصغار تمضي حبسا.
وأما الخبر الذي ذكروه عن مالك فمنكر وبلية من البلايا , وكذب بلا شك , ولا ندري من رواه عن يونس ، ولا هو معروف من حديث مالك وهبك لو سمعناه من الزهري لما وجب أن يتشاغل به ولقطعنا بأنه سمعه ممن لا خير فيه , كسليمان بن أرقم , وضربائه. ونحن نبت ونقطع بأن عمر رضي الله عنه لم يندم على قبوله أمر رسول الله ﷺ وما اختاره له في تحبيس أرضه وتسبيل ثمرتها والله تعالى يقول : {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}. وليت شعري إلى أي شيء كان يصرف عمر تلك الصدقة لو ترك ما أمره به عليه الصلاة والسلام فيها. حاش لعمر من هذا. وزادوا طامة , وهي أن شبهوا هذا بتندم عبد الله بن عمرو بن العاص إذ لم يقبل أمر رسول الله ﷺ في صوم ثلاثة أيام من كل شهر.
قال أبو محمد : ليت شعري أين ذهبت عقولهم وهل يندم عبد الله إلا على ما يحق التندم عليه من تركه الأمر الذي أشار به عليه رسول الله ﷺ أول مرة ووقف عند المشورة الأخيرة وهذا ضد ما نسبوا إلى عمر مما وضعه عليه من لا يسعد الله جده من رغبته عن أمر رسول الله ﷺ جملة لا ندري إلى ماذا فوضح فساد قول هؤلاء المحرومين جملة ولله الحمد.
وأما قولنا : جائز أن يسبل المرء على نفسه وعلى من شاء , فلقول النبي ﷺ : ابدأ بنفسك فتصدق عليها. وقال لعمر تصدق بالثمرة فصح بهذا جواز صدقته على نفسه , وعلى من شاء
وهو قول أبي يوسف , وغيره وبالله تعالى التوفيق
1655 - مسألة: ولا يبطل الحبس ترك الحيازة , فإن استغله المحبس ولم يكن سبله على نفسه فهو مضمون عليه , كالغصب , ولا يحل إلا فيما أبقى غنى وهو جائز في المشاع وغير المشاع فيما ينقسم وفيما لا ينقسم والحجة في ذلك قد ذكرناها في كلامنا في " الهبات والصدقات " ولله الحمد كثيرا.
1656 - مسألة: والتسوية بين الولد فرض في الحبس لقول رسول الله ﷺ : اعدلوا بين أبنائكم " فإن خص به بعض بنيه , فالحبس صحيح ويدخل سائر الولد في الغلة والسكنى مع الذي خصه.
برهان ذلك : أنهما فعلان متغايران بنص كلام رسول الله ﷺ . أحدهما تحبيس الأصل , فباللفظ تحبيسه يصح لله تعالى بأننا عن مال المحبس.
والثاني التسبيل والصدقة , فإن وقع فيها حيف رد ولم يبطل خروج الأصل محبسا لله عز وجل ما دام الولد أحياء , فإذا مات المخصوص بالحبس رجع إلى من عقب عليه بعده , وخرج سائر الولد عنه ; لأن المحاباة قد بطلت وبالله تعالى التوفيق.
1657 - مسألة: ومن حبس داره أو أرضه , ولم يسبل على أحد , فله أن يسبل الغلة ما دام حيا على من شاء , لقول رسول الله ﷺ : وسبل الثمرة فله ذلك ما بقي , فإن مات ولم يفعل كانت الغلة لأقاربه وأولى الناس به حين موته.
وكذلك من سبل وحبس على منقطع فإذا مات المسبل عليه عاد الحبس على أقرب الناس بالمحبس يوم المرجع.
برهان ذلك : ما رويناه من طريق مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة سمع أنس بن مالك يقول كان أبو طلحة أكبر أنصاري المدينة مالا من نخل فقال : يا رسول الله , إن الله ، عز وجل ، يقول : {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب أموالي إلي بيرحاء , وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها , وزهوها , عند الله , فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال رسول الله ﷺ في كلام ثم إني أرى أن تجعلها في الأقربين فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه
1658 - مسألة: ومن حبس على عقبه وعلى عقب عقبه , أو على زيد وعقبه , فإنه يدخل في ذلك البنات والبنون , ولا يدخل في ذلك بنو البنات إذا كانوا ممن لا يخرج بنسب آبائه إلى المحبس لقول رسول الله ﷺ : إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد وأعطاهم من سهم ذي القربى : ولم يعط عثمان , ولا غيره وجدة عثمان بنت عبد المطلب فلم يدخل في بني هاشم , إذ لم يخرج بنسب أبيه إليه , وإن كان خارجا بنسب أمه إليه وهي أروى بنت البيضاء بن عبد المطلب أعطى العباس وأمه نمرية وبالله تعالى التوفيق.
1659- مسألة: ومن حبس وشرط أن يباع إن احتيج صح الحبس , لما ذكرنا من خروجه بهذا اللفظ إلى الله تعالى , وبطل الشرط ; لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى , وهما فعلان متغايران , إلا أن يقول : لا أحبس هذا الحبس إلا بشرط أن يباع : فهذا لم يحبس شيئا ; لأن كل حبس لم ينعقد إلا على باطل فلم ينعقد أصلا وبالله تعالى التوفيق. --
**
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق