كتاب النكاح {كتاب النكاح المحلى لابن حزم - المجلد الخامس من { 1839.مسألة}-{ 1856) }
1839 - مسألة: وكل ثيب فإذنها في نكاحها لا يكون إلا بكلامها بما يعرف به رضاها، وكل بكر فلا يكون إذنها في نكاحها إلا بسكوتها، فإن سكتت فقد أذنت ولزمها النكاح، فإن تكلمت بالرضا أو بالمنع أو غير ذلك، فلا ينعقد بهذا نكاح عليها.
برهان ذلك: ما ذكرناه قبل من قول رسول الله ﷺ في البكر إذنها صماتها، وما رويناه عن مسلم: حدثني عبيد الله بن عمر القواريري نا خالد بن الحارث، حدثنا هشام هو الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير نا أبو سلمة، هو ابن عبد الرحمن بن عوف، حدثنا أبو هريرة " أن رسول الله ﷺ قال: لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها قال: أن تسكت.
قال أبو محمد: فذهب قوم من الخوالف إلى أن البكر إن تكلمت بالرضا فإن النكاح يصح بذلك خلافا على رسول الله ﷺ وعلى الصحابة، رضي الله عنهم،، فسبحان الذي أوهمهم أنهم أصح أذهانا من أصحاب رسول الله ﷺ وأوقع في نفوسهم أنهم وقفوا على فهم وبيان غاب عنه رسول الله ﷺ نعوذ بالله عن مثل هذا.
فأما رسول الله ﷺ فإنه أبطل النكاح كما تسمعون عن البكر ما لم تستأذن فتسكت، وأجازه إذا استأذنت فسكتت بقوله عليه الصلاة والسلام لا تنكح البكر حتى تستأذن وإذنها صماتها.
وأما الصحابة فإنهم كما أوردنا في الخبر المذكور آنفا لم يعرفوا ما إذن البكر حتى سألوا رسول الله ﷺ عنه، وإلا فكان سؤالهم عند هؤلاء فضولا، وحاش لهم من ذلك، فتنبه هؤلاء لما لم يتنبه له أصحاب رسول الله ﷺ ولا نبه عنه عليه السلام، وهذا كما ترون. وما علمنا أحدا من السلف روي عنه أن كلام البكر يكون رضا، وقد روينا عن عمر بن الخطاب، وعلي، وغيرهما: أن إذنها هو السكوت.
ومن عجائب الدنيا قول مالك: إن العانس البكر لا يكون إذنها إلا بالكلام وهذا مع مخالفته لنص كلام رسول الله ﷺ ففي غاية الفساد لأنه أوجب فرضا على العانس ما أسقطه عن غيرها فلوددنا أن يعرفونا الحد الذي إذا بلغته المرأة انتقل فرضها إلى ما ذكر وبالله تعالى التوفيق.
1840- مسألة: والصداق، والنفقة، والكسوة مقضي بها للمرأة على زوجها المملوك كما يقضى بها على الحر، ولا فرق سواء كانت حرة أو أمة والصداق للأمة إلا أن للسيد أن ينتزعه كسائر مالها.
برهان ذلك: قول الله عز وجل: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}.
وقوله تعالى في الأيامى: {فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن}. فخاطب تعالى الأزواج عموما، لم يخص حرا من عبد، وأوجب بنص كلامه الذي لا يعارضه إلا مخذول إيتاء الصداق للأمة لا لغيرها.
وكذلك أوجب الله عز وجل النفقة، والكسوة، والإسكان على الأزواج للزوجات، فإن عجز العبد أو الحر عن الصداق أو بعضه، وعن النفقة، والكسوة أو بعضها، فالصداق دين عليه في ذمته، والنفقة والكسوة ساقطة عنه، ويؤخذ كل من خراج العبد ومن سائر كسبه وهو قول الشعبي.
كما روينا من طريق سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، حدثنا الشيباني هو أبو إسحاق عن الشعبي قال: يبدأ العبد بنفقته على أهله قبل الذي عليه لمواليه يعني نفقة امرأته.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: إذا تزوج العبد بإذن مولاه فالمهر عليه فإن دخل بها وجب بيعه في الصداق وفي النفقة، فإن فداه السيد فذلك له، وإن أسلمه للمرأة وجبت رقبته للمرأة ملكا وانفسخ النكاح. قالوا: فلو أنكح عبده أمته فلا يحتاج في ذلك إلى صداق أصلا لا قبل الدخول، ولا بعده.
وقال مالك: المهر في ذمة العبد ويؤخذ من ماله إن وهب له، ولا يؤخذ من خراجه، فإن لم يوجد له مال وهب له، فهو دين في ذمته إذا أعتق. وقال الأوزاعي: المهر في ذمة الزوج إذا أعتق. وقال الليث: السيد ضامن لنفقة المرأة إن لم يكن للعبد مال، فإن كان للعبد فضل مال أخذت نفقة امرأته منه، فإن لم يكن له فضل مال عن خراجه فرق بينهما.
وقال الشافعي: الصداق في ذمة العبد والنفقة عليه إن كان مأذونا له في التجارة.
قال أبو محمد رضي الله عنه: تخصيص الشافعي المأذون له في التجارة لا وجه له، وقد يكسب المال من غير التجارة، لكن بعمل أو من صنيعة.
وأما قول الليث: إن لم يكن للعبد عن خراجه فضل فرق بينه وبين امرأته فخطأ، لأنه لا يخفى من العبيد من له فضل عن خراجه ممن لا فضل له عنه، لأنه إذا جعل الخراج للسيد لا يخرج منه نفقة الزوجة فقد صار النكاح لغوا إذا تيقن أن الفسخ يتلوه.
وأما تخصيص مالك أن تؤخذ النفقة والصداق من غير خراجه، فقول بلا
برهان، لأن الخراج كسائر كسب العبد لا يكون للسيد فيه حق أصلا، إلا حتى يصح ملك العبد له بإجازته أو ببيعه فيه، فإذا صح ملك العبد له كان للسيد حينئذ أن يأخذه منه، ولا شك في أن السيد لم يملك قط من خراج العبد فلسا قبل أن يجب للعبد بعلمه أو ببيعه فيه، فإذا صار للعبد فليس السيد أولى به من سائر من له عند العبد حق، كالزوجة والغرماء.
وأما قول أبي حنيفة ففي غاية الفساد، لأنه أجاز نكاحا بلا صداق وهذا خلاف القرآن كما أوردنا ثم جعل نكاحه الذي أمر الله تعالى به برضا سيده ووطأه لأمرأته التي أباح الله تعالى وطأه لها ويأجره عليه جناية ودينا يباع فيه أو تسلم رقبته، ولا شك في أن رقبة العبد ملك للسيد، فبأي شيء أباح لها مال السيد الذي حرمه الله تعالى عليها وهذا كلام يغني سماعه عن تكلف الرد عليه مع أنه قول لا يعلم أحد قاله قبلهم. وقد ذكر بعضهم في ذلك ما رويناه من طريق وكيع عن سفيان الثوري، عن ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس قال: لا بأس أن يزوج الرجل أمته عبده بغير مهر.
قال أبو محمد: وهذا تمويه من الذي أورد هذا الخبر، لأن ابن عباس إنما عنى بغير ذكر مهر، وهذا جائز لكل أحد حتى إذا طلبته أو طلبه ورثتها قضي لها أو لهم كما أمر الله تعالى بذلك.
1841 - مسألة: ولا يكون الكافر وليا للمسلمة، ولا المسلم وليا للكافرة، الأب وغيره سواء، والكافر ولي للكافرة التي هي وليته ينكحها من المسلم والكافر.
برهان ذلك: قول الله عز وجل: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}
وقال تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض}.
وهو قول من حفظنا قوله، إلا ابن وهب صاحب مالك قال: إن المسلم يكون وليا لأبنته الكافرة في إنكاحها من المسلم أو من الكافر وهذا خطأ لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
1842 - مسألة: وجائز لولي المرأة أن ينكحها من نفسه إذا رضيت به زوجا ولم يكن أحد أقرب إليها منه، وإلا فلا وهو قول مالك، وأبي حنيفة. وذهب الشافعي، وأبو سليمان إلى أن لا ينكحها هو من نفسه. واحتجوا بأن النكاح يحتاج إلى ناكح ومنكح، فلا يجوز أن يكون الناكح هو المنكح. وقال أصحاب القياس منهم: كما لا يبيع من نفسه كذلك لا ينكح من نفسه.
قال علي: واحتجوا أيضا بما رويناه من طريق سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، حدثنا محمد بن سالم عن الشعبي: أن المغيرة بن شعبة خطب بنت عمه عروة بن مسعود فأرسل إلى عبد الله بن أبي عقيل فقال: زوجنيها فقال: ما كنت لأفعل، أنت أمير البلد، وابن عمها فأرسل المغيرة إلى عثمان بن أبي العاص فزوجها منه.
قال أبو محمد: المغيرة، هو ابن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن مغيث بن مالك بن كعب بن عمرو بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف. وعروة بن مسعود بن مغيث المذكور، وعبد الله بن أبي عقيل بن مسعود بن عمرو بن عامر بن مغيث المذكور. وعثمان بن أبي العاص لا يجتمع معهم إلا في ثقيف، لأنه من ولد جشم بن ثقيف. وحدثنا بهذا أيضا: محمد بن سعيد بن نبات، حدثنا أحمد بن عبد البصير، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير قال: إن المغيرة بن شعبة أمر رجلا أن يزوجه امرأة المغيرة أولى بها منه.
قال أبو محمد: أما قولهم: إن النكاح يحتاج إلى ناكح ومنكح فنعم.
وأما قولهم: إنه لا يجوز أن يكون الناكح هو المنكح ففي هذا نازعناهم، بل جائز أن يكون الناكح هو المنكح، فدعوى كدعوى.
وأما قولهم: كما لا يجوز أن يبيع من نفسه، فهي جملة لا تصح كما ذكروا، بل جائز إن وكل ببيع شيء أن يبتاعه لنفسه إذا لم يحابها بشيء.
وأما خبر المغيرة فلا حجة فيمن دون رسول الله ﷺ . فبقي علينا أن نأتي بالبرهان على صحة قولنا، فوجدنا ما رويناه من طريق البخاري، حدثنا مسدد عن عبد الوارث بن سعيد عن شعيب بن الحبحاب عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها وأولم عليها بحيس.
قال أبو محمد: فهذا رسول الله ﷺ زوج مولاته من نفسه وهو الحجة على من سواه.
وأيضا: فإنما قال رسول الله ﷺ: أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل فمن أنكح وليته من نفسه بإذنها فقد نكحت بإذن وليها فهو نكاح صحيح، ولم يشترط عليه الصلاة والسلام أن يكون الولي غير الناكح، ولا بد، فإذ لم يمنع منه عليه الصلاة والسلام فهو جائز. قال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم}. فهذا مما لم يفصل علينا تحريمه.
وقال تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} فمن أنكح أيمة من نفسه برضاها فقد فعل ما أمره الله تعالى به، ولم يمنع عز وجل من أن يكون المنكح لأيمة هو الناكح لها فصح أنه الواجب وبالله تعالى التوفيق.
1843- مسألة: ولا يحل للزانية أن تنكح أحدا، لا زانيا، ولا عفيفا حتى تتوب، فإذا تابت حل لها الزواج من عفيف حينئذ. ولا يحل للزاني المسلم أن يتزوج مسلمة لا زانية، ولا عفيفة حتى يتوب، فإذا تاب حل له نكاح العفيفة المسلمة حينئذ. وللزاني المسلم أن ينكح كتابية عفيفة وإن لم يتب، فإن وقع شيء مما ذكرنا فهو مفسوخ أبدا، فإن نكح عفيف عفيفة ثم زنى أحدهما أو كلاهما لم يفسخ النكاح بذلك. وقد قال بهذا طائفة من السلف:
كما روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا وكيع عن عمرو بن مروان عن عبد الرحمن الصدائي عن علي بن أبي طالب: أن رجلا أتى إليه فقال: إن لي ابنة عم أهواها، وقد كنت نلت منها فقال له علي: إن كان شيئا باطنا يعني الجماع فلا، وإن كان شيئا ظاهرا يعني القبلة فلا بأس.
ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن إدريس الأودي عن ليث بن أبي سليم، عن ابن سابط: أن علي بن أبي طالب أتي بمحدود تزوج غير محدودة ففرق بينهما.
ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا شعبة، حدثنا قتادة، والحكم بن عتيبة، كلاهما عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه، عن ابن مسعود في الذي يتزوج المرأة بعد أن زنى بها قال ابن مسعود: لا يزالان زانيين.
وبه إلى علي بن عبد الله، حدثنا سفيان بن عيينة وعبد الرزاق، قال عبد الرزاق :، حدثنا معمر، ثم اتفق سفيان، ومعمر، قالا جميعا :، حدثنا الحكم بن أبان أنه سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن الرجل يزني بالمرأة ثم ينكحها فقال سالم: سئل عن ذلك ابن مسعود فقال: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده الآية.
قال أبو محمد: القولان منه متفقان، لأنه إنما أباح نكاحها بعد التوبة.
ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: لا يزالان زانيين ما اصطحبا يعني: الرجل يتزوج امرأة زنى بها.
ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا أسباط عن مطرف عن أبي الجهم عن البراء بن عازب في الرجل يفجر بالمرأة ثم يريد نكاحها قال: لا يزالان زانيين أبدا.
ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جابر بن عبد الله قال: إذا تابا وأصلحا فلا بأس يعني الرجل يزني بالمرأة ثم يريد نكاحها.
ومن طريق إسماعيل بن إسحاق، حدثنا عبد الواحد بن غياث، حدثنا أبو عوانة عن موسى بن السائب عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر أنه سئل عن رجل فجر بامرأة أيتزوجها قال: إن تابا وأصلحا.
ومن طريق إسماعيل، حدثنا حجاج بن المنهال، وسليمان بن حرب قالا جميعا :، حدثنا حماد بن سلمة عن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال: لا ينكح المجلود إلا مجلودة.
ومن طريق إسماعيل نا سليمان بن حرب، حدثنا أبو هلال، حدثنا قتادة عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام يتزوج محصنة، فقال له أبي بن كعب: يا أمير المؤمنين: الشرك أعظم من ذلك، فقد يقبل منه إذا تاب.
ومن طريق إسماعيل نا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال عبيد الله بن أبي يزيد: سمعت ابن عباس يقول: الزاني لا ينكح إلا زانية قال: هو حكم بينهما. وصح مثل هذا عن إبراهيم النخعي، وسعيد بن المسيب، وصلة بن أشيم وعطاء، وسليمان بن يسار، ومكحول، والزهري، وابن قسيط، وقتادة، وغيرهم وقد جاء إباحة نكاحهما عن أبي بكر، وعمر، وابن عباس، وابن عمر.
قال أبو محمد: والحجة لقولنا هو قول الله عز وجل: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين}. فقال قوم: روي عن سعيد بن المسيب، أنه قال: يزعمون أنها نسخت بالآية التي بعدها {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم}.
قال أبو محمد: وهذه دعوى بلا برهان، ولا يجوز أن يقال في قرآن، أو سنة: هذا منسوخ إلا بيقين يقطع به، لا بظن لا يصح وإنما الفرض استعمال النصوص كلها. فمعنى قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم}.
وقوله تعالى {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى} إلا ما حرم عليكم من الأقارب وغيرهن، هذا ما لا شك فيه، ونكاح الزانية ونكاح الزاني لمؤمنة مما حرم علينا، فهو مستثنى من ذلك العموم بلا شك كاستثناء سائر ما حرم علينا من النساء. وقال آخرون: معنى ينكح ههنا: يطأ، ليس معناه: يتزوج.
قال أبو محمد وهذه دعوى أخرى بلا برهان، وتخصيص للآية بالظن الكاذب، ولو كان ما قالوه لحرم على الزوج وطء زوجته إذا زنت وهذا لا يقولونه.
فإن قالوا: إنما حرم وطؤها بالزنا فقط قلنا: وهذه زيادة في التخصيص بلا
برهان، ودعوى كاذبة بيقين، إذ لا دليل عليها، وهذا لا يحل في دين الله عز وجل مع أنه تفسير كاذب بيقين، لأننا قد نجد الزاني يستكره العفيفة المسلمة فيكون زانيا بغير زانية وحاش لله من أن نقول ما يدفعه العيان. وإنما الرواية عن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما بحضرة الصحابة، فكما حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود، حدثنا أحمد بن دحيم، حدثنا إبراهيم بن حماد، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا علي بن عبد الله، هو ابن المديني، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة نا محمد بن إسحاق عن نافع، عن ابن عمر قال: بينما أبو بكر الصديق في المسجد إذ جاء رجل فلاث عليه لوثا من كلام وهو دهش فقال أبو بكر لعمر: قم فانظر في شأنه، فإن له شأنا. فقام إليه عمر، فقال له: إن ضيفا ضافني فزنى بابنته فضرب عمر في صدره، وقال له: قبحك الله، ألا سترت على ابنتك، فأمر بهما أبو بكر فضربا الحد، ثم زوج أحدهما الآخر، ثم أمر بهما أن يغربا حولا.
قال أبو محمد: هذا لا حجة لهم فيه؛ لأن الأظهر أنه كان بعد توبتهما وهو حجة عليهم، لأن فيه أن أبا بكر غربهما حولا، والحنفيون لا يرون تغريبا في الزنا جملة. والمالكيون لا يرون تغريب المرأة في الزنا. فهذا فعل أبي بكر، وعمر بحضرة الصحابة، رضي الله عنهم، بخلافهم.
وروينا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا علي بن المديني نا يزيد بن زريع، حدثنا حبيب هو المعلم قال: جاء رجل من أهل الكوفة إلى عمرو بن شعيب، فقال له: ألا تعجب من الحسن يزعم أن المجلود الزاني لا ينكح إلا مثله، يتأول بذلك هذه الآية الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة فقال له عمرو بن شعيب: وما تعجب، حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله. وكان عبد الله بن عمرو ينادي به نداء :، حدثنا حمام، حدثنا عباس بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن، حدثنا بكر، هو ابن حماد، حدثنا مسدد، حدثنا المعتمر، هو ابن سليمان التيمي قال: سمعت أبي يقول: حدثني الحضرمي بن لاحق عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ استأذنه رجل من المهاجرين في امرأة يقال لها: أم مهزول أو ذكر له أمرها، فقال له رسول الله ﷺ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، فأنزلت والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك.
ومن طريق أبي داود، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، هو ابن يزيد العطار عن يحيى، هو ابن أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن السائب بن يزيد عن رافع بن خديج " أن رسول الله ﷺ قال في حديث: ومهر البغي خبيث.
قال أبو محمد: لا يسمى في الديانة، ولا في اللغة أجرة الزنا مهرا، إنما المهر في الزواج، فإذا حرم رسول الله ﷺ مهرها فقد حرم زواجها، إذ لا بد في الزواج من مهر ضرورة، هذا لا إشكال فيه، فإذا تابت فليس مهرها مهر بغي فهو حلال،
ومن ادعى غير هذا، فقد ادعى ما لا برهان له به، فهو باطل وبالله تعالى التوفيق.
وأما التي تزوجها عفيف وهي عفيفة ثم زنى أحدهما أو كلاهما، فإنما
قلنا: إنه لا يفسخ نكاحهما لما رويناه من طريق أحمد بن شعيب نا إسحاق بن إبراهيم، هو ابن راهويه نا النضر بن شميل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا هارون بن رئاب عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير، عن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله، إن تحتي امرأة جميلة لا ترد يد لامس قال طلقها، قال: إني لا أصبر عنها قال: فأمسكها. وقد أقر ماعز بالزنا وهو محصن فسأل رسول الله ﷺ عنه أبكر أم ثيب فقيل له: بل ثيب، فأمر برجمه ولم يفسخ نكاحه. وقد جاء في هذا خلاف قديم:
روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا الحجاج بن المنهال، حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة أن علي بن أبي طالب قال في البكر إذا زنى قبل أن يدخل بأهله: جلد الحد، فيفرق بينه وبين أهله، ولها نصف الصداق، فإن زنت هي جلدت وفرق بينهما، ولا صداق لها.
ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا ابن إدريس الأودي هو عبد الله عن أشعث عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، قال: البكر إذا زنت جلدت وفرق بينها وبين زوجها وليس لها شيء ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا عبدة عن سعيد عن علي بن ثابت عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا رأى أحدكم امرأته على فاحشة أو أم ولده فلا يقربنها وهو قول الحسن، وطاووس، والنخعي، وحماد بن أبي سليمان، وغيرهم ولكن لا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ . وهاهنا خبر لو صح لقلنا به: رويناه من طريق سعيد بن المسيب عن بصرة بن أكثم أن امرأة زنت؛ فجعل رسول الله ﷺ ولدها عبدا لزوجها، ولا نعلم لسعيد سماعا من بصرة، وقد قال بعضهم: نضرة.
**
1844 - مسألة: ولا يحل لأحد أن يخطب امرأة معتدة من طلاق أو وفاة، فإن تزوجها قبل تمام العدة فسخ أبدا دخل بها أو لم يدخل، طالت مدته معها أو لم تطل، ولا توارث بينهما، ولا نفقة لها عليه، ولا صداق، ولا مهر لها. فإن كان أحدهما عالما فعليه حد الزنا من الرجم والجلد، وكذلك إن علما جميعا، ولا يلحق الولد به إن كان عالما. وإن كانا جاهلين فلا شيء عليهما، فإن كان أحدهما جاهلا، فلا حد على الجاهل، فإن كان هو الجاهل فالولد به لاحق، فإذا فسخ النكاح وتمت عدتها فله أن يتزوجها إن أرادت ذلك كسائر الناس، إلا أن يكون الرجل طلق امرأته فله أن يرتجعها في عدتها منه ما لم يكن طلاق ثلاث.
وكذلك الرجل تكون تحته الأمة ويدخل بها فتعتق فتخير فتختار فراقه ويفسخ نكاحه فتعتد بحمل أو بالأطهار أو بالشهور، فله وحده دون سائر الناس أن يخطبها في عدتها منه فإن رضيت به فله نكاحها ووطؤها.
برهان ما قلنا: قول الله عز وجل: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه}.
وأما قولنا: لا توارث، ولا نفقة، ولا كسوة، ولا صداق بكل حال جهلا أو علما، فلأنه ليس نكاحها، لأن الله تعالى أحل النكاح ولم يحل هذا العقد بلا خلاف من أحد، فإذ ليس نكاحا فلا توارث، ولا كسوة، ولا نفقة، إلا في نكاح.
وأما إلحاق الولد بالرجل الجاهل فلا خلاف فيه.
وأما وجوب الحد على العالم فلأن الله تعالى يقول: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}. وهذه ليست زوجا، ولا ملك يمين فهو عاهر. وقد قال رسول الله ﷺ: الولد للفراش وللعاهر الحجر. فلم يجعل عليه الصلاة والسلام إلا فراشا أو عهرا، وهذه ليست فراشا فهو عهر، والعهر الزنا، وعلى الزاني الحد: ولا حد على الجاهل المخطئ، لقول الله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم}. ولقوله تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ} وهذا لم يبلغه، فلا شيء عليه.
وأما المعتقة تخير: فلأن رسول الله ﷺ قال لها لو راجعتيه وسنذكره في بابه إن شاء الله عز وجل.
وأما قولنا: إن الناكح في العدة الواطئ فيها جاهلا كان أو عالما فحد وكان غير محصن ولم تحد هي لجهلها أو لم ترجم، لأنها كانت بكرا معتدة من وفاة فله أن يتزوجها بعد تمام عدتها التي تزوجها فيها، فلأن الله عز وجل ذكر لنا كل ما حرم علينا من النساء في قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم} الآية إلى قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} فلم يذكر لنا المنكوحة في العدة المدخول بها فيها في جملة ما حرم علينا ابتداء النكاح فيها بعد تمام عدتها، فإذ لم يذكرها تعالى، لا في هذه الآية، ولا في غيرها، ولا على لسان رسول الله ﷺ وقد أحلها الله تعالى في القرآن نصا بقوله عز وجل: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} وقولنا هذا هو قول الحسن، وحماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة وأصحابه، وسفيان الثوري، والشافعي، وأبي سليمان، وأصحابهم. وقال سعيد بن المسيب وربيعة، ومالك، والليث، والأوزاعي، لا تحل له أبدا.
وقال مالك، والليث: ولا بملك اليمين، وما لمن قال هذا حجة أصلا إلا شغبتان: إحداهما أنهم قالوا: تعجل شيئا قبل وقته فواجب أن يحرم عليه في الأبد كالقاتل العامد يمنع الميراث.
قال أبو محمد: وهذا من أسخف قول يسمع، قبل كل شيء: من أين وضح لهم تحريم الميراث على القاتل، ولا نص يصح فيه، ولا إجماع قد أوجب الميراث لقاتل العمد: الزهري، وسعيد بن جبير، وغيرهما. ثم من أين لهم أن من تعجل شيئا قبل وقته وجب أن يحرم عليه أبدا وأي نص جاء بهذا أو أي عقل دل عليه ثم لو صح لهم أن القاتل يمنع من الميراث فمن أين لهم أن ذلك لتعجله إياه قبل وقته وكل هذا كذب وظن فاسد وتخرص بالباطل، ويلزمهم إن طردوا هذا الدليل السخيف أن يقولوا فيمن غصب مال مورثه: أن يحرم عليه في الأبد، لأنه استعجله قبل وقته. وأن يقولوا في امرأة سافرت في عدتها: أن يحرم عليها السفر أبدا. ومن تطيب في إحرامه: أن يحرم عليه الطيب أبدا. وأن يقولوا فيمن اشتهى شيئا وهو صائم في رمضان فأكله؛ أو وطئ جاريته أو أمته وهو صائم في رمضان أو وهي حائض: أن يحرم عليه ذلك الطعام في الأبد، وتحرم تلك الأمة أو امرأته في الأبد، لأنه تعجل كل ذلك قبل وقته، والذي يلزمهم أكثر من هذا. والثانية رواية عن عمر رضي الله عنه منقطعة: منها: ما حدثناه يونس بن عبد الله، حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا صالح بن مسلم قال: قلت للشعبي: رجل طلق امرأته تطليقة فجاء آخر فتزوجها في عدتها فقال الشعبي: قال عمر بن الخطاب: يفرق بينها وبين زوجها، وتكمل عدتها الأولى، وتأتنف من هذه عدة جديدة، ويجعل صداقها في بيت المال، ولا يتزوجها أبدا ويصير الأول خاطبا. وقال علي بن أبي طالب: يفرق بينهما، وتكمل عدتها الأولى، وتستقبل من هذا عدة جديدة ولها الصداق بما استحل من فرجها، ويصير كلاهما خاطبين قد أخبرتك بقول هذين، فإن أخبرتك برأي فبل عليه. وجاء هذا عن عمر من طرق ليس منها شيء يتصل، وروي خلافها كما ذكرنا عن علي، وابن مسعود.
قال أبو محمد: لا عجب أعجب من تعلق هؤلاء القوم بروايات منقطعة عن عمر قد خالفه علي فيها، فمن جعل قول أحدهما أولى من الآخر بلا برهان وثانية أنهم قد خالفوا عمر فيما صح عنه يقينا من هذه القضية إذ جعل مهرها في بيت المال
كما روينا من طريق وكيع عن زكريا بن أبي زائدة، وإسماعيل بن أبي خالد، كلاهما عن الشعبي عن مسروق أن امرأة نكحت في عدتها ففرق بينهما عمر، وجعل مهرها في بيت المال، وقال: نكاحها حرام، ومهرها حرام. حدثنا يونس بن عبد الله، حدثنا أبو بكر بن أحمد بن خالد، حدثنا أبي، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام، حدثنا يزيد عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق، أو عن عبيد بن نضلة عن مسروق شك داود في أحدهما وقال: رفع إلى عمر امرأة نكحت في عدتها، فقال: لو أنكما علمتما لرجمتكما، فضربهما أسواطا، وفرق بينهما، وجعل المهر في سبيل الله عز وجل، وقال: لا أجيز مهرا لا أجيز نكاحه.
قال أبو محمد: عبيد بن نضلة إمام ثقة. ومسروق كذلك، فلا نبالي عن أيهما رواه وقد ثبت داود بن أبي هند على أنه عن أحدهما بلا شك.
قال علي: فخالفوه في جعل مهرها في بيت المال، وهو الثابت عن عمر، فهان عليهم خلافه في الحق، واتبعوه فيما لا برهان على صحته فيما قد خالفه فيه غيره من الصحابة كما أوردنا. وثالثة وهي أنه قد صح رجوع عمر عن ذلك:
كما روينا عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر قال: مهرها في بيت المال، ولا يجتمعان يعني التي نكحت في العدة ودخل بها الذي نكحها. وقال سفيان: فأخبرني أشعث عن الشعبي عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك، وجعل لها مهرها، وجعلهما يجتمعان. فأي شيء أعجب من تماديهما على خلاف عمر في الثابت عنه من أن يجعل مهرها في بيت المال، وعلى قوله قد رجع عمر عنها وكفى بهما خطأ. ورابعة أنه قد صح عن عمر ما حدثناه حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي، حدثنا الدبري، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب بالجابية نكحت عبدها فانتهرها عمر وهم أن يرجمها وقال لها: لا يحل لك مسلم بعده. فهذا أصح سند عن عمر بحضرة الصحابة، ولم يلتفتوا إليه ولجوا في الخطأ تقليدا لخطأ مالك بعد رجوع عمر عنه ونسأل الله العافية.
ومن عجائب الدنيا قولهم: من اشترى أمة فوجدها حاملا من زوج كان لها فمات بعد أن وطئها، فإنه لا تحل له أبدا، ولا بملك اليمين. وقالوا: من تزوج امرأة لا زوج لها فدخل بها فوطئها، ثم ظهر بها حمل من زنى أو من غصب كان بها قبل نكاحه، فإنها لا تحل له أبدا، ما ندري لماذا وقالوا: من تزوج أمة أعتقت قبل أن تتم حيضة بعد عتقها فدخل بها حرمت عليه في الأبد فلجوا هذا اللجاج الفاسد. ثم لم يلبثوا أن قالوا: من تزوج امرأة لها زوج قائم حي حاضر أو غائب يظنان أنه قد مات أو يوقنان بحياته، فدخل بها فوطئها: أنها لا تحرم عليه في الأبد، بل له أن يتزوجها إن طلقها الزوج أو مات. وهذا هو المستعجل قبل الوقت بلا شك. وقالوا: من زنى بامرأة لم تحرم عليه في الأبد، فرأوا الزنا أخف من زواج الجاهل في العدة ورأوا ما لا حد فيه، ولا إثم للجهالة أغلظ من الحرام المتيقن فهل في العجب أكثر من هذا ونسأل الله العافية.
1845 - مسألة: ومن انفسخ نكاحه بعد صحته بما يوجب فسخه فلها المهر المسمى كله، فإن لم يسم لها صداقا فلها مهر مثلها دخل بها أو لم يدخل.
برهان ذلك: قول الله عز وجل: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} فالصداق واجب لها بصحة العقد ودخل بها أو لم يدخل فإذا انفسخ فحقها في الصداق باق، كما لو مات، ولا فرق.
ومن ادعى أنه ليس لها في الفسخ قبل الدخول إلا نصف الصداق فإنما قاله قياسا على الطلاق قبل الدخول، والقياس كله باطل، ولو كان القياس حقا لكان هذا منه باطلا، لأن الطلاق فعل المطلق، والفسخ ليس فعله، فلا تشابه بين الفسخ والطلاق، بل الفسخ بالموت أشبه، لأنهما يقعان بغير اختيار الزوج، ولا يقع الطلاق إلا باختياره.
وكذلك من أسقط جميع الصداق في بعض وجوه الفسخ إذا جاء الفسخ من قبلها فقوله باطل، لأنه إسقاط لما أوجبه الله تعالى بلا برهان وبالله تعالى التوفيق.
1846 - مسألة: ومن طلق قبل أن يدخل بها فلها نصف الصداق الذي سمي لها
وكذلك لو دخل بها ولم يطأها طال مقامه معها أو لم يطل هذا في كل مهر كان بصفة غير معين، كعدد، أو وزن، أو كيل، أو شيء موصوف، أو في مكان بعينه إن وجد صحيحا، وسواء كان تزوجها بصداق مسمى في نفس العقد أو تراضيا عليه بعد ذلك أو لم يتراضيا، فقضي لها بمهر مثلها.
برهان ذلك: قول الله عز وجل: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} الآية. وفيما ذكرنا اختلاف قديم وحديث في دخوله بها ولم يطأها، وفي ضياع المهر، وفي الفرق بين كون الصداق مفروضا في العقد وبين تراضيهما عليه بعد العقد، أو الحكم لها به عليه والتسوية بين ذلك كله.
فأما الأختلاف في الفرق بين كون الصداق مفروضا في العقد، وبين تراضيهما بعد العقد، أو الحكم لها به عليه فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: إنما يقضى لها بنصف الصداق إذا كان الصداق مفروضا لها في نفس العقد وأما إن تراضيا عليه بعد ذلك، أو اختلفا فيه فحكم عليه بمهر مثلها فهاهنا إن طلقها قبل الدخول فلا شيء لها إلا المتعة.
وقال مالك والشافعي، وأبو سليمان، وأصحابهم: لها النصف في كل ذلك.
قال أبو محمد: وبهذا نأخذ؛ لأن قول الله تعالى: {فنصف ما فرضتم عموم} لكل صداق في نكاح صحيح فرضه الناكح في العقد أو بعده، ولم يقل عز وجل: {فنصف ما فرضتم} في نفس العقد والزائد لهذا الحكم مخطئ مبطل متعد لحدود الله تعالى.
وأما الذي فرض عليه الحاكم صداق مثلها، فإنه وإن كان قد أبى من الواجب عليه في ذلك فحكم الله تعالى عليه بقوله الصادق: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} موجب عليه أن يفرض لها أحد وجهين، لا بد له من أحدهما ضرورة: إما ما رضيت،
وأما مهر مثلها، فأيهما لزمه برضاه أو بحكم حق فقد فرضه لها، إذ عقد نكاحها يقينا في علم الله عز وجل، وقد وجب لها في ماله وما نعلم لمن خالف هذا حجة أصلا. ونحن نشهد بشهادة الله تعالى: أن الله تعالى لو أراد بقوله: {فنصف ما فرضتم} في نفس العقد خاصة لبينه لنا ولم يهمله حتى يبينه لنا أبو حنيفة، وما هنالك. فإذا لا شك في هذا فقد أيقنا أن الله تعالى أراد بكل حال.
وأما من دخل بزوجته ولم يطأها طال مقامه معها أو لم يطل فإن الناس قد اختلفوا فيه: فروينا من طريق أبي عبيد، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن عوف بن أبي جميلة عن زرارة بن أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون: أنه إذا أغلق الباب، وأرخى الستر: فقد وجب الصداق.
ومن طريق وكيع عن موسى بن عبيدة عن نافع بن جبير قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: إذا أرخى الستر، أو أغلق الباب: فقد وجب الصداق.
ومن طريق عبد الرزاق عن يحيى بن أبي كثير عن سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال: قال عمر بن الخطاب: إذا أرخيت الستر وغلقت الأبواب فقد وجب الصداق وهذا صحيح عن عمر.
ومن طريق أبي عبيد نا يزيد، هو ابن هارون عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما قالا جميعا: إذا أرخيت الستور: فقد وجب الصداق.
ومن طريق أبي عبيد، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا أغلق الباب وأرخي الستر: فقد وجب الصداق.
ومن طريق أبي عبيد، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن سليمان بن يسار أن الحارث بن الحكم تزوج امرأة فقال عندها، ثم راح وفارقها، فأرسل مروان إلى زيد بن ثابت فقص عليه القصة فقال زيد: لها الصداق، فقال مروان: إنه ممن لا يتهم، فقال زيد بن ثابت: أرأيت لو حملت أكنت ترجمها قال: لا، فقال زيد: بلى. قال أبو عبيد: وحدثناه أبو النضر عن الليث بن سعد عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت مثله وفي آخره: فلذلك تصدق المرأة في مثل هذا.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عبد الكريم، عن ابن مسعود مثل قول علي، وعمر.
ومن طريق حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن الركين بن الربيع عن حنظلة: أن المغيرة بن شعبة قضى في امرأة عنين فرق بينهما بجميع الصداق.
ومن طريق ابن وهب وعن رجال من أهل العلم: أن أنس بن مالك قال في التي دخل بها زوجها ولم يطأها: إن الصداق لها وعليها العدة، ولا رجعة له عليها.
وهو قول علي بن الحسين، وروي عن سعيد بن المسيب. وصح عن سليمان بن يسار، وعن عروة بن الزبير قضى به في عنين. وعن عبد الكريم وزاد: وإن كانت حائضا. وعن عطاء مثل قول عبد الكريم وهو قول ابن أبي ليلى، والأوزاعي، وسفيان الثوري، إلا أن تكون " رتقاء " فلا يجب لها إلا نصف الصداق. وصح أيضا عن الليث بن سعد وهو قول الزهري، وأحمد، وإسحاق.
وروينا عن عمر قولا آخر: رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير: أن عمر بن الخطاب قضى في رجل اختلى بامرأة ولم يخالطها بالصداق كاملا، يقول: إذا خلا بها ولم يغلق بابا، ولا أرخى سترا. وعن إبراهيم النخعي قول آخر: رويناه من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن المغيرة قال: قال إبراهيم النخعي: كان يقال: إذا رأى منها ما يحرم على غيره فلها الصداق.
وقال أبو حنيفة: إذا خلا بها في بيتها وطئ أو لم يطأ فالمهر كله لها إلا أن يكون أحدهما محرما، أو أحدهما مريضا، أو كانت هي حائضا، أو صائمة في رمضان، فليس لها في كل ذلك إلا نصف المهر فلو خلا بها وهو صائم صيام فرض في ظهار، أو نذر، أو قضاء رمضان، فعليه الصداق كله، وعليها العدة، فلو خلا بها في صحراء، أو في مسجد، أو في سطح لا حجرة عليه، فليس لها إلا نصف الصداق.
قال أبو محمد: هذه أقوال لم تأت قط عن أحد من السلف، ولا جاء بها قرآن، ولا سنة، ولا قياس، ولا رأي سديد.
وقال مالك: إذا خلا بها فقبلها أو كشفها ثم طلقها واتفقا على أنه لم يطأها، فإن كان ذلك قريبا فليس لها إلا نصف الصداق، فإن تطاول ذلك حتى أخلق ثيابها، فلها المهر كله.
قال أبو محمد: وهذا قول لا يحفظ عن أحد قبله، وليت شعري كم حد هذا التطاول الناقل عن حكم القرآن، وما حد الإخلاق لهذه الثياب. وهاهنا قول آخر كما رويناه من طريق وكيع عن الحسن بن صالح بن حي عن فراس عن عامر الشعبي، عن ابن مسعود قال: لها النصف وإن جلس بين رجليها.
ومن طريق سعيد بن منصور ثنا هشيم، حدثنا ليث، هو ابن أبي سليم عن طاووس، عن ابن عباس أنه كان يقول في رجل دخلت عليه امرأته ثم طلقها، فزعم أنه لم يمسها: عليه نصف الصداق.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج أخبرني ليث عن طاووس، عن ابن عباس قال: لا يجب الصداق وافيا حتى يجامعها ولها نصفه.
ومن طريق أبي عبيد نا هشيم أنا المغيرة بن مقسم عن الشعبي عن شريح قال: لم أسمع الله عز وجل ذكر في كتابه بابا، ولا سترا إذا زعم أن لم يمسها فلها نصف الصداق.
ومن طريق سعيد بن منصور، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي: أن عمرو بن نافع طلق امرأته وكانت قد أدخلت عليه، فزعم أنه لم يقربها، وزعمت أنه قربها، فخاصمته إلى شريح، فقضى شريح بيمين عمرو " بالله الذي لا إله إلا هو ما قربتها " وقضى عليه لها بنصف الصداق.
قال أبو محمد: كانت هذه المطلقة بنت يحيى بن الجزار.
ومن طريق أبي عبيد، حدثنا معاذ هو معاذ العنبري عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين أنه كان لا يرى إغلاق الباب، ولا إرخاء الستر شيئا.
ومن طريق وكيع عن زكريا، هو ابن أبي زائدة عن الشعبي، أنه قال: لها نصف الصداق يعني التي دخل بها ولم يقل: أنه مسها.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن طاووس عن أبيه قال: لا يجب الصداق وافيا حتى يجامعها، إن أغلق عليها الباب، قلت له: فإذا وجب الصداق وجبت العدة، قال: أو يقول أحد غير ذلك ومن طريق حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن مكحول قال: لا يجب الصداق والعدة إلا بالملامسة البينة: تزوج رجل جارية فأراد سفرا فأتاها في بيتها مخلية ليس عندها أحد من أهله، فأخذها فعالجها، فمنعت نفسها، فصب الماء ولم يفترعها، فساغ الماء فيها، فاستمر بها الحمل، فثقلت بغلام، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فبعث إلى زوجها فسأله فصدقها، فعند ذلك قال عمر: من أغلق الباب أو أرخى الستر فقد وجب الصداق، وكملت العدة.
قال أبو محمد: وهو قول الشافعي، وأبي ثور، وأبي سليمان، وأصحابهم.
قال أبو محمد: أما قول أبي حنيفة، ومالك: فمخالفان لكل من ذكرنا من الصحابة، ولا نعلم لهما حجة أصلا، ولا سلفا في قولهما، فلم يبق إلا قول من قال: إن أغلق بابا، أو أرخى سترا فقد وجب الصداق فوجدنا من ذهب إلى هذا القول يحتجون بقول الله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}. قالوا: فالصداق كله واجب لها إلا أن يمنع منه إجماع. وكما روينا من طريق البخاري، حدثنا عمرو بن زرارة، حدثنا إسماعيل، هو ابن علية عن أيوب السختياني عن سعيد بن جبير: أن ابن عمر قال له: فرق رسول الله ﷺ بين أخوي بني العجلان، وذكر الحديث، قال أيوب: فقال لي عمرو بن دينار: إن في الحديث شيئا لا أراك تحدثه قال: قال الرجل: مالي قال: قيل: لا مال لك إن كنت صادقا فقد دخلت بها.
قال أبو محمد: لا حجة في هذا لأن عمرو بن دينار لم يذكر من أخبره بهذا، فحصل مرسلا، ولا حجة في مرسل.
وأيضا: فإنما فيه قال: قيل: وليس فيه أن رسول الله ﷺ قال ذلك فسقط من كل وجه وقد أسنده عمرو بن دينار ولم يذكر فيه هذا اللفظ لكن كما، حدثنا حمام بن أحمد، حدثنا عباس بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن، حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا عمرو بن دينار قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول للمتلاعنين حسابكما على الله، أحدكما كاذب، فقال: يا رسول الله مالي مالي، قال: لا مال لك، إن كنت صادقا عليها فهو بما استحللت من فرجها وذكر الحديث. قالوا: فالدخول بها استحلال لفرجها
قال أبو محمد: هذا تمويه، بل حين العقد للنكاح يصح استحلاله لفرجها فلولا نص القرآن بأنه إن لم يمسها حتى طلقها فنصف الصداق فقط لكان الكل لها، كما هو لها إن مات أو ماتت، فوجب الوقوف عند ذلك. وهكذا القول في قوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} أن هذه الآية الأخرى خصتها، فلم يوجب الطلاق قبل المس إلا نصف الصداق. وشغبوا أيضا بخبر ساقط رويناه من طريق أبي عبيد، حدثنا أبو معاوية والقاسم بن مالك عن جميل بن يزيد الطائي عن زيد بن كعب الأنصاري قال: تزوج رسول الله ﷺ امرأة من بني غفار فلما دخل عليها رأى بكشحها بياضا فقال: البسي عليك ثيابك والحقي بأهلك. زاد القاسم بن مالك في روايته: وأمر لها بالصداق كاملا.
قال أبو محمد: جميل بن زيد ساقط متروك الحديث غير ثقة ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة، لأنه لم يقل عليه الصلاة والسلام أنه لها واجب، بل هو تفضل منه، كما
قال عز وجل: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} كما لو تفضلت هي فأسقطت عنه جميع حقها لاحسنت. وموهوا أيضا بخبر آخر ساقط: رويناه أيضا من طريق أبي عبيد، حدثنا سعيد بن أبي مريم، وعبد الغفار بن داود، قال سعيد: عن يحيى بن أيوب وقال عبد الغفار: عن ابن لهيعة، ثم اتفق يحيى بن أيوب، وابن لهيعة، كلاهما عن عبيد الله بن أبي جعفر عن صفوان بن سليم عن عبد الله بن يزيد عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال رسول الله ﷺ: من كشف امرأة فنظر إلى عورتها فقد وجب الصداق. وهذا لا حجة فيه لوجوه:
أولها أنه مرسل، ولا حجة في مرسل.
والثاني أنه من طريق يحيى بن أيوب، وابن لهيعة وهما ضعيفان. والثالث أنه ليس فيه للدخول ذكر، ولا أثر، وإنما فيه كشفها والنظر إلى عورتها، وقد يفعل هذا بغير مدخول بها، وقد لا يفعله في مدخول بها فهو مخالف لقول جميعهم. ثم ليس فيه أيضا: بيان أنه في المتزوجة فقط، بل ظاهره عموم في كل زوجة وغيرها، فبطل أن يكون لهم متعلق جملة.
وأما من تعلق بأنها لو حملت لحق الولد ولم تحد فلا حجة لهم في هذا؛ لأنه لم يدخل بها أصلا، ولا عرف أنه خلا بها، لكن كان اجتماعه بها سرا ممكنا، فحملت، فالولد لاحق، ولا حد في ذلك أصلا لأنها فراش له حلالا مذ يقع العقد، لا معنى للدخول في ذلك أصلا، وقد تحمل من غير إيلاج، لكن بتشفير بين الشفرين فقط وكل هذا لا يسمى مسا. فإن تعلقوا بمن جاء ذلك عنه من الصحابة، رضي الله عنهم، فلا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ . وقد اختلفوا كما ذكرنا فوجب الرد عند التنازع إلى القرآن والسنة، فوجدنا القرآن لم يوجب لها بعدم الوطء إلا نصف الصداق. وبالله تعالى التوفيق.
**
1847 - مسألة: فإن عدم الصداق بعد قبضها له بأي وجه كأن تلف، أو أنفقته: لم يرجع عليها بشيء، والقول قولها في ذلك مع يمينها، فإن وطئها قبل الدخول أو بعده: فلها المهر كله.
قال علي: إن كان المهر شيئا بعينه فتلف في يد الزوج، فإن كانت قد طلبته منه فمنعها فهو غاصب وعليه ضمانه كله لها، أو ضمان نصفه إن طلقها قبل الدخول، فإن كان لم يمنعها إياه فهو تالف من مال المرأة، ولا ضمان على الزوج فيه، ولا في نصفه، وطئها أو طلقها قبل الوطء. وإن كان شيئا يصفه فهو ضامن له بكل حال، أو لنصفه إن طلقها قبل الدخول فإن كانت المرأة قد قبضته، فسواء كان بعينه أو بصفة، فإن تلف عندها فهو من مصيبة الزوج إن طلقها قبل الدخول، لأن الله تعالى يقول: {فنصف ما فرضتم}. فإنما أوجب له الرجوع إن كان قد دفعه إليها بنصف ما دفع، لا بنصف شيء غيره، والذي دفع إليها هو الذي فرض لها، سواء كان شيئا بعينه أو شيئا بصفة. ولو لم يكن الذي دفع إليها هو الذي فرض لها لكان لا يبرأ أبدا مما عليه فصح يقينا أنه إذا دفع إليها غير ما فرض لها، أو على الصفة التي عقد معها فقد دفع إليها ما فرض لها بلا شك. وإذا دفع إليها ما فرض لها فقد قبضت حقها، فإن تلف فلم تتعد، ولا ظلمت فلا ضمان عليها فإن أكلته أو باعته أو وهبته أو لبسته فأفنت أو أعتقته إن كان مملوكا، فلم تتعد في كل ذلك بل أحسنت.
وقال تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} فلا ضمان عليها، لأنها حكمت في مالها وحقها، وإنما الضمان على من أكل بالباطل.
قال أبو محمد: فإن بقي عندها النصف فهو له، وكذلك لو بقي بيده النصف فهو لها، فلو تعدت أو تعدى عليه ضمن أو ضمنت.
وقال أبو حنيفة: والشافعي، في كل ما هلك بيدها من الصداق بفعلها أو بغير فعلها فهي ضامنة له قيمة نصفه إن طلقها قبل الوطء وهذا قول فاسد، لما وصفنا من أنه يقضى لها بنصف غير الذي فرض لها، وهذا خلاف القرآن، وقد قلنا: إنها لم تعتد فلا ضمان عليها.
وقال مالك: ما تلف بيدها من غير فعلها ثم طلقها قبل الدخول فلا شيء له عليها. قال: فلو أكلته أو وهبته، أو كان مملوكا فأعتقته أو باعته، ثم طلقها قبل الدخول: ضمنت له نصف ما أخذت إن كان له مثل، أو نصف قيمته إن كان مما لا مثل له، فإن كانت ابتاعت بذلك شورة فليس له إلا نصف الشيء الذي اشترت.
قال أبو محمد: وهذه مناقضات ظاهرة؛ لأنه فرق بين ما أكلت ووهبت وأعتقت، وبين ما تلف بغير فعلها، ولا فرق بين شيء من ذلك، لأنها في كل ذلك غير متعدية، ولا ظالمة، فلا شيء له عليها. ثم فرق بين ما أعتقت وأكلت ووهبت، وبين ما اشترت به شورة وهذا قول لا يعضده برهان من قرآن، ولا سنة صحيحة، ولا من رواية سقيمة، ولا من قول صاحب، ولا من قياس. وادعوا في ذلك عمل أهل المدينة، وهذا احتجاج فاسد، لأنه إن كان ذلك عمل الأئمة الذين كانوا بالمدينة، رضي الله عنهم، فيعيذهم الله تعالى من أن لا يأمروا بالحق عمالهم بالعراق والشام وسائر البلاد وهذا باطل مقطوع به ممن ادعاه عليهم. فإن ادعوا أنهم فعلوا فبدل ذلك أهل الأمصار كانت دعوى فاسدة، ولم يكن فقهاء الأمصار أولى بالتبديل من تابعي المدينة. وكل هذا باطل قد أعاذ الله جميعهم من ذلك فصح أنه اجتهاد من كل طائفة قصدت به الخير وبالله تعالى التوفيق.
1848 - مسألة: ومن تزوج فسمى صداقا أو لم يسم: فله الدخول بها أحبت أم كرهت ويقضى لها بما سمى لها أحب أم كره، ولا يمنع من أجل ذلك من الدخول بها، لكن يقضى له عاجلا بالدخول، ويقضى لها عليه حسبما يوجد عنده بالصداق. فإن كان لم يسم لها شيئا قضي عليه بمهر مثلها، إلا أن يتراضيا بأكثر أو بأقل وهذا مكان اختلف السلف فيه:
روينا من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير: أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول: قال ابن عباس: إذا نكح المرأة وسمى لها صداقا فأراد أن يدخل عليها فليلق إليها رداءه، أو خاتما إن كان معه.
ومن طريق ابن وهب حدثني يونس بن يزيد الأيلي عن نافع، عن ابن عمر قال: لا يصلح للرجل أن يقع على المرأة زوجه حتى يقدم إليها شيئا من مالها ما رضيت به من كسوة أو عطاء. قال ابن جريج: وقال عطاء، وسعيد بن المسيب، وعمرو هو بن دينار لا يمسها حتى يرسل إليها بصداق أو فريضة. قال عطاء، وعمرو: إن أرسل إليها بكرامة لها ليست من الصداق أو إلى أهلها فحسبه هو يحلها له. وقال سعيد بن جبير: أعطها ولو خمارا. وقال الزهري: بلغنا في السنة أن لا يدخل بامرأة حتى يقدم نفقة أو يكسو كسوة، ذلك مما عمل به المسلمون.
وقال مالك: لا يدخل عليها حتى يعطيها مهرها الحال، فإن وهبته له أجبر على أن يفرض لها شيئا آخر، ولا بد. وذهب آخرون إلى إباحة دخوله عليها وإن لم يعطها شيئا:
كما روينا من طريق أبي داود، حدثنا محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني، حدثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني هو أبو الخير عن عقبة بن عامر أن النبي ﷺ زوج رجلا امرأة برضاهما فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا، ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية، وكان من شهدها له سهم بخيبر، فحضرته الوفاة فقال إن رسول الله ﷺ زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئا، ولكني أشهدكم أني أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، قال: فأخذته فباعته بمائة ألف.
وروينا من طريق وكيع عن هشام الدستوائي عن سعيد بن المسيب قال: اختلف أهل المدينة في ذلك، فمنهم من أجازه ولم ير به بأسا، ومنهم من كرهه، قال سعيد: وأي ذلك فعل فلا بأس به يعني دخول الرجل بالمرأة التي تزوج ولم يعطها شيئا.
ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر، ويونس بن عبيد قال منصور: عن إبراهيم النخعي؛ وقال يونس: عن الحسن، ثم اتفقا جميعا على أنه لا بأس بأن يدخل الرجل بامرأته قبل أن يعطيها شيئا.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن الزهري في الرجل يتزوج المرأة ويسمي لها صداقا هل يدخل عليها ولم يعطها شيئا فقال الزهري:
قال الله عز وجل: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} فإذا فرض الصداق فلا جناح عليه في الدخول عليها، وقد مضت السنة أن يقدم لها شيء من كسوة أو نفقة.
ومن طريق سعيد بن منصور، حدثنا هشيم ثنا حجاج عن أبي إسحاق السبيعي أن كريب بن أبي مسلم وكان من أصحاب ابن مسعود تزوج امرأة على أربعة آلاف درهم ودخل بها قبل أن يعطيها من صداقها شيئا وبهذا يقول سفيان الثوري، والشافعي، وأبو سليمان، وأصحابهم. وقال الأوزاعي: كانوا يستحسنون أن لا يدخل بها حتى يقدم لها شيئا. وقال الليث: إن سمى لها مهرا فأحب إلي أن يقدم لها شيئا، وإن لم يفعل لم أر به بأسا.
وقال أبو حنيفة: إن كان مهرها مؤجلا فله أن يدخل بها أحبت أم كرهت حل الأجل أو لم يحل فإن كان الصداق نقدا لم يجز له أن يدخل بها حتى يؤديه إليها، فلو دخل بها فلها أن تمنع نفسها منه حتى يوفيها جميع صداقها.
قال أبو محمد: أما تقسيم أبي حنيفة، ومالك، فدعوى بلا برهان: لا من قرآن، ولامن سنة، ولا قياس، ولا قول متقدم، ولا رأي له وجه فلم يبق إلا قول من أباح دخوله عليها وإن لم يعطها شيئا أو منع من ذلك.
فنظرنا في حجة من منع من ذلك فوجدناهم يحتجون بحديث فيه أن رسول الله ﷺ نهى عليا أن يدخل بفاطمة رضي الله عنهما حتى يعطيها شيئا.
قال أبو محمد: وهذا خبر لا يصح، لأنه إنما جاء من طريق مرسلة، أو فيها مجهول، أو ضعيف.
وقد تقصينا طرقها وعللها في " كتاب الإيصال " إلا أن صفتها كلها ما ذكرنا هاهنا، لا يصح شيء إلا خبر: من طريق أحمد بن شعيب، حدثنا عمرو بن منصور، حدثنا هشام بن عبد الملك الطيالسي، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن عكرمة، عن ابن عباس أن عليا قال: تزوجت فاطمة فقلت: يا رسول الله ابن لي فقال: أعطها شيئا: فقلت: ما عندي شيء، قال: فأين درعك الحطمية قلت: هو عندي، قال: فأعطها إياه.
قال أبو محمد: إنما كان ذلك على أنه صداقها، لا على معنى أنه لا يجوز الدخول إلا حتى يعطيها شيئا، وقد جاء هذا مبينا: كما، حدثنا أحمد بن قاسم قال :، حدثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم قال: حدثني جدي قاسم بن أصبغ، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا الحسن بن حماد، حدثنا يحيى بن يعمر الأسلمي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن البصري عن أنس قال: قال علي بن أبي طالب أتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله قد علمت قدمي في الإسلام ومناصحتي وإني وإني قال: وما ذاك يا علي قال: تزوجني فاطمة قال: ما عندك قلت: عندي فرسي ودرعي، قال: أما فرسك فلا بد لك منها، وأما درعك فبعها، قال: فبعتها بأربعمائة وثمانين فأتيته بها فوضعتها في حجره، ثم قبض منها قبضة وقال: يا بلال أبغنا بها طيبا وذكر باقي الحديث فهذا بيان أن الدرع إنما ذكرت في الصداق لا من أجل الدخول، لأنها قصة واحدة بلا شك.
قال أبو محمد: وقد جاء في هذا أثر: كما روينا من طريق أبي عبيد، حدثنا عمر بن عبد الرحمن نا منصور بن المعتمر عن طلحة بن مصرف عن خيثمة بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ: أن رجلا تزوج امرأة فجهزها إليه النبي ﷺ قبل أن ينقد شيئا.
قال علي: خيثمة من أكابر أصحاب ابن مسعود وصحب عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم، قال علي:
قال الله عز وجل: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين}،
ولا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه من حين يعقد الزواج فإنها زوجة له " فهو حلال لها وهي حلال له، فمن منعها منه حتى يعطيها الصداق أو غيره فقد حال بينه وبين امرأته بلا نص من الله تعالى، ولا من رسوله ﷺ لكن الحق ما قلنا أن لا يمنع حقه منها، ولا تمنع هي حقها من صداقها، لكن يطلق على الدخول عليها أحبت أم كرهت ويؤخذ مما يوجد له صداقها أحب أم كره. وصح عن النبي ﷺ تصويب قول القائل أعط كل ذي حق حقه وبالله تعالى التوفيق.
1849 - مسألة: وكل نكاح عقد على صداق فاسد، أو على شرط فاسد، مثل أن يؤجل إلى أجل مسمى أو غير مسمى، أو بعضه إلى أجل كذلك، أو على خمر، أو على خنزير، أو على ما يحل ملكه، أو على شيء بعينه في ملك غيره، أو على أن لا ينكح عليها، أو أن لا يتسرى عليها، أو أن لا يرحلها عن بلدها، أو عن دارها، أو أن لا يغيب مدة أكثر من كذا، أو على أن يعتق أم ولده فلانة، أو على أن ينفق على ولدها، أو نحو ذلك فهو نكاح فاسد مفسوخ أبدا وإن ولدت له الأولاد، ولا يتوارثان، ولا يجب فيه نفقة، ولا صداق، ولا عدة. وهكذا كل نكاح فاسد، حاشا التي تزوجت بغير إذن وليها جاهلة فوطئها، فإن كان سمى لها مهرا فلها الذي سمي لها، وإن كان لم يسم لها مهرا فلها عليه مهر مثلها، فإن لم يكن وطئها فلا شيء لها. فإن كان الصداق الفاسد، والشروط الفاسدة إنما تعاقداها بعد صحة عقد النكاح خاليا من كل ذلك فالنكاح صحيح تام، ويفسخ الصداق، ويقضى لها بمهر مثلها، إلا أن يتراضيا بأقل أو أكثر، فذلك جائز، وتبطل الشروط كلها.
برهان ذلك: قول رسول الله ﷺ: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وهذه كلها شروط ليست في كتاب الله عز وجل فهي باطلة.
وكذلك تأجيل الصداق أو بعضه، لأن الله تعالى يقول {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} فمن شرط أن لا يؤتيها صداقها أو بعضه مدة ما فقد اشترط خلاف ما أمر الله تعالى به في القرآن. وقوله ﷺ: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. والخبران صحيحان مشهوران
وقد ذكرناهما بأسانيدهما فيما سلف من كتابنا هذا وكل ما ذكرنا فليس عليه أمر رسول الله ﷺ فهو باطل مردود بنص كلامه عليه الصلاة والسلام وبضرورة العقل، يدري كل ذي عقل أن كل ما عقدت صحته بصحة ما لا يصح، فإنه لا يصح، فكل نكاح عقد على أن لا صحة له إلا بصحة الشروط المذكورة فلا صحة له فإذ لا صحة له فليست زوجة، وإذ ليست زوجة: فإن كان عالما فعليه حد الزنا، ولا يلحق به الولد لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر فليس إلا فراش أو عهر، فإذ ليست فراشا فهو عهر، والعهر لا يلحق فيه ولد، والحد فيه واجب. فإن كان جاهلا فلا حد عليه والولد لاحق به، لأن رسول الله ﷺ أتى بالحق، ولم تزل الناس يسلمون وفي نكاحهم الصحيح والفاسد، كالجمع بين الأختين، ونكاح أكثر من أربع، وامرأة الأب، ففسخ عليه الصلاة والسلام كل ذلك وألحق فيه الأولاد، فالولد لاحق بالجاهل لما ذكرنا.
وأما استثناؤنا التي نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فللخبر الثابت الذي ذكرنا قبل بإسناده من قوله ﷺ: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل إلى قوله عليه الصلاة والسلام فالمهر لها بما أصاب منها وصح أيضا فلها مهرها بما أصاب منها. فقوله عليه الصلاة والسلام فالمهر لها تعريف بالألف واللام. وقوله عليه الصلاة والسلام فلها مهرها إضافة المهر إليها، فهذان اللفظان يوجبان لها المهر المعهود المسمى ومهرا يكون لها إن لم يكن هنالك مهر مسمى وهو مهر مثلها، ولا يجوز أن يحكم بهذا لكل نكاح فاسد، لأنه قياس والقياس كله باطل. وقوله عليه الصلاة والسلام: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام فصح يقينا: أن ماله حرام عليها إلا بنص قرآن، أو سنة، وما كان ربك نسيا. ونحن نشهد بشهادة الله عز وجل أن الله تعالى لو أراد أن يجعل في الوطء في النكاح الفاسد مهرا لبينه في كتابه، أو على لسان رسوله ﷺ كما بين ذلك في التي نكحت بغير إذن وليها، ولما اقتصر على هذه وحدها دون غيرها تلبسا على عباده، وحاشا لله من هذا.
فإن قالوا: قال الله عز وجل {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}
وقال تعالى: {والحرمات قصاص} والوطء في النكاح الفاسد اعتداء وحرمة منتهكة، فالواجب أن يعتدى عليه في ماله بمثل ذلك، وأن يقتص بمثل ذلك في ماله
قلنا: قول الله عز وجل حق، وإنتاجكم منه عين الباطل؛ لأن الله تعالى أوجب أن يعتدى على المعتدي، ويقص منه حرمته بمثل ما اعتدى عليه في حرمته، وليس المال مثلا للفرج، إلا أن يأتي به نص فيوقف عنده ولو كان هذا لوجب على من ضرب آخر أو شتمه أن يقتص من ماله مثل ذلك، وأن يعتدى عليه في ماله، ولوجب أيضا على من زنى بامرأة أو لاط بغلام مهر مثلها أو غرامة ما، وهذه أحكام الشيطان، وطغاة العمال، وفساق الشرط، ليس أحكام الله تعالى، ولا أحكام رسوله ﷺ إنما حكم الله تعالى وحكم رسوله ﷺ أن لا تتعدى حدوده، فإذا حكم بغرامة مال حكمنا بها، وإذا لم يحكم بها لم نحكم بها. وبالله تعالى التوفيق.
وقد ذكرنا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي حدثناه محمد بن سعيد بن نبات، حدثنا إسماعيل بن إسحاق النصري، حدثنا عيسى بن حبيب، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا جدي محمد بن عبد الله ثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق أن عمر بن الخطاب قال " إن كان النكاح حراما فالصداق حرام ". وذكرنا فعل ابن عمر في إبطاله صداق التي تزوجها عبده بغير إذنه.
كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، حدثنا أحمد بن عبد البصير، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن همام بن يحيى عن مطر الوراق عن نافع: أن ابن عمر كان إذا تزوج عبده بغير إذنه جلده وفرق بينهما، وقال: أبحت فرجك ولم يجعل لها صداقا.
وبه إلى عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن عاصم الأحول قال سمعت الحسن البصري يقول في الحرة التي تتزوج العبد بغير إذن سيده: أباحت فرجها، لا شيء لها.
وبه إلى محمد بن المثنى، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان الثوري عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: كل فرج لا يحل فلا مهر له.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي ليلى عن فقهائهم في التي ينكحها العبد بغير إذن سيده قال: يأخذ السيد منها ما أصدقها غلامه عجلت قبل أن تعلم.
وبه إلى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سليمان بن يسار، أنه قال: في التي تنكح في عدتها: مهرها في بيت المال.
ومن طريق وكيع عن شعبة بن الحجاج قال: سألت الحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان عن العبد يتزوج الحرة بغير إذن مولاه فقالا جميعا: يفرق بينهما، ولا صداق لها، ويؤخذ منها ما أخذت. ونحو هذا عن إبراهيم النخعي وهو قول أبي سليمان، وأصحابنا.
وأما مالك: فإنه فرق هاهنا فروقا لا تفهم: فمنها: نكاحات هي عنده فاسدة تفسخ قبل الدخول وتصح بعد الدخول. ومنها: ما يفسخه قبل الدخول وبعد الدخول أيضا ما كان من قرب فإذا طال بقاؤه معها لم يفسخه. ومنها: ما يفسخه قبل الدخول وبعد الدخول، وإن طال بقاؤه معها ما لم تلد له أولادا، فإن ولدت له أولادا لم يفسخه. ومنها: ما يفسخه قبل الدخول وبعده، وإن طال بقاؤه معها وولدت له الأولاد. وهذه عجائب لا يدري أحد من أين قالها، ولا نعلم أحدا قالها قبله، ولا معه إلا من قلده من المنتمين إليه، ولا يخلو كل نكاح في العالم من أن يكون صحيحا أو غير صحيح، ولا سبيل إلى قسم ثالث، فالصحيح صحيح أبدا إلا أن يوجب فسخه قرآن أو سنة، فيفسخ بعد صحته متى وقعت الحال التي جاء النص بفسخه معها.
وأما الذي ليس صحيحا فلا يصح أبدا، لأن الفرج الحرام لا يحله الدخول به وطؤه، ولا طول البقاء على استحلاله بالباطل، ولا ولادة الأولاد منه، بل هو حرام أبدا.
فإن قالوا: ليس بحرام
قلنا: فلم فسختم العقد عليه قبل الدخول إذا وهو صحيح غير حرام وهذه أمور لا ندري كيف ينشرح قلب من نصح نفسه لأعتقادها، أو كيف ينطلق لسانه بنصرها ونسأل الله العافية.
وأما كل عقد صح ثم لما صح تعاقدا شروطا فاسدة فإن العقد صحيح لازم، وإذ هو صحيح لازم فلا يجوز أن يبطل بغير قرآن، أو سنة ومحرم الحلال كمحلل الحرام، ولا فرق، لكن تبطل تلك الشروط الفاسدة أبدا ويفسخ حكم من حكم بإمضائها، والحق حق، والباطل باطل، قال الله تعالى: {ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} وقال تبارك وتعالى ويحق الله الحق بكلماته وبالله تعالى التوفيق.
1850 - مسألة: وكل ما جاز أن يتملك بالهبة أو بالميراث فجائز أن يكون صداقا وأن يخالع به وأن يؤاجر به سواء حل بيعه أو لم يحل كالماء، والكلب، والسنور، والثمرة التي لم يبد صلاحها والسنبل قبل أن يشتد، لأن النكاح ليس بيعا، هذا ما لا يشك فيه ذو حس سليم. وقال بعض الغافلين: لا يحل الصداق بما لا يجوز بيعه وهذا حكم فاسد بلا برهان، لا من قرآن، ولا سنة، ولا رواية سقيمة، ولا قول صاحب، ولا قياس، ولا رأي له وجه يعقل، وليت شعري ماذا باع أو ماذا اشترى أرقبتها فبيع الحر لا يجوز أم فرجها فهذا أبين في الحرام وهو قد استحل بكلمة الله تعالى فرجها الذي كان حراما عليه قبل النكاح كما استحلت بكلمة الله تعالى فرجه الذي كان حراما عليها قبل النكاح ففرج بفرج وبشرة ببشرة، وأوجب الله تعالى عليه وحده الصداق لها زيادة على استحلالها فرجه، وليس البيع هكذا إنما هو جسم يبادل بجسم، أحدهما ثمن والآخر مبيع مثمون لا زيادة هاهنا لأحدهما على الآخر، فوضح لكل ذي عقل سليم فساد قول من شبه النكاح بالبيع، وأيضا فإن البيع بغير ذكر ثمن لا يحل والنكاح بغير ذكر صداق حلال صحيح، والعجب أنهم يمنعون النكاح بصداق ثمرة لم يبد صلاحها قياسا على البيع ثم أجازوا النكاح بوصيف وبيت وخادم، وهكذا غير موصوف بشيء من ذلك، ولا يحل عندهم بيع وصيف، ولا بيع بيت، ولا بيع خادم غير معين بشيء من ذلك، ولا موصوف وهذا كما ترى ونعوذ بالله من التهوك في الخطأ في الدين.
**
1851 - مسألة: وجائز أن يكون صداقا كل ما له نصف قل أو كثر ولو أنه حبة بر أو حبة شعير أو غير ذلك، وكذلك كل عمل حلال موصوف، كتعليم شيء من القرآن أو من العلم أو البناء أو الخياطة أو غير ذلك إذا تراضيا بذلك وورد في هذا اختلاف.
كما روينا من طريق وكيع عن داود بن يزيد الأودي عن الشعبي عن علي رضي الله عنه قال: لا يكون صداق أقل من عشرة.
ومن طريق عبد الرزاق عن حسن صاحب له عن شريك عن داود بن يزيد الأودي عن الشعبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم:
وبه إلى حسن المذكور أخبرني المغيرة عن إبراهيم النخعي قال: " أكره أن يكون المهر مثل أجر البغي، ولكن العشرة دراهم والعشرون ".
وبه يقول أبو حنيفة، وأصحابه. وعن إبراهيم روايتان غير هذه صحيحتان: إحداهما: رويناها من طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم النخعي قال: لا يتزوج الرجل على أقل من أربعين. والأخرى: رويناها من طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال: السنة في النكاح الرطل من الفضة.
وروينا من طريق شعبة عن أبي سلمة الكوفي قال: سمعت الشعبي يقول: كانوا يكرهون أن يتزوج الرجل على أقل من ثلاثة أواق.
ومن طريق سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، حدثنا حسام بن المصك عن أبي معشر عن سعيد بن جبير: أنه كان يحب أن يكون الصداق خمسين درهما.
قال أبو محمد: أما الرواية عن الشعبي فساقطة، لأنها عن أبي سلمة الكوفي، ولا يدرى من هو ولو صحت لكانت هي والروايتان عن إبراهيم في الأربعين: إما درهما، وأما أوقية، وأما دينارا. والرواية عن سعيد بن جبير قول بلا
برهان، وما كان هكذا فهو باطل.
وأما الرواية عن إبراهيم بالعشرة دراهم فساقطة؛ لأنها عن حسن صاحب عبد الرزاق، ولا يدري أحد من هو. والرواية عن علي رضي الله عنه باطل، لأنها عن داود بن يزيد الأودي وهو في غاية السقوط، كان الشعبي يقول: إذا رأى اختلاطه لا تموت حتى تكون في رأسك ثلاث كيات، قال الراوي: فما مات حتى كوي في رأسه ثلاث كيات. ثم هي مرسلة، لأن الشعبي لم يسمع من علي قط حديثا. واحتجوا لقولهم هذا الفاسد بخبرين موضوعين: أحدهما عن حرام بن عثمان، عن ابني جابر بن عبد الله عن أبيهما عن النبي ﷺ قال: لا صداق أقل من عشرة دراهم. والآخر عن بقية عن مبشر بن عبيد الحلبي عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء، وعمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله عن رسول الله ﷺ: لا مهر دون عشرة دراهم. وقالوا: النكاح استباحة فرج وهو عضو منها فوجب أن لا يجوز إلا بما تقطع فيه اليد وقد احتج المالكيون بهذه التشعيبة الساقطة أيضا.
قال أبو محمد: لا حجة لهم غير ما ذكرنا، والحديثان المذكوران مكذوبان بلا شك أحدهما: من طريق حرام بن عثمان وهو في غاية السقوط لا تحل الرواية عنه والآخر: من طريق مبشر بن عبيد الحلبي وهو كذاب مشهور بوضع الكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الحجاج بن أرطاة وهو ساقط ولو صح لكانوا قد خالفوه، لأنهم يجيزون النكاح على دينار لا يساوي عشرة دراهم. فبطل كل ذلك والحمد الله رب العالمين.
وأما قولهم: إنه قياس على قطع يد السارق فهو أسخف قياس في العالم، لأنه لا شبه بين النكاح والسرقة
وأيضا: فإن اليد تقطع ألبتة والفرج لا يقطع، والنكاح طاعة، والسرقة معصية، ولو قاسوا إباحة الفرج على إباحة الظهر في حد الخمر، لكان أدخل في مخازي القياس وسخافاته؛ لأن كليهما عضو مستور لا يقطع، وقبل وبعد فما صح قط أن لا قطع في أقل من عشرة دراهم، فهو باطل متيقن على باطل، وخطأ مشبه بخطأ فسقط هذا القول الفاسد.
وقال مالك: لا يكون أقل من ثلاثة دراهم، وقاسوه على قطع اليد، وقد مضى الكلام في سقوط هذا القول آنفا. وما جاء نص قط بأن لا قطع في أقل من ثلاثة دراهم، إنما صح النص لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا، وهم لا يراعون في القطع، ولا في الصداق ربع دينار في القيمة أصلا، فلاح بطلان كل ما قالوه بيقين لا إشكال فيه. وموه المالكيون أيضا بأن قالوا:
قال الله عز وجل {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات}. قالوا: فلو جاز الصداق بما قل أو كثر لكان كل أحد واجد الطول لحرة مؤمنة
قال أبو محمد: لا ندري على ما نحمل هذا القول من قائله، إلا أننا لا نشك في أنه لم يحضره فيه من الورع [ قليل ] وتقوى الله تعالى حاضر، لأنهم لا يختلفون في أنه لا يجوز أن يكون صداق الأمة المتزوجة أقل من صداق الحرة، فكيف يفرقون بعد هذا بين وجود الطول لنكاح حرة، وبين وجود الطول لنكاح أمة ونعوذ بالله من التمويه في دين الله عز وجل بما ندري أنه باطل قاصدين إليه عمدا.
وقال بعضهم: كيف يجوز أن يكون الصداق بما قل أو كثر، ولا تكون المتعة في الطلاق إلا محدودة.
قلنا: لأن الله تعالى لم يحد في الصداق حدا إلا ما تراضيا به، وحد في المتعة في الطلاق على الموسع قدره وعلى المقتر قدره فالفرق بين الأمرين أوضح من الشمس عند من لا يتعدى حدود الله تعالى.
وأعجب شيء قول بعضهم: إن الله عز وجل عظم أمر الصداق، فلا يجوز أن يكون قليلا .
قلنا: هذا العجب حقا إنما عظم الله تعالى أمر الصداق في إيجاب أدائه، وتحريم أخذه بغير رضاها، وهذا موجود في كل حق، قال الله عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}. وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام اتقوا النار ولو بشق تمرة، ولا عظيم أعظم من اتقاء النار. وصح عن النبي ﷺ: من حلف على منبري بيمين آثمة وجبت له النار وإن كان قضيبا من أراك ثم أغرب شيء من أين وقع لهم أن ثلاثة دراهم كثير، وأن ثلاثة دراهم غير حبة قليل وتخليط هذه الطوائف أكثر من أن يحصيه إلا محصي أنفاسهم عز وجل.
قال أبو محمد: فإذ قد ظهر بطلان أقوالهم لا سيما قول مالك، فإنه لا نعرفه عن أحد من أهل العلم قبله. وقول أبي حنيفة لم يصح عن أحد من أهل العلم قبله، فلنورد البرهان على صحة قولنا:
قال الله عز وجل: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}.
وقال تعالى: {وآتوهن أجورهن بالمعروف}.
وقال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم}. فلم يذكر الله عز وجل في شيء من كتابه الصداق فجعل فيه حدا بل أجمله إجمالا: وما كان ربك نسيا ونحن نشهد بشهادة الله عز وجل في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد أن الله عز وجل لو أراد أن يجعل للصداق حدا لا يكون أقل منه لما أهمله، ولا أغفله حتى يبينه له أبو حنيفة، ومالك وحسبنا الله ونعم الوكيل. والسنة الثابتة عن رسول الله ﷺ.
كما روينا من طريق البخاري :، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا مالك بن أنس، وعبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ فذكر الحديث، وفيه فقام الرجل فقال: زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة قال: هل عندك شيء تصدقها قال: ما عندي إلا إزاري، فقال رسول الله ﷺ إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئا قال: ما أجد شيئا، قال: التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا، فقال: أمعك من القرآن شيء قال: نعم سورة كذا وسورة كذا، قال: قد زوجناكها بما معك من القرآن.
ومن طريق البخاري، حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن سفيان الثوري عن أبي حازم عن سهل بن سعد: أن رسول الله ﷺ قال لرجل تزوج ولو بخاتم من حديد.
ومن طريق مسلم، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الحسين بن علي عن زائدة عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله قد وهبت نفسي لك فاصنع في ما شئت فقال له شاب عنده: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها قال: أوعندك شيء تعطيها إياه قال: ما أعلمه، قال: فانطلق فاطلب فلعلك تجد شيئا، ولو خاتما من حديد فأتاه فقال: ما وجدت شيئا إلا إزاري هذا، قال: إزارك هذا إن أعطيتها إياه لم يبق عليك شيء، قال: أتقرأ أم القرآن قال: نعم، قال: فانطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن. حدثنا حمام بن أحمد القاضي، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي، حدثنا عبد الله بن يونس المرادي، حدثنا بقي بن مخلد، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الحسن بن علي هو الجعفي عن زائدة عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن النبي ﷺ زوج رجلا من امرأة على أن يعلمها سورة من القرآن.
قال أبو محمد: والحديث مشهور ومنقول نقل التواتر من طريق الثقات: رويناه أيضا من طريق يعقوب بن عبد الرحمن القاري، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وسفيان بن عيينة، وحماد بن زيد، ومعمر، ومحمد بن مطرف، وفضيل بن سليمان، وغيرهم، كلهم عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن رسول الله ﷺ .
قال أبو محمد: فاعترض من لم يتق الله عز وجل، ولا استحيا من الكذب في هذا فقال: إنما كلفه رسول الله ﷺ خاتما من حديد مزينا يساوي عشرة دراهم من فضة، أو ثلاثة دراهم من فضة خالصة فقول يضحك الثكلى ويسيء الظن بقائله؛ لأنها مجاهرة بما لم يكن قط، ولا خلقه الله عز وجل قط في العالم أن تكون حلقة من حديد وزنها درهمان تساوي ما ذكروا، ولا سيما في المدينة " وقد علم كل ذي حظ من التمييز أن مرورهم ومساحيهم لحفير الأرض، وشوافرهم وفؤوسهم لقطع الحطب، ومناجلهم لعمل النخل، وحصاد الزرع، وسككهم للحرث، ومزابرهم للزرجون، ودروعهم ورماحهم، كل ذلك من حديد فمن أين استحلوا أن يخبروا عن النبي ﷺ بهذه الكذبة السخيفة ونسأل الله العافية. وإن من لجأ إلى المحال الممتنع في نصر باطله، لقد يدل فعله هذا على صفات سوء في الدين، والحياء والعقل. واعترضوا على أن يكون الصداق تعليم القرآن بخبر: رويناه من طريق ابن أبي شيبة، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا أبان بن يزيد العطار حدثني يحيى بن أبي كثير عن زيد بن أبي سلام عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري سمعت رسول الله ﷺ يقول: اقرءوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به. وبالخبر الذي رويناه من طريق أبي بن كعب أنه علم رجلا القرآن فأهدى إليه فرسا، فقال له رسول الله ﷺ أتحب أن تأتي الله في عنقك يوم القيامة نار. وفي بعض ألفاظه إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها وفي بعضها جمرة بين كتفيك تقلد بها أو تعلقها.
قال أبو محمد: وهذه آثار واهية لا تصح: أما حديث لا تأكلوا به فرواية أبي راشد الحبراني وهو مجهول. ثم لو صح لم تكن لهم به حجة، لأن الأكل أكلان: أكل بحق، وأكل بباطل، فالأكل بحق حسن، وقد مضى رسول الله ﷺ وأصحابه إلى المدينة كمصعب بن عمير وغيره يعلمون الأنصار القرآن والدين، وينفق الأنصار عليهم قال الله تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} فأنكر الله عز وجل على من نهاهم عن النفقة على أصحاب رسول الله ﷺ أشد النكير.
وأما حديث أبي بن كعب: فإن أحد طرقه في روايته الأسود بن ثعلبة وهو مجهول لا يدرى من هو. والأخرى: من طريق أبي زيد عبد الله بن العلاء وهو مجهول لا يدرى من هو. والثالثة: من طريق بقية وهو ضعيف فسقطت كلها. والصحيح من ذلك ضد هذا، وهو: ما رويناه من طريق البخاري، حدثنا سيدان بن مضارب الباهلي، حدثنا أبو معشر البراء هو يوسف بن يزيد حدثني عبيد الله بن الأخنس أبو مالك، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله آخذ على كتاب الله أجرا فقال له رسول الله ﷺ إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله عز وجل.
ومن طريق أبي داود، حدثنا عبد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن خارجة بن الصامت عن عمه أنه رقى مجنونا بأم القرآن فأعطاه أهله شيئا، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال له رسول الله ﷺ كل، فلعمري من أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق.
فصح أن الأكل بالقرآن في الحق وفي تعليمه حق، وأن الحرام إنما هو أن يأكل به رياء، أو لغير الله تعالى. وموهوا بالخبر الساقط الذي رويناه من طريق سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا أبو عرفجة الفاشي عن أبي النعمان الأزدي قال: زوج رسول الله ﷺ امرأة على سورة من القرآن، ثم قال: لا يكون لأحد بعدك مهرا. فهذا خبر موضوع، فيه ثلاث عيوب:
أولها أنه مرسل، ولا حجة في مرسل، إذ رواه شعبة عن أيوب.
والثاني أن أبا عرفجة الفاشي مجهول لا يدري أحد من هو. والثالث أن أبا النعمان الأزدي مجهول أيضا لا يعرفه أحد. وموه بعضهم بالخبر الذي فيه: أن أبا طلحة تزوج أم سليم رضي الله عنهما على أن يسلم، فلم يكن لها مهر غيره، وهذا لا حجة لهم فيه لوجهين: أحدهما: أن ذلك كان قبل هجرة رسول الله ﷺ بمدة، لأن أبا طلحة قديم الإسلام، من أول الأنصار إسلاما، ولم يكن نزل إيجاب إيتاء النساء صدقاتهن به. الثاني: أنه ليس في ذلك الخبر أن رسول الله ﷺ علم ذلك.
وقال بعضهم: هذا خاص لرسول الله ﷺ .
قال أبو محمد: وهذا كذب برهان ذلك: قول الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فكل ما فعله رسول الله ﷺ فالفضل لنا والأجر والإحسان في أن نفعل كما فعل ائتساء به، والمانع من ذلك مخطئ، والراغب عن سنته ظالم لنفسه هالك، إلا أن يأتي نص قرآن أو سنة ثابتة بأنه خصوصي لرسول الله ﷺ فلا يحل أن يعمل به حينئذ. والعجب كله أن هؤلاء يأتون إلى ما عمله عليه الصلاة والسلام ولم يخبر المؤمنين أنه خاص له فيقولون: هو خاص له ثم يأتون إلى نكاح الموهوبة، وقد نص الله عز وجل على أنها خالصة له عليه الصلاة والسلام دون المؤمنين فيقولون: هو عام لكل أحد نعوذ بالله مما ابتلوا به.
وقال بعضهم: أرأيت إن طلقها قبل الدخول .
فقلنا: إن كان قد علمها السورة التي أصدقها تعليمها فقد استوفت صداقها، ولا سبيل لها إليه، لأنه عرض قد انقضى وإن كان لم يعلمها إياه فعليه أن يعلمها نصفها فقط، وهذا لا يحرم على أحد يعني تعليم امرأة أجنبية وقد كلم أمهات المؤمنين الناس.
قال أبو محمد: وقال بقولنا طائفة من السلف:
روينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن إسماعيل عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: لو رضيت بسواك من أراك لكان مهرا.
ومن طريق وكيع عن الحسن بن صالح بن حي عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري، أنه قال: " ليس على أحد جناح أن يتزوج بقليل ماله أو كثيره إذا استشهدوا وتراضوا ".
وروي عن عبد الرحمن بن مهدي عن صالح بن رومان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: " من أعطى في صداق امرأة ملء حفنة من سويق أو تمر فقد استحل ".
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن حميد عن أنس بن مالك أن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول الله ﷺ تزوجت امرأة من الأنصار فقال له رسول الله ﷺ كم سقت إليها قال: وزن نواة من ذهب فقال له رسول الله ﷺ أولم ولو بشاة. قال عبد الرزاق: فأخبرني إسماعيل بن عبد الله عن حميد عن أنس قال: وذلك دانقان من ذهب.
قال أبو محمد: الدانق: سدس الدرهم الطبري وهو الأندلسي فالدانقان وزن ثلث درهم أندلسي، وهو سدس المثقال من الذهب. وهذا خبر مسند صحيح.
فإن قيل: فقد رويتم من طريق سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا حجاج، هو ابن أرطاة عن قتادة عن أنس في النواة المذكورة أنها قومت بثلاث دراهم
قلنا: حجاج ساقط، ولا يعارض بروايته رواية عبد الرزاق.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عطاء :، أنه قال في الصداق: أدنى ما يكفي: خاتمه، أو ثوب يرسله. قال ابن جريج: وقال عمرو بن دينار، وعبد الكريم: أدنى الصداق ما تراضوا به.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن يزيد بن قسيط قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: لو أصدقها سوطا حلت له.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، حدثنا أحمد بن عبد البصير، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا عبد العزيز بن أبي داود عن سعيد بن المسيب أنه زوج ابنته ابن أخيه، فقيل له: أصدق فقال: درهمين.
ومن طريق سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، حدثنا يونس بن عبيد عن الحسن أنه كان يقول في الصداق: هو على ما تراضوا عليه من قليل أو كثير، ولا يؤقت شيئا. قال سعيد :، حدثنا خالد بن عبد الله هو الطحان عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: ما تراضوا به عليه فهو صداق.
ومن طريق سحنون عن عبد الله بن وهب أخبرني عثمان بن الحكم عن يحيى بن سعيد الأنصاري، أنه قال: يحل المرأة ما رضيت به من قليل أو كثير. قال ابن وهب: وأخبرني رجال من أهل العلم عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وابن قسيط، وربيعة بن أبي عبد الرحمن: أنه يجوز من الصداق درهم.
قال أبو محمد: وهو قول سفيان الثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي والليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وابن وهب صاحب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل وإسحاق، وأبي ثور، وأبي سليمان، وأصحابهم، وجملة أصحاب الحديث ممن سلف وخلف وبالله تعالى التوفيق.
1852 - مسألة: ومن أعتق أمته على أن يتزوجها وجعل عتقها صداقها لا صداق لها غيره: فهو صداق صحيح، ونكاح صحيح، وسنة فاضلة. فإن طلقها قبل الدخول فهي حرة، ولا يرجع عليها بشيء، فلو أبت أن تتزوجه بطل عتقها وهي مملوكة كما كانت. وفي هذا خلاف متأخر: قال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وزفر بن الهذيل، ومالك، وابن شبرمة، والليث: لا يجوز أن يكون عتق الأمة صداقها. قال أبو حنيفة، وزفر، ومحمد، ومالك: إن فعل فلها عليه مهر مثلها وهي حرة. ثم اختلفوا إن أبت أن تتزوجه: فقال أبو حنيفة، ومحمد: تسعى له في قيمتها.
وقال مالك، وزفر: لا شيء له عليها.
قال علي: البرهان على صحة قولنا وبطلان قول هؤلاء: الخبر المشهور الثابت الذي رويناه من طرق شتى كثيرة: منها: من طريق البخاري، ومن طريق عبد الرزاق، ومن طريق حماد بن سلمة، قال البخاري: ثنا قتيبة ثنا حماد بن زيد عن ثابت البناني، وقال عبد الرزاق: عن معمر عن قتادة، وقال حماد بن سلمة عن عبد العزيز بن صهيب، ثم اتفق ثابت، وقتادة، وعبد العزيز كلهم عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ: أعتق صفية وجعل عتقها صداقها قال قتادة في روايته: ثم جعل.
قال أبو محمد: فاعترض من خالف الحق على هذا الخبر بأن قال: لا يخلو أن يكون تزوجها وهي مملوكة، فهذا لا يجوز بلا خلاف، أو يكون تزوجها بعد أن أعتقها فهذا نكاح بلا صداق.
قال علي: هذا أحمق كلام سمع لوجوه:
أولها أنه اعتراض على رسول الله ﷺ وهذا انسلاخ من الإسلام.
والثاني أنه اعتراض مموه ساقط، لأننا نقول لهم: ما تزوجها إلا وهي حرة بعد صحة العتق لها، وذلك العتق الذي صح لها بشرط أن يتزوجها به وهو صداقها، قد أتاها إياه، واستوفته، ولا فرق بين هذا وبين من أعطى امرأة دراهم ثم خطبها فتزوجها على تلك الدراهم التي له عندها، وهم لا ينكرون هذا. والثالث أنهم لو سألوا أنفسهم هذا السؤال في أقوالهم الفاسدة لاصابوا مثل توريثهم المطلقة ثلاثا في المرض فنقول لهم: لا يخلو من أن تكونوا ورثتموها وهي زوجة له، أو وهي ليست بزوجة له، ولا سبيل إلى قسم ثالث: فإن كانت زوجته فقد كان تلذذه بمباشرتها، ونظره إلى فرجها حلال له ما دام يجري فيه الروح، وأنتم تحرمون عليه ذلك بتلا قطعا. وإن كانت ليست زوجا له، ولا أما له، ولا بنتا له، ولا جدة له، ولا بنت ابن له، ولا أختا، ولا معتقة، ولا ذات رحم، فهذا عين الظلم، وإعطاء المال بالباطل. فإن ادعوا اتباع الصحابة.
قلنا: نحن أولى بالصواب، وبوضوح العذر، وبترك الأعتراض علينا، إذ إنما اتبعنا هاهنا النبي ﷺ والصحابة أيضا، والتابعين زيادة، فكيف وقد كذبتم في دعواكم اتباع الصحابة في توريث المطلقة ثلاثا في المرض، على ما نبينه إن شاء الله تعالى في بابه وأقرب ذلك: أنه لم يصح عن عمر، والمشهور عن عثمان أنه لم يعده طلاقا، وفي قولهم في ولد المستحقة: إنهم أحرار وعلى أبيهم قيمتهم فنقول لهم: لا يخلو من أن يكونوا أحرارا أو عبيدا، فإن كانوا أحرارا فثمن الحر حرام كالميتة والدم، وإن كانوا عبيدا فبيع العبيد من غير رضا سيدهم حرام إلا بنص ومثل هذا لهم كثير جدا.
وقال بعضهم: العتق ليس مالا، فهو كالطلاق في أن العتق يبطل به الرق فقط، والطلاق يبطل به النكاح فقط، فلو أنه طلقها على أن يكون طلاقها مهرا لها بعد ذلك، فكذلك العتق.
قال أبو محمد: وهذا قول في غاية الفساد والسخافة، لأنه قياس والقياس كله باطل ثم لو صح لكان هذا منه عين الباطل، لأن قياس أصل على أصل آخر لا يجوز عندهم، ولا شبه بين الطلاق والعتق، لأن العتق يبطل الرق كما قالوا، وأما الطلاق فقد كذبوا في قولهم إنه يبطل النكاح، بل للمطلق الذي وطئها دون الثلاث أن يرتجعها فصح أنه لم يبطل نكاحه، بخلاف العتق الذي لا يجوز له ارتجاعه في الرق.
وأيضا: فإن العتق إخراج عن ملكه، وليس الطلاق كذلك فبطل تمويههم البارد والحمد لله رب العالمين.
وقال بعضهم: هذا خاص برسول الله ﷺ .
قال أبو محمد: هذا كذب، ومخالفة لقول الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فكل فعل فعله عليه الصلاة والسلام لنا الفضل في الأئتساء به عليه الصلاة والسلام ما لم يأت نص بأنه خصوص فنقف عنده، ولو قالوا هذا لأنفسهم في إجازتهم الموهوبة التي لا تحل لغيره عليه الصلاة والسلام لوفقوا.
وقال بعضهم: قد رويتم في ذلك ما كتب به إليكم داود بن بابشاذ قال :، حدثنا عبد الغني بن سعيد الحافظ، حدثنا هشام بن محمد بن قرة، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، حدثنا أحمد بن داود، حدثنا يعقوب بن حميد، و، هو ابن كاسب قال: نا حماد بن زيد عن عبد الله بن عون قال: كتب إلي نافع: أن النبي ﷺ أخذ جويرية في غزوة بني المصطلق فأعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها أخبرني بذلك عبد الله بن عمر كان في ذلك الجيش قالوا: وابن عمر لا يرى ذلك، فمحال أن يترك ما روى إلا لفضل علم عنده، بخلاف ذلك.
قال أبو محمد: لو صح ما ذكروه: من أن ابن عمر لم ير ذلك لما كانت فيه حجة، لأن الحجة التي أمرنا الله تعالى بها وباتباعها، إنما هي ما رووه لنا عن رسول الله ﷺ لا ما رواه من رآه منهم برأي اجتهد فيه وأصاب: إن وافق النص فله أجران، أو أخطأ إن خالف النص غير قاصد إلى خلافه فله أجر واحد. وقد أفردنا في كتابنا الموسوم ب " الإعراب في كشف الألتباس " بابا ضخما لكل واحدة من الطائفتين فيما تناقضوا فيه في هذا المكان، فأخذوا برواية الصاحب وخالفوا رأيه الذي خالف به ما روى. والذي نعرفه، عن ابن عمر فهو ما رويناه من طريق سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، وجرير كلاهما عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال: " إن ابن عمر كان يقول في الرجل يعتق الجارية ثم يتزوجها كالراكب بدنته " قال إبراهيم: وكان أعجب ذلك إلى أصحابنا أن يجعلوا عتقها صداقها فإنما كره ابن عمر زواج المرء من أعتقها لله عز وجل فقط. فبطل كيدهم الضعيف في هذه المسألة.
قال أبو محمد: والخبر المذكور، عن ابن عمر كتب به إلى داود بن بابشاذ قال: نا عبد الغني بن سعيد ثنا هشام بن محمد بن قرة، حدثنا أبو جعفر الطحاوي فذكر الحديث الذي ذكرنا آنفا. ثم قال: فقد روى هذا ابن عمر عن رسول الله ﷺ كما ذكرنا. ثم قال: هو من بعده عليه الصلاة والسلام في مثل هذا: إنه يجدد لها صداقا :، حدثنا بذلك سليمان بن شعيب، حدثنا الخصيب، هو ابن ناصح حدثنا حماد بن سلمة عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر مثل ذلك.
قال أبو محمد: هذا نص كلام الطحاوي، ولم يذكر كلام ابن عمر كيف كان، ولعله لو أورده لكان خلافا لظن الطحاوي، وهذا الحديث ليس مما رواه أصحاب حماد بن سلمة الثقات عنه، والخصيب لا يدري حاله وليس بالمشهور في أصحاب حماد بن سلمة، فهو أمر ضعيف من كل جهة. والخبر الأول من رواية ابن عمر لا من جويرية هو من رواية يعقوب بن حميد بن كاسب وهو ضعيف. وذكروا أيضا: الخبر الذي رويناه من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة أم المؤمنين أن جويرية قالت لرسول الله ﷺ إنها وقعت في سهم ثابت بن قيس بن الشماس أو ابن عم له، وإنها كاتبته وأتت رسول الله ﷺ تستعينه في كتابتها، وإنه عليه الصلاة والسلام قال لها: أو خير من ذلك، أقضي عنك كتابتك وأتزوجك قالوا: وليس هذا لأحد بعد رسول الله ﷺ أن يؤدي كتابة مكاتبة لغيره ويتزوجها بذلك.
قال أبو محمد: قبل كل شيء فإن هذا خبر لا تقوم به حجة، إنما رويناه عن محمد بن إسحاق من طريقين ضعيفين: أحدهما من طريق زياد بن عبد الله البكائي. والآخر من طريق أسد بن موسى، وكلاهما ضعيف. ثم لو صح لكان لا يخلو أن ثابت بن قيس وهبها لرسول الله ﷺ إذ عرف رغبته عليه الصلاة والسلام فيها، ولم تكن أدت من كتابتها بعد شيئا، فبطلت الكتابة وصارت لرسول الله ﷺ إذ لا يجوز أن يظن بثابت أو بصاحب غير هذا أصلا.
وأيضا فلو لم يكن ذلك وتمادت على كتابتها حتى عتقت بأدائها أو بأداء رسول الله ﷺ إياها عنها لكانت مولاة ثابت، وهذا لم يقله أحد قطعا، ولا اختلف أحد من أهل العلم في أنها لم تكن مولاة ثابت أصلا فوضح سقوط ما رواه أسد، وزياد، وبطل تعلقهم بهذه الملفقات التي لا تغني من الحق شيئا. وموهوا أيضا: بما حدثنا حمام بن أحمد، حدثنا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن، حدثنا إسماعيل بن إسحاق، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، حدثنا أبو بكر بن عياش، حدثنا أبو حصين عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال: أيما امرئ أعتق أمته ثم تزوجها بمهر جديد فله أجران. فهذا لفظ سوء انفرد به يحيى الحماني وهو ضعيف جدا عن أبي بكر بن عياش وهو ضعيف. والخبر مشهور من رواية الثقات ليس فيه بمهر جديد أصلا. ثم لو صح لم تكن فيه حجة أصلا، لأنه ليس فيه أنه لا يجوز له نكاحها إلا بمهر جديد، ونحن لا نمنع من أن يجعل لها مهرا آخر، بل كل ذلك جائز وهذا الخبر رويناه من طرق: منها من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن صالح بن حيان عن الشعبي عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: من كانت له جارية فأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران اثنان.
ومن طريق سعيد بن منصور نا خالد بن عبد الله، حدثنا مطرف، هو ابن طريف عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله ﷺ قال في الذي يعتق أمته ثم يتزوجها فله أجران ليس في شيء من ذلك مهر جديد. أخبرنا أبو عمر بالسند المتقدم إلى مسلم قال :، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا هشيم عن صالح بن صالح الهمداني عن الشعبي قال: رأيت رجلا من خراسان يسأل الشعبي فقال: يا أبا عمرو إن من قبلنا من أهل خراسان يقولون في الرجل إذا أعتق أمته ثم تزوجها: فهو كالراكب بدنته فقال الشعبي: حدثنا أبو بردة هو عامر بن عبد الله بن قيس هو أبو موسى الأشعري عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي ﷺ فآمن به واتبعه وصدق به فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله عليه وحق سيده فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران ثم قال الشعبي للخراساني: خذ هذا الخبر بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبدة بن سليمان، وحدثنا ابن أبي عمر: حدثنا سفيان، وحدثنا عبد الله بن معاذ قال: حدثني أبي قال :، حدثنا شعبة، كلهم عن صالح بن صالح بهذا الإسناد نحوه.
قال أبو محمد: هذا كل ما شغبوا به، إنما هو أباطيل، وممن قال بقولنا من السلف طائفة:
كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي بن أبي طالب، أنه قال فيمن أعتق أمته ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها قال: " له أجران " وقد روي أيضا، عن ابن مسعود، وأنس. ومن طريق سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، حدثنا يحيى بن الأنصاري، والمغيرة ويونس، هو ابن عبيد وجابر، قال يحيى: عن سعيد بن المسيب وقال المغيرة: عن إبراهيم، وقال يونس: عن الحسن، وقال جابر: عن الشعبي، قالوا كلهم: لا بأس بأن يجعل عتقها صداقها، قال هشيم: وحدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح أنه كان يقول " إذا قال الرجل لأمته قد أعتقتك وتزوجتك فهي امرأته، وإن قال: أعتقتك وأتزوجك فأعتقها: إن شاءت تزوجته، وإن شاءت لم تتزوجه ". وكان الحسن يكره غير هذا:
كما روينا من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة عن منصور بن زاذان عن الحسن البصري أنه كره أن يعتق الرجل أمته لوجه الله ثم يتزوجها.
قال أبو محمد: وروي مثله عن أنس بن مالك، وابن مسعود، وجابر بن زيد، وإبراهيم.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون أن يعتق أمته ثم يتزوجها، ولا يرون بأسا أن يجعل عتقها صداقها.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الله بن طاووس قال يحيى: عن سعيد بن المسيب وقال ابن طاووس: عن أبيه، قالا جميعا: لا بأس أن يجعل عتقها صداقها، قال طاووس: ذلك حسن.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: لا بأس أن يعتق الرجل أمته فيتزوجها ويجعل عتقها صداقها.
وبه إلى معمر عن قتادة قال: إذا أعتق الرجل أمته وجعل عتقها مهرها ثم طلقها قبل أن يدخل بها فلا شيء لها، وابن جريج يقول: إن طلقها سعت له في نصف قيمتها وهو قول عطاء.
قال أبو محمد: فهؤلاء: علي، وأنس، وابن مسعود، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم، ومن لقيه إبراهيم من شيوخه، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وطاووس، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقتادة، وغيرهم وهو قول سفيان الثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي، وأبي يوسف القاضي خالف في ذلك أصحابه ووفق والشافعي، وأحمد، وأبي ثور، وبعض أصحابنا، وما نعلم للمخالفين، سلفا إلا تلك الرواية الساقطة، عن ابن عمر التي لم يبين فيها كيف كان لفظه، ولا كيف كان لفظ نافع الذي ذكر ذلك عنه، وشيئا ربما ذكروه: رويناه من طريق سعيد بن منصور قال :، حدثنا هشيم، حدثنا يونس، عن ابن سيرين أنه كان يحب أن يجعل مع عتقها شيئا ما كان قال أبو محمد: إنما هذا استحباب من ابن سيرين، وإلا فهذا القول يدل على أنه كان يجيز أن يجعل عتقها صداقها فقط وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولنا: إن طلقها قبل الدخول فلا شيء له عليها، لأن الذي فرض لها هو عتقها وهو شيء قد تم فلا يستدرك وتكليف الغرامة هو إيجاب غير نصف ما فرض لها فلا يجوز.
وأما إن لم تتزوجه فإن عتق لم يتم؛ إنما هو عتق بشرط أن تتزوجه فيكون صداقها، فإذا لم تتزوجه فلا صداق لنكاح لم يتم فهو باطل، وأما إن تزوجته فقد تم النكاح، وصح العتق لصحة النكاح الذي علق به وبالله تعالى التوفيق.
**
1853 - مسألة: ولا يجوز أن تجبر المرأة على أن تتجهز إليه بشيء أصلا، لا من صداقها الذي أصدقها، ولا من غيره من سائر مالها، والصداق كله لها تفعل فيه كله ما شاءت، لا إذن للزوج في ذلك، ولا اعتراض.
وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان، وغيرهم.
وقال مالك: إن أصدقها دنانير أو دراهم أجبرت على أن تبتاع بكل ذلك شورة من ثياب ووطاء وحلي تتجمل به له، ولا يحل له أن تقضي منها دينا عليها إلا ثلاثة دنانير فأقل، فإن أصدقها نقار ذهب أو نقار فضة فهو لها، ولا تجبر على أن تبتاع بها شورة أصلا. فإن أصدقها حليا أجبرت أن تتحلى به له، فإن أصدقها ثيابا ووطاء أجبرت على أن تلبسها بحضرته، ولم تجب لها عليه كسوة حتى تمضي مدة تخلق فيها تلك الثياب. فإن أصدقها خادما أنثى أجبرت على أن تخدمها ولم يكن لها بيعها. وإن أصدقها عبدا فلها أن تفعل فيه ما شاءت من بيع أو غيره. فلو أصدقها دابة، أو ماشية، أو ضيعة، أو دارا، أو طعاما لم يكن للزوج في كل ذلك رأي، وهو لها تفعل فيه ما شاءت من بيع أو غيره وليس للزوج أن ينتفع بشيء من ذلك، ولا أن ينظر فيه إلا بإذنها إن شاءت.
قال أبو محمد: قول مالك هذا يكفي من فساده عظيم تناقضه، وفرقه بين ما فرق من ذلك بلا برهان من قرآن، ولا سنة، ولا رواية سقيمة، ولا قول أحد نعلمه قبله، ولا قياس، ولا رأي له وجه. وأطرف شيء إباحته لها قضاء الثلاثة دنانير والدينارين في دينها فقط، لا أكثر من ذلك، فليت شعري إن كان صداقها ألفي دينار، أو كان صداقها دينارا واحدا كيف العمل في ذلك إن هذا العجب
قال أبو محمد: وبرهان صحة قولنا: قول الله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} فافترض الله عز وجل على الرجال أن يعطوا النساء صدقاتهن نحلة، ولم يبح للرجال منها شيئا إلا بطيب أنفس النساء، فأي بيان بعد هذا نرغب أم كيف تطيب نفس مسلم على مخالفة هذا الكلام لرأي فاسد متخاذل متنافر لا يعرف لقائله فيه سلف. ووجدنا الله عز وجل قد أوجب للمرأة حقوقا في مال زوجها أحب أم كره وهي الصداق، والنفقة، والكسوة، والإسكان، ما دامت في عصمته والمتعة إن طلقها ولم يجعل للزوج في مالها حقا أصلا، لا ما قل، ولا ما كثر.، ولا شيء أطرف من إسقاطهم عن الزوج الكسوة ما دام يمكنها أن تكتسي من صداقها ولم يسقط عنه النفقة ما دام يمكنها أن تنفق على نفسها من صداقها فهل سمع بأسقط من هذا الفرق الفاسد وشغب بعضهم بقول الله عز وجل: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} .
فقلنا: صدق الله عز وجل، ولا يحل تحريف الكلم عن مواضعه، ولا أن نقول عليه عز وجل ما لم يقل، فهذا من أكبر الكبائر. وليس في هذه الآية ذكر لقيامه على شيء من مالها، ولا للحكم برأيه، ولا للتصرف فيه. وإنما فيها أنه قائم عليها يسكنها حيث يسكن ويمنعها من الخروج إلى غير الواجب، ويرحلها حيث يرحل. ثم لو كان في الآية لما ادعيتم لكنتم أول مخالفين لها، لأنكم خصصتم بعض الصدقات دون بعض، ودون سائر مالها، كل ذلك تحكم بالباطل بلا برهان. وشغبوا أيضا بالخبر الثابت عن رسول الله ﷺ: تنكح المرأة لأربع: لحسنها، ومالها، وجمالها، ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك. وهذا عجب جدا لا نظير له: أول ذلك: أن رسول الله ﷺ لم يأمر أن تنكح لمالها، ولا ندب إلى ذلك، ولا صوبه، بل إنما أورد ذلك إخبارا عن فعل الناس فقط، وهذه أفعال الطماعين المذموم فعلهم في ذلك بل في الخبر نفسه الإنكار لذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: فاظفر بذات الدين فلم يأمر بأن تنكح بشيء من ذلك إلا للدين خاصة، لكن الواجب أن تنكح المرأة الزوج لماله، لأن الله تعالى أوجب لها الصداق عليه والنفقة والكسوة. وقد جاء عن رسول الله ﷺ بيان النهي عن أن تنكح المرأة لمالها: كما حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج القاضي، حدثنا محمد بن أيوب الرقي، حدثنا البزار، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ: لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعل حسنهن يرديهن، ولا تنكحوهن لأموالهن فلعل أموالهن يطغيهن، وأنكحوهن للدين، ولامة سوداء خرماء ذات دين أفضل. ثم إنهم أول مخالفين لما موهوا به؛ لأنه ليس في نكاح المرأة لمالها لو أبيح ذلك أو ندب إليه شيء مما أتوا به من التخليط في الفرق بين صداق فضة مضروبة، وذهب مضروب، وبين سبائك فضة وذهب غير مضروبة، والفرق بين إصداق ثياب، ووطاء، وجوهر، وخادم، وبين إصداق حرير، وقطن، وكتان، وصوف، ودابة، وماشية، وعبد، وطعام، والفرق بين قضاء ثلاثة دنانير من دينها فأقل، وبين قضائها أكثر من ذلك فوضح عظيم فساد تخليط هذه الأقوال وبالله تعالى التوفيق. وربما يموهون بما نذكره مما رويناه من طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا همام بن يحيى، حدثنا قتادة عن جلال بن أبي الجلال العتكي عن أبيه أن رجلا خطب إلى رجل ابنته من امرأة عربية فأنكحها إياه فبعث إليه بابنة له أخرى أمها أعجمية، فلما دخل بها علم بعد ذلك فأتى معاوية فقص عليه فقال: معضلة، ولا أبا حسن وكان علي حربا لمعاوية فقال الرجل لمعاوية فأذن لي أن آتيه فأذن له معاوية، فأتى الرجل علي بن أبي طالب فقال: السلام عليك يا علي، فرد عليه السلام، فقص عليه القصة فقضى علي على أبي الجارية بأن يجهز ابنته التي أنكحها إياه بمثل الصداق الذي ساق منها لأختها بما أصاب من فرجها، وأمره أن لا يمس امرأته حتى تنقضي عدة أختها. قال الحجاج بن المنهال: وأخبرني هشيم قال: أخبرني المغيرة عن إبراهيم النخعي أن رجلا تزوج جارية فأدخل عليه غيرها فقال إبراهيم: للتي دخل بها الصداق الذي ساق، وعلى الذي غره أن يزف إليه امرأته بمثل صداقها.
قال أبو محمد: هذا كله عليهم لا لهم، لأنه ليس في شيء من هذين الخبرين أن للزوج في ذلك حقا، ولا أربا، إنما فيهما أن يضمن للتي زوجت منه وزف إليه غيرها صداقها الذي استهلك لها وأعطي لغيرها بغير حق وهكذا نقول. ثم هم يخالفون هذه الرواية عن علي في موضعين: أحدهما أنه جعل للتي زفت إليه الصداق الذي سمي لأختها، وهم لا يقولون بهذا، بل إنما يقضون لها بصداق مثلها. والموضوع الثاني أمر علي له أن لا يطأ التي صح نكاحه معها إلا حتى تنقضي عدة الأخرى التي زفت إليه، وهم لا يقولون بهذا. فمن المقت والعار والإثم تمويه من يوهم أنه يحتج بأثر هو أول من يخالفه ونعوذ بالله من الخذلان هذا مع أن الجلال بن أبي الجلال غير مشهور. وبما أخبرناه أحمد بن قاسم، حدثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم، حدثنا جدي قاسم بن أصبغ، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا الحسن بن حماد نا يحيى بن يعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أنس فذكر خطبة علي فاطمة رضي الله عنهما، وأن عليا باع درعه بأربعمائة وثمانين قال: فأتيت بها رسول الله ﷺ فوضعتها في حجره فقبض منها قبضة فقال: يا بلال أبغنا بها طيبا، وأمرهم أن يجهزوها قال: فجعل لنا سرير مشروط بالشرط ووسادة من أدم حشوها ليف وملء البيت كثيبا.
قال أبو محمد: وهذا حجة عليهم، لأنه لا تبلغ قبضة في طيب، وسرير مشروط بالشريط، ووسادة من أدم حشوها ليف: عشر أربعمائة درهم وثمانين درهما فظهر فساد قولهم والحمد لله رب العالمين.
1854 - مسألة: وعلى الزوج كسوة الزوجة مذ يعقد النكاح ونفقتها، وما تتوطاه وتتغطاه وتفترشه، وإسكانها كذلك أيضا صغيرة أو كبيرة ذات أب أو يتيمة غنية أو فقيرة دعي إلى البناء أو لم يدع نشزت أو لم تنشز حرة كانت أو أمة بوئت معه بيتا أو لم تبوأ.
برهان ذلك: ما رويناه من طريق أبي داود، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أبو قزعة الباهلي " عن حكيم بن معاوية القشيري قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه قال: أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت.
قال أبو محمد: أبو قزعة هذا هو سويد بن حجير ثقة، روى عنه شعبة، وابن جريج، وحماد بن سلمة، وابنه قزعة، وغيرهم.
ومن طريق مسلم، حدثنا الحجاج، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، هو ابن راهويه عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال في خطبته في عرفة يوم عرفة: فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. فعم رسول الله ﷺ كل النساء ولم يخص ناشزا من غيرها، ولا صغيرة، ولا كبيرة، ولا أمة مبوأة بيتا من غيرها وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وما كان ربك نسيا. حدثنا يونس بن عبد الله، حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا عبيد الله بن عمر أخبرني نافع، عن ابن عمر قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الأجناد: أن انظروا إلى من طالت غيبته أن يبعثوا بنفقة أو يرجعوا وذكر باقي الخبر، فلم يستثن عمر امرأة من امرأة :،
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، حدثنا أحمد بن عون الله، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر غندر، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم بن عتيبة عن امرأة خرجت من بيت زوجها غاضبة هل لها نفقة قال: نعم.
قال أبو محمد: وروينا عن نحو خمسة من التابعين: لا نفقة لناشز وهذا قول خطأ ما نعلم لقائله حجة.
فإن قيل: إن النفقة بإزاء الجماع، والطاعة
قلنا: لا، بل هذا القول كذب، وأول من يبطله أنتم، أما الحنفيون، والشافعيون فيوجبون النفقة على الزوج الصغير على الكبيرة، ولا جماع هنالك، ولا طاعة. والحنفيون، والمالكيون، والشافعيون: يوجبون النفقة على " المجبوب والعنين "،
ولا خلاف في وجوب النفقة على المريضة التي لا يمكن جماعها، وقد بين الله عز وجل ما على الناشز فقال: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا}. فأخبر عز وجل أنه ليس على الناشز إلا الهجر والضرب، ولم يسقط عز وجل نفقتها، ولا كسوتها فعاقبتموهن أنتم بمنعها حقها، وهذا شرع في الدين لم يأذن به الله، فهو باطل.
فإن قالوا: إنها ظالمة بنشوزها.
قلنا: نعم، وليس كل ظالم يحل منعه من ماله إلا أن يأتي بذلك نص، وإلا فليس هو حكم الله؛ هذا حكم الشيطان، وظلمة العمال والشرط. والعجب كله أنهم لا يسقطون قرضا أقرضته إياه من أجل نشوزها فما ذنب نفقتها تسقط دون سائر حقوقها إن هذا لعجب عجيب وقال بوجوب النفقة على الصغيرة: سفيان الثوري، وأبو سليمان، وأصحابنا. وما نعلم لمن أسقطها حجة أصلا، فهو باطل بلا شك،
قال الله عز وجل: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فقوله باطل.
وقال مالك: لا نفقة على الزوج إلا حتى يدعى إلى البناء.
قال أبو محمد: هذا الحكم دعوى مجردة لا برهان على صحتها، لا من قرآن، ولا من سنة، ولا قول صاحب، ولا قياس، ولا رأي صحيح. وقد بينا أن السنة الثابتة جاءت بخلافه فهو ساقط وبالله تعالى التوفيق.
1855 - مسألة: ولا يحل لأب البكر صغيرة كانت أو كبيرة أو الثيب، ولا لغيره من سائر القرابة أو غيرهم: حكم في شيء من صداق الأبنة، أو القريبة، ولا لأحد ممن ذكرنا أن يهبه، ولا شيئا منه، لا للزوج طلق أو أمسك، ولا لغيره، فإن فعلوا شيئا من ذلك فهو مفسوخ باطل مردود أبدا. ولها أن تهب صداقها أو بعضه لمن شاءت، ولا اعتراض لأب، ولا لزوج في ذلك هذا إذ كانت بالغة عاقلة بقي لها بعده غنى وإلا فلا.
ومعنى قوله عز وجل: {فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} إنما هو أن المرأة إذا طلقها زوجها قبل أن يطأها وقد كان سمى لها صداقا رضيته فلها نصف صداقها الذي سمي لها، إلا أن تعفو هي فلا تأخذ من زوجها شيئا منه وتهب له النصف الواجب لها، أو يعفو الزوج فيعطيها الجميع، فأيهما فعل ذلك فهو أقرب للتقوى. وهذا مكان اختلف فيه السلف: فقالت طائفة: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج كما قلنا:
روينا من طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا جرير بن حازم سمعت عيسى بن عاصم يقول: سمعت شريحا يقول: سألني علي بن أبي طالب عن الذي بيده عقدة النكاح فقلت: هو الولي، فقال علي: بل هو الزوج. من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: هو الزوج.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن صالح بن كيسان: أن نافع بن جبير بن مطعم تزوج امرأة فطلقها قبل أن يبني بها فأكمل لها الصداق وتأول قول الله عز وجل: الذي بيده عقدة النكاح يعني الزوج.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن شريح قال: هو الزوج.
حدثنا أحمد بن عمر العذري، حدثنا مكي بن عيسون، حدثنا أحمد بن عبد الله بن رزيق، حدثنا أحمد بن عمرو بن جابر، حدثنا محمد بن حماد الطهراني، حدثنا عبد الرزاق عن قتادة، وابن أبي نجيح، قال قتادة: عن سعيد بن المسيب، وقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد، قالا جميعا: سعيد بن المسيب، ومجاهد: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج. وقال مجاهد، وطاووس، وأهل المدينة: هو الولي، قال: فأخبرتهم بقول سعيد بن جبير فرجعوا عن قولهم.
ومن طريق ابن أبي شيبة حدثني عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي نا عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر، أنه قال: الذي بيده عقدة النكاح الزوج.
ومن طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر هو جعفر بن إياس بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير، قال: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج.
ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمير مولى غفرة أنه سمع محمد بن كعب القرظي يقول: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج.
ومن طريق إسماعيل نا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا معتمر بن سليمان التيمي عن ليث عن عطاء بن أبي رباح الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج.
ومن طريق قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج.
ومن طريق إسماعيل نا علي بن المديني، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن شبرمة قال: هو الزوج وهو قول الأوزاعي، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وأبي حنيفة، والشافعي، وأبي ثور، وأبي سليمان، وأصحابهم.
وقالت طائفة: هو الولي [ جملة ] صح ذلك، عن ابن عباس أنه إن عفا وليها الذي بيده عقدة النكاح وضنت جاز، وإن أبت. وصح أيضا عن جابر بن زيد كان يقول: أو يعفو أبوها أو أخوها إن كان وصولا وإن كرهت المرأة. وصح أيضا عن عطاء، وعلقمة، وإبراهيم النخعي، والشعبي، والحسن البصري، وأبي الزناد، وعكرمة مولى ابن عباس.
وروينا، عن ابن عباس قولا لم يصح عنه لأنه من طريق الكلبي أنه ولي البكر جملة وصح عن الزهري قول آخر وهو أنه الأب جملة. وقول خامس: رويناه من طريق مالك عن ربيعة، وزيد بن أسلم أنه السيد يعفو عن صداق أمته، والأب خاصة في ابنته البكر خاصة: يجوز عقده عن صداقها وهو قول مالك.
قال أبو محمد: فنظرنا في هذه الأقوال: فوجدنا قول ربيعة، وزيد بن أسلم، ومالك أظهرها فسادا وأبعدها عن مقتضى الآية جملة ونحن نشهد بشهادة الله عز وجل أن الله تعالى لو أراد بقوله: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} سيد الأمة ووالد البكر خاصة لما ستره، ولا كتمه فلم يبينه في كتابه، ولا على لسان رسوله ﷺ .
فإن قيل: هذان لا يصح نكاح الأمة والبكر إلا بعقدهما.
قلنا: نعم، ولا يصح أيضا إلا برضا الزوج وإلا فلا، فله في ذلك كالذي للسيد، وللأب سواء سواء، فمن جعلهما أولى بأن يكون بأيديهما عقدة النكاح من الزوج مع تخصيص الآية بلا برهان من قرآن، ولا سنة صحيحة، ولا رواية سقيمة ;، ولا قول صاحب، ولا قياس، ولا رأي له وجه فسقط هذا القول جملة وسقط بسقوطه قول الزهري: إنه الأب أيضا جملة وكذلك سقط أيضا القول الذي صح عنه أنه ولي البكر جملة. ثم نظرنا في قول من قال: إنه الولي: فوجدنا الأولياء قسمين:
أحدهما: من ذكرنا من أب البكر، وسيد الأمة، فكان حظ هذين في كون عقدة النكاح بأيديهما كحظ الزوج في كون عقدة النكاح بيده سواء سواء، وقد يسقط حكم الأب في البكر بأن يكون كافرا وهي مؤمنة أو هو مؤمن وهي كافرة أو بأن يكون مجنونا ويسقط أيضا حكم السيد في أمته بأن يكون صغيرا أو مجنونا. والقسم الثاني: سائر الأولياء الذين لا يلتفت إليهم، لكن إن أبوا أخرج الأمر عن أيديهم وعقد السلطان نكاحها، فهؤلاء حظ الزوج في كون عقدة النكاح بيده أكمل من حظ الأولياء المذكورين. فوجدنا أمد الأولياء مضطربا كما ترى، ثم إنما هو العقد فقط، ثم لا شيء بأيديهم جملة من عقدة النكاح، بل هي إلى الزوج إن شاء أمضاها وإن شاء حلها بالطلاق. ووجدنا أمر الزوج ثابتا في أن عقدة كل نكاح بيده، ولا تصح إلا بإرادته بكل حال، ولا تحل إلا بإرادته، فكان أحق بإطلاق هذه الصفة عليه بلا شك. ثم البرهان القاطع قول الله عز وجل: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها}. وقول رسول الله ﷺ: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام فكان عفو الولي عن مال وليه كسبا على غيره فهو باطل، وحكما في مال غيره فهو حرام فصح أنه الزوج الذي يفعل في مال نفسه ما أحب من عفو أو يقضي بحقه وبالله تعالى التوفيق.
1856 - مسألة: ولا يحل نكاح الشغار: وهو أن يتزوج هذا ولية هذا على أن يزوجه الآخر وليته أيضا، سواء ذكرا في كل ذلك صداقا لكل واحدة منهما أو لأحداهما دون الأخرى، أو لم يذكرا في شيء من ذلك صداقا، كل ذلك سواء يفسخ أبدا، ولا نفقة فيه ;، ولا ميراث، ولا صداق، ولا شيء من أحكام الزوجية، ولا عدة. فإن كان عالما فعليه الحد كاملا، ولا يلحق به الولد، وإن كان جاهلا فلا حد عليه، والولد له لاحق، وإن كانت هي عالمة بتحريم ذلك فعليها الحد، وإن كانت جاهلة فلا شيء عليها.
قال أبو محمد: واختلف الناس في هذا: فقال مالك: لا يجوز هذا النكاح ويفسخ دخل بها أو لم يدخل، وكذلك لو قال: أزوجك ابنتي على أن تزوجني ابنتك بمائة دينار، فلا خير في ذلك. وقال ابن القاسم: لا يفسخ، هذا إن دخل بها.
وقال الشافعي: يفسخ هذا النكاح إذا لم يسم في ذلك مهر، فإن سميا لكل واحدة منهما مهرا، أو لأحداهما دون الأخرى ثبت النكاحان معا، وبطل المهر الذي سميا، وكان لكل واحدة منهما مهر مثلها إن مات، أو وطئها، أو نصف مهر مثلها إن طلق قبل الدخول. وقال الليث، وأبو حنيفة، وأصحابه: هو نكاح صحيح ذكرا لكل واحدة صداقا، أو لأحداهما دون الأخرى، أو لم يذكرا صداقا أصلا، أو اشتراطا وبينا أنه لا صداق في ذلك، قالوا: ولكل واحدة في هذا مهر مثلها. والظاهر من قولهم: أنهما إن سميا صداقا أنه ليس لهما إلا المسمى.
قال أبو محمد: والذي قلنا به هو قول أصحابنا، فوجب النظر فيما اختلفوا فيه، فوجدنا في ذلك: ما رويناه من طريق مسلم، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا ابن نمير عن عبيد الله بن عمر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله ﷺ عن الشغار، والشغار: أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي وقد رويناه أيضا مسندا صحيحا من طريق جابر، وابن عمر، وأنس، وغيرهم، فكان هذا تحريما من رسول الله ﷺ فبطل قول من سواه.
فنظرنا في أقوال من خالف:
فأما قول ابن القاسم إنه يصح بعد الدخول، فقول قد تقدم تبييننا لفساده وتعريه من البرهان جملة.
وأما أبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهما، فإنهم قالوا: إنما فسد هذا النكاح لفساد صداقه فقط ثم اختلفوا: فقال الشافعي: والصداق الفاسد يفسخ، فكان نكاح كل واحدة منهما صداقا للأخرى، فهما مفسوخان قال: فإن سميا لأحداهما صداقا صح ذلك النكاح، وصح نكاح الأخرى لصحة صداقه.
قال أبو محمد: فكان هذا قولا فاسدا، لأنه إن كان هذا العقد الذي سمي فيه الصداق صحيحا فهو صداق صحيح، فلا معنى لفسخه وإصلاحه بصداق آخر إذا.
فإن قال قائل: بل هو فاسد.
قلنا: فقل بقول أبي حنيفة الذي يجيز كل ذلك ويصلح الصداق، وإلا فهي مناقضة ظاهرة. ثم نظرنا في قول أبي حنيفة، فوجدناه ظاهر الفساد لمخالفة حكم رسول الله ﷺ جهارا.
قال أبو محمد: ودعوى الشافعي أنه إنما نهى عن الشغار لفساد الصداق في كليهما دعوى كاذبة؛ لأنها تقويل لرسول الله ﷺ ما لم يقل وهذا لا يجوز.
فإن ذكروا ما رويناه من طريق مالك عن نافع، عن ابن عمر قال: إن رسول الله ﷺ نهى عن الشغار والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته ليس بينهما صداق. وما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ثابت البناني وآخر معه هو يزيد الرقاشي عن أنس، قال: قال رسول الله ﷺ: لا شغار في الإسلام والشغار أن يبدل الرجل الرجل أخته بأخته بغير ذكر صداق وذكر باقي الحديث.
قلنا: أما هذان الخبران فهما خلاف قول أبي حنيفة، وأصحابه، كالذي قدمنا، ولا فرق.
وأما الشافعي فلا حجة له في هذين الخبرين لوجهين: أحدهما أنه وإن ذكر فيهما صداق أو لأحداهما فإنه يبطل ذلك الصداق جملة بكل حال، وليس هذا في هذين الخبرين فقد خالف ما فيهما. والوجه الآخر وهو الذي نعتمد عليه وهو أن هذين الخبرين إنما فيهما تحريم الشغار الذي لم يذكر فيها الصداق فقط، وليس فيه ذكر الشغار الذي ذكر فيه الصداق لا بتحريم، ولا بإجازة ومن ادعى ذلك فقد ادعى الكذب وقول رسول الله ﷺ ما لم يقله قط، فوجب أن نطلب حكم الشغار الذي ذكر فيه الصداق في غير هذين الخبرين: فوجدنا خبر أبي هريرة، وجابر قد وردا بعموم الشغار، وبيان أنه الزواج بالزواج، ولم يشترط عليه الصلاة والسلام فيهما ذكر صداق، ولا السكوت عنه، فكان خبر أبي هريرة زائدا على خبر ابن عمر، وخبر أنس زيادة عموم لا يحل تركها.
قال أبو محمد: وقد صح عن رسول الله ﷺ: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. ووجدنا الشغار ذكر فيه صداق أو لم يذكر قد اشترطا فيه شرطا ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل بكل حال.
وروينا من طريق أبي داود السجستاني، حدثنا محمد بن فارس، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن هرمز الأعرج قال: إن العباس بن العباس بن عبد المطلب أنكح ابنته عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، وأنكحه عبد الرحمن ابنته: وكانا جعلا صداقا، فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال معاوية في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: فهذا معاوية بحضرة الصحابة لا يعرف له منهم مخالف يفسخ هذا النكاح وإن ذكرا فيه الصداق ويقول: إنه الذي نهى عنه رسول الله ﷺ فارتفع الإشكال جملة والحمد لله رب العالمين. والعجب كله من تشنيع الحنفيين بخلاف الصاحب الذي يدعون أنه لا يعرف له مخالف من الصحابة، رضي الله عنهم، كدعواهم ذلك في نزح زمزم من زنجي مات فيها فنزحها ابن الزبير، وغير ذلك. ثم لم يلتفتوا هاهنا إلى ما عظموه وحرموه هنالك. وهذا خبر صحيح، لأن عبد الرحمن بن هرمز ممن أدرك أيام معاوية وروى عن أبي هريرة وغيره، وشاهد هذا الحكم بالمدينة وبالله تعالى التوفيق. لا سيما في مثل هذه القصة المشهورة بين رجلين عظيمين من عظماء بني هاشم، وبني أمية يأتي به البريد من الشام إلى المدينة، هذا ما لا يخفى على أحد من علماء أهلها والصحابة يومئذ بالشام والمدينة أكثر عددا من الذين كانوا أحياء أيام ابن الزبير بلا شك.
وروينا من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: سئل عطاء عن رجلين أنكح كل واحد منهما أخته بأن يجهز كل واحد منهما بجهاز يسير لو شاء أخذ لها أكثر من ذلك فقال: لا، نهي عن الشغار: فقلت له: إنه قد أصدقها كلاهما قال: لا، قد أرخص كل واحد منهما على صاحبه من أجل نفسه فقلت لعطاء: ينكح هذا ابنته بكذا وهذا ابنته بكذا بصداق كلاهما يسمي صداقه، وكلاهما أرخص على أخيه من أجل نفسه قال: إذا سميا صداقا فلا بأس، فإن قال: جهز وأجهز فلا ذلك الشغار، قلت: فإن فرض هذا وفرض هذا قال: لا.
قال أبو محمد: ففرق عطاء بين النكاحين يعقد أحدهما بالآخر ذكرا صداقا أو لم يذكرا فأبطله، وبين النكاحين لا يعقد أحدهما بالآخر، فأجازه، وهذا قولنا، وما نعلم عن أحد من الصحابة والتابعين خلافا لما ذكرنا.
قال أبو محمد: فإن خطب أحدهما إلى الآخر فزوجه، ثم خطب الآخر إليه فزوجه، فذلك جائز ما لم يشترط أن يزوج أحدهما الآخر فهذا هو الحرام الباطل. والعجب أن بعضهم احتج بأن قال: إن هذا بمنزلة النكاح يعقد على أن يكون صداقه خمرا أو خنزيرا .
فقلنا: نعم، وكل مفسوخ باطل أبدا، لأنه عقد على أن لا صحة لذلك العقد إلا بذلك المهر، وذلك المهر باطل، فالذي لا يصح إلا بصحة باطل باطل، بلا شك وبالله تعالى التوفيق.
==============
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق